الفصل الثامن والعشرون - الجزء الثاني - كما يحلو لكِ - النسخة الفصحى
الفصل الثامن والعشرون
- الجزء الثاني -
النسخة الفصحى
شكر خاص لـ سمر إبراهيم للقيام بتعديل
الحوار للفصحي
تتواجد لحظات كفيلة بتغير حياتك للأبد، قد تعشق في لحظة،
تنهار في جزء من اللحظة، تنتقم في غمضة عين، أو قد تهرب بعيدًا في لحظات قليلة..
لا يتوقف التغيير سوى على استعدادك أنت، فما قد هُيئ عقلك لفعله، ووجدانك للشعور
به، لا ينتظر سوى اللحظة المناسبة، ووقتها يحدث دون وعي منك ولا إدراك..
وكما يحلو له، عقله بات مُهيئ منذ شهور بحقيقة أنه
يعشقها ولكن ينتظر اللحظة المناسبة للمس المرأة التي تحلو له، لا يريد وجهها الآخر
العملي الرسمي، بل يُريد أن يتملكها جسدًا وروحًا وكيانًا بأكملها يُريدها كما
يحلو لنفسه العليلة التي تيقن أنها ستصنع منها امرأة أخرى يومًا ما..
وكما يحلو لها، عقلها بات مُهيئ منذ شهور بحقيقة أنها
تعشقه عشقًا ترسخ بأعماقها بمجرد تبادل مشاعر قليلة معه، ولكن الوجوه الأخرى له لا
تصلح لا لزواج ولا لعشق بل لا تصلح للحياة، ولكن الاختلاف بينهما أنه انتظر اللحظة
المناسبة، أمّا هي فلقد صنعتها بدهاء، هدوء، والمقدرة على تفريق الصواب من الخطأ!
-
هل لديك فكرة أنني كنت أحلم باليوم الذي سأقوم فيه بتشذيب
ذقن زوجي بعد الزواج؟ حلم ساذج أليس كذلك؟
أطلقت ضحكة ببلاهة والسخرية تجاه نفسها بنبرة صوتها ترثي
على حالها أمامه ولكنها لم تفتقر لدلالها واستمرت في صُنع بوتقة من الخيال، رجل
أسطوري يعيش بين الآلهة الإغريقية القديمة ويُصدق بأساطير، لحظات التخيل والأحلام
ستُفيد عقله الناعس بترهاته، وستنبهها هي أنها تقترب خطوة أخرى من طريق الفرار!
-
وما الذي حلمتِ به أيضًا؟
مستعد كامل الاستعداد أن يُعطي لها كل ما تحلم به لو ظلت
كما يحلو له، أن ينهار بأكمله في هذه المرأة الفاتنة التي دفعها القدر لتقف أمام
مكتبه، لم يبحث عن امرأة، ولم يسعى لمن تشابه الخائنة، لم يُرد أن يكرر علاقات
جسدية ولم يحلم بالماضي القريب بأن يُشارك جزء من نفسه مع زوجة ولا حتى أي أنثى
تحت أي مسمى، ولكن لو كان للقدر رأي آخر، فلابد أنه يُكافئه بما يعيشه معها الآن!
افتتن بالمزيد من تحركاتها، همهماتها المُفكرة،
وانتهائها من تهذيب لحيته، هل هناك شيء في الحياة أفضل من أن يبقى أمامها للأبد
حتى يتوقف قلبه عن النبض بعد أن يذعن عدم مقدرته عن إعطائها المزيد؟! هو لم يعد
يخفق سوى لها وحدها، واستمراره لم يعد سوى من أجلها، لابد من يوم ما سيأتي
وسيستسلم متوقفًا ليُعلن أنه أنهى حياة كاملة لأجل عشقها وسينتظر يومًا أن يجتمعا
في الحياة الأخرى بعد أن يراها مُجددًا!
-
حلمت بالحب، أن أحب زوجي ويحبني حلمت بالحياة الهادئة،
وكنت دائمًا أحلم أن يكون بيني وبين من أحب رابط غير مفهوم يجعلنا غير قادرين على الابتعاد
عن بعضنا البعض، لأنني على يقين أنه في النهاية لن يبقى لي سواه.
بكاء اندفع من تهيئة عقلها لحقيقة أسرتها والآن تبوح بها
بعد أن حملتها لسنوات كثيرة، ولم تخرج سوى أمامه، باعتراف صادق منها لم يسمعه ولن
يستمع له سواه:
-
هدوء أبي، ضحكته، وحبه لأمي.. أتعرف؟
ابتسمت وهي تتذكر ذكرى بعيدة دفعت المزيد من دموعها
للانهمار لتجده يقترب منها محتضنًا وجهها بين كفيه وهو يجفف دموعها بإبهاميه
ولكنها لم تستطع منع تلك الدموع منها:
-
لقد أخبرني أبي ذات مرة أن الرجل الأول في حياة الفتاة
يترك بداخلها مشاعر من المستحيل أن تكون مثل غيرها من المشاعر، وقال لي في ذلك
اليوم يجب عليكِ ألا تتسرعي في اختيارك لأنكِ عندما تقعين في حبه لن تستطيعين ان
تبتعدي عنه أو تشعرين بنفس الإحساس مع شخص آخر، كنت وقتها في الصف الثاني الثانوي،
كان يخبرني في ذلك اليوم كم يتمنى أن أصبح مثل أمي ومثله في حياتي، هو لم يستطع أن
يعشق أحد سواها وأنا...
توقفت لبرهة وعينيها تتوسع ولا ترى سوى ملامح وجه والدها
أمامها بكل ما تعرفه عنه وتابعت بدموع تأبى الانتهاء ونبرة رقيقة لا يستمع لها
منها سوى عند تحدثها عن والدها:
-
أنا فعلت مثله بالضبط، لقد عاش أبي طوال حياته للعمل
فقط، وتعرف على أمي صدفة، ووقعوا في عشق بعضهم البعض وتزوجوا، أنا أيضًا عشت طوال
حياتي لدراستي وعملي وتعرفت عليك صدفة، وتزوجتك
وأحببتك بعد ذلك.
حدقته بعينيه مباشرة ووجدت نفسها تجهش بالبكاء الشديد
وسألته بلوم حرق روحها:
-
لماذا لم تجعلنا نقع في الحب اولًا قبل أن نتزوج؟ لماذا
لم تعطينا الفرصة لنتعارف على بعضنا البعض أولًا؟
ضمها إليه وعانقها بقوة بينما شعرت بندم شديد لكل حياتها
معه بكل تفاصيلها، فلو على الوقوع بغرام شخص ما فلقد حققت حلمها، ولكن أن تبتعد
عنه وتتركه للأبد هذا سيدمرها، هذا هو الحل الوحيد على كل حال!
-
لأنني كنت أعتقد أنني لن أحب مرة أخرى.
أخبرها بنبرة هادئة بالقرب من اذنها وهو يشعر بتشنجات
جسدها بفعل البكاء ولكنه تابع:
-
ولأنني كنت أعتقد بأنكِ مثلها.
ارتفع نحيبها عندما صرح بهذه الحقيقة اللعينة لتكره كذبه
عليها في كل شيء بداية بملامحها ونهاية بعشقه لها، فهي لا ترى الأمر سوى بهذه
الطريقة!!
-
ولأنني قد حلمت في يوم ما بصورة مُعينة للمرأة التي سوف
أقع في عشقها والسنوات أكدت لي أنها ليست موجودة.
ضمها أكثر لتشعر بقوته قد أخذت مجرى آخر مما جعلها
تتناسى البكاء ولكن كلماته التالية اوقفتها عن التحرك تمامًا:
-
ولكنكِ أتيتِ بعد كل ما مر بي، ورأيتك أمامي بكل ما حلمت
به، شخصيتك وضحكتك وبساطتك، لا يوجد ما حلمت به ولم أجده بكِ باستثناء كونك لم تتقبلين
كوني ساديًا.
ابتعد ليتفقد ملامحها وابتسم لها ونظر إليها بنظراتٍ لم
تفهمها وتحدث بمصداقية ولكنها بالطبع هيئت عقلها ألا تستجيب للمزيد من كلماته:
-
لقد أوقفت حياتي عليكِ، ووقفت أمام
والدي من أجلك، بعد كل ما فعله
من أجلي وساعدني به وفي لحظة وجدت أنني لو وضعت في الاختيار بينكِ وبينه سأختارك
انتِ، ولو الاختيار بينكِ وبين عملي سأختارك أنتِ، ولو كان بينكِ وبين ساديتي سأختارك أنتِ، ولكني حاولت في الأخيرة ولم أستطع،
أنا على استعداد لفعل أي شيء، وأن اتغير معكِ في كل شيء، ولكني لن أستطيع أن أصبح
شخصًا آخر، ولو استطعتِ بالفعل أن تقبلين ذلك الأمر فلن يصبح لدينا مشكلة واحدة في
حياتنا، وها نحن ذا.
