رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 31 بالعامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل الحادي والثلاثون
النسخة العامية
رفعت عينيها نحوه دون أن تتلاقى أهدابها وهل
تحاول التقاط أنفاس مُثقلة بألم لا تستطيع صوغه منذ قرابة العام، ألم لا ينتهي،
نيران تنهش قلبها لا تخمد ولا يبدو أنها ستفعل، يسألها عن ثمانية شهور لا تعرف كيف
صمدت خلالهم بعد أن ظنت أن الخلاص يكمن في العلاج النفسي والتأهيل لحطام امرأة على
أن تعود امرأة من جديد تشابه من كانت تعرفها، ولكن لم يعد هناك سبيل للعودة، كلما
خطت خطوة نحو الأمام ظنًا منها أنه يوم جديد وستترك بخطوتها خلفها ماضي أليم تجد
جزء من نفسها قد أصبح حطام في طريق انهار بالكامل، لا يسعها العودة للخلف لانتشال
ما فقدته، وهذا السبيل أمامها تعرف جيدًا أن خطوة جديدة به ستفقد المزيد من نفسها
خلاله!
ويا ويلتها لو توقفت، ستنهار مع هذا الطريق
الذي لا يتوقف عن الانهيار، هذه باتت حياتها، سبيل ينهار بمجرد أن تمسه قدماها!
هو لا يجبرها على أن تتفوه بما حدث؟ هذا ليس
حقيقي، وهو لن يفعل بها مثل تلك الأفعال الشنيعة بالماضي؟ ليصرخ بها أحد ويخبرها
أن ما يتهادى إليه عقلها ليس الحقيقة التي تحاول الإفلات منها!
انهمرت دموعها دون أن تلتقي جفونها بلقاء
عابر، تلك العبرات جعلته يغرق بطيات الألم ولم يعد يبغض في حياته أكثر من نفسه،
لها أن تعود لتلك الإهانة والصراخ، لها أن تجعله كحذاء في أقدام الجميع، لها كل ما
تشاء، ولكن ليس هذه النظرة، لن يتحمل هذا الذعر المختلط بلومٍ لن يفهمه ولا يعرف
مقداره سواه، فمن يلوم سوى العاشق؟ لا يمكن أنه ما زال بداخلها ولو جزء من ذرة عشق
له!
لو فقد سيطرته على نفسه وانساق خلف تلك
القسوة الضارية التي تجذبه للغرق ببكاء وندم متوسلًا أن تعفو وتصفح لن يملك سبيل
للعودة، لو ترك نفسه لهذه المشاعر لتكتسحه وتظهر على ملامحه يعلم أنها ستتألم من
أجله، وبكل ما لديه من أنفاس باقية في حياته البائسة، هو لا يريد أن يؤلمها من
جديد.
-
عملتي ايه في التمن شهور اللي كانوا في
المصحة؟ أنا شوفتك وانتي هناك في الأول، عملتي ايه بعد كده؟
لن يخدعها بهذه النبرة الجديدة على اذنيها،
ولن تستجيب لذلك الهدوء اللحظي، فلطالما سبق عاصفة ما تخفي لها كارثة جديدة لا
يتصورها عقلها، ولكن لا، لن تسمح له بتولي مسار هذه العاصفة، لم يعد هناك ما سيحدث
بينهما إلا كما يحلو لها، على كل حال هذا أقل بكثير مما تستحقه!
تصاعد غضبها بصحبة خوفها وحدثته بشراسة بين
بُكائها الذي انطلق في ثانية واحدة من ضعف تملكها عندما تذكرت ما عايشته بتلك
الأيام بمينيسوتا:
-
لو مفتحتش الباب ده أنا هموت نفسي حالًا..
الموت أهونلي من إني اقعد معاك في مكان واحد..
نهضت بسرعة شديدة في لمح البصر لتتجه نحو
قطعة زجاجية من دمار ما خلفته بنفسها وقامت برفعها فوق عنقها لتشعر بمزيد من
الخيبة أنها ستقدم على فعلها حقًا لو لم يفعل ما تريده لتتسابق عبراتها في الهطول
على وجنتيها دون أن تنجح في ايقافها، بلى لقد أصبح الأمر هكذا، إما فعل ما يحلو
لها وإما الموت، وما تعرفه من تلك النظرات المذعورة منه أنه لن يتحمل أن يرى بها
مكروهًا، وخصوصًا أنه ما زال يعشقها، إن لم يكن ازداد عشقه أضعافًا مضاعفة عن
الماضي!
-
هتموتي نفسك عشان مش مستحملة تتكلمي معايا؟
نهض بحرص وهو يتابعها بأعين خجلت تفقدها وخرج
صوته بخفوت غالبه غصة ألمه التي دفنها بأعماقه لعلها تلتهمه هو ويتوقف قلبه لها ليُصرع
مخلصًا الجميع حوله من كل ما يعانوه، لا يريد أن يسبب لها المزيد من الألم، لا
يريد أن يراها بسوء لتستمر كبقايا حطام امرأة، هذه ليست من وقع في عشقها، وبكل ما
لديه من رجاحة عقل يعرف أن هذه النسخة الباهتة منها هي بصنع يـ ـديه..
