رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 31 - 2 بالعامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
تابع قراءة الفصل الحادي والثلاثون
النسخة العامية
أطلقت أنين ببكاء وشعرت بأن صوتها يأبى المرور عبر حبالها الصوتية
وهذا الثقل لا يبتعد عنها، وكأنه يحول بينها وبين وصولها لوالدها، لابد أن هذه
سكرات الموت، أو هي تحلم، تتشبث بتلك الأوقات السعيدة مع والدها لعل الآلام تتوقف
وتبارحها دون رجعة..
التفكير بمن تحبهم وتفعل كل هذا من أجلهم كان
ما تتعلق به، لو ساءت الأمور هذا كان غايتها، أن تعود سالمة عندما يجدها أخيه أو
ابن عمه وزوجته، وقتها سيستطيع الجميع رؤية ما يفعله، قد تكون مُعذبة أو يحتل
جسدها الآلام، ولكن فليقنعه الآخرون، لقد كانت هذه نهاية محاولاتها معه، أن يره
أحد منهم في وقت جنونه، وستعود هي لأخيها وتعانقه، وستخبر والدتها أنها بخير، تود
بشدة عناق يجمعها بأي منهما، وفي وقت ما سينتهي هذا الكابوس، ولكن لماذا بعد كل
تفكيرها بعائلتها وبنفسها تشعر به؟! هذه رائحته! هي تعرفها جيدًا، ليس هذا ما تريد
أن تتشبث به، بل تريد تذكر من تُحبهم، ما الذي يفعله بها؟ هل يقوم بدفنها حية وهذا
ثقل التراب فوقها؟ أم أنها ماتت وهذا هو شعور الموت؟
أطلقت أنين مصاحبًا لكلمات لم يفهمها وكأنما
عُقد لسانها، نبهته من غفلته بإرادته أن يختفي هو نفسه من الوجود بين ذراعيها،
واتكأ على يديه يرفع بدنه عنها ثم اقترب يحاول أن يستمع لما تقوله ليشعر بسخونة
جسدها وازدياد تعرقها، هو لم يمسها، ولا يستطيع فعلها، ليس بعد أن قامت بمنح نفسها
لرجل آخر، لقد حالت بينهما الملابس، واقتنع تمامًا بهذه الفكرة الساذجة..
نهض وهو يحاول السيطرة على بكائه وابتلع بقايا
دموعه ثم مسح وجهه وتظاهر بالصلابة وناداها ببرودة حاول أن يُزيفها:
- روان، اصحي!
استمعت لصوته أو ما شابه صوته، فتصاعد أنينها
وارتفعت ضربات قلبها تلقائيًا في خوف ثم ثبتت تمامًا استسلامًا لحالة من فقدان
الوعي!
تفقدها بحسرة ثم حملها وهو مقتنع أنه لا
يلمسها، يقنع نفسه بأنه سيستطيع الاستمرار، ويقنع نفسه أنه يمكنه مواصلة هذا، ولكن
ما لا يعرفه أنه سيسقط بهوة اكتئاب عميقة ليس لها بداية من نهاية!
توجه ليبدل ملابسها لملابس غير مكشوفة، وما رآه
منها حرك مشاعره نحوها برغبة ضئيلة، ليزجر عقله الأهوج بولعه بها الذي يستمر في
اغرب الحالات، حتى وبعد خيانتها له بتلك الطريقة واستغلالها لعشقه، كيف يقبل على
نفسه مثل تلك الخيبة؟!
نفض عقله من تلك الفكرة المقززة الدافعة
للغثيان وقام باستدعاء الأطباء، الجميع ينظر له بهول من حالتها، ضربات قلبها غير
المنتظمة وحالة الحمى الشديدة وموضع الحقن بذراعها وافتقارها للتغذية على ما يبدو
لأيام..
