رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بتول طه - الفصل التاسع والأربعون
رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بقلم بتول طه
حصريًا لمدونة رواية وحكاية
جلس مترقبًا أن ينتهي من هذا الانهيار الذي لأول مرة يلمحه على وجهه وآثر الصمت غير مُصدق أنه يبكي بهذه الحرقة التي تندلع على ملامحه، هذا فضلًا عن أنه لم ير أخاه يبكي قط واستمع له وهو يتحدث بوهن:
-
لقد ظلمتها عدي... ظلمتها كثيراً ولن أستطيع
أن...
لم يستطع أن يُكمل بسبب تلك الغصة بحلقة التي
امتزجت بالدموع المكتومة التي حاول أن يبتلعها بدلًا من تركها لتتفلت منه بينما شعر
"عدي" بالرثاء على حاله فحاول أن يُطمئنه ليقول:
-
اهدأ عمر... لكل مشكلة حل، لا تقلق، قد يأخذ الأمر
وقتاً نظراً لحالتها ولكن...
-
هل استيقظت؟ هل أصبحت بخير؟
قاطعه بلهفة وكأن جسده تشنج ولم يستطع التنفس
وحبس أنفاسه التي لن يحررها سوى إجابة "عدي" عليه الذي أومأ له باقتضاب كما
كان قوله:
-
نعم...
أخبره بلهفة وهو يدير مفتاح السيارة كي يُشعل
مُحركها:
-
هيا إذن حتى أراها
سكت عدي ثم نكس رأسه بألم وحزن وهو يتلمس يده
أن يتوقف عن الشروع في القيادة فتعجب منه عمر ليسأله:
-
ماذا بك؟؟ لماذا تمنعني من الذهاب؟
تفقده لوهلة وهو يبتلع فصاح عمر غاضبًا:
-
فلتتحدث قبل أن أقوم بفصل رأسك هذا عن جسدك!
تطلعه عدي بحرص، فهو حتى ولو كان يبدو ضعيفاً
مشتتاً لن يتهور ويخبره بكل شيء دُفعة واحدة، عليه أن يتأنى معه حتى لا يتعرض
لغضبه.
نظف حلقه وحاول أن يصوغ الكلمات بطريقة هادئة
لا يدري هل ستنجح في إقناعه أم لا وحدثه قائلًا:
-
ممم... لقد دخلت في صدمة نفسية، لم تتكلم منذ
أن استفاقت وحالتها النفسية ليست بأحسن حال
تنهد ببطء ثم رمقه على حذر واستطرد:
-
لقد حظر الأطباء زيارتها كما أنهم حذروا ألا تتعرض
لما قد يثير أعصابها وأظن أنها إذا وقعت عيناها عليك ستصـ ...
-
هل تخبرني أنت وحفنة الأوغاد خاصتك أنني لا أستطيع
أن أرى زوجتي!
قاطعه عمر غاضباً قابضاً أعلى قميصه كمن يتأهب
لعراك حتى صعبت جلسته بكرسي السيارة فحدثه ببعض التلعثم ونبرة مترددة ليحاول أن يتغلب
على غضبه الذي لا يثق في أنه يستطيع أن ينجح بهذه المحاولة:
-
بالطبع ستراها ولكن عليك أن تُعطيها بعض الوقت
ما مرت به معك كان...
-
كف عن قول الترهات عُدي... سأذهب لها
بنفسي...
صرخ به ليقاطعه ليبتلع عدي وسرعان ما جذب المفتاح
ونظر له بوجل وهو يحاول أن يغادر السيارة فأمسك بتلابيبه ليخبره بتردد:
-
سأقود أنا... سأقود... لأنك لست بحالة جيدة!
تنهد بينما ضيق "عمر" عينيه بتفحصٍ
إلى ملامحه ليومئ له بأنه سيفعل فزفر الآخر وأشار له أن يُبدلا مقعديهما وليس بداخله
سوى الخوف الشديد مما قد يصيب روان لو قامت برؤيته... فبعد ما حدث لها، أصبح حملها
غير مُستقر!
❈-❈-❈
نظر لها نائمة وأنبوبة المغذي تخترق معصمها، تبدو
شاحبة، تلك الكرزيتين قد ذبلتا، وجهها الذي تأذى بسببه هو، يدها التي يحاوطها الجبس،
ذلك الرداء الباهت على جسدها، شعرها المبعثر وكأنها قد خرجت من العذاب الجحيمي
للتو... كل هذا بفعل يديه هو فقط! لقد تأذت بسببه، بسبب عقله المريض، بسبب شكه المبالغ
فيه بأنها قد خانته مع أول كلمة هو صدق تماماً وكأنما ينتظر الفرصة ليواجهها
بذلك...
