-->

الفصل الأول - كما يحلو لي - نسخة حصرية (النسخة القديمة)


 رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بقلم بتول طه 

حصريًا لمدونة رواية وحكاية


 

الفصل الأول

 

كالعادة استيقظ بالخامسة صباحا ومارس روتينه اليومي بين ممارسة الرياضة والاطمئنان على حصانه برق وكان هو المخلوق الوحيد الذي أحبه بحياته، كان شديد السواد ولم يدع أي أحد يقترب منه غير صاحبه ومالكه عُمر.

انتهى من تناول فَطوره ثم توجه إلى مقر عمله استكمال لروتينه ليتواجد في تمام السابعة والنصف بأكبر شركة محاماة بالشرق الأوسط وكان هو مالكها، عمر يزيد الجندي، رجلا في الثالثة والثلاثين من عمره، كان طويلا ذا جسد رياضي متناسق، قمحي البشرة، ذو لحية مشذبة وعيناه تكاد تكون فحمية لامعة بنظرة ثاقبة، من ينظر له يخف من تلك النظرة لأنه يعلم مدى فراسته في تحليل من أمامه، كان يجرد الجميع من أقنعتهم ويعلم الصادق من الكاذب، البريء من المذنب وكل ذلك دون مجهود يُذكر.

سار على خطى أبيه ليُصبح له كل الشأن بعد أن أصبح أصغر محام لم يخسر قضية واحدة على الإطلاق بحياته، لا يتعامل بالقضايا الصغيرة، يعلم الجميع مدى جديته وصرامته والتزامه ولكن قد ظن بعض الناس أنه تزوج العمل أو أقام معه علاقة بدلا من أن يتزوج أو أن يتعرف على فتاة.

وسامته، ماله، ثروته، شهرته بالمجتمع؛ وكل الظروف أهلته ليحصل على قلب جميع الفتيات ولكنه لم يُر مع فتاة قط، لم ينتشر عنه أية أخبار، حتى والداه وأخواته قد ناقشوه بأن يتزوج أكثر من مرة ولكن بصرامته المعتادة رفض التحدث بالموضوع حتى أُرهق الجميع منه.

كان منظما ومُرتبا بطريقة مرضية أقرب منها للوسواس القهري، يعيش وحيدا بمنزل على مساحة شاسعة لن يُقال عليه غير أنه قصر وبالطبع بمكان ناءٍ بعيد عن الزحام، أفتتح فرعاً آخرا لشركة المحاماة بعيدا عن المدينة وفقط من أراده يذهب له، عشقه للهدوء فرض على الجميع أن ينصاعوا لرغباته، كما كان حبه للقراءة والتطلع لم يتخل عنه ليوم فكان لديه وقت لكل شيء، وقته دائما منظما ولا تفوته هفوة صغيرة.

يعمل مع الرجال فقط، جميع من بشركته رجالا، لم تدخل الشركة امرأة قط إلا لو كانت من العملاء، حتى أخته ووالدته لم تطأ أقدامهن شركته، كان كاللغز يُحير الجميع، لم يدع فرصة لأن يقترب أحد منه ولم يبد أي عاطفة نحو أي أحد، لن تستطيع أن تقول إنه وقح أو أنه مجرد من العاطفة ولكنه كان جاد بشكل مُرعب.

"مواعيد اليوم"

 

تكلم بنبرة استفهامية إلى سكرتيره الشخصي

 

"هناك ملفين لقضيتين أمامك سيد عمر ستأخذ كل منهما 15 دقيقة للاطلاع، طلب العملاء أن تترافع عنهم شخصياً بنفسك، ثم هناك مرافعة في تمام الحادية عشرة، بعد المرافعة بينما تعود في حوالي من ساعة لساعة ونصف حسب الزحام ستجد اجتماعاً هاماً لمناقشة توسعة الشركة بعد ثلاثة أشهر وفي نهاية اليوم لديك موعداً في الرابعة لتطلع على إجمالي أرباح الشركة ومدير الحسابات يريد مراجعة كل شيء معك"

 

أجابه أسامة وحاول أن يكون دقيقاً قدر المستطاع فأومأ له عمر حتى أدرك أنه قد أبلغه كل شيء ولا يحتاج لمعرفة شيء آخر، أومأ له باحترام ورسمية بينما نظر عمر في بعض الملفات أمامه ولم يعره أي اهتمام فترك مكتبه وأغلق الباب في هدوء.

 

هكذا كانت حياته الصارمة وهكذا كان روتينه اليومي ولا يعلم أحد عنه أي شيئاً آخر.

--

 

"صباح الخير آنسة روان"

 

بالمقر الرئيسي لواحدة من أكبر سلاسل شركات البرمجيات تحدث صوت نسائي في رسمية

 

"صباح الخير علا... فلتخبري العامل أن يُحضر لي القهوة"

 

ردت "روان" التي كانت في طريقها لمكتبها بقليل من التعب والإرهاق البادي على نبرة صوتها

 

"حسناً آنستي، جدول مواعيد اليوم ببريدك الإلكتروني كما هناك ملفاً مهما وضعته على مكتبك فلتتفقديه قبل أي شيء آخر"

 

قالت علا وصوتها لا يبشر بالخير قط لتقلق روان قليلاً من هذه النبرة

 

"شكراً لك"

 

أزاحت شعرها البني المموج الذي لم تُقصره بحياتها أو تغيره أبدا ثم أبعدت تلك الخصلات عن عينيها العسليتين وتوجهت لمكتبها على الفور وجلست بإرهاق فهي بالكاد تنام حتى تستطيع إدارة سبع شركات ضخمة تركها لها والدها هي وأخيها الصغير الذي أتم الخامسة عشرة لتوه ففتاة جذابة مثلها بالسابعة والعشرين تُعد مطمعا للكثير ممن يريدون الثراء وحتى من الأثرياء اللاهثين خلف امرأة مثلها، جاذبيتها وشخصيتها القوية ونجاحها وسُمعتها أُعجب بها الجميع، ظن رجال كثير أنهم سيقدرون على امتلاكها ولكن هيهات!