قال أحدهم ومسعف آخر يقوم بوضع أنبوبة مغذية
لوريدها مباشرة:
- حالتها صعبة، جسمها ضعيف جدًا، وواضح إن عندها تسمم
ابتلع الرجل من تلك الملامح الباردة التي غلفت
وجهه ثم فاجئه برده المقتضب:
- هي اخدت مضاد للسم ده، هتموت؟ ولا لسه هتكمل؟
تردد الرجل الذي لا يعرف من هي ولا ما الذي
يفعله هذا الرجل بها وكيف سممها حتى وصلت لهذه المرحلة ثم قال بصوتٍ مهتز:
- مع المحاليل والمسكن ولو اديتها المضاد الصح هتبقى كويسة، هي
بقالها فترة متسممة، وهتحتاج كام يوم عشان تفوق من الحمى دي واثار السم!
رمقه باحتقار ومزيد من الخوف تجاه من يستطيع
بمنتهى السهولة فعل ذلك بأحد بينما لم يكن منه سوى الرد عليه بنظرة محذرة قبل قوله
المهدد:
- حسام جابكم هنا عشان محدش يتجرأ ويفتح بوقه، لو عايزين تترموا في
السجن وتبطلوا المهنة خالص وتروحوا انتو وهو في ستين داهية يبقا تبلغوا عني.. أو
متبلغوش، القرار يرجعلكم!
حول عينيه نحوها وهو يحاول أن يدفن حزنه بداخله
ثم أردف:
- اطلعوا برا!
كلماته دفعتها لتذكر نفس التجربة المريرة
التي عايشتها معه ولم تكن لتختلف حالًا عما تركته بداخله وهو يُعاني مُدركًا أنه
لا يستطيع الحياة دونها ويرفض عقله الواعي كل ما يفعله بها، ولكن آلم الخيانة عليه
كان غير محتمل، لقد كان يتمزق آلمًا بأفعاله، ذلك اليأس الذي كان يقتله كلما أدرك
ما كان يحدث لها وهو كالخائب، لا يستطيع أن يتوقف، ولا حتى يستطيع أن يُكمل، كان
يعرف أنه رويدًا رويدًا ينتقل لمتاهة بأفعاله.. ولكن كل ما سيطر عليه هو آلم
خيانتها له الذي لم يكن صحيح بالمرة، ليته أدرك أنه كان آلم كسراب ليس حقيقي على
الإطلاق!
-
اسكت، متكملش، متجيبش سيرة اللي حصل..
نطقت بتلك الكلمات بلهاثٍ شديد ثم تابعت
كلماتها بهذيان وهي تنطق بها بسرعة وهو غير قادر على تفسير ما تقوله مثلما كانت
تتحدث تمامًا يومها وهي تعاني من تلك الحمى الشديدة بفعله هو نفسه، وبسبب كل ما
عرضه إليها!
-
انطقي وقولي حسيتي بإيه يومها.. احكيلي اللي
حصل، عمر ما حد هيفهم ولا هيفتكر الوجع ده غيري!
تحدث بكلماته وهو يبكي غير قادرًا على منع
نفسه من كل ما تذكره بتلك الأيام ليجدها تُعاني بشدة وهي تلهث بينما رأى أخيرًا
تلك الفتاة التي تزوجها وهي تشعر بالخوف وتتعامل بمصداقية بعيدًا عن التظاهر
ليجدها تهمس بخفوت بلهاث جعله مذعور لو فقدت وعيها وجـ ـسدها ينتفض بالكامل أسـ
ـفل يـ ـده الممسكة بها:
-
مش عايزة افتكر حاجة.. مش عايزة.. متتكلمش في
الحاجات دي.. ابعد عني..
حاولت التقاط أنفاسها بصعوبة ليجد ثـ ـقلها
يزداد بين يـ ـده ليفهم أن قدميها لم تعد تحملها ليهتف بها ببكاء لم يكترث له:
-
ليه مش عايزة تتكلمي؟ خايفة من إيه تاني؟ أنتِ
لو مكونتيش قوية مكونتيش واجهتي كل اللي حصل واستحملتيه وكمان طلعتي منه عايشة..
انطقي واتكلمي، أنا اللي المفروض اشوف الوجع ده، أنا اللي عملت فيكي كده مش حد
تاني..