ابتلع ثم توسعت ابتسامته وأشار برأسه إليها وأكمل
كلماته:
-
فبمجرد أن أجد موافقتك لا أفعل ما يزعجك، وأنتِ أيضًا لا
تجدين بي ما يزعجك، فأنا لست شخص صعب التعامل معه، وأنتِ كذلك، فنحن نشبه بعضنا
البعض، وعندما اقتربت منكِ أدركت انه لن تستطيع امرأة أخرى التعامل معي مثلك، من
الممكن أن نكون لا نشبه بعضنا البعض في الاهتمامات، وفي مجال عملنا، ولكن ما علمته
عنكِ انكِ لا ترفضين معرفة الأشياء الأخرى لأن بداخلك فضول لا ينتهي، وعندما
تعلمين آما أن تقبلي او ترفضي، ولديكِ شخصية مميزة وفي نفس الوقت بسيطة ولكنكِ صاحبة
قرار، وعندما ترفضين وفي نفس الوقت لا تستطيعين إخراج ما قومتِ برفضه من حياتك تحاولين
إصلاحه وتغييره
تفقدها بوله تام ومن جديد عاد ليعانق وجهها بيديه ثم
أردف:
-
لقد قمتِ بتغيير وإصلاح العديد من الأشياء في داخلي،
ولكن أن نغير إنسان في كل شيء فذلك معناه أن نتعامل مش شخص آخر،
أو إن يذهب كل منا ويتزوج من آخر، ولكن بمنتهى المنطقية ستجدين شخص آخر به عيب لا
تستطيعين التعايش معه، وسيكون أمامك إما تغييره او إصلاحه، وتدخلين نفس الدائرة
مرة أخرى، من منا سيفعل ذلك؟ من وجد بعد سنوات ما كان يحلم به في امرأة، أم من تزوجت بأحدهم ووقعت في عشقه وصبرت
عليه في كل شيء.
ضحك ببعض المكر ثم تكلم بنبرة لا تخلو من خبثه:
-
أم الاثنين اللذان مع اول لمسة لبعضهم البعض ينسيان أي
شيء آخر.
هي لا تريد سوى الفرار منه ولكنه محق بهذا الأمر الذي
تضعه في آخر عقلها لتتعامل معه لاحقًا، يستحق قوله ابتسامة حقيقية ولكن من شدة السخرية
على حالها معه!
-
ها نحن ذا خارج الغرفة التي تخشين دخولها، أنا وأنتِ
بعيدًا عن كل شيء د، هل تريين أي مشكلات بيننا؟
أومأت له بالإنكار وتفقدته بلهفة مودع لملامحه، الدنيا
هي الحياة التي يعيش بها الإنسان، وكلماته لا تدل سوى على الجنون المحض، وهذا
العشق غير الواقعي هي لا تريده، ومنهجه لا يعبر سوى عن الاختلال، كيف للمرء أن
يعيش بانقطاع تام عن العالم كي يهرب من التعامل مع المواقف، هذا الضعف به لا
يتوافق مع قوتها الدفينة بداخلها أبدًا..
-
أعدك أن أحاول إسعادك ولن اقبل منكِ سوى أن تحاولي
إسعادي انا أيضًا، لم يعد أمامي حل آخر معكِ غير هذا، صدقيني لقد فكرت كثيرًا أن
أتركك وابتعد عنك ولكن مجرد الفكرة أشعرتني ان الموت أفضل عندي من ذلك.
ابتسمت له واقتربت لتطبع قبلة طويلة على شفتيه وتصنعت
اغماض عينيها كي لا يرى الحقيقة بهما ثم أخبرته:
-
الموت أفضل بالفعل.
فجأة ابتعدت وهي تمسحها فمها من تلك الشعيرات المتناثرة
أثر تهذيب لحيته التي انتقلت لألسنتهما بفعل تلك القبلة لتجده يفعل المثل بملامح
منزعجة ونظرا كلاهما لبعضهما البعض وكلاهما لم يستطع منع ضحكاته ليجذب يدها بخفة
وتوجه كلاهما لإزالة تلك البقايا بفعل المياه!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي..
لم تغفل هي عن كل تلك الاقتراحات التي اقترحتها ليلة أمس
عليه وقابلها كلها برفض خبيث، مثلًا كتبريره أنها لابد لها من الراحة، أو أنه ليس
بالمزاج المناسب لهذا، أو أنه لا يُريد سوى البقاء بجانبها دون فعل شيء ولا يتمنى
سوى أن يجلسا معًا بهدوء وهو يقرأ لها احدى القصص الأسطورية الغريبة التي لم تسمع
عنها قط وبالطبع تعج كل منها بأسامي اغريقية عجيبة لا تدري كيف ينطقها.. هذا
السلام الدافئ لم يكن من مخططاتها على الاطلاق..
أمّا عنه فهو ليس بحديث الولادة، على ما يتذكر قامت أمه
بإنجابه منذ ما يقارب أربعة وثلاثين عام، قضى منهم على الأقل عشرة سنوات في معرفة
ما يضمره الشخص من صدق أو تزييف وخبث أو كذب محض، ومما يراه منها، يجعله يستشعر
أنها تحاول القيام بشيء ما لا يتضح له بعد، ولكنه موجود بمكان ما بداخل رأسها..
سيستكشفه على كل حال، عاجلًا أم آجلًا، كل ما يخاف منه ويخشاه، هو ردة فعله وقتها،
فهو لا يكره أكثر من أن يكون رجل مغفل..
راقبها بأعين نصف مُغلقة، عيناها وشفتاها وكل ملامحها،
تلك التفاصيل الخاصة بوجهها، كم هو شاق أن يصبح غارق بهذه التفاصيل التي لا تختص
سوى بها ثم فجأة يستيقظ على أمر وحيد فقط يخرج من هذه الرأس العنيدة بجواره ليدفعه
أن يخرج أعتى شيطانيه عليها، هذه المرأة ليست سهلة، ربما بسيطة وليست بمتطلبة
ولكنها صعبة إلى اللانهاية وما بعدها، فمجرد كلمة واحدة بطلب تظن أنه صغير يقلب
رأسه تمامًا من هذا الرجل الهادئ إلى آخر لا يجده سوى مع المُدانين بالقتل العمد!
-
صباحُ الخير..
ها هي تلك الابتسامة التي تشتته منها، حركة من شفتيها
بهدوء وسعادة لا يستطيع سوى أن يصفها بأنها حقيقة، وجرأة في اقترابها منه وهي تطبع
قُبلة لا هي متلاعبة ولا هي باردة، بالقرب من شفتيه، ثم تعدو لتعطي له المزيد من
المساحة ليتفقدها، أين النهاية لعشق امرأة بداخل قلب رجل؟ على ما يبدو ليس هناك
سوى الموت الحتمي.. تلك التخمة العشقية التي اصابته بها باتت تسلب أنفاسه إلى حد
الاختناق.. تحوله إلى مهووس بها، ما الذي ستفعله به بعد هذا؟! لا يجد ولو إجابة
عابرة على تساؤلاته..
-
هل استيقظت مبكرًا؟
ابتلعت وهي ترطب شفتيها ثم اتكأت على ذراعها وأصبحت
مواجهة له مباشرة ليلعن هذه اللحظة السيئة التي وضعت هذه المرأة في طريقه، لا تعلم
ما الذي تعبث به، تأتي من اللامكان دون موعد مسبق ثم تعطي له كل ما يتمناه على طبق
من ذهب، ويجلس هو كالطفل الصغير أمامها لا يريد ترك الصحن وكأنه وجد جائزة،
ويستحيل أن يستعد له بمحارم المائدة وآدابها، هذا ليس ما عهد نفسه عليه، لا طفلًا
بالمدرسة العسكرية، ولا شابًا بجامعة حكومية، ولا رجلًا لا يستطيع من حوله أن يفرض
عليه كيف يتعامل!!
-
منذ قليل.
اجابها وهو يهز رأسه بالرفض وتنهد وهو يتمعن في ملامحها
فأخبرته مبتسمة بتساؤل:
-
ألم يخبرك أحد أنه من غير المستحب أن تنظر لأحد كثيرًا
دون علم منه؟
رفع واحدًا من حاجبيه وهو يُكرر كلمتها قاصدًا السخرية
ولكن بصوت مُحذر:
-
غير مستحب!
