رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بتول طه - الفصل الثاني والخمسون 2
رواية كما يحلو لي - النسخة القديمة
حصريًا على مدونة رواية وحكاية
بقلم بتول طه
- تابع قراءة الفصل الثاني والخمسون -
سألته بمنتهى العملية والجدية لتجده غارقاً بالتفكير... عرفت أن عرضها
عليه لن يستطيع أن يرفضه، سهماً واحداً بمجموعتها يساوي أكثر من شركته بأكملها، ولكنه
فهم ما وراء عرضها، عرف أنها تريد أن تشعره بمدى ثقتها به وأنها ستتحمل معه بشركته
أيضاً كل مكسب أو خسارة... تريث مُفكراً ووضع كفيه يغطي بهما وجهه وتنهد بعد أن مسح
عليه وحدقها ليقول بلهجة استفهامية:
-
حسناً... عشرة بالمائة!!
قابلته بضحكة حقيقية تردد صداها حولهما ثم حدثته وهي تتفحصه مُضيقة
عينيها بمزاح:
-
لا تكون طماعاً عدي!! أتستغل احتياجي لك؟
رفع واحدًا من حاجبيه بتحدي مازح وأجابها متسائلًا:
-
عرض يقدم لي على طبق من ذهب... لما لا أزيد من حصتي قليلاً!
تنهدت وهي تُفكر مُدركه بمساومته والتزمت ملامحها الرسمية وقررت أن
تفاوضه:
-
ستة بالمائة!
ضيقت عيناها وتفحصته بجدية بانتظار رده بينما عقب بحماس:
-
ثمانية!
زمت شــ ــفتيها وهو تومئ بالإنكار وتكلمت بلهجة لا تحمل النقاش بعدها لتحسم هذا الأمر:
-
سبعة ولن نتناقش بهذا غير بعد خمسة سنوات من شراكتنا لنرى هل يُمكننا أن
نزيد من حصتك أم لا!
-
اتفقنا إذن
صافح يدها فابتسمت له وأخذت من أسفل حاسوبها بعض العقود لينظر لها
بتعجب شديد وهي كانت بالفعل قد قامت بتجهيز كل الإجراءات فتحدث باستغراب:
-
اللعنة!! أنت لا تضيعين الوقت أبداً، كيف علمتِ أنني سأطلب المزيد؟
ابتسمت له وهي تشاهده باستمتاعٍ ولوهلة امتلأت بالثقة بالنفس تجاه ما فعلته،
فهي تدرك مَلِيًّا أنها لا تتوقع شيئًا بخصوص الأعمال في المُطلق إلا وتكون مُحقة
به!
-
سأخبرك لاحقاً أيها الطامع المستغل... وقع عدي
ما إن فرغت من توقيعها حتى أزاحت له الأوراق ليبتسم عدي فرحاً وتلهفاً
لما هو مُقبل عليه وما إن انتهى حتى أخذت منه روان العقود وحدثته بلهجة ممتلئة
بالأوامر:
-
والآن، سأطلب منك آخر طلب... وستفعله وسنقرر فيما بيننا، لا أعلم هل أولي
كل الشئون القانونية لشركة عمر أم والدك؟ علينا دراسة هذا معاً وتحديده بأقرب وقت
بناء على دراسة وضع كل منهما ودون تحيز عدي!!
رفع حاجبيه وهو ينتظر مُفكرًا بما عليه قوله بينما لاحظ أن تحديقها به
وترقبها كانا جديان للغاية، هل حَقًّا تريد تعريضه لهذا؟!
-
أنت لن تفعلين بي هذا... عمر لم يخسر قضية بحياته وكيانه الآن أصبح يفوق
التخيل بتلك الإجراءات القانونية والقضايا وأبي، يكفي فقط اسمه، هو مخضرم بشكل كبير
ولديه خبرة تفوق عمر بمراحل...
زفر عدي باستياء وتردد بينما حدثته بثقة لتُطمئنه:
-
لا تقلق... سنحدد هذا معاً...
طمأنته ثم اعتراها الحزن والتعاسة ليتعجب لتغيرها الذي لاحظه واكتفى
برمقها بتساؤل شديد مستفسرًا عما يراه وكاد أن يسألها ولكنها خلصته من هذه الأسئلة
المُكررة المُرة التي لا تُفيد:
-
كيف حاله عدي؟!
همست سائلة بوهن ليبتلع ويهز رأسه بأسف وأجابها بتنهيدة:
-
لن أكذب... هو ليس بحال جيدة أبداً!!
❈-❈-❈
-
لقد نظر جميع الأولاد لي وكأنني صاحب سلطة ما، وكأن والدي يتحكم بأي أحد
ويستطيع أن يفعل المستحيل، حتى وإن كنت طفلا خاف مني البعض أما البعض الآخر من الأولاد
مثلي، من كان يملك أبوه النفوذ والسلطة كانوا يشكلون عصابات شرسة، لذا كان على الانضمام
لهم أو مواجهة العذاب اليومي من التنمر والإهانات والعنف...