 

كانت روان صادق لا تهتم إلا بثروة ضخمة تركها لها والدها في مجال البرمجيات وتطويرها وشعرت أنها يتوجب عليها ألا تُضيع ذلك هباء فعانت لسنوات كي تحافظ على مجهود والدها الهائل وحملت العبء وحدها فأصبحت هي الوحيدة المسئولة عن تلك المسئولية الضخمة حتى يشب أخاها ويستطيع حملها معها.

أخذتها دوامة الأعمال والحياة والاعتناء بالشركات وأمها المريضة التي اشتد المرض عليها خاصة بعد وفاة أبيها منذ ما يقارب من ثلاث سنوات ودفنت كل ملذات الحياة بقبر في قلبها ولم يكن لديها شيء يشغلها سوى العمل وإحراز المزيد من النجاحات وحرمت على مسامها بل وعقلها كلمة الفشل ولم تعرف لها طريقًا منذ أن باتت هي المسئولة عن كل ما تركه والدها.

 توسعت عيناها في صدمة وغضب في آن واحد ما إن تفقدت الملف التي أخبرتها عنه مساعدتها الشخصية منذ قليل ثم صاحت بهاتف مكتبها:

 

"علا!! تعالي إليّ فوراً"

 

امتثلت علا أمامها في غضون ثوانٍ معدودة لتسألها روان مأخوذة بالصدمة مما تراه أمامها

 

"متى استلمتِ هذا وكيف أتى إلى هنا؟"

 

أجابتها مساعدتها الشخصية بمنتهى التلقائية

"لا أعلم آنستي لقد أتى بالبريد"

 

تفوهت باستياء وعينيها مثبتين على ما بيدها من أوراق

"هذا الحقير لا يكُف عن ملاحقتي والآن يأتِ ليفعل هذا... يا إلهي ماذا سأفعل الآن؟"

 

أجابتها بنبرة ناصحة

"ارفعي قضية تزوير"

 

تكلمت بنبرة مليئة بالحزن وخوف من أن يضيع كل شيئاً هباء بلحظة فقط لأنها رفضت أن تتزوجه

 

"ومن هذا الذي سيعيد لي حقي من هذا المخادع، هذه الأوراق تُفيد أنني قد بعت له كل شركاتي... اللعنة عليه، ألا تعلمين أنه من أكبر عتاة الاقتصاد، لن يدعني وشأني"

 

قالت مُعقبة بنبرة مقترحة

"أعلم أن هناك محامي لم يخسر قضية بحياته، هو معروف بسمعته تلك..."

 

سألتها باهتمام وملامحها متأهبة لإيجاد حل

"ما اسمه؟"

 

أجابتها بما تعرفه

"عمر الجندي"

 

ضيقت روان ما بين حاجبيها ظَنًّا منها أنها سمعت اسم والده بمكانٍ ما بالسابق فهو معروف بتوليه لقضايا عدة ولديه صرح يتولى الكثير من الشئون القانونية الخاصة بالكثير من الشركات ولكنها تعلم جيدًا لو ذهبت له ستنتظر كثيرًا فتمنت أن ابنه لم يصل لهذا المستوى نفسه

 

"أتقصدين ابن يزيد الجندي؟"

 

أومأت لها مُعقبة

"نعم هذا هو... هيا لنذهب له على الفور"

 

أخذت معطفها واصطحبت "علا" وسائقها الخاص حتى وصلت مقر شركته الفارهة ولكنها تعجبت من بُعد مقرها، جعلها ذلك الوقت الذي مكثته في الطريق تُفكر فيما يحدث، يستحيل أن تتنازل هكذا بسهولة أمام رجل كمراد الزهيري، لن تفشل أبدًا! كيف ستواجه وقتها والدتها وأخيها؟ أستكون تلك النهاية لكل ما عمل عليه والدها منذ سنوات؟ فقط ستفشل أمام الجميع وينتهي الأمر بتلك السهولة!! يستحيل أن تقبل هذا، ستذهب لمحام واثنين وألف حتى تجد من يُخرجها من هذه الورطة، لن تتقبل هذه الحيلة الرخيصة من رجل مثل مراد، لن تكون المرأة الفاشلة أبدًا أمام أعين الجميع التي تهاونت بحقها... مجرد فكرة أنها ستفشل بأمر غير مقبولة بتاتًا بالنسبة إليها...

--

 

وصلت لمقر الشركة فتركت السيارة ودلفت بكبريائها وغرورها الظاهرين عليها لتتجنب الحديث مع كل العاملين حتى وصلت لمكتب "أسامة" سكرتير عمر الخاص بعد عدة محاولات في إيجاد المسؤول عن كل هؤلاء المساعدين بينما هي لم تتفوه بكلمة وتتمنى أن يكون هذا المحامي لن يجعلها تنتظر فوالده له شأن ولكن هو شاب ومن المفترض أن تكون قائمة الانتظار لديه أقل بكثير عكس والده وظلت مختبئة من جميع الناظرين لها بالأرجاء خلف تلك الصورة التي رسمتها لنفسها حتى لا تسمح لأحد بفتح مجال للحديث معها وخلفها مساعدتها الخاصة التي توجهت إلى "أسامة" بالحديث فقالت:

"لدينا قضية مهمة لن تحتمل التأجيل..."