أومأت له لتسقط احدى خصلاتها فلم يُرد أن يفسد هذا
المنظر الخلاب الذي يتأمل به فهز كتفيه وهو يجذب نفسه بأعجوبة من صورة الصحن
الذهبي الذي فاز به ثم قرر أن يعود لمعرفة ما الذي برأسها وقرر أن يبادر بخطوات
خبيثة ليرى ما ردة فعلها، فهو لم يقتنع بعد بتلك الكلمات التي أخبرته بها ليلة أمس
أثناء تناولهما للعشاء فأردف مما بدوره يعلم أنه يستفزها:
-
إن كان النظر إليكِ وانتِ نائمة غير مستحب فمن الأفضل
ألا أمارس معكِ علاقة حميمية، أو أقول لكِ ما الذي تفعليه أو لا تفعليه، أو أن
أجعلك تتركين عملك، أو اجعلك تعيشين في منزل آخر بعيد عن عائلتك.
تفحصها بأعين ماكرة تنتظر ولو من اعتراض من ملامحها أو
حرف يستمع له منها ويبدأ منه ولكن لدهشته ردته خائبًا عندما اقتربت منه بأعين
متلاعبة بنفس مقدار مكره وهمس يعج بدلال لم يعشقه في امرأة سواها:
-
إن لم تلاحظ ذلك فلقد أمضيت طوال عمري بعيدة عائلتي بسبب
الظروف، أما عن العمل فمن المؤكد أن يأتي يوم ولا يصبح من ضمن أولوياتي، وأما عن
كونك تنظر لي أو تقيم معي علاقة، أو توافق أو ترفض ما الذي أفعله وما لا أفعله
فذلك من حقك، أم أن لك رأي آخر؟
لم تنتظر لسماع رد أو تعقيب بل بادرت بأسلوبه هو نفسه،
تلك القُبل التي لا تنتهي سوى بوجودها أسفله، لم لا ينقلب السحر على الساحر هذه
المرة ويُصبح هو أسفلها، ولكنها لم تصل لهذا بعد!
-
ما الذي تريدينه منذ الأمس، روان؟
ضيق عينيه وهو يتفقدها بحرص بينما أعطى لها الرسالة
واضحة، هي ليست المتحكم الرئيسي فيما بينهما، وعلى عكس توقعاته قرأت الرسالة
بمنتهى الوضوح وفهمتها تمامًا، مما أثار ريبته أكثر، هي تنوي شيء ما لا يستطيع
التعرف عليه بعد!
تفقدت بأعين تنقلت بتأني من لحيته إلى شفتيه واستقرت
يدها على صدره وهزت كتفيها ثم رفعت عسليتان يبدوان في غاية الصدق الذي لا يدري
لماذا لا يستطيع الانصياع له بسهولة لتخبره في النهاية:
-
لا أريد شيء غير ما أخبرتك به.
الكلام الكثير في العادة يُحسب على المرء، وفي هذه
الحالة خصمها لا يُمثل سوى آلة حاسبة لا تعطل أبدًا عندما يتعلق الأمر باحتساب
الكلمات والتدقيق بها ومراجعتها ثم الرد عليها، وما قالته ليلة أمس تتمنى أنها لم
تثرثر ولم تخطئ بشيء آخر، على كل حال الأفعال أبلغ من الأقوال، يكفيها فقط أن
تُركز فيما تفعله جيدًا حتى لا تفسد خطتها!
-
سأذهب لتحضير الإفطار.
نهضت فتابعها بأعين تحوي مُقلتي صقر حائم يترقب لحظة
الانقضاض على فريسته وحدق بتلك العلامات التي صنعها بيده تضح على ظهرها وهي تغادر
الغرفة كما غادرت تلك التنهيدة الحارقة صدره وهو يدرك بداخله أنه قد بات مهووسًا
بامرأة يشعر بالخوف منها لو أنها تفعل شيء لو علمه قد يفقده عقله.. أو عليها لو
فقدها يومًا ما من بين يديه! لا يستطيع تقرير هذا بعد!
❈-❈-❈
التفتت خلفها في حالة من الذعر وهي تدس هذا الدواء
المثبت لمزاجه المعتدل بين طعامه وانتهت سريعًا ثم توجهت لتسكب العصير وادعت
الانشغال والتركيز فيما تفعله لتشعر بالراحة بداخلها وأطلقت زفرة مطولة تُعلن
انتهائها من الأمر بنجاح صغير تحرزه معه دون إدراك منه!
أغمضت عينيها وسرعان ما استقرت بصدره بعد ان استمعت
لخطواته وبداخل عقلها تشفق على رجل مثله كيانه بأكمله قد يصلح للأبد ببضع عقاقير
وعدة جلسات منتظمة ولكنه يتشبث بمرضه وكأنه لو فقده سيفقد حياته بأكملها!
لوهلة استطاعت قبلاته المتأنية التي وزعها بين عنقها
وترقوتها وذراعها تتملكها، للحظة تمنت أن يدوم هذا الشعور للأبد وخصرها يستقر بين
ذراعه الذي دعم وزن جسدها، ولجزء من الثانية فقدت نفسها بحلم بعيد حلمت به وهي
فتاة صغيرة بأن تملك زوج يكون هو عشقها الأول والأخير.. ولكن كل تلك الطموحات
انهارت بعد أن ذكرت نفسها بأن كل هذا مجرد فترة استراحة قصيرة وبعدها ستعود
للمبارزة الدامية أمام خصمها الوحيد.. الألم يكمن في أنها تبارز من تعشقه، ولم يعد
هناك سوى الخسارة المؤكدة لطرف منهما، وهي تحتقر الخاسرين، ولقد احتقرت نفسها آلاف
المرات أمامه! كفى احتقارًا، لم يعد بداخلها قدرة لتحمل هذا المذاق المهين!
أطلقت همهمات عابثة وهو يبعد خصلاتها للجانب الآخر وقبل
أن تفقد نفسها لهذه اللحظة العابرة استفاقت ونظرت له بمقلتين غائبتين أسفل رغبتها
به وعانقت عنقه وأخبرته بابتسامة:
-
بهذا الوضع لن نتناول إفطارنا.
-
من قال ذلك.
لقد أعد هذا الرد مُسبقًا بصحبة هذه القبلة الباردة التي
طبعها بحنكة على أطراف أناملها بعد أن تحرر من تعلقها به ثم اتجه وكأنه لم يبادر
لتوه بدقيقتين من اشعال جسدها بأكمله واتجه ليتناول طعامه وكأنه قطعة من الجماد لا
يشعر بشيء!
ابتلعت مرارة اهانته لها وتصنعت البلاهة وجلست بالقرب
منه لتتناول طعامها بهدوء لم يدم سوى لقليل من الوقت قبل أن تسأله:
-
ما الذي ستفعله اليوم؟ هل سنكمل قراءة أيضًا؟
ابتلع دفعة من طعامه وتفحصها مليًا ثم قلب شفتاه ونظر
للخارج وهو يقول:
-
لا أريد ذلك افعلي ما يحلو لكِ ولكن لا خروج في هذا الطقس
ارتشفت من عصيرها ثم أخبرته بتوافق غريب لم يعهده منها:
-
الطقس حار جدًا من هذا المجنون الذي يخرج في جو مثل هذا.
همهمت مُفكرة وقد علمت أنه يضعها بواحدٍ من اختباراته،
ومما لاحظته منذ ليلة أمس هو عدم ثقته بها، لذا عليها أن تُفكر في الحرف قبل النطق
به، لتأخذ طريق سلمي معه دون المبالغة:
-
من الممكن أن نشاهد فيلم او اثنين ولو اعتدل الطقس ليلَا
نذهب للعشاء في الخارج، أو نظل جالسين هنا سويًا، من الممكن أن ننتهي من هذا
الكتاب الذي تقرأه أو تقص عليّ باقي الرواية.
ترددت لوهلة بداخلها من تلك الاعين الباحثة التي تحاول
استكشاف روحها قبل ملامحها ثم اجابها على جزء فقط من اقتراحها:
-
لا، لا أريد إكمال الرواية ولا أريد القراءة.
في الحرب، كل شيء متاح، يُتاح لك أن تترك الخصم يظن أنه وشيك من الانتصار، ويُمكنك أن تتحلى بتمثيل الهزيمة، لطالما أن خصمك لم يعلم بعد ما الذي تمتلكه.. مشاهدة فيلم سينمائي لا يستبعد كلاهما مدى تفاهته، لقد باتت حرب باردة.. له ولها، وكل طرف منهما يبحث بعقل الآخر عن نقطة الضعف التي ستتبعها هزيمته!
