-->

رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بتول طه - الفصل الخامس والخمسون

    رواية كما يحلو لي - النسخة القديمة

حصريًا على مدونة رواية وحكاية


بقلم بتول طه 

 الفصل الخامس والخمسون



 

لم تصدق أن صوته يبدو هكذا، ودت لو تفتح عيناها الآن لتتأكد مما تسمعه لتدعي الهمهمة بكلمات متلعثمة ولم تنطق بكلمة مفهومة ليهمس ببكاءٍ واهن:

 

-       يكفي... أرجوكِ استيقظي... أنت ترين كابوسا روان

 

 

تأكدت من أنه يبكي بمصداقية وصوته المترجي لها يحاول أن يُفيقها وهو يتغلب على ما يشعر به، لم تصدق أنه يفعلها ففتحت عينيها وما إن تلاقت أعينهما حتى ادعت الخوف أو ربما شعرت به حقاً فتراجعت للخلف مستندة بيديها على الوسائد وحاولت أن تبدو وكأنما ملامحها مرتعبة منه ولكن انعكست ملامحها بتلقائية متناهية وهتفت به:

 

-       ابتعد... أنت لن تفعلها بي مجدداً... لن أتركك لـ...

 

-       يستحيل أن أفعلها، أقسم لكِ... لن تحدث مجددًا، لم أعد نفس ذاك الشخص الذي لا يندم على أفعاله

 

 

قاطعها ليقترب منها وحاول أن يعانقها كي يُطمئنها وفي الحقيقة كان هو من يحتاج لهذا العناق أكثر منها فصرخت به ببكاء وهي لا تدري هل انسابت دموعها من أجله أم من أجل نفسها:

 

-       لا لا... لا تلمـ ــسني... سأصرخ، سيعلم الجميع... أكره لمــ ــساتك لي... ابتعد

 

شعرت أنها كاذبة بكل ما تفوهت به لتنهمر دموعها أكثر ولكن ليس لأنها خائفة منه، بل لأنها رأته ضعيفًا هكذا وبسببها هي وبنفس الوقت لا تستطيع أن تتقبله بسهولة وتنسى كل ما مر عليهما معًا... لا تتوقف عن الشتات أبدًا معه ولم تعد تدرك إلى متى يُمكنها التظاهر بأن كل ما تريده هو أن يكون مجرد والد لهذا الجنين الذي تحمله ليس إلا!

 

 

ارتجفت لا تدري هل من اقترابه منها أم من أنها تمنع نفسها من أن تذهب له وتبادله العناق، وكأنها تقيد يديها وتسيطر على نفسها كي تمنع نفسها من أن تهدئه وترتمي بأحضانه في أي لحظة، هل تريد أن تخفف ذلك الاشتياق بداخلها أم تريد أن تخفف عنه وتضمه لصدرها حتى يبكي به إلى أن ينتهي... لا تعرف ولا تدرك ما تريده وشعرت بالشتات التام نحو تلك العلاقة برُمتها معه غير واعية ما الذي تريده تحديدًا...

 

 

ودت لو جففت تلك الدموع التي تنهمر منه، لم تظن أنها ستراه بهذا الموقف، يحاول أن يبتعد عنها كي لا يؤلمها، يبدو خائفاً، لا يدري ماذا يفعل وكأنما شل جـ ــسده، هل يقترب أم يبتعد؟! تتساءل عيناه بملايين الأسئلة التي يشعر بالذعر لو أجابتها حَقًّا... هل تريديني بعد الآن؟ هل لكِ أن تغفري لي؟ أنا نادم... نادم كثيراً، لم أكن أنا ذلك البركان الثائر ليلتها، سامحيني أرجوكِ، يكفي ابتعادًا حتى الآن...

 

يتمنى الصراخ بكل ما مر عليه يومًا ما، يتمنى أن يبرهن أنه يقوم بتحمل العلاج رغمًا عن أنفه ليكون رجلا مؤهلا وكفئا لها، يريد البوح بكثير ولكن الكلمات فقط تأبى مغادرة عقله نحو شفتيه خوفًا من أن يصرح بكل هذا ثم ترده خائبًا من جديد!