 

هز كتفيه وأجاب بنبرة معتادة يرفض بها الكثير من القضايا التي يُصمم فيها العملاء على الاستعجال ويرفضون الانتظار

 

"عفواً ولكن يجب أن يكون هناك موعداً مُسبقاً... سأرى إذا كان يُمكنني أن أحدد موعداً بعد أسبو..."

 

لم تحتمل ما سمعته وصاحت به روان بغضب

"ألا تعرف من أنا؟ هل جننت؟ فلتدعني أدخل"

 

زم شفتيه وقال بنبرة آسفة لم تتخل عن رفضه

"لن يمكن"

 

صرخت به بتحد

" أحقاً ... وما الذي يُشغله عن قضية مستعجلة! سأدخل الآن!!"

 

تعالت أصواتهما بالجدال ولم يتمكن من إيقافها لتدخل مكتب "عمر" رغماً عنه وعن رفضه ولم تعلم أنه كان يُشاهد كل شيء من مكتبه عن طريق كاميرات المراقبة.

--

 

نظرت له جالسا على مكتبه ولم يرفع نظره ولم يبد حتى أي تفاجئ بتلك الضوضاء والدخول عليه هكذا دون إذن وهي لا تعلم عقوبة من يفعل ذلك فلم يتمكن أحد من فعلها أبدا من قبل.

على الرغم من أن "أسامة" تبعها بعبارات النهي و "علا" بعبارات الترجي لما تعرفه عن ذلك الرجل من نفوذ وسُمعته التي قد لا تتقبل فعلة "روان" ولكنها لم تكترث لهما ولا لتفاصيل مكتبه الفاره المنظم بعناية ولا للثراء الذي يصرخ كل إنش به وتوجهت له على الفور لتحدثه بمنتهى الغضب:

"أريدك أن تترافع لأجلي وسأعطي لك ما تُريد"

 

لاحظ ما أمرته به وهي تتحدث بمنتهى التغطرس كمن يعمل لديها نظر لها نظرة خاطفة ثاقبة كمن لا يُعيرها أي اهتمام على الإطلاق ثم نظر نحو "أسامة" نظرة فهمها جيدا فتوجه خارجا على الفور وهو يُفكر بتلك النبرة الآمرة التي صدرت منها وكأنها تُعامل إحدى العاملين لديها وبالطبع لم يُعجبه ما استمع له أبدًا ليتحدث بهدوء شديد وكأن مكتبه لم يُقتحم من قِبلها بهرجلة منذ ثوانٍ وأشار بنظراته إليها وإلى "علا" ليقول في تساؤل:

"من صاحب القضية؟ أنتِ أم هي؟"

 

أشار بنظراته فقط بكل هدوء وتريث وكأن شيئاً لم يكن

 

أجابت روان بنبرة واثقة

"أنا"

 

أشار بيده للخارج كي تفعل "علا" وقد توجست قليلاً من نظراته لتتوجه خارجاً ولكن أوقفها صوت روان

"هذه مساعدتي الشخصية ولن أسمح أن..."

 

"أنا أسمح بمن يجلس هنا"

 

توجهت "علا" في صمت للخارج وأوصدت الباب خلفها، بينما هو لم تجده ينظر لها، لقد كان منذ ثوانٍ يتحدث ولكنه بدا وكأنه لا يراها أمامه، لا ينتبه حتى لوجودها، ولم ينظر مثل كل الرجال التي اعتادت على نظراتهم المتفحصة بتلك الشهوة المتوحشة والنظرات الجائعة لجمالها وجسدها الصارخ بأنوثته التي تُجبر الجميع على تمني الحصول على لمسة واحدة منها و أن يملكوا ذلك الجسد، بل أخذ بالنظر فيما أمامه بتركيز.

جاءها بعد لحظات صوته الآمر وقال:

 "اجلسي"

 

جلست أمام مكتبه على أحد الكراسي الجلدية السوداء ثم لم تستمع بعدها شيئاً لما يقارب ثلاثين دقيقة وقد بلغ غضبها حد السماء السابعة لتصرخ به زاجرة:

"هل أجلستني هنا للاستهزاء بي؟ نصف ساعة مرت ولا زلت لا تعلم شيئاً عن قضيتي، هل تضيع وقتي؟"

 

 

 رد بمنتهى الهدوء المستفز بلمحة سريعة نحوها وقال:

"فلتصمتي حتى أنهي ما أمامي، وأظن سكرتيري أبلغك أنني منشغل ولكنك من اختار أن يدخل لذا فلتنتظري"

 

ما هذا البرود؟ ما كل هذا الاستفزاز؟ إن لم تكن في حاجة إلى من يُخرجها من تلك الورطة لكانت انفجرت به على الفور ولكن ما جعلها تنتظر هو ما أخبرتها به مساعدتها الشخصية عن سُمعته وشهرته وأنه لم يخسر قضية بحياته قط فزفرت في ضيق وحاولت التريث قدر المستطاع فهي لن تضيع كل ذلك الوقت الذي آتت به هباءً. لم تلحظ أنه قد رأى كل أنملة بها، جسدها هذا الذي يجعل أي رجل مثارًا حتى ولو بلغ المائة عام من عمره، نهديها الملائمين فوق خصرها المنحوت، فتنتها وملامحها الأنثوية الهادئة التي تمتاز بالأناقة وتدفعه للتفكير بالكثير من الأمور التي تثني عقله عن العمل...