ابتلع متألماً وأغمض عينيه ليغرق بأعماق كل ما تذكره بتلك السنوات التي
بدأ خلالها كل شيء ثم واصل كلماته بنبرة خافتة:
-
كنت دائماً ابن أبي، أقتنع بتلك الطريقة التي لا ينفلت من أمامه أحد إلا وهو مقتنع
تماماً بكلماته حتى ولو كانت الجنون نفسه، كان دائماً ما يخبرني بأنني سأكون رجله،
ابنه البكر، الذي سيدافع عن أمي من بعده وسيعتمد علي إخوتي وسأتولى كل شيء من بعده،
لذا كان يجب علي أن أكون صلبًا قاسيًا وأتحمل كالرجال، كنت أظن بامتثالي أوامره سيحببني
أبي أكثر، وكنت أنتظر العودة لعائلتي بالإجازات لأرى تلك الابتسامة على وجههم، أردت
أن أبرهن له كم أنا رجل ولا أخاف ابتعادي عنهم بينما لم يعرف أحد رغبتي بأن أكون مجرد
طفل لا أريد العراك، فقط أريد العودة للنوم مساءً بالقرب من صوت أمي وحضنها كي تقص
لي حكاية ما قبل النوم، لم يشعر أحد بذلك الألم بداخلي عندما عرفت أن عدي سيذهب لمدرسة
قريبة من المنزل بينما سأبتعد أنا لشهور، لم يرني أحدهم وأنا أُركل من زملائي المغرورين،
لم يضمد أحدهم تلك الندوب والجروح عندما احتجت لأي شخص بالقرب مني، عندما كنت أصاب
بالبرد مثل أي طفل!! لم أذهب وأشكو، فقط تحملت وتحملت...
زفر بحرقة وهو يشعر بمدى ازدياد الصعوبة عليه وهو يقص تلك الكلمات
ليشعر بتصاعد أنفاسه التي أدى لها غليان دمائه بعروقه وأكمل:
-
لم يستيقظ عدي صباحاً ليضحك زملاؤه على ابتلال سريره، كنت أموت خوفاً ما إن قابلت أحدهم
ليلاً وضربني مجدداً؟ ما إن أهانني أحد ورأى خوفي ليقول لي أين أبوك الآن؟ لماذا لا
تناديه حتى يأخذك لدورة المياه؟... لقد صدق الجميع أنني بخير، لقد صدق أبي أنني أنمو
لأكون ذلك الرجل الصلب، لم أكن كثير الحديث مع أحد، فقط كنت أخبرهم أنني بخير، لم أكن
مثل الأطفال بعمري، لا أذكر أنني طلبت دراجة أو أن أذهب للملاهي... ما آلمني حقاً هو
تصديق الجميع بأنني بأفضل حال... كنت أخاف من الاقتراب من أبي وأمي وحتى عدي حتى لا
أعتاد قربهم وبعد أيام كنت سأبتعد بالنهاية...
❈-❈-❈
-
اشتقت إليكِ أمي...
عانقت روان والدتها بشوق وكأنما تريد أن تبوح لها بكل ما حدث معها،
لعل ذلك العناق يخفف من أثر كل ما تحمله بداخلها... ولكنها بالطبع كان عليها
السكوت، هي لا تريد أن تتحمل المزيد من الأعباء وخاصة لو تدهورت حالة والدتها التي
تكافح خلالها منذ موت والدها أن تتحسن...
-
أنا أيضاً عزيزتي... لو فقط أتيت مبكراً لكنت لحقتِ فارس، لقد ذهب للتو
مع أصدقائه
حدثتها بابتسامة لتبادلها روان وعقبت بنبرة هادئة:
-
سأراه غداً بالشركة لا تقلقي... اشتقت إليك رحمة، كيف حالك؟
تفقدت مُربيتها وهي تتابعها مُسلطة تركيزها عليها بينما تلهفت الأخرى وكلتاهما
على يقين بتلك التساؤلات المُختفية خلف حديثهما الذي يظهر أنه تلقائي للغاية:
-
بخير ابنتي... هل أنت بخير؟
تفحصتها بقلق ولكن حاولت أن تخفي اهتمامها الزائد بعيداً عن أعين أمها
وأومأت لها بالموافقة ثم أجابتها بتساؤل:
-
بالطبع... أخبريني كيف حالها؟ هل كانت فتاة جيدة؟
أشارت مازحة نحو والدتها لتبتسم مُربيتها وأجابتها بمصداقية:
-
روان... والدتك بخير ابنتي، ولكن فقط تريدك بجانبها طوال الوقت...