توجه نحوها آخذًا خطوة واحدة بينما ابتعدت هي
لتصيح به بتحذير:
-
خطوة كمان وهعملها يا عمر!
تبادلا النظرات فيما بينهما لوهلة ليلعن هذه
الفكرة السخيفة التي ستدفعها للانهيار حتمًا ولكن في بعض الأحيان لا يصلح إلا
الإزالة التامة لماضي أليم حتى يُشيد بعدها مستقبل وحياة لابد من أن يجعلها أفضل
لها!
-
وهتبقي انتحرتي عشاني؟
اجبر شـ ـفتيه على صنع ابتسامة لم تظهر سوى
التواء بحسرة على ما يراه أمام عينيه ليتمنى أن يصبح أعمى بدلًا من رؤيتها بتلك
الملامح التي لم يرها على وجهها قط ليجدها هي من تستطيع رسم ابتسامة رائعة على شـ
ـفتيها، ربما لم تكن تضحك كثيرًا عندما كانا معًا، ولكن مما لا شك به، هي من ضحكت
أخيرًا!
-
هبقى بوجعك.. لو عشت بعدي ثانيتين اتنين بس
هتتوجع فيهم وجع عمرك ما حسيته..
اتسعت ابتسامتها بالرغم من ذلك السبيل الوعر
الذي شقته عبراتها فوق وجنتيها ولن يصمد أمامه جبل شامخ لتتابع بثقة:
-
لما تعرف إن اللي بتحبها أكتر من أي حاجة وأي
حد في دُنيتك ماتت بسبب اللي عملته فيها هبقا بوجعك، فأنت هتعمل حاجة من الاتنين،
يا هتعيش بوجع محدش في الدنيا يستحمله، يا إما هتموت نفسك.. وسواء ده ولا ده هبقا
وصلت للي عايزاه، إن أشوفك متدمر بسببي، بسبب أي حاجة تخصني، تصرف أو عادة أو حتى
إن السبب يكون موتي!
شعرت بالألم يلتهمها لتشعر بسقوط كيانها
بالكامل ببراثن أوجاع لا ترأف بها وهي لا ترى سوى صورته وهي تتوسله أن يتوقف عن
أفعاله أو حتى يرد مجيبًا إياها بجملة وحيدة ولكنه يومها رفض أن يعاملها سوى كجماد
أقل من حيوان يمتلكه لتتقاذف الحروف من بين شـ ـفتيها بقهر:
-
ابقى ساعتها دوق من نفس الكاس اللي سقيتني
منه!
لم يُصدق تلك الكلمات التي تغادر فمها، لقد
استطاعت أن تنجح مثلما تفعل دائمًا، لقد باتت تؤلمه بملامحها وتصرفاتها ونبرتها
وبُكائها وكل ما هي عليه سواء أمامه أم بعيدًا عنه، الألم بات أكثر من أنفاسه التي
يلتقطها، هذه هي دائمًا وأبدًا، كل ما يحلو لها لا يسعها سوى تحقيقه، أن تجعله
يعشقها، أن تحوله من رجل لا يقتنع بالعلاج لرجل آخر لا يصدق سوى بالعلاج، هناك
هؤلاء البشر الذين يستطيعون النجاح في كل شيء يريدون الوصول إليه وهي تنتمي إليهم،
أمّا هو فلقد تخلف مع هؤلاء الذين لا يمكنهم سوى الفشل التام مهما فعلوا! ولكنها
لم تتعامل يوم بنفس مقدار الخبث الذي يمتلكه!
-
تقصدي تقولي لما كنت هموتك؟
انطلقت أنفاس ارتجفت ذعرًا بما نطق به، أعين
تتلاقى في حربٍ لن يستسلم أيًا منهما بها، صراع يدفعه لقهر آلمها، وصراع يدفعها
لقهره آلمًا!
هذا ما لم يُفلح به منذ أن استيقظ من موت كاد
أن يكون محتوم، لم ينطق بها لسواها، ومَن لسواها سيُمكنه لسانه المتثاقل بلعنة
الصمت أن يبوح، فطوال عمره لم يكن له سواها من تزيح ذلك الثقل عن لسانه ولطالما
وجد نفسه يثرثر بكل ما يؤلمه أمامها معها ولها!
ضيقت عينيها وارتجفت يـ ـدها لجزء من الثانية
لتتجمد الدماء بعروقه وهي تُكرر مشتقة من كلماته:
-
لما كنت هتموتني..
تبادل كلاهما عدة نظرات لبرهة وكانت أكثر من
كافية ليترجم كل منهما ما لا يُمكن لسواهما فهمه ولا إدراكه، فليس هناك من يعلم ما
حدث سواهما، هو يعلم خطأه مليًا، وهي تعرف تمامًا ما حدث لها وهي تتحمل خطأ بعيد
كل البُعد عن أن يكون لها يد به!
-
الموت كان أهون، صدقني الموت كان يبقى أهون
أوي من عذاب مش فاهمة أنا بتعذبه ليه، أنا خاينة يا عُمر؟ هو ده اللي كنت بتعذبني
عشانه؟!