❈-❈-❈
قصة ساذجة تلتها الأخرى، وكلاهما ينتظر أن يوقع بالآخر في جلسة استرخاء أمام شاشة لا تتوقف عن عرض عدة مشاهد لا يتفق سوى مع القليل منها، لم يكن يومًا مولعًا بقطعة الزجاج تلك.. هو قارئ ولطالما سيكون!!
ما يُدهشه هو هدوئها وتقبلها وتريثها وكلماتها التي تبدلت بين يوم وليلة، إما أن ما فعله آتى بثماره وهذا ما يستبعده لأنها ليست من تنصاع بهذه السهولة، وإما مزجت ما اختبرته بنفسها بعشقها له ثم ظنت أنها في النهاية لو أصبحت كما يحلو له ستنتهي من كل ما يُفسد عليها حياتها، وهذا ما يتمناه حقًا بكل ما به من قدرة على التصديق..
وهناك احتمال أخير، هي تخطط لشيء ما معه، لا يستطيع الإمساك بأولى خيوطه، ويتمنى أن يكون هذا الاحتمال بعيدًا كل البُعد عن الحقيقة، وقتها حقًا لا يدري كيف سيتصرف لو كان هذا ما تفعله!
ضم ذراعيه حولها ليشعر بتحركات رأسها على صدره واستشعر تركيزها الشديد في مشاهدة هذه اللعنة التاريخية المليئة بالتدليس، من أين يأتي صانعوا الأفلام بحقائق عن التاريخ، جميعهم كاذبون!
استقر بذقنه على رأسها وهمس لها متسائلًا:
- هل أعجبك الفيلم؟
همهمت بتركيز مما يدل على موافقتها وهي لا تغفل عن تحركاته التي يكررها للمرة الثانية، همسه ولمساته المتأنية وكأنه يتقصد أن يُعذبها بأفعاله، يشعل جميع حواسها للمطالبة بالمزيد ثم فجأة يخمدها برفض قاطع، لماذا لا يعشق في العلاقة الحميمية دائمًا وأبدًا أكثر من هذا الأمر؟!
شعرت بيده ترتفع لتعبث بخصلاتها بينما دنت شفتيه بالقرب من أذنها وتكلم متعجبًا بنبرة جعلت تركيزها بما تشاهده يتلاشى بالكامل وبالرغم من أفعاله كان مستغرق بمنتهى التركيز فيما يتحدث به وكأنه يُصلح شجار سياسي بين دولتين أعداء منذ بدء الخليقة:
- هل معنى ذلك أن مشاهدة الفيلم أفضل بالنسبة إليكِ من أن تقرأي عما حدث بالتفاصيل والأدلة؟ تاريخ بأكمله يتم نقله في ساعتين او ثلاثة على الأكثر وهم يخلقون عالم كامل مقيد بميزانية ورؤية مخرج، هل هذا بالنسبة إليكِ أفضل من كتاب من الممكن أن يكون استغرق كاتبه سنوات في كتابته ومصادره واضحة ومعروفة؟
فكرت مليًا في قوله وحاولت ألا تتشتت بانتقال شفتيه العابثتين بتوزيع لثمة تليها الأخرى بالقرب من أذنها فهمهمت بتلعثم لا تدري إلى أين يذهب بها، هل هذا اختلاف للآراء، أم محاولة لتمهيد ممارسة علاقة حميمة، أم يريد أن يسخر منها، أو هو بالفعل يشعر بالملل من هذا الفيلم، كان عليها الإجابة بأي شيء قبل أن يوصلها لنفس المرحلة التي وصلت لها منذ ساعة اثناء نهاية الفيلم الأول وقالت بنفاذ صبر:
- إن لم يعجبك هذا الفيلم يمكننا أن نشاهد شيء آخر.
انتقلت يده بمهارة لتتلمس كتفها المكشوف بلمسات لعنت نفسها على الاستجابة إليها، جسدان، منجذبان بالفعل، في حالة من الاسترخاء التام، واحد منهما مستعد بالفعل لتقديم نفسه كطعم لاصطياد قرش عظيم الحجم ولن تتوقف حتى تحصل عليه، والجسد الآخر يلزمه بعد كل هذه الفترة من الانقطاع عن كل ما اعتاد عليه أن يغرق في ممارسات متتالية حتى ينسى نفسه بها، لماذا لا يستجيبان لبعضهما البعض؟
حاولت أن تقنع نفسها بحقيقة علمية بحتة بالرغم من كل ما يدور في رأسها لعلها تجد نهاية من تشتيته لها منذ ليلة أمس لتجده يهمس بشفتين انعكست تحركاتهما على بشرتها:
- هذه ليست إجابة على سؤالي قطتي، هل تفضلين هذا على قراءة الكتب؟ هذا مجرد سؤال أريد منكِ إجابته.
مكر جديد وهو ينتقل بتأني حاملًا لمساته إلى ما استتر أسفل قميصها الرقيق وهي فاقدة للتركيز لعدة لحظات ولكنها سرعان ما حاولت أن توقف استجابتها له واجابته:
- من المؤكد أن الكتب أفضل ولكني أعتقد أن الأفلام أسهل في الفَهم، لا أحتاج أن أرهق تفكيري واتخيل شكل أحد معين، والتركيز على الكثير من التفاصيل، فالكلام المكتوب أصعب بالنسبة إليّ من الأفلام.
همهم بتفهم وكأن هذا الحديث التافه يتوقف عليه مستقبل شعوب بأكملها ليصعب عليها الأمر ولكنها تدرك جيدًا أن مجرد حركة واحدة تلقائية من ملل أو صياح أو رفض ستجعلها تعيد معه كل ما توصلت له، هل يريد السيطرة على كل شيء؟ فليفعل ما يحلو له – مؤقتًا – إلى أن تلوذ بفرارها الذي لن تقبل سواه!
وجدته يرفع جسدها للأعلى ويده لا تتوقف عن التحرك فوق هذا الملمس الحريري بصحبة أنفاسه الماكرة التي يدرك ببراعة كيف يوزعها بتلك الأماكن بين ملتقى عنقها وكتفها وبالقرب من أذنها حتى بات الصمود بين يديه أصعب من السابق فابتلعت وهي تحاول أن تتحمل ليفاجئها بتحركات قدمه التي كشفت المزيد من ساقها أسفل ردائها بتريث لم تظن أنها حتى حلمت به كحلم لفتاة فكرت يومًا ما بجلسة مشابهة مع زوجها.. ربما يكون الأمر يسير لتتخيله، ولكن مع لمساته وتأنيه المدروس الوضع بات شاقًا أكثر مما تتحمله!
وجدت وتيرة أنفاسها تتصاعد ويده الماكرة لا تتوقف عن التنقل لأنحاء عدة حتى شعرت بحرارة جسدها تزداد فحاولت أن تتخلص من مكره ولو حتى ستفشل محاولتها:
- من الواضع أن الفيلم لا يعجبك هل تفضل أن نقوم بعمل شيء آخر.
- من الذي قال ذلك؟
إجابة بتساؤل مُعد مُسبقًا بداخل رأسه اللعين، إلى ماذا يُريد أن يصل؟ يستمتع بعذابه إياها أليس كذلك؟ وغد!! كان عليها أن تقتله بنوبة هوسه أو تتركه يقفز من الشرفة كما أراد وقتها، يا لها من غبية!
- ما تفعله يقول إنك لا تركز على شيء واحد.
أتظن أن ما تقوله سيوقفه ويصده عما يفعل؟ هل هي ما زالت ساذجة؟ لن يتوقف حتى يفهم ما الذي تحاول أن تصل له منذ ليلة أمس!!
- من الذي قال إنني لا أركز؟ أليس من الممكن أن تكونين أنتِ من لا تستطيع التركيز؟ فأنا أستطيع أن اظل هكذا طوال اليوم، المشكلة لديكِ أنتِ قطتي.
كان عليها أن تتشبث بساعديه وكامل أنامله باتت تعبث بجسدها مباشرة حيث المناطق التي لا تجبرها سوى على الاستجابة، وكان عليها أن تتشبث بقوة قبل أن تصرخ به بسباب لن يتوقع أنه سيغادر شفتي امرأة مثلها، فهذا الوغد اللعين تشعر بجسده قد استجاب هو الآخر ولكنه يأبى بشدة الاعتراف بالأمر، هل حقًا عليها أن تجادله في هذا أيضًا؟
حسنًا، لقد جربت الجدال آلاف المرات ولم يُفلح معه، خصوصًا في تلك اللحظات التي يعلم كلاهما أنه له اليد العُليا بها، لا تستطيع سوى تذكر تلك النساء اللاتي تشكين من برود أزواجهن الجنسي، لو تعلم احداهن ما الذي يحدث مع رجل مثله لا يتوقف عن التباهي بتأثيره بما يفعله ستتحولن لقاتلات بالتأكيد!