وزعت نظراتها بين كلتيهما ثم تحدثت بلهجة مُعتذرة:
-
لقد كان الأمر رغمًا عني... لقد كان تدريباً هاماً للغاية ولم أستطع عدم
حضوره... ولكن ليطمئن الجميع... الفترة القادمة سأمكث معكما كثيرًا حتى لن أمكث
بالشركة لوقت كبير... وهناك العديد من الأخبار السعيدة ولكن أريد أن أستريح الآن
وسأخبركما بكل شيء غداً... اتفقنا؟
تحمست والدتها وازداد الفضول بداخلها عندما تكلمت روان على الأخبار السعيدة
وتحرقت اشتياقًا لمعرفتها فقالت:
-
روان!! كُفي عن تلك الألغاز؟ ماذا هناك؟
اقتربت منها روان ثم ضمتها بقوة إليها وفرقت العناق لتقبل جبينها وابتسمت
لها بعذوبة بينما لم تُفصح عن المزيد وصممت على قرارها لتجيبها قائلة:
-
غداً أمي... تصبحين على خير...
توجهت إلى غرفتها ولحقتها رحمة قبل أن تدلف غرفتها لتوقفها بلهفة وسألتها
بقلق:
-
فقط أخبريني ما تلك الحادثة، لقد كدت أموت قلقاً، لقد ظللت أدعو الله ألا
يصيبك مكروه، ابنتي أرجوكِ أخبريني ما الذي حدث؟
أجبرت ابتسامة على شفتيها وهي لا تتمنى أكثر من نسيان ما لم تنسه بعد،
هي لا تريد تذكر ما الذي حدث لها بتلك الليلة المشؤومة التي تدعي الجميع أنها مجرد
حادثة!
-
رحمة ليس هناك شيئاً... اطمئني
... لقد كانت حادثة بسيطة صدمتني سيارة كانت على سرعة بطيئة وظننت أنني أتألم فقط
من الارتطام ولكن وعندما أوشكت على النوم كان هناك جرحاً بأعلى ساقي لم نلاحظه وذهبنا
للمشفى بعدها لنطمئن حيث حاول عمر أن يُسيطر عليه ببعض الإسعافات الأولية ولكنني شعرت
بالخوف لذا صممت على ذهابي للمشفى ومن ثم سافرت فوراً، لم يكن هناك شيء يدعو للقلق
-
ابنتي، لا أريد أن أرى بكِ مكروهاً...
فليحفظك الله
عانقتها رحمة بقلق وهي تشعر أن هناك شيئاً ما
ليس على ما يُرام ولم تبتع هذه القصة الركيكة التي تتحدث بها لتقاوم روان الدموع وحبستها بمشقة
واضحة ثم همست مُعقبة على كلمات مُربيتها وهي تبادلها العناق:
-
آمين...
دخلت روان الغرفة بخطواتٍ بطيئة وهي تتمنى لو
كانت ميتة قبل هذا، عليها أن تنظر لكل شيء، عليها أن تتحمل تسلل رائحته لأنفاسها، شعرت
بالتوتر من منظر ذلك السرير الذي عذبها به، فوقه، بمنتهى القسوة وهو يظن أنها مجرد
امرأة خائنة...
ابتلعت وهي تتردد داخلها، تلمح كل تفاصيل الغرفة
ثم تلمست أسفل بطنها وهمست بداخل نفسها:
-
ستواجهين كل هذا وكل شيء سيكون بخير... أنت أقوى
من هذا روان، من أجل هذا الطفل الذي ليس له ذنب في أي مما حدث!
توجهت للحمام بسرعة دون إطالة النظر لشيء وتركت
المياه الدافئة تنساب عليها بهدوء وهي تحاول أن تستمد ذلك الانضباط وتستبدل التوتر
بداخلها بالقوة...
التفت برداء الحمام خاصتها بعد أن خلصت من اغتسالها
ثم توجهت للخارج ومنها لغرفة ملابسها وارتدت أحد المنامات الحريرية بعد أن انتهت من
تعطير جسدها والاعتناء به وحاولت بشتى الطرق أن تمنع نفسها عن التفكير الذي لا يبرح
عقلها، ثم توجهت لتجفف شعرها ووضعت بعض المرطبات وتنفست برضاء وراحة تامة وتناولت بعض
الأدوية التي باتت لا تتوقف عن تناولها بالآونة الأخيرة وبدأت في صنع جديلة جانبية
بعد أن جففت شعرها لتجد الباب يُفتح بعنف، لم تكترث للنظر ولا لتبين من الذي قد يفعل
هذا... عرفته من رائحته وهمجيته بالتصرفات، لن يستطيع فعل هذا غيره، ولكنها لم تتحرك
من مكانها وأكملت بمنتهى الهدوء ما كانت تفعله على الرغم من شعورها بنظراته الحارقة
المسلطة عليها وبالرغم من أنها تود أن
تتفحصه وتنظر له ولكنها لن تلتفت إليه، لن تفعل ولن تكون امرأة ضعيفة من جديد، يكفيها
كل ما حدث إلى أن أوصلها من مجرد فتاة تملك حياة سعيدة، إلى امرأة أخرى باتت تنتظر
الأيام لتصل بطفلها إلي بر الأمان، ورغمًا عن أنفها، وعن كل ما تريده... هو والد هذا
الطفل!
يُتبع..