نشجت بقولها وهي تُنكس برأسها في حالة من
الذهول، دون المزيد من العبرات، دون المزيد من نظرات لن تُفيد، بل نشيج حمله عدم
التصديق، لوم أو عتاب بشرودها في أعماق مُظلمة وكأنها تكتشف لتوها مخلوق بحري
اسطوري سيُخط اسمها في التاريخ لاكتشافه، وما كانت لتكتشف سوى ما خلقه عقله في
لحظة من شكٍ لم يستطع التخلي عنه حتى من أجلها وليهلل التاريخ مخلدًا اسمها بأنها
أكثر امرأة قامت بإيلام رجل مثلما تؤلمه هي بما تبدو عليه الآن!
رفعت عينيها نحوه وحدث ما كان يخشاه، بكاءٍ
جارف بفعل غيوم العذاب التي أظلمت أيامها بأكملها، لن ينجح مهما حاول في إيقافه،
ويعرف أنه في أي لحظة سيغويه مرغمًا إياه على السقوط في رذيلة الألم، يا لها من
مشاعر عاهرة خلفت ماضيًا داعر بينهما، لو قضى آلف عمر فوق عمره لن يُكفيه أن يبرأ
سمعته وما بات عليه، حتى ولو كان مستعد أن يلتمس الغفران بطقوس شتى الشرائع
والأديان!
-
إنك تعذبني العذاب ده كله، إنك تشوفني بقرب
من الموت وتحرمني منه، يا ريتني كنت لقيت الموت وأنا مكونتش همنع نفسي عنه!
ارتجفت بهيسترية لتُصاب بهوان سيطر على كل ما
فيها وتبعته يدها لتتساقط بجانيها وسقطت تلك القطعة الزجاجية أرضًا ليقترب منها
وهي لم تعد ترى أمامها من تلك الدموع التي ستحول بينها دائمًا وأبدًا منذ تلك
اللحظة التي قررت بها أن تتركه للأبد ثم صرخت بما لن يفهمه سواه هو:
-
بعد كل حاجة كانت ما بينا، ده أنا حتى فكرت
إن استحالة يبقا فيه حد يحب حد للدرجة دي، تصحى فجأة من حضني وتقول إني خاينة.. طب
حتى كنت قول إن سرقتك، قول أي حاجة تانية، قول إني كدابة، لكن تعاملني إن خاينة
وتخاف تلمـ ـسني بإيدك زي ما أكون هوسـ ـخك.. كان إيه اللي ناقص بيني وبينك عشان
تثق فيا بعد كل اللي وصلناله؟
هذا ليس من حقه ولا يستحق أن يمسها ولو لجزء
من الثانية ولكنها إن لم تتوقف وتستيقظ من هذه الحالة الهيسترية من البكاء فاتجه
ليدفن وجهها بصـ ـدره ولم يستطع أن يتحمل كل ما تُلقيه على مسامعه دُفعة واحدة
ليهمس بصعوبة حينما أدرك معنى أن تخونك نفسك بعد أن هطلت منه تلك العبرات قهرًا:
-
كفاية كلام كده..
رفعت عينيها نحوه وهي تدفعه ليبتعد عنها وهي
تخبره بحرقة:
-
ده انا حتى قولتلك ممكن نرجع لبعض، كل اللي
طلبته كان حقي في الطلاق، تروح تعمل فيا اللي أنا عملته! أنت إيه؟ مخلوق من إيه
عشان تعذبني العذاب ده؟
انعقد لسانه وملامحه ترتجف بينما ازداد
بكائها قهرًا وهي تتذكر آخر لحظات بينهما سبقت ذلك العذاب الذي لم يتوقف حتى الآن
ولم يملك سلطانًا على تلك العبرات التي فاضت بما قتله خزيًا ليجدها تقع جالسة
أرضًا ولم تتوقف عن البكاء فانخفض بجانبها ليركع أمامها وحاول أن يحدث بها بعض
المنطق محاربًا قهره على ما يراه بأم عينيه من نسخة حطام امرأة صنعتها يداه:
-
أنا مستحقش، أنتِ كلامك صح، كل كلامك صح، مستحقش
توصلي للدرجة دي بسببي، اللي أنتِ فيه ده مبقاش حل ليكي، أرجوكِ كفاية، الطريق
اللي أنتِ ماشية فيه ده هيدمرك..
كان غائبًا فيما يراه منها ولكنها خدعته،
ربما للمرة الآلف، بعدما جذبت نفس القطعة الزجاجية التي كانت بيدها منذ قليل دون
أن يلاحظ ما تفعله لتنهض أمامه وهي تحاول منع نفسها عن البُكاء ثم وضعت تلك
الزجاجة على عنقه وهي تحدثه بقهر:
-
أنت شايل المفتاح فين؟ لو مجبتوش حالًا
-
هتموتيني؟ يا ريت تعمليها!!