كور قبضتيه غاضباً تجاه نفسه، لا يستطيع لوم أي
أحد غير نفسه، هو حتى لم يعطها الفرصة كي تدافع عن نفسها، لقد سلم بالأمر منذ الوهلة
الأولى، لقد حكم عليها من منظوره هو فقط وكأن كل النساء خائنات مثل يمنى!
ابتلع بغصة واقترب منها ليجلس بجانبها يُحدق بها
ليشعر بالندم والخوف في آن واحد، لن يستطيع أن يُصلح كل هذا، شعوره بالعجز قد ملأه،
تلك الصدمة التي حدثت له وهو يرى نفسه كالمغفل تمامًا قد تُدمر حياته رأسًا على
عقب!!
-
لن تغفرين لي... أليس كذلك؟
تمتم بوهن وتساقطت دموعه بجانبها لينشج رغمًا
عنه دون وعي منه أنها قد تستيقظ بسبب صوته:
-
فقط استيقظي وافعلي كل ما يحلو لكِ... سأقبل كل
ما تفعلينه ولكن اغفري لي...
تحول نحيبه ليُصبح عاليًا ولم يكترث ما إن
شعرت به أم لا ولكنه لم يستطع أن يُسيطر على إجهاشه بالبُكاء لتشعر به وفتحت عينيها
النائمتين وما إن أدركت أنه هو من يجلس أمامها حتى بدأت في البكاء الهيستري ولكن بصمت
تام دون المقدرة على التفوه بحرفٍ واحدٍ وحاولت أن تبتعد عنه قدر الإمكان ولكن أوجاع
جسدها لم تكن لتسمح لها بالتحرك ولو إنشًا واحدًا ...
أخذ جـ ـسدها بالارتجاف ليصدر تشنجات اهتز على
إثرها السرير أسفلها وحاولت التحرك لتزيح جسدها بعيداً عنه، لا تريده بالقرب منها،
شعرت بالفزع منه، لم تعد تثق به، تلك الصفعات والقسوة التي اختبرتها معه لن تنساها
بسهولة، ذلك العنف الذي رأته لم تكن تتخيله حتى بأسوأ كوابيسها...
لا تراه الآن إلا كوحش يريد أن يفتك بها،
ربما يريد أن يقتلها... لم تشعر بأوجاع جسدها المنتهك، فقط رأت نظرة أمس بعينيه، شعرت
وكأنه سوف يحرقها بنيران غضبه مرة أخرى وصدقت فقط أنه سيدمرها هذه المرة دون أن تقترف
ذنباً... فهي لم تنس بعد اتهامه إياها بأنها امرأة عديمة الشرف، ولم يستمع لكل ما أنكرته
وهي في الحقيقة لم تفعل شيئا!
أرادت أن تستنجد بأي أحد، أي مكان قد توصده على
نفسها حتى لا تقع تلك الأعين الشيطانية عليها، سيعيدها مجدداً، سيتفنن في إذلالها حتى
لا تصرخ وتبتلع آلام وحشيته المريضة... سيقيد يدها وسيهشم عظامها حتى تفقد الوعي مجدداً
ولن يسمعها أحد... ستواجه الموت مرة أخرى عن طريق ترجعها للألم والإهانة والذل ثم
سيبعثها من موتها ليعيد كل شيء ولن يتثنـ...
-
عمر ماذا بك لماذا تصيح هكذا
أتى عدي مهرولاً عندما سمع أخاه يصرخ غضباً بالممرضات
حتى ارتجف الجميع خوفاً وفعلوا ما آمر به تجنبًا لصراخه بينما قاطع صوت عُدي أفكارها
بل وأخرسها تمامًا، لم تكن تنتبه لكل ما يحدث حولها سوى لرؤيته هو وحسب في ذعرٍ
تام!!
لهث بتسارع وأومأ له بالإنكار وحدثه بنبرة
غالبها البُكاء الذي يحاول كتمه بصعوبة فوق حدقتيه:
-
لقد رأتني... هي تخافني... لم تعد تريدني بعد
الآن... هي تكرهني، يستحيل أن تغفر لي ما فعلته بها!
-
اهدأ عمر... هذه لأنها أول مرة تراك بعد الذي
حدث و...
كلمه محاولًا تهدئته ليقاطعه وهو يهذي بالكلمات
التي تفلتت من بين شفتيه دون إدراك بما يقوله:
-
لا تذكرني... لن تريدني... لقد أوشكت على
الموت اِخْتِنَاقًا بشهقاتها ولولا وجود الممرضة والمهدئات كانت ستموت... كنت
سأفقدها للأبد... أرجوك لا تجعلها تراني... أرجوك ساعدني بهذا... أنا لا أملك سواك
أستطيع أن أطلب منه المساعدة...