 

 

 

قرأت كل شيء بعينيه، لا تدري ما الذي عليها أن تفعله، تسامحه؟ تظل تختبره؟ هل ستنسى؟ هل سيفعلها مجددًا؟ كيف لها أن تنسى أو تغفر أو حتى تُسامح؟ حتى ولو تملكتها الشفقة تجاهه، وحتى لو يظل هناك عشقًا عالقًا بحنايا صدرها لا يريد أن يغادره! كيف تعشق من عذبها؟! كيف لا تزال تفعلها؟

 

-       أنا آسف

 

همس متألماً ثم جفف عينيه بعد صعوبة لتراه ينهض مبتعداً لغرفة الملابس وفي لمح البصر ارتدى ملابسه ثم توجه لها ليراها تجلس متكورة على نفسها، تحتضن ركبتيها لصدرها، فتوقف أمامها ولم يستطيع النظر لها، لا يستطيع مواجهتها، فابتلع بغصة وتحدث بصوت مبحوح يغلفه الألم والندم بآن واحد:

 

 

أعلم أنني قد بالغت معك، ليس ليلتها بل منذ البداية، ولن أستطيع أن أجبرك هذه المرة، لن أستطيع أن أخبرك بأن تنسي كل شيء، لن أستطيع أن أتجاهل هذا الخوف بعينيكِ كلما اقتربت منك، أنا نفسي لا أستطيع أن أنسى ما فعلته بك...

 

 

تريث ما إن أجهش صوتها بالبكاء ثم أكمل وهو يحبس دموعه مبتلعاً إياها بصعوبة:

-       لقد كدت أن... أن ... أقتل... طفلي، كدت أن أؤذيكِ بشكلٍ لم أتوقعه ولم أظن أنني قد أفعله!

 

 

تلعثم ليسكت من تلقاء نفسه فسقطت دموعه رغمًا عنه من جديد لتقهره واستطرد ببكاء:

-       رغماً عني روان، كل شيء يتفاقم معك، أفقد سيطرتي، أتنازل عن مبادئي مع النساء من أجلك، كل شيء معك مختلف، أتعلمين أنني لم أفهم ماذا تعني مما رسة الحب غير معك؟ أنا وقد حاولت العديد من النساء الاقتراب مني ولكن يبدو وكأنني كنت خائفا حتى شيدت تلك الحصون حولاً مني لأحتمي بجدران زائفة ولكن أتيت أنت لينهار أمامك كل شيء، لقد طلبت منكِ أن تلمـ ــسيني بعد أن أخذت عهدًا على ألا تلمـ ــسني امرأة قط

 

 

ابتسم بمرارة ليركع بجانب السرير أرضاً وحدق بعينيها لتتلاقى أعينهما الباكيتان ولا يستطيع أي منهما أن يوقف تلك العبرات المنهمرة في ضعفٍ وحزن:

 

-       أقسم لكِ أنني منذ أول ليلة لنا معاً بتلك الغرفة وقد تغير كل شيء، لأول مرة أشعر بالندم جراء ما فعلته مع امرأة، لقد جعلتِني أدرك أنني لا أريد أن أصبح هذا الرجل السادي، أريد فقط أن أكون ذلك الرجل الذي يحبه الجميع، أود أن أكون أخا لعدي... أبا لذلك الجنين الذي تحملينه، أريد أن أكون... زوجًا... فقط تمكث زوجته بجانبه طوال العمر ولا يفترقان أبداً، كم تمنيت لو أنكِ تحبينني لما أنا عليه، لماذا لا يحبني أحد؟ لماذا يتركني الجميع ويبتعد؟ هل أنا شيء تافه لتلك الدرجة؟.

 

 

سكت عن الحديث ليتثاقل ذلك الألم بداخله وتهشم قلبها لما تسمعه منه... تدرك الآن أنه تغير، راكعاً أمامها، راضخاً لخوفها، انهار أمامها بإرادته... لم يعد ذلك المتحكم السادي الذي ود أن يعاقبها كلما أخطأت...