قاطعها بينما لم يتركها لتتابع لتبتسم بغيظ
لتتشدق بخفوت:
-
ويزيد الجندي هيسبني؟ حياتي هتبقا أسوأ،
ساعتها أنت هتبقا مرتاح؟
رمقته بسخرية وتوقف بُكائها بمجرد توصلها
بمخيلتها لما قد يحدث لو فعلتها وسرعان ما عادت لها تلك الأحداث عندما ارتاب والده
بأنها من قامت بقتـ ـله بالسابق لتحدثه بتشفي:
-
أي حاجة هتحصلك بسببي أو هتحصلي بسببك عمرك
ما هتكون مرتاح، حتى لو كنت ميت!
تحولت نظراتها للحزم لتصرخ به:
-
افتح الباب ده قبل ما أعمل مصيبة بجد!
تلك الجدية التي تصرخ بها وهذه الملامح التي
لم يعد يعرف عنها سوى القليل كان لابد له من الاستسلام المؤقت لها فأخرج المفتاح
الذي بجيبه ثم ناوله لها لتنتشله دون أن تلـ ـمس أصابعه واتجهت نحو الباب، لا تعرف
بعد أن ليس هناك من سيسمح لها بالمغادرة اليوم ولو ودت أن تقتله على هذا فلتفعل،
يعرف أن المحاولة معها لن تكون هينة عليه بأي طريقة من الطرق لا نفسيًا ولا واقعيًا
ولكن إن لم يصلح ما افسده ليس هناك من سيستطيع فعلها مثله!
❈-❈-❈
وجدت هذان الكائنان المُرعبان بطريقها لتشعر
بالخوف لمجرد المرور بجانبهما ولكن أن تتحامل على خوفها منهما أسهل بكثير من أن
تتعامل مع خشيتها منه هو نفسه ثم اتجهت مارة بجانبهما بخطوات مرتجفة نحو باب
المنزل لتجده لا يريد التحرك على الإطلاق فأدركت أنه محمي بكلمة مرور ما لتحترق
غيظًا بداخلها ودفعها عقلها لتصور هذا المنزل بأكمله يتحول لرماد كما فعلت بالمنزل
الآخر!
لم تمر ثواني والتفتت خلفها لتجده فصرخت به:
-
أنت حابسني، وحشك أوي إنك تحبسني.. الباب ده
لو متفتحش حالًا أنا مش هاسكت!
ضربه الخجل بداخله على اجباره لها على تحمل
كل ما يحدث ولكن في هذه الفترة تحديدًا يستحيل أن يتركها لتستمر في هدم نفسها الذي
صممت أن تستمر في فعله للأبد واكتفى بصمته ثم توجه ليقوم بإدخال تلك الأرقام على
جهاز الحماية الالكتروني للمنزل ليراها تتجه للخارج حافية القدمين ثم تبعها بهدوء
نحو الخارج ليرى ما الذي ستفعله!
توجهت نحو البوابة الخارجية التي وجدت بالقرب
منها أكثر من رجل لتتوجه لأحدهما بنبرة آمرة:
-
هات موبايلك!
سرعان ما أجابها الرجل:
-
آسف يا مدام بس Mr عمر مدناش تعليمات بكده!
اشتعلت غيظًا بمجرد سماعها لكلماته ثم وجدته
يلمحها ونكس رأسه نحو الأرضية لتلاحظ أنها لا ترتدي شيئًا بقدميها لتعود تلك
اللحظات اللعينة لرأسها مرة أخرى عندما ذهبت بنفس الطريقة لرجل يتساوى بهؤلاء
الذين يعملون لديها إن لم يكن أقل وهي تتوسل له أن تتخطى البوابات لتصل لمنزلهم
الصيفي منذ حوالي عام، حتى تلك النسمات حولها تُذكرها بنفس درجة الحرارة وقتها
بصحبة تلك الغيوم بالسماء، وليس هناك سواه ليتحمل كل ما أصابها، هو السبب في كل
ذلك!
التفتت بأعين ينهمر منها الغضب ومقلتين
باحثتين عنه هو حتى يتلقى حريق تلك النيران التي تشعلها بالكامل لتقف أمامه ثم
صاحت به:
-
لو مخرجتنيش من السجن ده هحرقهولك زي ما
حرقتلك التاني!
-
احرقيه.. لو ده هيريحك اعملي كده..
أجابها بنبرة هادئة وهو يجلس بتلك الحديقة
الملحقة بالمنزل متصنعًا الأريحية والاسترخاء ورفع يده ليحاول أن يتخلص من تلك
المياه التي انسابت لأذنه من قليل ليصخب لهاثها بمزيد من الغيظ من هدوئه الشديد
وكأنها لا تحترق بأفعاله تلك لتجده يبادر بالحديث قبل أن تتكلم هي ولكن دون أن
ينظر لها مباشرة:
-
لو حرقتي مليون بيت وشربتي كل يوم وبطلتي
تروحي شغلك، عمرك ما هترتاحي!
رفعت حاجبيها باندهاش لتُعقب بسخرية:
-
كأنك مهتم أوي إني أكون مرتاحة..
هو يريد أن يجذبها لذلك النقاش الذي ربما لو
وقع بينهما قد تواجه حقيقة ما حدث وتبدأ في التعافي بتصرفات أخرى إيجابية نوعًا ما
بعيدة كل البُعد عما تفعله منذ أن أصبح له المقدرة على رؤية وملاحظة ما ترتكبه بحق
نفسها ليُعقب على سُخريتها بما سيفتح مجالًا للجدال فيما بينهما:
-
مش مهم تكوني مرتاحة على قد ما مهم تكوني
فاهمة أنتِ بتعملي إيه! ولا نسيتي قد إيه بتوجعك كلمة غبية!