جعلتها كلماته تشعر بالاختناق الشديد والدوار
على حد سواء ولم تعد قدميها تستطيع حملها لتجد جـ ـسدها يتجه للأسفل ولولا إمسا كه
بها لكنت سقطت بالكامل واحتلها الرعب بفعل ملامحه وهي تتذكر المزيد مما حدث لها
على يـ ـديه ليبدأ عقلها في الذهاب لا إراديًا لمزيد من تلك التفاصيل بينما لم تكن
أقل ضررًا عليه، لقد كان يعرف تمامًا أنه يتجه لقتل نفسه ولقتلها معه وعقله يفسد
بكلاهما..
تابعها بعينيه الغارقتين بالإرهاق الشديد وهو لا
يدري لماذا لا يستطيع تحمل البقاء مستيقظًا وكأن كل طاقته انعدمت تمامًا بينما
نظرت له بخشية شديدة لاهثة بعد أن أدركت أنه ليس هناك مفرٍ منه فلقد احكم الخناق
عليها هذه المرة ببراعة..
حاولت مرة أخرى التحامل على تلك الآلام الجسدية والنفسية بعد أن أجبرها
بإشارة من يده بعد الكثير من كلماتها التي لم تُفد بأن تعود للفر اش ونادى ممرضة
كي تقوم بتوصيل ذلك السائل المعلق بجانبه لوريدها من جديد ثم هتفت به بصوتٍ متعب
وعينيها تذرف الدموع دون انقطاع:
- أرجوك فكر ولو خمس
دقايق، ايه اللي يجبرني ارجع عشانك غير إني بحبك وفاهمة ان كل اللي انت بتعمله ده
مالكش ايد فيه، عمر انت محتاج مساعدة بجد.. أنا كنت ممكن افضل مع مامي وبسام جوا
الفيلا والأمن كان برا
رمقها بأعين مُتعبة واندلع ذلك الصوت بداخل عقله وهو يزجره:
- اياك تصدقها، دي
كدابة، زي الأولانية بالظبط، لا دي ألعن منها!
بقي على صمته الذي يداوم عليه منذ أيام معها وتعلقت عينيه بشرود بسقف
الغرفة لتهتف به بنبرة بالكاد استطاعت أن تدفعها لخارج شفتيها من شدة الإرهاق
والخوف مما سيفعله معها فهي تعلم أنه لن يتوقف عند هذا الحد:
- أنا كنت باقية على
كل حاجة حلوة جمعتنا، عشان كده واجهتك بالحقيقة، أرجوك حاول تقتنع المرادي، أنا مش
بكدب عليك والله، حرام عليك اللي أنت بتعمله ده، أنا مبقتش مستحملة وأنت يوم ما
تفهم اللي أنت فيه هتندم على كل ده!
لم يستجب لها ورأسه مُهيئة تلقائيًا على عدم تصديق أي كلمة منها وكأن صوتها
مجرد نغمة مُزعجة غير مندمجة لخلفية حياته البائسة وغاب تفكيره بتلك المُدة التي
أخبره الأطباء بها، ثلاثة أيام وستبقى بحال أفضل كي تستعد للتالي، هناك الكثير
يلوح بعقله، ولكنه لا يدري لماذا لا يستطيع النهوض من مكانه، يود أن يذهب للمرحاض
بشدة ويشعر أن مثانته على وشك الانفجار بينما جسده يأبى الانصياع له، كيف سيؤهله
هذا البدن لفعل ما يود أن يفعله بها؟!
عقله يستجيب لها، وقلبه بات ملك يديها، حتى أصواته المُفكرة لا تريد أن
تؤذيها، إلى أي حد وصل تعلقه بها؟ اللعنة عليه، لتنهض وتقتله لكي تخلصه من هذا
الشقاء الأبدي!
لقد وصل للندم كما قالت هي تمامًا، هي الآن
أمامه ولا يستطيع مساعدتها بأي شيء، لا يمكنه سوى الجلوس بجانبها أرضًا وهو يحاول
أن يساعدها في تحمل ما تحملته بالسابق مرة أخرى من جديد، لعلها تواجه أن هذا أصبح
اقعًا، وأنه السبب، وليس نفسها التي تُدمرها بالكامل بكل أفعالها!