 

 خلعت معطفها لشعورها بالحر لدفء المكان ليجد أسفل نهاية ظهرها ببروز مهلك وقد تجعل الطفل الصغير يشرد بها من فرط أنوثتها...

 

شفتيها المرسومتين بامتلاء يحرضان الناسك على تقبيلهما وعنقها الطويل الذي يصرخ متعطشا لتلثميه ولكنه لم يظهر لها هذا أبدًا، لاحظ غرورها وكبرياؤها وصرامتها فهي لا تبدو من النساء اللائي تحاولن استمالته بحركاتهن المبتذلة فأبقى كل هذا بحسبانه وظل صابا تركيزه على ما أمامه..

 

ظلت منتظرة حتى طالعت ساعة يدها لتجد نفسها منتظرة منذ أكثر من ساعتين لتجد نفسها تتوجه نحوه وتأخذ من أمامه الأوراق لترميها أرضا بعيدا عن مكتبه بعد أن بلغ نفاد صبرها عنان السماء لتصيح به في انفعال جم:

"ستحل لي قضيتي وسأعطيك ما تريد"

 

توجهت نحوه ووضعت أمامه ملف قضيتها وهي تُلقيه بأنفة مبالغ فيها فأخذ يقرأ ما بها ولكن ما أدهشها هو عدم غضبه ولا انفعاله بعد ما فعلته فلم تكترث وسلطت تركيزها على ملامحه وانتظرت أن يتفوه بأي شيء يُطمئنها بأن كل ما عمل عليه والدها لسنوات سيكون بخير ولن تخسره مهما كان...

 

سأل مجدداً للمرة المليون بهدوء أوشك على قتلها:

"رجل يريد شركاته التي بِعْتِهَا له وقد وضع الأموال بحسابك... ما وجه الاختلاف؟"

 

شعرت حَقًّا أنها على وشك الانفجار وكأنها ستحرقه بالشرر المتطاير من عينيها العسليتين لتقول بتأفف وهي تحاول أن تتمسك بآخر ذرات صبرها أمام بروده:

"هذا الرجل مدعي كاذب، اسمه مراد الزهيري، ربما سمعت عنه، أراد أن يقيم معي علاقة ورفضت، وعرض عليّ الزواج ورفضت، لذا بحقارته زور كل شيء ويريد أن يأخذ مني كل ما أملكه... أريدك أن تأتي لي بحقي وسأدفع ما تشاء"

 

تفقدها بجدية وهي تتحدث بحرقة شديدة ولاحظ مدى مصداقيتها ولكنه كعادته سيُكلف أَحَدًا بالبحث خلف الأمر ليهمهم في تفهم ثم أردف ببرود:

"قضية سهلة إذاً ولكن لا أريد أموالك"

 

 ارتفع حاجباها في دهشة وتوسعت عيناها لتسأله باستغراب:

"عفواً!! وماذا ستأخذ نظير أتعابك؟"

 

ضيق عينيه يتفحص وجهها وأجابها إجابة غامضة لا تسمن ولا تغني من جوع فقال:

"أضمن لكِ عودة كل شيء، وستكسبين القضية ولكن سيكون بيننا اتفاق"

 

التوت شفتاها في تعجب لترد سائلة:

"وهو!!"

 

أخبرها بهدوء مبالغ في بروده:

"سأرسل لكِ من يُقلكِ وسنتحدث لاحقاً بمكان آخر"

 

أعاد ترتيب الأوراق بمنتهى الاستفزاز وهو يطالعها مجدداً بينما وقفت عاقدة ذراعيها بتحفز واعتراض وسألته:

"ولما لا نتحدث هنا؟!"

 

"اعتبري كل شيء يعمل ويسير وسأوفر لك فريقاً خاصاً ليعمل على القضية خاصتك بالإضافة لمرافعتي ومتابعتها، ولكن إذا لم نتفق فلا مرافعة لكِ عندي... وقتك انتهى يكفي ما أخذته من وقتي حتى الآن"

 

تكلم بصرامة وجفاء ليجرح كبرياءها وغرورها لتسرع للخارج بغضب ومشت مسرعة حتى خرجت وتبعتها علا لتتحدث بين أسنانها المنطبقة من شدة غيظها بمجرد تواجدهما بالسيارة:

"هذا الوغد المتكبر!! ابحثي لي عن محامٍ آخر"

 

ابتلعت علا وقالت ببعض التردد:

"آنستي... ولكن ... عمر يزيد هو من أفضل المحـ..."

 

صرخت بها بعصبية مقاطعة إياها

"أريد غيره"

 

أجابت علا خافية اعتراضها وراء كلمتها المقتضبة

"حسناً"

--

 

 جلست وحدها بغرفتها لتفكر بكل شيء حدث اليوم واعترفت لنفسها بأنها تركت غضبها وانفعالها يتحكمان بها للغاية، ولكنها لا تستطيع تخيل أن يفعل "مراد الزهيري" ما فعله وإرادته لسلبها هي وأسرتها كل ما عمل عليه والدها لسنوات بين ليلة وضحاها... لا تصدق حَقًّا أن شخصا لمجرد رفضها الزواج منه تصل به الحقارة لهذه الدرجة...