 

 

همس متابعًا والمزيد من البُكاء يغالبه مكتسحًا حلقه بملوحة دموعه:

- وددت أن أكون صديقاً لفارس أخيكِ لأنني تمنيت أن أختبر الصداقة من قبل، تمنيت أنني ولداً... مجرد طفل تنتظره أمه كل ليلة مثلما تفعل والدتك معي... أردت أن أحظى بذلك الاحترام والحب الذي يكنه لي الجميع بمنزلك... لقد كنت سعيداً... سعيداً للغاية... تناسيت كل ما مضى وعشت بتلك السعادة التي غمرتني، لم أكترث إلا لهذا، أقسم لك أنني نسيت كل شيء، نسيت يمنى وتلك النساء، أردتك أنتِ فقط، أردت حياة جديدة سعيدة معكِ، بيوم وليلة فقط تغير كل شيء... أنا السبب روان، لم أكن ذلك الزوج الذي وددت وتخيلت أن أصبح عليه يوماً ما، كنت ذلك السادي المريض الذي رأى يمنى بتلك النساء حتى أنتِ... ما إن علمت أنكِ تذهبين يومين كل أسبوع وتحريت عن مالكي شقق هذا العقار حتى جننت وأن أرى اسم وليد ابن خالتك وتذكرت أنه ود أن يتزوجك بالماضي وأنك... قد... تكن...

 

تلعثم مجدداً وجفف عينيه بحرقة ووجع وأردف وهو يحاول التحدث بمنطقية:

 

-       لن ألومك... لقد كنت الأسوأ من بين الجميع، لن أزعجك بعد الآن روان ولكن لتعلمي أنني آسف على كل شيء... آسف أنني حتى جعلتك هكذا، ليس لضعفِ مني ولكن أنا أحبك... أقسم لكِ أنني أحبك... أنا كنت ولا زلت أعشقك بكل ما بكِ وكل ما أنتِ عليه... لا أستطيع أن أراكِ أمامي هكذا بعد الآن... لم أكن خائفاً من قبل مثل هذه اللحظة... نظرتك لي وكأنني وحش ترتعدين كلما اقتربت منك... نظرات الاحتقار والكراهية والاشمئزاز بعينيكِ... لا ألومك... أقسم لكِ أنا لا ألومك، ولكن لا أستطيع التحمل أكثر من هذا، لا أجد سوى اليأس التام تجاه كل شيء!

لا أستطيع النظر إليكِ وأنت تصوبين تجاهي تلك النظرات التي تقوم بقتلي... لم أعد أتحمل... حاولت كثيرًا ولكنني أبوء بالفشل كل مرة... حاولت أن أدعي المزاح والمرح، حاولت أن أكون نسخة من عدي، حاولت أن ألتـ ــمـ ـس غفرانك... ولكن على ما يبدو أن الفشل حتمي فيما بيننا!

 

 

كتم دموعه حتى تحول بياض عينيه للحمرة وحاول التقاط أنفاسه من شدة هذا النحيب الخانق وتابع بمشقة:

-       أنا بمنزلي روان... لن أزعجك أبداً... أنا آسف على كل شيء... أنت تستحقين من هو أفضل مني... ربما لم يكن من الصواب أن تتزوج فتاة مثلك من رجل مثلي!

 

 

قبل إحدى كفيها رغماً عنها ثم تهاوت دموعه وكادت أن تصبح شهقات ولكنه كتمها فنهض مُقبلاً جبينها وأطال القبلة قدر الإمكان لأنه أدرك أنها آخر مرة سيكون بالقرب منها، لن يستطيع أن يستمر هكذا معها وكل ما بينهما يُنبئ بالدمار ليُضيف بأنفاس متراكمة بكل كلمة نطق بها:

-       هاتفيني متى أردتِ شيئاً... لن أسبب لكِ الإزعاج ثانيةً وأياً كان ما تريدينه سأفعله... حتى ولو سامحتِني أنا لن أسامح نفسي... سأظل مديناً لكِ بالكثير، لن أستطيع أن أشرح ما أشعر به...

 

 

سيطر الألم على نبرته ليهمس ودموعه تأبى التوقف:

-       وداعاً روان!

 

 

قبل جبينها بشـ ــ ــفتين مرتجفتين وتوجه مغادراً ليتركها مندهشة وتحجرت الدموع بمقلتيها وأصبحت لا تستطيع التحرك وكأنما توقف جـ ــ ــسدها عن الحركة والشعور وظلت شاردة لا تعلم ما الذي عليها فعله بعد كل ما سمعته!...


يُتبع..