-
ما تصرخي زي ما كنتي بتصرخي من شوية، قوليلي
إني كنت غلطان في كل اللي حصل، قوليلي قد إيه مكنش عندي ذرة عقل في كل اللي كنت
بعمله، اتعصبي عليا وقوليلي إني مستاهلش أي حاجة من كل اللي عملتيه عشاني، قوليلي
إني المفروض أنا اللي أعيش خايف ومرعوب من كل اللي عملته فيكي مش أنتِ اللي تبقي
كده، أنا اللي المفروض أموت نفسي واسكر واخد مهدئات مش انتِ
ارتجفت لا إراديًا وكأن جـ ـسدها بات مُهيئًا
على هذا الوضع ليحاول أن يزيح تلك العبرات التي أصبحت تفسد رؤيته وتفقد ما يحدث
لها، ربما هو قاسيًا بما يفعله ولكن عليها أن تفهم أن كل ما عانته يدفعها لتصبح
أقوى وليس تحولها لهذه الحالة المُزرية التي باتت عليها، أمّا هي لم يفصلها سوى
القليل من اللحظات عن فقدان حتمي لوعيها كآخر حيلة من عقلها ليكف هذا التأثير
المؤلم الذي بات يسيطر على كل ما فيها!
شاهدها من على مسافة وهي نائمة على ذلك
الفراش الذي لا يتواجد سواه بالغرفة، فهو لم يغفل عن محاولتها للانتحار عندما
استيقظت من حالة فقدان الوعي بسبب تلك اللدغة البشعة التي تعرضت لها..
لقد كانت ملامحها تعبر عن
امرأة شارفت على فقدان عقلها عانت من الألم العقلي من شدة ذعرها.. ربما هذا كافيًا
لفعل ما يُريد فعله منذ البداية، لقد وصل لهذه اللحظة التي تمناها منذ البداية، لم
تعد كما كانت قط!!
استلزمه الكثير من
المجهود كي يجذبها من خصلات شعرها أرضًا لتستفيق من حالة التخدير التي تُعاني منها
آخر يومين من كثرة تلك المهدئات التي تعبأ الدم الجاري بعروقها ثم شعرت ببدنها
يرتطم أرضًا فاشرأبت بأعين أهلكتها قسوته وتابعته في حالة من الاستسلام الهائل بعد
أن اقتنع عقلها أن أيًا ما كان سيفعله بها بتلك الحبال وهذا المجسم الخشبي حولها
سيكون اهون آلاف المرات من بقائها بغرفة آلمت رأسها أو من كائن زاحف ذو لدغة مميتة!!
لقد حاولت قتل نفسها وهي
تقوم بعقد شرشف الفراش في الثريا التي توسطت تلك الغرفة التي كانت بها منذ قليل،
أو من أيام، هي لم تعد تدري ما الذي يحدث لها، وكم يوم مر عليها هُنا، ولماذا لم
يستطع أحد حتى الآن التوصل لها لينقذها منه؟!
شعرت بذلك الملمس الجلدي
لقفازه يلمس معصميها اليسار ثم اليمين وهو يعقد الحبال حولهما وهي كالجثة الهامدة
بين يديه ثم اتجه ليجذب طرف الحبل الذي انعقد على يدها اليُمنى وقام بتثبيته في
هذا المجسم وبعدها فعل المثل من يدها اليُسرى حتى بات جسدها مُعلق في الهواء لا
يستقر على الأرضية ولم يكترث برؤيتها عا رية مثل ما كان يفعل بالسابق..
صمتت وأنفاسها بدأت
تتعالى وهي تشعر بالألم الشديد بعد أن حُقنت لمرات ومرات بذراعيها ومع مرور
الدقائق بدأت تستفيق بالكامل من حالة التخدير التي تسيطر على جـ ــسدها وتنقلت
عينيها لمحتويات الغرفة لتصاب بمزيد من الخوف ولكنه كان أقل بكثير من رغبتها في
الموت!
تبعته حتى غاب عن عينيها
بركن بعيد لا تعرف ما الذي يفعله ولا ما يريد أن يقتلها به هذه المرة لترطب شفتيها
من شدة العطش ونظرت من جديد حولها وعقلها بالكاد يُفسر ما يراه من محتويات قد
يتوقف بفعلها قلبها لو أدركت بم تستخدم!