 

ولكن يستحيل أن تكون هذه هي النهاية، لن تصبح هي المرأة الفاشلة التي يُسلب منها كل شيء هكذا، لن تستطيع وقتها مواجهة أمها وأخيها، لن تقبل أبدًا أن تكون المرأة الضعيفة قليلة الحيلة أمام أحد... ماذا سيقول الناس وقتها؟ المجتمع بأكمله، ماذا سيقول؟

 

تلك اللقاءات الصحفية عن مدى نجاحها وإدارتها لشركات البرمجيات وتوسعاتها وهي امرأة عازبة لا تملك سوى ذكائها في هذا المجال والجميع يشيدون بها، أستكون هذه هي النهاية؟ لن تقبل هذا أبدًا...

 

تذكرت وقت ذهابها لذلك المحامي الشاب فجذبت حاسوبها وهي تُفكر، حسن... لقد كانت طريقتها فظة، ولكنها منذ أن علمت بما فعله "مراد الزهيري" وقد تملك منها الغضب الذي تعلم في قرارة نفسها أنه مجرد ستار لإخفاء خوفها... ووجدت عقلها يُفكر بصوت مسموع بلقائها مع "عمر يزيد" اليوم...

 

 

"هو لم يتفقدني بأعين جائعة مليئة بالرغبة مثل تلك النظرات التي يرميني بها الرجال هنا وهناك، ولم يحاول فرض شيئاً علي، لم يطالب بالأموال، ولكن ماذا عن اتفاقه الذي تحدث عنه؟ يريد مثلاً أن يشاركني بشركاتي؟ ولماذا عليّ أن أقابله بمكان آخر؟!"

 

 انهالت أفكارها لترتمي بعقلها هنا وهناك بينما تُكمل بحثها عنه عن طريق حاسوبها فكل ما وجدته من أخبار عنه تقول كم هو صارم ولديه سمعة جيدة ولم يخسر قضية قط! كل ما وجدته عنه يبدو مبشرا للغاية، ولكن عليها أيضًا أن تبحث عن محامٍ آخر... ماذا عن والده؟! أغلقت حاسوبها بغل وعصبية بالغة ماذا إن كان هذا الرجل البارد الغريب هو مُنقذها الوحيد من تلك الورطة فتمتمت في ضيق:

"فلنرى ماذا تريد أيها العُمر!!"

 

نهضت لتتحدث لمساعدتها الشخصية كي تحصل لها على موعد مع والده فوجدت هاتفها مغلق ليتصاعد غضبها فاكتفت بإرسال رسالة إليها وألقت بالهاتف على سريرها في حنق بينما تصاعد منه اهتزازًا دل على وصول رسالة فتوجهت بسرعة لتتفقدها ظَنًّا أنها من "علا" بينما تفاجأت مما احتوته تلك الرسالة فتمتمت في تعجب:

"كيف توصل إلى رقم جوالي الخاص؟!!"

--

"موعدنا بالثامنة"

"عمر يزيد"

 

ابتسم ابتسامة جانبية بينما ملس على جبين برق مُتجولا عاري الصدر بجوار حصانه بعد أن انتهى من إرسال الرسالة إليها ثم أرسل لسائقه لإحضارها ليفعل على التو ما أمره به وتبعه أربعة حراس من الذين يطوقون قصره على بُعد واحد كيلومترا ولا يُسمح لهم بالاقتراب أكثر من ذلك...

وقف مستمتعًا بنسيم الهواء البارد وقد تخلى عن رسميته تمامًا لتتحول ملامحه ليشابه رجلًا آخر تمامًا غير ذلك الرجل الذي كان بشركته صباح اليوم، شعره تتخلله نسمات تبعثره، بنطاله الأسود غير الرسمي وحذاءه يجعلانه يبدو كأحد الشباب الذين يتسكعون على الأرصفة بالطرق... وتخلى كُلِّيًّا عن مظهره المحافظ الذي يحاول أن يُظهره للجميع!!

 

منذ رؤيتها صباح اليوم لم يستطع الإغفال عن ملامحها التي عكست بها كل ما يريده في امرأة أمامه، حُفرت صورتها بعقله لتُذكره بالكثير مما تمنى لسنوات، جسدها وشعرها وحتى نبرة صوتها، كل أنملة بها تُحسه على ضرورة تملكها مهما كان الثمن!!

 

لم ينس طريقتها الجريئة في اقتحام مكتبه، لهجتها المتحكمة، إملاؤها للأوامر وكأنها المسيطرة على الأمور، كمْ كانت كتحدٍّ له، لبؤة شرسة تحتاج للترويض... سيرى إذن ما الذي ستفعله عندما يُملي هو الأوامر ويذكرها أن عليها الانصياع وإلا لن تملك حيلة أمام رجل مثل "مراد الزهيري"...

 

يعرف هذا الرجل ويعرف كم أن نفوذه بالغ، ويعرف أن القضية ليست سهلة، عليه أن يملك الكثير والكثير من الحيل حتى يُحكم لصالح "روان" بها... ستحتاج فقط للمزيد من العمل والتركيز وسينتهي منها ببساطة!!

عليه أن يتخذ نفوذ عمها وسُمعته وشهرته حجة منيعة كي تقبل كل ما يريده منها، فتاة مثلها لن ينفع معها سوى الزواج، وسيتخلص منها في النهاية... فبعد كل ما عرفه عنها من أمور لن تكون فريسة سهلة الصيد، امرأة رفضت العديد من عروض الزواج مثلها لن تجد من هو أفضل منه لتقبله كزوج لها... ستقتنع وسترضخ شاءت أم أبت، لم يفشل قط في إقناع مستشارين بأحكام عدة وبالطبع لن يفشل مع امرأة، ستأتي الآن في غضون ساعة ولن تتركه قبل الموافقة على كل ما يريده...