هل ظلت تفكر في هذا الأمر لمدة طويلة؟ ذلك الأنين الذي يغادر شفتيها ربما سيُعلن له عن ضعفها، ألا يُكفيه هذا إذًا؟ ما لعنته منذ ليلة أمس وكأنه يريد أن يجعلها تسقط في هوة من الرغبة ثم فجأة يبتعد وكأنه لا يريد أن ينهي ما بدأه!
- عمر، أتوسل إليك..
همست بلهاث لم يستجب له واستمر في التلاعب برغبتها، منذ ليلة أمس وحتى هذه اللحظة هي المرة الرابعة لتكراره هذا الخبث اللعين منه، أسفل المياه تارة ثم ادعى رغبته بالنوم، وعند تناول الطعام بالصباح مرة، ومرتان وهما يشاهدا هذا النوع السخيف من الأفلام الذي لا تحبه وظنت أنه سيُعجبه، عليه أن يتوقف أو يضع نهاية لأفعاله تلك!
- ماذا هناك؟
هل هو يدعي الغباء؟ أم يريدها أن تنطقها بصراحة؟ حسنًا، ستفعلها لو هذا ما يُريده، هو يحب أن يستمع لإقرار لفظي وجسدي منها بما تريده، وعلى ما يبدو لن تتخلص من هذه العادة للأبد معه!
حاولت أن تتحرك كي تلتفت له ولكن سرعان ما منعها وثبت جسدها بقوة فاقت قوتها وهو ينبهها بهمس بالقرب من أذنها جعل جسدها يشتعل بمزيد من الرغبة:
- اهدأي، ألم تنضجين بعد على تلك الأشياء؟ فلتصبري قليلًا.
اصابتها الصدمة المختلطة بالإحباط وتريثت بمكانها لعدة لحظات ظنًا منها أنه سيتوقف ولكنه تابع وكأن شيئًا لم يكن!
- لقد ظللنا بعيدين عن بعضنا البعض كثيرًا وأنت تعلم أن..
ابتلعت وهي تكره الاعتراف بهذه الحقيقة التي لا تدري كيف ستتخلص منها لاحقًا ثم تابعت بأنفاسٍ متلاحقة:
- أنت من جعلتني أعتاد على ألا نبتعد عن بعضنا البعض كل هذا الوقت.
هذا التوسل الخفي بنبرتها هو كل ما يريد الوصول له، برغبة وتقبل ورضوخ تام لكل ما يفعله، ولكن ينقصه المصداقية، يرتاب بأن يُصدق منها كل ما تفعله بالآونة الأخيرة، ولكنه سيعلم حتمًا ما إن كانت صادقة أم لا!
توغلت يده بتحركات يتيقن أنها لن تستطيع الصمود أمامها ليجدها تتشبث به مرة أخرى وكعادته باللحظات الحرجة يختار ما يشتتها مليًا، كان عليه أن يهمس آمرًا وكأنه يُخيرها بين تحكمه بها وبين رغبتها الفطرية، عليها أن تتعلم أن كل ما تشعر به وكل ما يحدث بينهما لن يكون سوى باختياره هو وليس باختيارها، حتى لو كان عليه أن يتلاعب بما لا يستطيع هو الصمود أمامه، ولكنه لطالما كان الحل الوحيد معها:
- انظري لي..
تسارعت حركات أنامله فرفعت عينيها له بتوسل فطري واستطاع أن يحول جسدها من ذلك القوام الواثق بأن أعين الجميع تتمناه إلى قطعة من الهلام بين يديه يأن للمطالبة بالمزيد وبالرغم من قراءة تلك الحاجة المُلحة بعسليتيها سألها بنبرة جدية ابتعدت عن الهمس والتلاعب الماكر الذي كان يتبعه معها وترقب أن تسأله من جديد أن يذهبا للغرفة كرد على سؤاله:
- ما الذي تريدينه منذ الامس؟
هذا ليس بالوقت المناسب لهدوئه، ولا لتوقفه، ولا لأسئلته اللعينة، لماذا يعبث معها؟ لقد قام بتقطيع جسدها، ما الذي يريده أكثر من هذا حتى يتوقف عن مكره اللعين الذي لا يتوقف؟!
- أريدك، أريد أن اقترب منك، أتوسل إليك لا تبتعد عني الآن، أن تعلم أنني لا اتحمل ما تفعله هذا.
حدق معاناتها باستمتاع واحبطت محاولة تبينه لصدقها من عدمه ولكن التمعت عينيه وهو يتفحص ملامحها التي تبدو عليها المشقة ثم ابتعد بالكامل عن تلمسه إياها لتعتدل بجلستها وهي تواجهه وحاولت أن تهدأ من وتيرة أنفاسها المتسارعة لتنطلق الكلمات من بين شفتيها دون تفكير:
- لماذا تفعل ذلك فأنت تشعر مثلي تمامًا وها أن...
قاطعها وهو يُمسك يدها واعتصرها بقوة ليمنعها من الاتجاه لطريقها أسفل خصره وتحدث بصرامة دون أن يفقد هدوئه:
- لا تمدي يدكِ قطتي حتى لا تؤلمك، أنا أفعل ما يحلو لي وأنت تطيعيني، أتفهمين؟
ابتلعت وهي تتفقده بلومٍ وادعت الضعف بينما بداخلها قد صرخت بدل المرة آلف مرة وبدلًا من تلك المشاعر التي غمرتها من قليل بالمتعة الوشيكة أصبحت الكراهية تدب بسائر كيانها!
ابتسم ابتسامة ماكرة ثم ترك يدها بهدوء ورمق الساعة بجانبه ثم حدثها ببرود وكأنه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب:
- هيا قطتي اذهبي لتأخذين حمامًا باردًا وتجهزي لأننا سنذهب للعشاء في الخارج.
نهض وتركها لتتابعه بعينيها ولو كان لمح تلك النظرة القاتلة التي فتكت بها ملايين المرات فقط بمجرد وصوله لباب الغرفة لكان علم حقيقة كل ما تخطط له.. رحل منتصرًا هذه المرة ولكنها لن تنسى كل أفعاله، فليستمر حتى تنتقم من هذا المجنون أشد انتقام!
❈-❈-❈
لا أحد يحب الاختبارات، ولكن في بعض الأيام علينا أن نجتازها حتى ننتهي من
موسم دراسي لعين لابد لنا من اجتيازه في النهاية، ولقد كانت هي تلميذة جيدة قضت شهور
كاملة في الاستعداد لاجتياز اختباراته، شهور كاملة عرفت بها من هو ودرسته بمنتهى
الحرص والعناية، وكما جعلت كل أهدافها وأولوياتها في يوم ما منذ سنوات بأن تكون
فتاة متفوقة، تستطيع ببراعة أن تكون امرأة متفوقة معه في اختباراته التافهة!!
يريد أن يلمس خضوعها بأصغر الأمور البديهية وأكبرها، هذا ما ستقدمه له
بالكامل إلى أن تلوذ بالفرار!
اتجهت لتبحث عنه بعد أن امسكت بثوبين تعلم أن كلاهما مناسبين لعقلية الرجل
الذي تزوجت منه - غلطة في يوم ما - ثم حصلت على انتباهه بعد أن وجدته قد استعد
بالفعل ربما كانت لتأخذها تلك الملامح الجذابة بشدة ولكن ليس بعد الآن وحتى تقاسيم
وجهه وتلك الهالة التي تحيط به وهو يتفحصها مليًا وكأنه لم يعبث معها منذ قليل ولا
يحاول أن يتلاعب بها بهدوئه الماكر الذي كان يحتال عليها به بالسابق لتترك في
النهاية كل ذلك جانبًا بعقلها ثم سألته بتلقائية زيفتها ببراعة كما تعلمت منه:
-
أرتدي أي واحد منهما، الذهبي أم الأزرق الداكن؟
هل حقًا كانت تعني ما تقوله ليلة أمس؟ لو استمرت بهذه الطريقة التي لم يكن
ليحلم بها قط معها ستحصل على أنفاسه لو ارادتها وليس لديه أي مانع بأن يعطي لها كل
ما تريده!!
همهم مُفكرًا وهو يسلط تركيزه على ما تحمله بين يديها وأمعن التركيز به ثم
اجابها بمصداقية ونبرة مليئة بالغزل:
-
عندما ترتدين الذهبي فإنه يجعل من أمامك لا يستطيع التركيز في أي شيء، ولكن
الأزرق يجعل لون عينيكي أجمل، وأنا أحب عينيكي، فعينيكي بالنسبة إليّ أهم من أي
شيء آخر، وبمجرد شرودي بهما أفقد الإحساس بكل ما حولي، أذهب في عالم آخر بفعل
عسليتيكي صغيرتي، ماذا تظنين، الذهبي أم الأزرق الداكن؟
ابتسمت له بنظرات توضح امتنانها لكلماته واطرائه وملامح تبدو مستمتعة
بكلماته ولكن بداخلها منعت نفسها أن تستجيب لنبرة صوته المفعمة بالغزل الصريح
والهدوء الذي كان ليوقعها في عشقه أكثر بيوم من الأيام وأومأت له بالموافقة ثم
همست بتفهم:
-
الأزرق حسنًا،
سأنتهي سريعًا وآتي إليك.
هز رأسه مشيرًا لها بالسماح لتذهب ثم توقفت فجأة والتفتت نحوه ثم قالت
بلهجة متسائلة:
-
ومستحضرات التجميل؟!
اشار لها بهزة رأس بالسماح لتلعن نفسها وهي تسأل شخص عن مثل هذه الاشياء
البديهية في حياتها ولكن إذا كان الجنون هو الحل الأمثل معه ستصبح فاقدة لعقلها
لعدة ايام قليلة لكي تنتهي منه للأبد.. أحيانًا لا يصح سوى الخطأ مع رجل لا يمكنه
فعل الصواب..
لتكون أمسية رومانسية حالمة إذا بأفضل مظهر يُرضي مختل اسطوري مثله لا
يناسبه سوى العصور الوسطى والنساء الفاتنات اللاتي لا يفعلن شيء سوى ارضاء رجالهن
الجهلاء بأبسط حقوق المرأة في عصر سحيق لا يقبل سوى التخلف المحض!!
بم تذكرها هذه الأمسية يا تُرى، بداية زواجها منه، عندما عاد كلاهما لهذا
المنزل اللعين، وهو يمنعها من مهاتفة والدتها وأخيها والعمل، المرة الأولى كانت
بتهديد صريح، أما اليوم فكان تهديد بالسابق والآن تتمنى أنها احرزت هدفها بأن كل
ما تفعله هو بمحض ارادتها وموافقتها على اختلاله دون أي اعتراض منها!!
مجددًا مكان هادئ معزول عن جميع البشر، ما لم يستطع فهمه بالسابق انها
وببساطة تريد حياة طبيعية، ولكن عزلته تلك لا تناسب امرأة مثلها، هي لا تريد آلاف
من الناس حولها ولكنها تريد على الاقل أن تحظى بحياة طبيعية.. كان هذا بالسابق قبل
أن تقرر الخداع الكامل له كما فعل معها مرات ومرات!!
حاولت أن تدعي التشويق وكأن هذا كل ما يشغل بالها هو تناول الطعام والتهامه
وتكلمت وهي تقوم بكشف اغطية الصحون:
-
لم أكن لأستطيع التحمل لو كنا تأخرنا أكثر من ذلك.
قاطع طريق يدها وأمسك بها بقوة بينما همس ساخرًا:
-
لا تستطيعين أن تصبري على شيء منذ الصباح
نظرت له بتلاعب لترطب شفتيها وشعر بارتخاء يدها بين
قبضته وحدثته بنبرة ذات مغزى ترمي إلى تصرفاته التي شتتها بها منذ ليلة أمس:
-
مما تفعله بي!
توسعت ابتسامته لتأتي مصحوبة ببحة رجولية كانت لتُربكها
وتشتتها بالسابق ولكنها لم تعد تلك الفتاة الصغيرة بعد الآن:
-
انهضي واقتربي هنا
تنهدت ونهضت على الفور واتجهت بالقرب منه وهو لا يزال
ممسكًا بيدها ولكنه فاجئها بجذبه لها حتى باتت تجلس فوق واحدة من قدميه لتلتفت
حولها وحدثته بارتباك:
-
عمر نحن لسنا في المنزل.
تنهد وهو يعانق خصرها بذراعه بينما الأخرى يُكشف بها
الأغطية عن الصحون وتحدث بلهجة غير مُكترثة مغمغمًا:
-
أنا لم اقم بحجز الطابق بأكمله وجعلتهم يقومون بتجهيز كل
شيء دون سبب.
ملئ الشوكة ببعض الطعام ثم وجهه بالقرب من شفتيها وهمس
وهو يتفقدها شاردًا بملامحها:
-
لقد فعلت كل ذلك حتى لا يزعجنا أحد قطتي.
تناول هو الآخر البعض من الطعام وقربها منه أكثر لتسترخي
بجلستها فوجدها بتلقائية تحاوط عنقه بيدها وتفقدته مليًا ليُعطي لها تلك النظرات
المتفحصة خاصته عندما يُريد أن يعلم ما بنفسها ويكتشف صدقها من عدمه فسرعان ما
أعدت تلك الصورة الكاملة عن شخصيتها التي قررت أن تتعامل بها معه مؤخرًا فلا
تستطيع أن تتخلى عن نفسها بالكامل ولا تستطيع أيضًا أن تبالغ بأنه مجرد امرأة
منعدمة الشخصية فأخبرته بابتسامة اثناء اطعامه لها ولنفسه:
-
ليس لدي مانع أن نظل هكذا طوال عمرنا، أنا وأنت بعيدًا
عن كل الناس، ولكن ما الذي سنفعله في العمل الذي يلاحقنا.
تنهد وعينيه هائمة بخاصتها بينما اتضحت المعاناة
الحقيقية بمقلتيه ثم تمتم بانزعاج:
-
هل يزيد الجندي أوصاكِ عليّ أم ماذا؟
استغربت بتلقائية ثم همست بتعجب:
-
أنا لم أتحدث إلى والدك، اعتقد أنني لم أتحدث معه غير
اليوم الذي ذهبنا به لزيارة عائلتك، واليوم الذب أتى فيه ال المنزل فبل سفرك وغادر
سريعًا، ما الذي أزعجك هكذا؟ هل حدث شيء؟
قالت سؤاليها باكتراثٍ حقيقي وانتعش بذاكرتها تحذيره لها
من والده لتجد ملامحه تمتعض وهو يبتلع ما بفمه من طعام دفعة واحدة ثم زفر بضيق
ونهض بعد أن دفع جسدها بهدوء ليستطيع التحرك ونهض مغادرًا لواحدٍ من الأركان
ليتابع نيل القاهرة الليلي المتلألئ بعينيه الباهتتين فتبعته متعجبة لتصرفه وتلمست
ذراعه على مُكثٍ وحدثته بلين:
-
أنا لم أقصد إزعاجك أعتذر لك.
التفت نحوها مُضيقًا عينيه وأشعل بعضًا من سمومه لينفث
أولى ادخنتها في الهواء الطلق وعقد حاجبيه في غضب وهو لا يُصدق ما يسمعه منها،
اعتذار بعد أن كانت تحدثه عن العمل الذي لن تستطيع أن تحيا بدونه وهدوء عجيب آتى
بعد أن سلمت له نفسها بالكامل بداية بما ترتديه ونهاية بسيطرته على مشاعرها
ورغبتها دون تأفف، هل تمزح معه؟ هل تريد أن تخبره أنها تحولت لنسخة من تلك المرأة
التي تمناها بين يوم وليلة وتريد منه أن يتعامل بتلقائية؟ ما لعنتها معه حقًا منذ
أن غادرا الغرفة؟!!
-
روان ما الذي تريدينه منذ الأمس؟ ما الذي تفعلينه معي
بالضبط؟
تحولت ملامحه من رجل هادئ يتلاعب بمشاعرها، ومن طفل لتوه
لا يريد أن يتحدث عن والده، إلى ذلك المحامي المحنك الذي يستطيع قراءة الملامح
ببراعة، فلم تجد بين يديها سوى غلبة المشاعر والبراعة لتقابله بهما!!
-
أتعتقد أنني أريد شيء سوى أن نكون سعداء سويًا؟
اقتربت منه وعينيها عكست بالفعل جزء من الحقيقة، لقد
تمنت في يوم أن تصل معه للعشق والنجاح وزواج سعيد مكتمل الأركان، ستكون في غاية
السذاجة لو أنكرت بداخلها أنها تهيم به عِشقًا، وستكون امرأة غبية إن رفض عقلها
تصديق ذلك الانجذاب بينهما، لتدعه يرى كل ذلك، وربما ستستطيع إقناعه، أدركت أنه
لطالما كان يعطيها الكثير من الكلمات ثم يصمت لأيام، ومن جديد يُعيد كرته، ربما
عليها أن تفعل المثل ولكن ببعض الأنوثة التي تعرف أنها تملك عليه سلطان جبار لا
يستطيع الصمود أمامه!
-
لقد كنت في البداية فتاة ساذجة لا أعلم ما الذي يعنيه الزواج
وما يريده الرجل، لو قولت لك ما الذي حدث لي في البداية لن تصدق ان شيء سهل هكذا استطاع
أن يغير أفكاري كثيرًا، لقت قمت بتغييري وسوف أثبت لك واذكرك بأشياء كثيرة.
ابتسمت بسخرية على حالها بتلقائية شديدة، فنكران غبائها
وسذاجتها لن يُفيدها أبدًا سواء معه الآن وأمام عينيه المتفحصتين أو في المطلق بعيدًا
عنه دون مسمى ينسبهما لبعضهما البعض:
-
في البداية كنت اتصل على كل معلوماتي عن طريق الشبكة
العنكبوتية، فأنا لا أهوى القراءة، وليس لدي وقت لمشاهدة مقاطع الفيديو، فكنت أبحث
عما قل ودل كما يقولون.
تنهدت ووجهها امتلئ بالبشاشة واقتربت منه بأعين تفيض
بالحماس وشابكت اصابعها بيده التي اخرجتها عن عمد من جيبه وهو لا يزال يرمقها
بوجومه المتفحص بعناية وأردفت:
-
كنت عند عنود بالصدفة وبدأت تحدثني عن تطبيق الفيسبوك وبدأت
أدخل إلى المجموعات الواحدة تلو الأخرى ورأيت كيف تعاني النساء من أشياء كثيرة، كرجل
بارد الشعور مع زوجته ولا يحدثها، أو يقترب منها، ولا تعني له شيء، وكأنه لا يراها
ولا يفرق معه ما الذي تفعله في يومها، هذا غير الخائن، والذي
يتزوج غير زوجته، وتكتشف هذا بالصدفة، أو شخص يعامل اهل زوجته بطريقة غير جيدة ويمنعها
لسنوات عنهم.
قضمت شفتيها بين احمر شفاهها مما شتته لوهلة ولا يدري
لماذا تتهلل ملامحها لهذه الثرثرة التافهة ولكنه أعطاها الفرصة لتكمل كلماتها:
-
بدأت أقارن وأضع نفسي بدلًا عنهم، وجدتك بعيدًا عن تلك
الغرفة تتحدث بشكل منطقي، فكل رجل يريد امرأة تطيعه، ويجد معها الراحة، لن أكذب
وأقول إنني لم أحزن بسبب الشبه الذي بيني وبين يمنى، وتسرعت وأخطأت، وقمت برفع
قضية الخلع ولم أستطع أن أكون بديلة لامرأة أخرى.
تنهدت ثم تفقدته بابتسامة ونظرات لم يستطع الصمود أمامها
واطنبت وهي تقوي من لمستها على يده:
-
عندما ابتعدنا عن المنزل بعد قضية الخلع أشعرتني بأنك
مستعد لفعل أي شيء من أجلي، وإنك تريدني انا بكل ما في وليس هي، كنا نتشاجر في
البداية ولكن بعد كل ذلك فإن كل شيء أصبح على ما يرام بيننا
حتى وإن كنت أرفض أسلوبك معي فأنت دائمًا ما كنت تقوم
باختياري قبل عملك، وقبل عائلتك، وقبل أي
امرأة أخرى من المستحيل أن تنظر إليها، شعرت بتفاهة مشاكلي عندما قارنت بيني
وبينهم، لا أعتقد أنك عندما أقبل يدك وقدمك سيقول ذلك من قدري في شيء، ولا أعتقد
أنك تقوم بأذيتي بالفعل ونحن داخل الغرفة،
نعم أشعر بالألم، ونعم أفعل اشياء جديدة عليّ كنت أشعر بالخوف
في البداية ولكن الآن الأمر مختلف، كلما اقتربنا من بعضنا البعض أكثر وتمر علينا
المواقف المختلفة أستطيع تقبل طريقة تفكيرك، وأنت ايضًا تستطيع تقبل طريقة تفكيري،
عمر لقد طلبت منك بنفسي ونحن في الخارج أن تقوم بتوثيقي وتفعل ما يحلو لكَ، وانحنيت
وقبلت قدمك، ولكن فعل هذا لم يقلل من شأني ولم تقلل أنت مني أمام أحد، ولم يتغير
شيء بيننا، ولولا ما حدث مع يونس لم يكن ليحدث بيننا ذلك الخلاف الفترة الماضية،
هذه المرة الثالثة أو الرابعة التي تسألني فيها ماذا أريد منذ الأمس، أريد أن نسعد
سويًا ولا أريد أن يحدث بيننا أي مشكلات، ما هو الصعب فيما أقول، أم أنك أصبحت لا
تثق بي؟
لانت ملامحها بعد ابتساماتها المتلاحقة وتحولت للجدية
ونظرة التوسل والالحاح باتت أكثر ما يُسيطر على ملامحها ثم جعلت الأمر يزداد جدية
بمقلتين مليئتين بالدموع وهمست باستياء:
-
لماذا يجب عليّ تصديق حديثك وأسامحك وأنت لا تثق بي، لماذا
يجب عليّ أن أتوسل إليك في كل شيء، عمر ما الذي ينقصنا حتى تحبني وتثق بي وتتأكد
من أنني أحبك مثلما تفعل أنت وأريد سعادتك؟
زيفت ببراعة نظرات طفلة تتوسل والدها أن يُعطيها دميتها
المُفضلة وبمجرد انهمار أولى دموعها وجدته يجذبها من يدها بقوة وقبلها بشراهة ولكن
لم تختلف نظراته وهو يحدقها وحدثها بنبرة منزعجة ثم سألها:
-
حسنًا أيتها المعتوهة عندما أرى شخص يضع يده عليكِ وأمرر
ذلك واقوم باحتضانك وممازحتك هل بهذا أكون لا أثق بكِ؟
-
لماذا إذًا تقوم بتكرار ذلك
السؤال، ماذا أريد؟ ماذا أريد؟ وكأنك تشك بي.
قاطعته وهي تجهش بالبكاء فلقد باتت تشعر بالألم من كثرة
تحدثهما ولم تعد تطيق الانتظار حتى تحصل على حُريتها منه بالكامل، ارتياب ونوبات
وجنون وسادية واهانة وسخرية وتقليل من شأنها وكل يوم في حال جديد وغرفة وعذاب
وغيرة عمياء وتحكم وعزل عن العالم بمن فيه، من هي تلك المرأة العظيمة التي تستطيع
تحمل كل هذا؟ بمجرد تفكيرها بكل تلك الأمور كان البكاء أقل بكثير من ذلك الصراخ
الذي تمنعه بأعجوبة عن الاندفاع منها!
-
انظري لي.
حاوط وجهها بين كفيه ففعلت وهي تحاول أن توقف بُكائها
ورمقته بتردد بينما كانت ملامحه صارمة بشكل جعلها تخشاه حقًا:
-
كل ما تفعليه هذا يجعلني أشعر بعدم الراحة ولكني سأختار
تصديقك.
احتبست الأنفاس بداخل رئتها لبُرهة ليُردف:
-
هذه آخر مرة أصدقك بها، إن حدث شيء بعد ذلك لا أعلم كيف
يكون رد فعلي وقتها، هل اتفقنا؟
أومأت على الفور بالموافقة، وحاولت أن تثبت أمام ملامحه
ونظراته المتفحصة، وبحنكة منها تلمست احدى يداه ثم طبعت قبلة فوقها وحدثته قائلة:
-
اتفقنا، ولكن هذه آخر محاولة مني، بهذا سأكون قد أعطيتك
كل ما أستطيع إعطائه لقد تغيرت في كل شيء معك وسأظل هكذا، فإن اكتشفت بعد ذلك
بالصدفة أنك تخفي عني شيء لا أعلم كيف سأتحمل ذلك، أنا لا أقوم بتهديدك عمر، ولكني
وقتها سأنهار، ولن يظل حبك في قلبي كما كان، ولن تبقى صورتك في عيني كما هي، خاصة وأنها
قد اهتزت أمامي أكثر من مرة بالفعل.
جذبها برفق لعناق طويل لم يكن بمثل عنفه المعتاد ولا حتى
رغبته التي اعتادت عليها فبادلته العناق وهي ترتعد ذعرًا بداخلها فهي لا تعرف كيف
ستكون ردة فعله عندما تواجهه بحقيقة فراقهما للأبد..
-
أنتِ الوحيدة التي تعلمين كل شيء عني، منذ أن كنت طفلًا
صغيرًا وإلى الآن، لا توجد امرأة اقتربت مني لتلك الدرجة غيرك، حتى أبي لا يعلم
عني مثلما تعرفين أنتِ، إن اكتشفتِ شيء آخر غير ما اخبرتك به وقتها لكِ تلحق في
فعل ما يحلو لكِ.
اغمضت عينيها وهي تحاول أن تكترث للمساتها وحركاتها وحتى
تزودها بالهواء خلال نفس تتنفس به قد يكون بالنسبة له مجرد أمر يثير الريبة، عقلها
يؤلمها بشدة من كثرة تلك الأفكار برأسها، هي تعرف أنها بالأيام القادمة ستكون
متأهبة حتى خلال نومها كي تنجح وتتركه في النهاية، وأكثر ما تكرهه تجاه نفسها؛ بل
يجعلها تحتقر نفسها هو شعورها نفسه أثناء تعامله معها بهدوء وتقبل..
هي ليست بجماد كي تنسى ما حدث لها بالسابق، ولكن كل
دوافعها منذ أن كانت يافعة وحتى باتت امرأة متزوجة لم يكن لها سوى توجه وحيد،
النجاح والسعادة والعشق، هذا كان كل ما ارادته معه، فلم تحرز الأمر الأول، وحققت
القليل من الثانية لمرات تعد على أصابع اليد الواحدة، وأما اللعين الأخير فهو أكثر
ما يجعلها تحتقر نفسها، هي على يقين أنها تعشقه حتى بعد كل ما فعله، ولكن أن تسامح
وتغفر له وتتقبل رجل لا يرى أنه خاطئ وكله يقين أنه بخير، يستحيل أن تجد بداخلها
ولو مجرد فكرة عابرة لفعلها الآن ولا ذرة من مقدرة على الاستمرار معه طالما هو
مصمم على ما يراه! لقد تغير كل شيء هذه المرة حتى بعد تكرار نفس القصص التي لا
تنتهي معه ويظن أنها ستفلح معها!
استمعت لضحكته الهادئة لتتأكد أن كلاهما فقدا عقلهما، هو
بالفعل من كان بلا عقل وهي باتت فاقدة لعقلها معه بالتبعية، ولكنها لم تستطع منع
نفسها من التعجب:
-
ما الذي يضحكك الآن؟
ابتعد قليلًا عنها للخلف ليتفقد ملامحها ثم اجابها
بسخرية:
-
أنتِ
رفعت احدى حاجبيها بتلقائية وأعطته نظرة مستنكرة لما
قاله فأومأ بالإيجاب وتابع مُفسرًا بتنهيدة مطولة وملاح عادت للمصداقية:
-
أنا أقف وأنا اعانقك في نفس المكان الذي كنت أرفض فيه
الكثير من الأشياء منذ بضعة أشهر، بداية من أن أقوم بلمسك
نهاية بأن أقص عليكِ كل شيء، لم أعد أتصور أن نبتعد في يوم
ما، تنتظرين أن اتغير معكِ في ماذا وما الذي ستحاولين فعله أكثر من ذلك، هل يوجد
اثنين من الممكن أن يصلان لشيء أكبر مما وصلنا إليه الآن؟
ابتسمت ابتسامة هادئة وعانقته من جديد وهي تريح رأسها
على صدره بعد أن هزت رأسها بالنفي، وتمنت لو أنها تبوح له بالكثير ولكن بالطبع لقد
فات أوان الكلام العقلاني معه ولم يعد يُفيد، فلقد حاولت بدل المرة آلاف المرات،
وكل مرة تفشل معه في جعله إنسان طبيعي.. هي لا تريد الابتعاد عنه لأنه مريض، بل
تريد الابتعاد عنه لأنها فشلت أن تريه هذا أو تقنعه أو حتى تجعله يتقبل احتمالية
الأمر!
وجدته يُداعب خصلات شعرها وبدأ جسده يتمايل مع صوت
الموسيقى المحيطة فتوسعت ابتسامتها وهي تشعر بالخيبة، لقد جذبها في البداية بكونه
رجل يستطيع أن يُراقصها دون التعنت ورفض الأمر، ولكنها قررت كسر هذا الصمت بينهما
فسألته بفضول:
-
من الذي قام بتعليمك الرقص؟
قبل جانب جبهتها واجابها دون تفكير:
-
أنا
تعجبت بداخلها ولكنها لم تستطع الاعراض عن عدم تقبلها
للفكرة وسألته مرة ثانية:
-
لا أعتقد أن يكون والدك أو أحد من أقاربك، أصدقني القول من
الذي قام بتعليمك؟
دفعها بحركة راقصة ثم قربها إليه لتلتف على ذراعه وقال
بنظرة ماكرة اختلطت بمزاحه ذاك الذي يعج بالفخر بنفسه:
-
انا من علمت نفسي، كل شيء في هذه الحياة يمكنكِ أن
تتعلميها.
ابتسمت له وضيقت عينيها نحوه بينما علم ما تُرمي إليه
جيدًا فعائلته التي قد يفخر بها الكثيرون ليست بمفخرة له على الاطلاق فأردف بما
يُشفي فضولها الذي لا ينتهي:
-
هل تتذكرين الرجل الذي عملت معه لفترة؟ عندما كنت أسهر
معه بدأت أرى أشياء كثيرة في حياته غير التي تعودت عليها، واحببت الرقص من بين هذه
الأشياء
رفعت حاجبيها بإعجاب وهي تتشبث بعنقه وتعجبت منه
بابتسامة:
-
أنت غير مفهوم بالمرة، من ثواب وعقاب، لرقص ورومانسية،
سادية وبعدها خطابات، قضايا ناجحة وأنت لا تحب المحاماة، لن أستطيع أن افهمك
أبدًا.
حاوط خصرها بيديه أسفل شعرها المسترسل ثم دفه بحركات
متأنية ليصبح جسديهما متلاصقان وعقب بسخرية:
-
ولا أنا أستطيع فهم نفسي قطتي.
ضيقت عينيها نحوه واعطته نظرات غير مقتنعة بقوله ثم رددت
متعجبة:
-
عمر الجندي دائما يعلم ما الذي يريده ويفهم نفسه أكثر من
أي شخص.
نظر بعينيها مليًا وزفر حتى انعكست أنفاسه الدافئة على
وجهها وقر إقرار صادق أمام شفتيها مباشرة:
-
انا لا أعلم هل سأقدر على تناول الطعام أكثر من ذلك أم
لا؟ لا أعلم هل أريد أن نمكث هنا قليلًا أم نعود إلى للمنزل؟
وإن ذهبنا للمنزل هل سأتحمل أن نصعد للأعلى سويًا أم لا؟
وإن صعدت فأي الغرف سندخل؟ وسواء في غرفتي أم الغرفة الأخرى فكم من الأيام سأمكث
معكِ، ولو مكثنا لأيام هل سأقدر أن أبتعد عنك في
النهاية أم لا؟ ولو ابتعدت سأستطيع أن أعمل مرة أخرى وأتولى
قضايا أم سأمل من ذلك؟ ولو توليت قضية بعد هذه الفترة الطويلة
هل سأكسبها أم لا؟ ولو كسبتها
بالفعل هل هذا سيجعلني أحاول أن أعود لعملي مرة أخرى وابتعد عنك؟ ولكن من المؤكد
أنني سأختارك أنتِ فبل أي شيء آخر في هذه الحياة ووقتها سأعود وأجلس معك، ونخرج
ونسهر ونأكل معًا، وبعد ذلك نعود للمنزل، ونكرر ذلك مرة أخرى هل سندخل الغرفة أم
لا؟
غازلته بدلال
ينهمر بعينيها عند تحول ملامحه لخبث مازح امتزج بغزل لا تجده بعين رجل سواه وفقط
عدة كلمات قام برصها خلف بعضها البعض في هذا التوالي جعل مزاجها يتحسن، هي حقيرة،
هي تعترف لنفسها بذلك.. هي لن تستطيع مقاومته أبدًا بلمساته وعينيه عندما تتعلق
بخاصتها بهذه النظرات التي تجعلها تشعر وكأنها الأنثى الوحيدة في الكون بأكمله، هي
تفقد كل صوت للعقل بين يديه.. على العموم هذا أفضل بكثير من أن تحاول الفرار منه
بنوبة هوس عاصفة!
-
لم تجيبيني أي غرفة تختارين؟
قضمت شفتها ثم رفعت عسليتيها نحوه بتلاعب لم يغب عنه دلالها
وهمست له مجيبة:
-
اختر ما يحلو لك.
القصة تُعاد بالفعل، الاحداث تتكرر، ولكن هذه المرة
ستعمل على أن النهاية لن تكون واحدة، لم يتبق سوى القليل لتختم هذا العذاب للأبد!
يُتبع..