ضوء من النيران الخافت
الذي انبعث للغرفة التي تحتوي على أغلال حديدية ثقيلة تتدلى من السقف وسياط تبدو
وكأنها من عصر آخر مُعلقة على الجدران.. ستزهق روحها قريبًا لا محالة، يا ليتها لم
تعرف من هو قبل أن تصل لحقيقة أن العشق لا يدفعنا لتحمل العذاب مع المختليين
عقليًا!
هذا تمامًا ما يفعله
الطرف السا دي في العلاقة، يؤلم ويؤلم ويؤلم، حتى يُشعر لطرف الآخر بالألم العقلي
والنفسي قبل الجسدي وهو يُسيطر على الأفكار قبل البدن... والآن لقد استطاع
بكل ما فعله أن يصفع عقلها بحقيقة واحدة، ألا وهي، أنها أخطأت منذ البداية.. ليتها
قتلت نفسها ولم يكن عليها تحمل ما تراه بأم عينيها! وكل ما تتمناه لو أنه يقتله
بيديه ليُخلصها من كل هذا العذاب!
أمسك بسوط ذو يد معدنية،
تدلى منه تسعة أطراف معدنية أخرى، وكل طرف يحتوي على معدن شائك ما لا يقل عن سبعة
عقد بكل طرف.. مما يجعل الجلدة من هذا السوط لابد ومن أن تخلف جرح شديد مدمى
بالدماء ولابد من نزع تلك العقد الشائكة من البشرة التي تعلقت به.. وكلما زادت قوة
الجلدة كلما زاد الانغراس وشدة الجرح المُخلف..
-
انتِ اللي قومتي بعد كل ده وقدرتي تكوني
كويسة، سافرتي واشتغلتي وكنتي عارفة إن الصح إنك تتعالجي من كل اللي حصلك، إيه
اللي حصل بعد كده؟ ليه مكملتيش؟ ليه مصممة تحرقي قلبي على اللي بيحصلك؟ وليه أصلًا
تدمري نفسك على واحد ميستاهلش زيي؟ عايزة تفشلي في حياتك بعد كل النجاح اللي أنتِ
فيه وكل اللي تقدري عليه وأنتِ لوحدك مفيش حد جنبك؟ ليه عايزة تكملي دمار في
نفسك.. اوجعيني ولا انتقمي مني بس أنتِ مالكيش ذنب إنك تتعذبي العذاب ده كله طول
حياتك.. أنتِ فاهمة بيحصلك إيه؟ أنتِ بتترعشي وخايفة وواقعة على الأرض.. بصي
حواليكي.. كل ده بيحصل بسببي أنا، بسبب اللي عملته فيكي.. انتي في جنينة البيت مش
في أي مكان تاني.. أنتي مركزة في اللي بيحصل؟
لاحت استجابة ضئيلة بعينيها وهو يحاول أن
يحفز عقلها ببعض الكلمات التي قد تساعدها في جذبها من حالة الصدمة والخوف إلى أرض
الواقع بينما لم ينجح في انتشال نفسه من كل ما يحدث له فكلمها بنبرة مُنبهة ليحاول
جذبها للواقع الحقيقي آبيًا بشدة أن تستمر في تذكر تلك الأحداث الماضية التي لابد
من أنها لا ترى سواها:
-
أنا ايدي مكسورة، مفيش أي حاجة حواليا ممكن
اؤذيكي بيها، احنا كنا في المستشفى النهاردة الصبح.. روان ردي عليا، انتي عارفة
انتي فين؟
وجدها تنظر له في حالة من الصمت بأعين زجاجية
يرى بها نفسه ولكن استشعر أن جـ ـسدها توقف عن الارتعاش فحاول أن يُعدل من جلستها
وهو يتركها رويدًا رويدًا ولكن هناك أمر واحد قد يجذب انتباهها ويجعلها تتصرف
بطريقة طبيعية ليفعله بالرغم مما يعرف أنه قد يجعله يُعاني لشهور أخرى مُقبلة
وربما قد تكون سنوات ولكن لو كانت معاناته هي الحيلة الوحيدة ليجذبها لأرض الواقع
سيفعلها فورًا دون تراجع:
-
أنتِ عارفة إني بحبك يا بنوتي، وكل اللي حصل
ده مش هيتكرر تاني.. أنتِ وحشتيني اوي.. نفسي اقرب منك زي زمان!