 

شرد من جديد وهو يبتسم متخيلًا العديد من المواقف والمشاهد التي تجمعها معه بعد أن تُذعن وتنصاع له حتى تُصبح ملكه، وقتها ستتعلم كيف أن تتصرف جيدًا مع "عمر الجندي" وستندم أشد الندم على كل ما فعلته معه اليوم، مجرد ملامحها التي تسكن عقله بها وهي تتحول من تلك المرأة المتحكمة إلى أخرى متوسلة خاضعة لكل ما يريد تجعله سعيدًا بطريقة جديدة لم يشعر بها منذ سنوات!!

 

تناول نفسًا مطولًا ثم زفره وعقله يُطنب بالمزيد من التخيلات ليتمتم بنبرته الدافئة قائلًا:

-  سأجعلك تركعين وتترجين أسفل قدماي!! لم يفعلها رجل أمامي بينما جرأتك سمحت لكِ... سنرى من سينتصر بالنهاية أيتها النمرة!!

--

ظلت تنظر للرسالة على هاتفها بصدمة وهي لا تدري كيف توصل له ولم يمر غير 30 دقيقة لتجد من يتصل بها وبمجرد الإجابة تحدث صوت رجولي متسائلًا:

"الآنسة روان صادق؟"

 

ردت مجيبة

"نعم"

 

كلمها الرجل برسمية

"أنا أحد سائقي السيد عمر يزيد وأنتظرك خارج منزلك"

 

زفرت حانقة وهي لا يُعجبها ما يحدث ولكن ليس هناك ذنب لهذا الرجل في ذلك

"حسناً سأدعك تمر"

 

 أنهت المكالمة لتفتح له البوابة الإلكترونية فهي أيضاً تعيش بمنزل فخم ليس كمثله ولكنه منزلاً كبيراً بحديقة عملاقة ولها مرأباً خاصاً به السيارات وقد ملأتها الدهشة حقاً من كيفية علمه بمنزلها ورقمها بينما أسرعت لتستعد وارتدت ملابسها ثم نزلت ولم ترد أن تجادل بعد أن رأت سيارتين قد أتيتا لتصحبها.

ظلت طوال الطريق تُفكر بما يريده ولماذا الطريق بعيد هكذا وبمكان ناءٍ للغاية فشعرت بالخوف ولكن هدفها لتتخلص من تلك القضية والحفاظ على ثروة أُسرتها كان أهم من كل شيء، رأته كطوق النجاة الأخير خاصة وأن علا لم توافيها حتى الآن بأي معلومات عن محام آخر.

 

دخلت لتندهش من مدى كبر منزله التي قد دخلته السيارتان وظلت تسير ما يقارب من 7 دقائق وحديقته التي لم ترى لها أولاً من آخر وحتى وصلت في منتصف الطريق أمام حائطاً من الحراس

"إلى هنا وليس مسموحاً لأحد بأن يعبر إلا بإذنه، فلتذهبي يا آنسة وستجدين من يستقبلك"

 

صاحت متعجبة وهي ترمق منزله بعيداً على مدى النظر

"وهل يتوجب عليّ أن أمشي كل هذه المسافة؟"

 

أجابها الرجل برسمية

"عفواً ولكنها تعليمات لا نخالفها أبداً"

 

تمتمت وهي تترجل من السيارة

"ماذا يظن نفسه؟! السلطان العثماني لم يملك قصراً كهذا بزمانه!!"

سمح لها الحراس بالمرور من بينهم رأت رجلا على حصان يرمح متجها نحوها ويبدو وكأنه لن يتوقف أبداً.

 

تسمرت بمكانها تنظر له فخلفها الحراس وأمامها رجل يقترب بجموح وكلما أقترب زاد رعبها وأدركت أنه هو ولكنه لا يتوقف حتى غطت وجهها بكفيها وصرخت ولكنه توقف باللحظة الأخيرة على مقربة منها...

 

تفقدته وهي تحاول التقاط أنفاسها وتهدئة ضربات قلبها التي تسارعت بصدرها بجنون فوجدته يمد لها يده بملامح جافة وصارمة لتصيح به

"أيها المجنون هل تظن أنني سأصعد معك؟"

 

نظرت مباشرةً بعينيه الثاقبتين الفارغتين تماماً من أي مشاعر وأجابها متحدثًا بمنتهى الهدوء ليثير حنقها وغضبها أكثر بينما يعلم جيداً إلى ما سيوصله هذا

"لا يوجد غير هذا الحل وإلا عليكِ أن تسيرين كل هذه المسافة... ما اختيارك؟"

 

تمتمت على مضض

"اللعنة عليك"

 

تمسكت بحقيبتها وأخذت يداه ترفعها بكل سهولة أمامه لتجد عروقه البارزة على يديه التي حاوطت خصرها المنحوت دون لمسه وأخذ حصانه بالركض بينما تتسارع دقات قلبها لا تعلم هل من الخوف أو من رائحته الرجولية خلفها أم من الموقف نفسه الذي لم تتشارك به مع أي رجل قبله حتى توقف أمام بوابة منزله لينزل في لمح البصر وظنت أنها ستقع لتصرخ ولكنه مد يده كي تستند وتترجل وبمجرد نزولها من على ظهر حصانه تركها ودلف لمنزله.