رفع عينيه نحوها ببرود استلزمته كل ذرة
بداخله أن يتظاهر به لتختلف ملامحها فسرعان ما طرق على الحديد الساخن ولكن بنفس
بروده الذي يجعلها تشتعل غضبًا لعله يصل لتلك الكلمات التي لو نطقت بها ستدرك
تمامًا ما باتت عليه:
-
قم الغباء إنك تدمري نفسك وأنتِ عارفة إنك
باللي بتعمليه ممكن تموتي أهلك.. نسيتي مامتك جرالها إيه أول ما رجعتلها؟
اكفهرت ملامحها بينما قرر أنه لن يتركها
وشأنها فعليها أن تواجه كل ما تفعله بأي طريقة كانت وتصنع الشرود بعيدًا بحديقة
المنزل ثم تابع بنفس ثباته:
-
لما تسكري وتعملي مصيبة في نفسك ولا لما
تولعي في نفسك ولا حتى شغلك لو سبتيه بسام ومامتك هيحصلهم إيه؟ ازاي تكوني غبية
للدرجة دي؟!
تريثت لبرهة قبل أن يفوز عليها بهذا النقاش
ثم حدثته بمنتهى الثقة قائلة:
-
فأنت بقا بتشتتني وبتضغط عليا في الكلام في
نقط معينة عشان تخليني اعترف إني غبية وإن اللي عملته غلط ومتخيل إني هبلة زي زمان
فهسمع كلامك وهقعد اعيط على اللي عملته، لا وكمان بتجبلي سيرة مامي وبسام وشغلي في
الكلام عشان عارف إنهم نقط ضعفي.. هايل، ويا ترى عقاب غلطي ايه أكتر من إني اشوف
قدامي أكتر واحد بكرهه في الدنيا!
جلست أمامه بعد أن شعرت بالدوار من كثرة ما
يحدث لها وكلماته تدفعها لتذكر كم من مرة قام بتهديدها صراحةً مستغلًا نقاط ضعفها
وكم من مرة أخبرها بأنها غبية ومن ثم والده وهو يفعل بها المثل وبالرغم من كل ما
تمر به رفضت رفضًا قاطعًا أن تستسلم لكل ما يريد الوصول إليه لتجده في النهاية
يُجيب سؤالها المُستنكر:
-
اللي بيكره حد بيتجنبه.. إنما اللي أنتِ
بتعمليه مبيقولش إنك بتكرهيني!
هل كلماته التالية أنها ما زالت تعشقه؟ أم
ربما سيدعي أن كل ما تفعله يدل على اهتمامها الشديد به؟ إلي أين سيذهب بكلماته
الثعبانية معها؟
-
ومن وجهة نظرك أنا بعمل إيه كمان؟
تنهد ورد على سؤالها الساخر بمنتهى الجدية
ولكن لم تتغير نبرته الهادئة:
-
عايزة توجعيني، بتحاولي تعملي نفس اللي عملته
معاكي ومستنية ترتاحي لما تشوفي ده بيحصل، بس لما اخدتي أكتر حاجات بحبها حسيتي
إنك مرتاحتيش، فبتحاولي مرة واتنين وتلاتة بس في النهاية عمرك ما هتوصلي لحاجة!
-
ما تبطل بقا تمثل دور المهتم ده!
-
ومين قالك إني مهتم، أنا ماليش دعوة بيكي،
اعملي اللي أنتِ عايزاه..
رفعت حاجبيها باندهاش وغلفت السخرية ملامحها
لتقول بتهكم:
-
فعلًا!! حابسني هنا عشان مش فارق معاك اعمل
ومعملش إيه!
التفت لينظر لها وتفقدها لبرهة ثم هز رأسه
بالموافقة ليعقب على كلماتها المتهكمة:
-
هو أنتي بتعملي ايه أصلًا في حياتك وأنا
رفضته أو علقت عليه، أنا فعلًا ماليش دعوة باللي أنتِ بتعمليه، أنا ليا دعوة باللي
أنا عملته واللي بعمله.. كل واحد مسئول عن غلطاته يتحمل نتيجتها!
همهمت بتفهم ولكن احتلت السخرية ملامحها
بالكامل بينما لم تر إلى أين يجذبها بخبثه في النقاش:
-
فأنت عايز تقول إنك غلطت في كل اللي عملته
معايا وعايز تصلح ده لأن كالعادة عمر الجندي مبيغلطش، عمر الجندي يا بيضطر يعمل
الغلط لأن مفيش قدامه حل تاني أو بيعمل الغلط وبعدين يلاقي تصرفاته متليقش بصورة الضحية
اللي في دماغه عن نفسه فطبعًا لازم يصلح ده.. والمفروض تبقا البطل والكل يصقفلك
على الدور الحلو ده.. مع إنك من البداية أنت الغلطان!
-
مفيش حد بيستنى يكون بطل على جريمة بيعملها،
اللي بيحاول يقتل حد يوم ما بيعرف إنه غلط بيبقا خايف ياخد فيه إعدام!
-
طبعًا المحامي اللي جواك هو اللي بيتكلم..
هايل، وإيه كمان؟ حاولت تقتلني ودلوقتي بتحاول تكفر عن ده بإيه؟ أو تصلح غلطك
بإيه؟ بشوية كلام؟!
-
اللي عملته فيكي مينفعش حاجة تصلحه، بس اللي
أنتِ بتعمليه بسبب اللي عملته فيكي ممكن يتصلح!
شعرت بذلك الألم برأسها من قدرته التي لا
تنتهي أبدًا على الثرثرة والحديث ومواصلة نقاش لن يُغير شيء وأدركت أنه يحاول أن
يشتتها بكلماته الخبيثة التي لطالما حملت كل شيء ونقيضه لتسأله بجدية وغضب انتقل
بكل كلمة نطقت بها:
-
أنت عايز إيه؟
هز كتفيه متصنعًا البرود واجابها باقتضاب:
-
مش عايز حاجة!
بالرغم من بروده الظاهري كان يستعد بداخله
لتلك المرحلة التي يعرف أنه قد اقترب منها للغاية بعد محاولة عام أن يبوح بما فعله
وأمام تلك الملامح التي ستجعل لسانه يُشل بدل المرة آلف مرة ليجد ردها المقتضب:
-
كويس، سبني امشي بقا!
أومأ بالموافقة وكأنه ليس المسئول عن كل ما
يحدث:
-
امشي، مفيش أي مشكلة.. بس لما تمشي متروحيش
تعملي حاجة غلط!
-
هو أنت مين أصلًا عشان تقولي أعمل ومعملش، ما
تبطل التحوير بتاعك ده.. أنت مبتتغيرش أبدًا!
صرخت به والغيظ يجري بدمائها مختلطًا بتلك
النيران التي كادت أن تحرقها قهرًا لوصولها لهذه النقطة وهي تتحدث معه ثم تابعت
قبل أن تُعطي له الفرصة ليُكمل بترهاته:
-
رغي رغي، نفس الأسلوب، الصح والغلط والثواب
والعقاب، نفس قعدتنا في هاواي.. يعني حتى جدد عشان الروتين.. متفتكرش إن اسلوبك في
الكلام ده أنا مبقتش افهمه، بطل شغل الجنان بتاعك ده وسبني امشي من هنا وإلا هـ..
-
هتعملي ايه؟ هتحاولي توجعيني تاني بتصرفاتك؟!
تمام.. من غير ما نتساوم ونكتر في الكلام اتفضلي اعمليها، اعتقد وجودي قدامك أسهل
بكتير من إنك تستني تعملي حاجة توجعني، يا إما فيه حاجة تانية في دماغك!
قاطعها بثبات لتنظر له بمزيد من الغضب ليُكمل
بعد أن تريث لبرهة:
-
هتروحي تعملي حاجة تدمرك زيادة، وخصوصًا إنك
لسه من أقل من يوم حاولتي تموتي نفسك!
تفقدها بلوم يقبع بمقلتيه وشق عليه أن ينطق
بمثل هذه الكلمات ثم تاع دافعًا نفسه وإياها نحو الوصول لهذا الطريق الذي يخشاه
كلاهما:
-
اللي بينتحر يا بيصحى عايز يموت نفسه تاني،
يا إما بيندم على اللي عمله وعمره ما بيكررها.. وفي النهاية أنتِ اللي بتعمليه ده
عشان اللي عملته فيكي.. فلو كنت عايز اموتك بإيـ ـدي أنتِ دلوقتي بتعملي نفس اللي
كنت هاعمله فيكي.. ولا نسيتي اللي حصل!
استفزتها كلماته لتصيح به ولاحظ وتيرة
أنفاسها المتسارعة بشدة:
-
يعني فجأة الكلام اتحول من إنك غلطان لإني
أنا اللي غلطانة في حق نفسي!
-
كلنا بنغلط في حق نفسنا، أنا ياما غلطت لما
مسمعتش كلامك، ومكمل غلط لما حاولت اموت نفسي مرة واتنين وتلاتة وأربعة، وغلطت لما
قبلت اننا نكون في مكان واحد مرة واتنين وتلاتة، ولسه بغلط وأنا قاعد بتكلم معاكي
لأن دي أكتر حاجة هتفتح عليا اكتئاب مش هاعرف اتحكم فيه!
-
يعني أنا السبب!
-
ايوة انتي السبب!
-
مسبتنيش اريحك خالص من المعاناة دي ليه
امبارح؟ ما كنت سبتني اموت واخلصك!
-
موتك مش هيرحني، لو كان هيرحني كنت عملتها
وانا وانتي لوحدنا وفاكر إنك بتخونيني!
شعر بجـ ـسده يرتجف بالكامل بينما تحولت
أنفاسها للهاث واضح وهي لا تُصدق أنه ينطق بمثل هذه الكلمات بمنتهى الهدوء
والأريحية وكأن ما حدث كان مجرد حدث عابر لتصرخ به بتوتر ازداد بتجلي شديد:
-
أنا مش هاتكلم كلمة واحدة معاك تاني.. أنا لو
ممشيتش من هنا مش هريحك ثانية واحدة في يومك.. خلي الناس اللي برا دي تفتح الباب!
-
أنا موافق متريحنيش.. موافق على كل حاجة
عايزة تعمليها فيا، بس اللي عمري ما هوافق عليه إنك تدمري نفسك أكتر من كده!
رده آتى بتلقائية منه دون التفكير بينما حاول
التحكم في ذلك الارتجاف الذي يسيطر عليه بينما لم تلحظ هي أي مما يمر به لشدة توترها
وضربات قلبها التي تسارعت بفعل تلك التفاصيل التي جعلها تعود مرة أخرى برأسها
ليبدو الأمر وكأنه حدث لها ليلة أمس لتسوء حالتها أكثر بتذكر المزيد!
- يا ريتني عملت كده من
أول يوم معاك، مكونتش اتخيل إنك كداب اوي لدرجة الأذى اللي أنا فيه ده..
- أنا من زمان وأنا عارفة
إنك مريض ومتابعة مع دكتورة من وراك، اتخيلت إن كل حاجة ممكن تحصل، بس متوصلش لكده
أبدًا!
اتكأت بالقوة المتبقية من عقلها التي لم تضرر بعد بالكامل وعن طريق
خطواتها الهزيلة وقدماها لا يحملاها ذهبت معتقدة أنها ستتركه وهي تظن أنها بغرفته
ولكنها توقفت من تلقاء نفسها في صدمة وذعر حقيقي عندما أدركت أنها بمكان آخر
تمامًا..
تباعدت شفتاها في دهشة وهي مذهولة بعد أن رأت الكثير والعديد من
تلك الأشياء الخشبية الغريبة التي تأكدت أنها أدوات تعذيب ستصيبها بالجنون أو
إزهاق روحها حتمًا لا محالة!!
لم ينبس ببنت شفة كما لم يحرك ساكنًا وظل يتفقدها بمنتهى البرود
وهو يُصمم على عدم محادثته لها..
اتكأت عن نفس الصندوق الذي كانت أسيرة به وهي ترى غرفة زجاجية
وغرفة أخرى لا تدري ما بها وأدوات وأجهزة غريبة ومجسمات خشبية تبدو قديمة للغاية
وما إن وقعت عينيها على نفس تلك الآلة التي رأتها تتغلغل بتلك الفتاة التي كانت
الدماء تتساقط منها شعرت بالرعب الحقيقي.. ولم تتخيل نفسها سوى بموضع تلك الفتاة
التفتت له بتوجس وهو تومأ له وهمست بذعر:
- لا، بلاش يا عمر
أرجوك.. صدقني هاعمل كل اللي تقوله بس بلاش نفضل هنا!
يحدثها
عن العلاج، ويحدثها عن عدم تدمير نفسها وكأنه لا يقبل ولكنه هو من فعل بها كل ذلك،
لم تكن هذه المرأة التي تنهض فجأة لتحرق منزلًا بأكمله، لم تكن قط تلك الفتاة
الأسيرة لتصرفات رجل مختل وهو يأبى بشدة أن يصدق أنه به اضطراب ما، هذا الصندوق
المعدني الذي مكثت به ثلاثة أيام كاملة وهي تستغيث له، يُشبه تمامًا نفس هذا
المنزل، كلاهما سجن ولو اختلفت ملامحهما!
لقد قام بتخديرها يومها بفعل قطعة قماشية بعد
أن خاض معها حديث بخبثه جعلها تتخيل أنه صادق بكل ما فيه، والآن خدرها بفعل تلك
الكلمات لتنهض تجد نفسها حبيسة بمنزل أكبر قليلًا من هذا الصندوق المعتم المعدني،
نفس الدوار، نفس الآلام، نفس كل شيء يتكرر مرة أخرى!
شعرت بدوار شديد بمجرد فتح عينيها وتحركت
ساقيها بعفوية لترتطم بشيء لم تعرف ما هو فحاولت أن تستند على يدها لتنهض فشعرت
بألم شديد برأسها الذي ارتطم هو الآخر بفولاذ قوي وتأوهت من شيء وكأنه كحد السكين
وما زالت لا تفهم ولا تعي أين هي وما الذي يحدث لها..
شعرت بعظام ظهرها بأكمله
تؤلمها ولم تعرف ما سبب ذلك، تحاول أن تواجه شعور هذا التشويش، يحاول عقلها
استرجاع آخر ما حدث لها، لقد كانت بمنزلهما، تحدثه عن اصابته باضطراب ثنائي القطب
وكانت في انتظار المأذون ثم..
وجدت نفسها تحاول النهوض
في هلع وبدأت شهقاتها في الارتفاع، هذه ليست مزحة ولا تحاول أن تقنع عقله بأنها
أصبحت خاضعة، هو لم يتقبل حرف من ذلك، بدأت تهمس بكلمات غير مفهومة ويدها تتخبط
دون وعي منها كردة فعل تلقائي من عقلها الذي يبغي الفرار، ثم بعد فشل محاولات عدة
تصاعد به هلعها صرخت بقوة إلى أن تضررت حبالها الصوتية..
شعر بالقلق لرؤيته ما يراه على ملامحها ولاحظ
تلك الرجفة التي تسيطر عليها فكان أمامه حل وحيد يا إما ستنقل على إثره للمشفى وهي
فاقدة لوعيها يا إما سيكون البداية لكل شيء:
-
استحالة القعدة في المصحة تكون جابت معاكي
نتيجة، حكيتي لكام معالج اللي حصلك؟ قدرتي تنطقي أنا عملت فيكي ايه؟ ليه مكملتيش
علاج لما رجعتي من سفرك؟ وازاي رجعتي تشربي تاني لو كانت المصحة نفعتك في حاجة؟!
اشتد لهاثها لتنهض بخطوات مترنحة في حالة من
الذعر وهي تبتعد بخوف عنه ولك يختلف ذعرها عن هذا الذعر الذي حمله بداخله وكأنه
يتحمل ثقل جبل بأكمله ليتبعها وهو يجره بمشقة ثم أمسك بذر اعها بقوة وصاح بها غير
مكترثًا بما سيصيبه بنطقه لتلك الكلمات:
-
محدش في أهلك يعرف أنا عملت فيكي ايه، أنا
اتأكدت بنفسي، جربتي تتكلمي عن اللي حصل لأي حد؟ قولتي لكام واحد أنا عملت فيكي
ايه وانا حابسك وانتي بتصرخي وقاعد سامعك ومبردش عليكي؟ حكيتي بالتفاصيل لحد ايه
اللي حصلك وانتي شايفة كل حاجة حواليكي لونها أبيض لغاية ما بقتيش مصدقة لون ايدك
عامل ازاي؟ لما شوفتي التعبان ايه اللي حصلك يومها؟ حاولتي كام مرة تجري وتبعدي
عنه؟ فاكرة العقرب كان عامل ازاي؟ عارفة.. انا كنت بتفرج عليكي من برا.. كنت برميلك
الأكل وأنا عارف إنه أسوأ اكل هتدوقيه في حياتك بس من كتر الجوع كنتي مضطرة
تاكليه.. أنا اللي عملت فيكي كل ده ومفرقش معايا ممكن تحسي بإيه.. أنا اللي ضربتك
وحبستك ووصلتك لكده.. من حقك تتكلمي عن ده..
سخونة رهيبة وكأنها وقعت بقاع الجحيم تنتشر بجسدها، جفناها كأنهما
جبلان يأبيان التزحزح من مكانيهما، وهناك ذلك الثقل الرهيب الذي تشعر به يطبق على
جسدها!
وجوه كل من عرفتهم في حياتها تتحول لوجوه بيضاء
بالكامل، منعدمة الملامح، وهناك مياه تأتي من كل مكان تبلل جسدها وتدفعها للأسفل،
لابد من أنه قد ربط بدنها وثبت به صخرة ثم اغرقها بمياه ساخنة، لا تشعر بعد بأنه
هو من يعانقها، ولا تعي أنها تُعاني من حمى شديدة بفعل لدغة ذاك العقرب لها،
والهذيان الذي وقعت به أثر لكل ما حدث لا يخبرها بعد أنها تتعرق بشدة..
لقد كانت خائفة من أن يفعل المثل بوالدتها أو
أخيها، هي تعرف أنه كان لينتقم، ولكنها كانت نصيحة "مريم" إليها، أن
تقوم بالإبلاغ عنه والحصول على دليل ضده تجاهها هي وليس تجاه الآخرين في قضايا
أغلقت منذ سنوات، وأن تقوم بطلب المساعدة من اقرباءه، وأن تبتعد بأسرع ما يكون،
لقد كانت تعرف أنها ستتعرض لعذابه، ظنت أنه قد يلمها ويقسو عليها ولكن ليس بمثل
هذه الطريقة..
تذكرت المزيد، في أي وقت يصعب عليها ما تتحمله
عليها أن تتشبث بالحب، حب نفسها وهذه العلاقات السعيدة في حياتها، أن تقدرها، أن
تتيقن أنها ستعود إليها يومًا ما وستمتلك الكثير من العلاقات الأخرى، أخيها،
والدتها، نجاحها بعملها، ذكائها في تبين الكثير وصمودها أمامه ومعه طوال كي هذا
الطريق، هي لم تكن سيئة بالكامل، لقد حاولت، الابتعاد عنه هو الصواب، لم يقتنع قط
بشأن مرضه.. وحتى في اللحظات الأخيرة كان يُنكر الأمر باستخفاف منه..
والدها هو أكثر شخص تحتاج إليه الآن، تحاول أن
تتشبث بالذكريات السعيدة معه، ابتسامته، الثناء عليها، ملاعبتها وهي طفلة، أول مرة
قام بتعليمها القيادة على سيارته وهي بالصف الأول الجامعي، أول سيارة ابتاعها لها،
ليته كان معها، أو ليتها ماتت بالفعل وبنهاية هذا النفق أبيض اللون ستجده.. هل
تستمع لصوته يبكي من أجلها؟!