لاحظ التقاء اهدابها أخيرًا بعد أن كانت
عينياها مثبتتان كالجثة التي ودعتها الروح وأحـ ـس رفضها عندما تلـ ـمس وجهها
بأنامله التي لم تتوقف وأخذ يتفقد عسليتيها للحظات إلى أن بدأت العبرات في التكون
على مُقلتيها حتى فاضت لتنهمر على وجنتيها لتدفع يده بعيدًا عنها وهي تصرخ به:
-
كداب!! كل مرة بتقول مش هيتكرر تاني.. ابعد
عني واياك تلمـ ـسني، أنا عمري ما هسامحك أبدًا على اللي عملته فيا..
أطلق زفرة راحة عندما انتشلها من جديد لأرض
الواقع ليبتعد سريعًا وهو يجلس أرضًا محاولًا أن يلتقط أنفاسه ويتحكم في تلك
العبرات التي لم يستطع التحكم بها منذ قليل ليزيحها بعيدًا ثم أدرك أنها تحاول
الوقوف بمعاناة ليشعر بالفرحة بداخله، لطالما كانت قوية وتستطيع تحمل ما لا يتحمله
هو، لو كانت هذه هي المرة الأولى، فما سيأتي بعدها سيكون أسهل عليها، يقسم بكل ما
يؤمن به أنه لن يتركها وشأنها حتى تعود تلك الفتاة التي اقتحمت مكتبه في يومٍ من
الأيام!
❈-❈-❈
احتست بعض المياه ثم أغلقت ذلك الوعاء
البلاستيكي بغطاءه وهي تجلس على مقعد بالمطبخ وشعرت بالتشتت هي حتى لا تستطيع أن
تفهم ما الذي يحدث لها ولا تمر به ومنعت نفسها بأعجوبة أن تُفكر بكل ما قاله لترفع
شعرها للأعلى وهي تحاول أن تحدد ما تشعر به ولكنها شعرت بالفراغ التام!
لا تعرف هل عليها العودة من الجديد والصراخ
بوجهه، أم عليها الاستسلام لهذه الحالة من الشلل التي تتحكم بها، أم تنهض وتقتل
نفسها، وهل سيكون هذا هو الحل؟ كيف تحملت كل هذه التفاصيل؟ وكيف نطق هو بها؟
استمعت لتلك الأنفاس الغريبة لتلتفت بجانبها
لتجد واحد من كلبيه يمر بالقرب منها فلم تعرف ما الذي عليها فعله معه وتأهبت في
مقعدها وهي تنظر له بخوف بينما وجدته يقترب أكثر لها لتصعد لا اراديًا لتقف فوق
المقعد نفسه ثم اشارت له بسبابتها:
-
ابعد عني لو سمحت!
وجدته يتأهب لها أكثر وهو يقترب منها فشعرت
بالخوف الشديد مما قد يحدث لها من هذا الكائن المرعب ونظرت حولها فلم تجد شيئًا
للدفاع عن نفسها به فحاولت أن تشير له بيديها وهي تقول بخوف:
-
بقولك ابعد متبقاش غبي.. امشي من هنا..
توقف عن لهاثه وهو يحاول فهم ما الذي تفعله
وتأهب أكثر حتى انتصبت اذنيه وهو يتابعها بعينيه لتفر وهي تحاول الاستغاثة لتنظر حولها
من جديد فلم تجد سوى الوعاء البلاستيكي الذي ما زال به بعض المياه فأمسكت به
وألقته عليه ثم صاحت به:
-
امشي بقا ده أنت سخيف!
ذهب سريعًا ليُمسك بالوعاء ثم اقترب لها وهو
يترك الوعاء ووقف بـ ـجسده لتشعر بخوفها يزداد بينما عاد مرة أخرى ليجلس أمامها
وهو يلهث لتُمسك بالوعاء مرة أخرى وكادت أن تدفعه به من جديد لتتوقف عندما رأت عينيه
مُسلطتين على الوعاء بتلهف لتتفهم أنه لا يريد سوى اللعب معها والإمساك به ثانية
من أجلها!