 

لم تدر أين عليها الجلوس فظلت واقفة لدقائق تتأمل المنزل الذي يبدو كل شيء به دافئاً للغاية على عكس صاحبه الذي يتسم بالبرود وعدم الشعور وكأن أحاسيسه قد ذهبت مع الريح في يوم عاصف. ما أدهشها هو أن المنزل مرتباً ومنظماً بعناية فائقة ولم يتواجد أي من العاملين حتى لاستقبالها، يا تُرى من يُنظم له كل هذا؟

 

جاء صوته الرجولي العميق لتفيق من شرودها بتفاصيل منزله

"اجلسي"

 

تساءلت بعفوية

"أين؟"

 

أجابها بجمود

"مكانك"

 

ظنت أنه يستهزئ بها لأنها تقف على الأرض دون وجود أية مقاعد تعجبت له باستنكار

"هل تريديني أن أجلس على الأرض؟"

 

قابلها وجهه الجاد بشبح ابتسامة طفيفة

"فقط اليوم ستفعلين ما يحلو لك"

 

عقدت حاجبيها مستفسرة

"ما الذي تقصده؟!"

 

أخبرها لينتهي من تساؤلاتها بنفاد صبر أخفاه ببراعة

"اجلسي أينما تريدين"

 

استدار وتركها كمن لا يوجد أحد معه وكم تمنت أن يكون لائقاً قليلاً ولكنه أثبت وبجدارة كم هو غريب الطباع، حتى بمنزله نفس الصرامة والجدية.

 

جلست روان على أريكة بيضاء والتي وقعت في حبها منذ أن تفقدت تفاصيل ردهة منزله فتبعها حاملاً كوبين من القهوة وقدم واحد نحوها دون حديث فما منها إلا أن أمسكته ثم قالت بنبرة معتدلة ولبقة في نفس الوقت

"عفواً ولكني لا أحتسي القهوة بعد السابعة مساء"

 

أسرع كأنما يحفظ ما ينوي قوله عن ظهر قلب

"ستحتاجين إليها!"

 

تأجج الغضب داخل روان وأوشكت على أن تتجادل معه ولكنها تذكر نفسها الآن بأن كل شيء يعتمد عليه فأخبرته باقتضاب

"حسناً"

 

لم تود ولم تستحسن أن تشكره كِبْرِيَاء وعلواً لما قد بادر به قبلاً وسألت مسرعة لتدخل بصلب الموضوع

" عن ماذا سيكون اتفاقنا؟"

 

أخبرها مجيبًا بمنتهى الهدوء الذي أمتزج بجدية مبالغ فيها وصرامة شديدة

"سأضمن لكِ أن تكسبين القضية وسأضمن لكِ الحماية وألا يتجرأ أحد على الاقتراب من أملاكك وأخيكِ وأمك، ولكن هناك شرط واحد".

 

هزت رأسها في تعجب بمنتهى التلقائية، سألت نفسها كيف له أن يعلم كل هذا في غضون سويعات فقط لتشعر بالاستغراب لتسأله بنبرة تدل على تفكيرها الشديد:

"كيف تعرف عن أمي وأخي؟! وشرط ماذا الذي تتحدث عنه؟"

 

أخبرها دون تردد واثقاً بما يقول

"ستكونين زوجتي"

 

 دون تردد، واثقا بما سيقول، وبملامح لا تحمل أي مشاعر، سوى ثاقبتين تتفحصاها بطريقة مُريبة، أجابها على الفور قائلًا في هدوء كلمة واحدة لا غير:

"سأتزوجك!  وسأفعل ما يحلو لي بكِ!"

 

توسعت ابتسامتها في سُخرية وهي تنظر له، ثم طأطأت برأسها إلى الأسفل غير مُصدقة لما سمعته، وبعد وهلة رفعت عسليتيها نحوه لتحدثه متهكمة:

"هل أنت مجنون أم أحمق؟! أتعلم لماذا أتيت إليك منذ البداية؟! لأنني رفضت بأن أقيم علاقات أو أتزوج كل من يرتمي تحت أقدامي... أنت الآن تأتي تساومني على الزواج منك أمام القضية وحماية والدتي وأخي؟!"

 

 

حدق بها بثباتٍ وأكمل حديثه بنفس نبرته التي تستفزها:

"أولاً لا ترفعي صوتك أبدا أمامي... ثانيا لن أقارن بيني وبين حثالة كمراد الزهيري وبقية الرجال فأنا لست طامعًا في أموالك... ثالثًا سأضمن لكِ حريتك وحقوقك وحمايتك أنت وأسرتك وحتى إذا أحببتِ أن تُكملي في عملك بدعم مني، فكل ذلك أسمح به...

 

وعموما أمامك عقد الزواج به كل الضمانات التي تريدينها وكل ما ذكرته لكِ ولا تنسي بالطبع أن زواجنا أمام أن تستردي شركاتك أنتِ ووالدتك وأخيكِ... وقتها لن يستطيع عمك أو ابنه المخاطرة معكِ بشأن الإرث طالما أنا بجانبك وأنت وأسرتك تحت حمايتي...

 

كما أعدك أنه لن يحدث شيء إلا بإرادتك وأنا رجل معروف بأن كلامي كحد السيف... فلتُفكري جيدًا ولتعطيني قرارك..."

 

 

أخبرها بنبرة فارغة من المشاعر ماثلت ملامحه المُبهمة، هادئة، واثقة للغاية، لم يدل شيء به عن الحياة سوى تلك السوداويتين العميقتين اللَّتَيْنِ تتفحصانها بطريقة تُربكها ثم تركها في حيرة من أمرها لتتعجب لمدى هدوئه وجديته وكأنه يترافع في قضية... تحدث بالكثير في منتهى الصرامة معللًا كل شيء... ربما يكون محاميا جيدا بالفعل... ولكن تتزوج منه!! لماذا هي؟ ومهلًا... هي لن تتزوج بتلك الطريقة مطلقًا... أي تفاوض معها بشأن الزواج... هل فقد عقله؟!

ما تلك التحكمات... أيسمح لها بالعمل والحماية بمنتهى الهدوء والعجرفة؟ يا له من كريم للغاية أن يسمح لها بالحياة!! رجل ليس في مثله رجال... فكرت في سخرية ثم صاح عقلها يزجرها... يا لحظك السيئ بمعرفة رجل مثله!

 

 

جاء صوته فجأة مهشماً كل أحلامها وكبريائها الذي حافظت عليه لسنوات وهي من لاتقابل بالرفض في شيء وهو يتفوه بنبرة مُحذرة

"بالمناسبة أمامك ساعتين ليس إلا لتفكرين... سأتركك هنا ولتأخذي وقتك بأكمله ولكن، إذا تركتي منزلي الآن دون أن توقعي على هذا العقد فأعلمي أنه لا يوجد في الحياة من اسمه عمر يزيد وكل ما تحدثنا عنه بشأن القضية ملغي أيضاً... الاختيار لكِ"

 

يبدو أنها أصبحت مخيرة بين أمرين أحدهما خسارة مؤكدة فجلست لتفكر وأمعنت التفكير بما فعله والدها من أجلها ومن أجل أخيها وأمها وأن مستقبل أخيها معلقاً في جيدها، فإذا رفضت الزواج من عمر يزيد تخسر القضية ولكن عندما تتزوج منه يكفي نفوذه، يكفي حمايته لهم، يكفي أنها ستجد من يشد من أزرها إذا حدث شيء ما، لن يتجرأ أحد على العبث معها إذا أصبحت زوجته وسيهابها الجميع بدل المرة مائة مرة.

 

نظرت له نظرة عامة فهو يبدو وسيماً وجذابًا وجاداً بعمله وسمعته جيدة كما وجدت اثناء بحثها وعرضه لها بالزواج ليس كأي رجل عرض عليها الزواج من قبله، أنا أحتاجه ولكن لما إذن يريد أن يتزوجني؟! دار السؤال بعقلها ثم طالعت هاتفها لتحدث مساعدتها الشخصية علا ولكن هاتفها كان مغلقاً مما آثار حنقها، حاولت البحث عن أية معلومات لم تجد غير معلومات عامة عنه وعن قضاياه التي يربحها باستمرار، ولكن هي أيضاً لا بد من أن تتزوج رجل يحبها وتحبه، كانت تريد أن تعيش لحظات الحب والرومانسية وتصنع قصة لنفسها لتكون فخورة بها وهي تقصها على أولادها بيوم ما، ولكن الظروف التي تعايشها الآن أكبر منها.

 

بعد أن قرأت ما كُتب أمامها من أوراق وبعد أن فكرت ملياً بدا أمامها أن الاختيار الأنسب أن تتزوجه وتوافق على عرضه، فهي يستحيل أن تترك ما عمل والدها عليه لسنوات أن يذهب هباءً، كما أن محامٍ كهذا لابد من أن لديه نفوذ لا يُستهان به، جديته وصرامته توحي بالخوف، ومن الملامح التي تراها الآن بمنزله وحياته وسمعته وكل ما هو عليه لن يكون من الذكاء أن تعادي رجل مثله! هل عليها أن تقبل حقًا؟.

انتظرت قليلاً فلم يأتِ إليها وقد سئمت الانتظار وقد قاربت الساعة من الحادية عشرة ويكفي أيضاً طريق الإياب لمنزلها فستتأخر عند العودة كثيراً. مشت لتبحث عنه بأرجاء المنزل الضخم وبعد عناء لم تجده ففكرت بالمغادرة فتوجهت للخارج لتجده يلهو مع برق حتى استدعت انتباهه لينظر لها نظرة خاطفة ومنها إلى برق

فبدأت في التحدث له

"لقد قررت..."

 

استمعت لهمهماته مشجعاً إياها أن تُكمل ولكن هناك شيئاً تبغضه في طريقته

"أقبل أن أتزوجك"

 

قالتها بسرعة على مضض دون أن تستمر أكثر في الحديث وشردت بنظرها بعيداً لتحاول أن تخبئ تلك الدموع المتلألئة بمقلتيها فهي لن تخسر عملها، ويكفي كل ما حاربت لأجله، فدون هذا الرجل لا تدري إن كان سيصدُق، سيكون جيدًا، أم سيُهددها إن لم تقبل، وهي تعرف أنها لا تملك حيلة أمام رجل مثل "مُراد"...

 

على كلٍّ الزواج من رجل مثله أهون بكثير من أن يضيع كل ما عمل عليه والدها لسنواتٍ كثيرة بينما أقترب هو منها وتلمس أسفل وجهها ليجعلها تبادله النظرات.

"منذ الآن وصاعداً سأفعل بك ما يحلو لي"

 

أخبرها لترى تلك الابتسامة التي أخافتها للتو ممتزجة بتلك الجملة وليبدأ التوتر في قرع أبواب قلبها الذي لن يطمئن ولن يهدأ لبعض الوقت.

يُتبع..