هذى خوفاً ليتعجب عدي منه بحق... لم يظن أن ذلك
الرجل الذي بدا كالصخر هَشًّا هكذا لا يستطيع أن يوقف بُكاءه، وهل حَقًّا يتوسل له
لطلب مساعدته؟ هو بالطبع لن يبخل بأن يُساعده هو وزوجته ولكن هل هذا حقيقي ويحدث حَقًّا
حوله أم أنه مجرد حلم وسيستيقظ منه؟!.
قاطعهما صوت هاتفه ليجد أن المتصل هي
"رحمة" مديرة المنزل ومُربيتها وكمْ ارتعد خوفاً وبيدٍ مرتجفة أجاب ليستمع
لصوتها المتلهف وهي تقول:
- فقط أخبرني أنها بخير، لا أكترث سوى
لهذا... أخبرني أنها لم يحدث لها شيء!!
تحدثت بلهفة بينما كتم دموعه لبرهة وأجاب محاولاً
ألا يبدي أية مشاعر بنبرته:
-
ستكون...
تابعت بمزيد من اللهفة وصوتها يُشارف على البكاء
وحدثته قائلة:
-
لو علمت السيدة أميمة قد تحدث لها انتكاسة...
هي لن تتحمل إذا حدث لها شيئاً... لن أستطيع أن أخبر أحداً، أرجوك أخبرني ماذا حدث؟
تلك الدماء على الفراش وردائها الممزق، ما الذي حدث؟ هل آذيتها؟ هل أنت من أتى بها
الليلة الماضية؟
ما إن سمع تلك الكلمات حتى هوى جالساً
متألمًا وهو يحاول أن يُفكر في إجابة منطقية سوى أنه وغد قام بتعذيب زوجته ثم اغتصبها
إلى أن سبب لها إغماء وقارب على دفعها لفقد جنينها الذي تحمله منه ليأخذ "عدي"
منه الهاتف كي يُكمل هذه المُكالمة بدلًا منه ونظف حلقه ثم شرع بالحديث:
-
مرحباً... أنا عدي أخو عمر...
توقف للحظة ثم طالع الاسم بالهاتف ولم يكن يعلم
من هي ليستمع لصوتها المتسائل بلهفة شديدة:
-
لا أكترث من أنت فقط أخبروني ماذا حدث لها؟!
حاول أن يسيطر على الموقف ويُلهم نفسه كذلك بعض
الوقت كي يختلق قصة منطقية بِنَاء على المُعطيات التي ستُعطيها له:
-
حادثة بسيطة... ممم... كيف عرفتِ؟
أجابته واللهفة لا تزال تسيطر على نبرتها:
- تلك الدماء بالغرفة، ثوبها الممزق، أرجوك
أخبرني ما الذي حدث لها؟ ولماذا لا يتحدث زوجها معي؟
همهم بتفهم ثم نظر نحو أخيه وأجابها قائلًا:
-
لا تقلقي هي بخير... وعمر منشغل مع الأطباء، لقد
تعرضت لحادث ليلة أمس وكان عليهما إزالة الثوب سريعًا ظَنًّا أنها ستكون بخير وأن الجرح
صغير، ولكن عندما رأى عمر أن الجرح كبير والألم اشتد عليها ذهبا للمشفى وهي الآن تخضع
لاشعات وفحوصات كي نتأكد من سلامتها ووظائفها الحيوية... هل لي أن أهاتفك لاحقاً، عذراً
ولكن إدارة المشفى تريدني... لا تقلقي سيدة رحمة، سأهاتفك مرة ثانية قريبًا...
أنهى المكالمة بينما نظر لعمر الذي بدا
كالعصفور الصغير أمامه، اختفى ذلك الرجل الذي كان بنظرة واحدة يخيف الجميع ليحل محله
كائن ضعيف، تلك العضلات المفتولة والهدوء والسيطرة بل والتحكم بالجميع، اختفى كل شيء
وتغير بسببها هي...
تنهد ثم طالع روان النائمة على السرير خلفه بعد
أن سيطرت الممرضات عليها بمهدئ قوي ليرى ملامحها المنزعجة حتى بنومها ليجذب يد عمر
بغضب حتى نهض معه وهو كالتائه فألقاه بالسيارة ثم دلف بجانبه وأشعل المحرك وقاد
بجنون حتى وصل لمكان ناء فأوقف السيارة ونزل غاضباً وجذب عمر الذي بدا كالجسد دون روح
ودون أي مقدمات لكمه بوجهه...