هدأت قليلًا وتلاشى جزء من خوفها ولكنها لم
تكن يومًا من محبي الحيوانات ولا تستطيع التعامل معهم وينتابها رعب بداخلها كلما
اقتربت من أي شيء يتنفس سوى البشر فحاولت أن تلقيها بعيدًا وهي تخبره:
-
يالا اهي، خدها وابعد بقا..
آتى بها بسرعة ثم عاد إليها من جديد وهي تلعن
حظها بأنها لم تستطع حتى النزول من فوق هذا المقعد لتزفر بإرهاق وهي تصيح به:
-
انت عايز ايه بقا ابعد عني وروح لصاحبك!
انطلقت ضحكته على ما يراه لينتبه كلاهما له
وسرعان ما توجه "أوفيد" له ليتساءل بين ضحكاته:
-
أنتِ إيه اللي موقفك فوق الكُرسي؟
غضبت من ضحكاته التي توقفت بمجرد نزولها من
جديد بينما رأته يحمل تلك الورود التي اختارتها بالأمس وأمر آخر بيده لتحدثه
بجدية:
-
أنت تبعد الكلاب دي من هنا..
تريثت لبرهة لتدرك ما قالته لتدارك قولها:
-
وبعدين أنا اللي هامشي من هنا.. ابقا خليهم
ينفعوك..
قلب شفتيه وملامحه ما زالت مبتسمة على منظرها
منذ قليل فوق هذا المقعد بينما حدثها قائلًا:
-
الحاجات دي اتبعتت على البيت هناك ومحمود لسه
جايبها.. علا بعتالك ده..
ناولها حقيبة بلاستيكية ولكن بمجرد قراءة ما
عليها أدركت أنه هاتف جديد ليُتابع كلماته إليها:
-
والورد ده حد باعتهولك..
تصنعت البلاهة لتتساءل:
-
ومين اللي باعته؟
قلب شفتيه وهو يناولها تلك الباقة الرائعة واجابها
بخبث:
-
معنديش أي فكرة..
ادعت التلقائية وهي تتفقد ما كُتب على تلك
الورود قبل أن تُكمل بخطتها للنهاية لتجد خطه اللعين الذي تستطيع تمييزه على آلاف
الخطوط وقرأت ما كتبه:
"كن على ثقة بأنك لن تحتفظ بعشيقتك
للأبد، إن لم تُضف هبة العقل إلى ميزات جسدك..
وإلا فلا تعجب إن هجرتك إلى آخر.
الجمال ومضة خاطفة لا تلبث مع الأيام أن
تخبو، ويأتي عليها تعاقب السنين.
البنفسج لا يزدهر للأبد، والزنبق لا يفتر
بالبسمة دومًا، والوردة إذ تذبل، تُخلف إبر الشوكِ..
ولحسن الحظ روحك الملائكية خُلقت لتقهر قدرة تلك
الورود على الذبول، وإبر الشوك لا تُصنع بمن فاقت أفروديت حُسنًا وخلقت بروح محرم
عليها الحُزن.."
تعجبت مما قرأته لتعلم أنه قد استبدل تلك البطاقة
التي ودت أن تُرسل لها ليقرأ تلك التعابير على ملامحها بعد أن أصابت بتأثير كلماته
التي سبقتها كلمات أوفيد ليسارع مخبرًا إياها:
-
حسيت الكلام ده أحسن بكتير من ده!
ناولها البطاقة الأصلية التي آتت مع الورود
لتقرأ تلك الكلمات الإنجليزية متصنعة عدم معرفتها بما كُتب به سابقًا:
-
اشتقت إليكِ، لا يسعني الانتظار شهر آخر حتى نلتقي
مجددًا!
اتسعت ابتسامتها التي زيفتها ببراعة ثم رفعت
عينيها لتنظر له لتجده مُصاب بالحزن والآلم على ما يراه ليتجه فورًا مُصطحبًا
"أوفيد" معه وهو يتفهم ما تحولت إليه حياتهما، فبالطبع لن يكون التأثير
واحدًا بين رجل لا يعرف عنه شيء ولكنه يستطيع أن يجعلها تبتسم، وبين رجل مثله بنصف
عقل ولا يملك القُدرة سوى على اصابتها بالفزع والحزن الأبدي!
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية