-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 33 بالعامية

     رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

الفصل الثالث والثلاثون

النسخة العامية 



 

توقفت عينيها حيث ذلك المقعد الذي جلست عليه منذ عام أو ربما أكثر بقليل وهي في حالة رعب شديدة عندما وجدت كل ما كان يحتفظ به وكل ما أرادته كان نصيحة، وليتها عملت بها، بل اختارت أن تتناقش معه، هي تتذكر ما حدث هذا اليوم تمامًا، بعد انتظار وحالة من الذعر الشديد لم تستمع لأحد سوى لنفسها، لم تعمل بما أخبرتها به "مريم" ولم تعمل بكل تلك الإجابات التي أجابتها بها، كل ما فعلته كانت ثقة عمياء بأنه يستحيل أن يؤذيها لو طالبت بالطلاق وهي تملك ما تملكه عنه، أو ربما أرادت أن تحاول معه للمرة الأخيرة، لأجله أم من أجل نفسها لكي لا تصبح المرأة المُطلقة أمام الجميع؟ ما الذي حدث يومها؟ كيف تصرفت هكذا؟!

 

-       هتفضلي واقفة كتير ولا إيه؟

 

لقد شردت من جديد، تتشوش بكل ما يتعلق به، بكل ما حدث بينهما، ما زال حتى الآن دون أن يفعل شيء يُسيطر على كل حياتها وتفكيرها، أين السبيل للتخلص منه؟

 

نظرت له باستغراب ولكنه كعادته مؤخرًا نظر بطريقة غير مباشرة لها ثم همس حتى لا تستمع لهما "حسناء" موظفة الاستقبال الخاصة بالعيادة:

-       ادخلي بدل ما يبقا فيه مشاكل هنا كمان!

 

ابتلعت وهي في حالة من الصدمة وزاغت عينيها لتتفقد كل التفاصيل حولها لتنبعث من جديد برأسها أيام شتى آتت بها إلى نفس المكان وكل هدفها أن تصل لحل معه، لقد مر عامان منذ أن عرفت من هو "عمر الجندي" وحتى اليوم لا تجد إجابة بعد، لم تصل إلى نهاية أو حل معه! كيف، كيف وهي تملك تلك الأوراق عنه؟ كيف وقد فعل بها ما فعله؟ كيف تقف معه الآن جنبًا لجنب وهما في عيادة المعالجة التي تركت لها الاختيار في يوم من الأيام أن تبقى معه أو تتركه ولأنها المغفلة الأكبر بالكون اختارت أن تستمر معه بعلاقة لم تُصبها سوى بالدمار؟!

 

دفعها برفق نحو الباب عندما لم يحصل على أي استجابة منها لتمشي وكأنها آلة، جماد بلا روح، لماذا لا تستطيع الوصول إلى نقطة النهاية معه؟ لماذا كل شيء يُعاد ويتكرر وكأنها في بداية زواجها من جديد؟ إجبار ثم غرابة اطواره ثم نفس العيادة التي آتت لها بالسابق، هل سيتكرر ما فعله بها أيضًا؟

 

-       ازيك يا روان؟

 

استمعت لسؤالها لتتفقدها باستغراب وكأنها في حالة من النسيان التام، تمنت لو أنها تنسى من هذه المرأة، لماذا لم تنس ملامحها، لماذا لم تفقد الذاكرة؟ ليتها فعلت، وليته نجح في تدمير عقلها بالكامل، كان الأمر أهون الآن!

 

ابتلعت وهي تشعر بأن لسانها منعقد ولا تفهم أي شيء مما يدور حولها أو ربما لا تُصدقه، الذكريات باتت تؤلم أكثر من مجرد فكرة أنه زوجها مرة ثانية، هذا ليس بجيد على الإطلاق!

 

-       اتفضلي اقعدي، هتفضلي واقفة؟

-       لا أصلها مش جاية بمزاجها، هي جاية غصب عنها، وأنا السبب!

 

تدخل صوته لتلتفت له وتفقدته في حالة من الذهول، هو يُدرك أخيرًا أنه يجبرها، يستخدم مُصطلح الإجبار، الغصب، الإكراه على فعل أمر لا ترضى أن تفعله، بالطبع لابد من أن يظهر بمظهر الرجل الصائب في كل شيء!

 

نظرت إليه "مريم" باستغراب لترد على كلماته بمنطقية وهي لم تغفل عما أخبرها به مما تُعاني بسببه من نوبات قلق قوية:

-       المفروض اللي يجي هنا يبقا برضاه، مفتكرش إنها غصبتك تجيلي، هي كانت بتيجي وقت ما كانت هي مُستعدة لحاجة زي دي!

 

سقطت على هذا المقعد وهي تحدق بالأرضية بدلًا من أن تسقط أرضًا بفعل هذه الدوامة التي تجبر كل ما فيها على الغرق لأعماق بعيدة تعرف أنه يستحيل عليها أن تنجو منها من جديد، هذا كان دور المصحة، ولقد كلفها الأمر شهران من الإنكار وثمانية شهور من محاولة تخطي الأمر، هي ليس لديها القدرة على خوض كل هذا من جديد!

 

-       هي مرة مفيش غيرها عشان الكلام اللي بتحاولي تسمعيه مني من شهور مش هاقدر أقوله غير قدامها!

 

نظرت له بأعين تحمل آلاف التساؤلات ولأول مرة ينظر لعينيها ويرى تلك العبارة الصريحة الصارخة بكم ظلمها في كل ما فعله، لوم على ظلم استمر به كثيرًا بطرق شتى، يعرف أنها تعاتبه بتلك النظرة، يفهم جيدًا أنها تخبره بأن عليه أن يكف عن البوح لها بكل شيء، تريد أن توصل له هذه الرسالة بأنها لم تعد تلك المرأة التي ستستمع لترهاته وهي تدعمه وتتفهم من جديد، لقد قتل هذه المرأة ولقد ذهبت هي بلا رجعة..

-       وعشان من حقها تعرف كل حاجة، وأنا مظنش هاقدر أقول الكلام ده مرتين!

 

التوت شفتيها جانبًا وهي ترمقه باحتقار شديد، بالطبع سيجعلها تنزف كامل مقدرتها على التحمل، ولكنه لا يعلم مقدار هذا الضرر الذي سببه بعد، ستلحقه به أضعافًا مضاعفة، وإلا ليضعها بيـ ـديه بجانب والدها، لن تتوقف سوى قبل موتها!

 

-       أتكلم!

 

استرخت بجلستها وهي تعقد ذراعيها ولم تتحرك عينيها عنه ثم التفتت نحوه أكثر وهي تُسلط كامل تركيزها عليه لترفع احدى حاجبيها بتحدي ولحق بكلماتها ابتسامة تشفي وهي تسأله:

-       ايه اللي مش قادر تقوله غير في وجودي؟

 

تردد في انتقاء كلماته بينما تابعتهما "مريم" دون أن تتدخل على الإطلاق عندما رأت تلك المواجهة بينهما واكتفت بالصمت الشديد خلال تحولها المفاجئ وتحوله هو نفسه الذي رأته يتجلى عليه بشدة، لم تره قط بتلك النظرات ولا بنفس التصرفات وكأنه كالغارق الذي يتشبث بقارب النجاة الجالس تمامًا على بعد خطوتين منه!

-       اليوم اللي كنت أول مرة أروح الشغل بعد سنة بحالها، أول مرة أحس إني مغفل، مش زي اللي حصل مع يمنى، ولا زي اللي حصل مع أي حد..

 

رفعت حاجبيها باندهاش وهزت رأسها بالموافقة لتعقب باقتضاب:

-       حلو، كمل!

 

يعرف بداخلها أن تهزأ على كل كلمة نطقها وسينطق بها، يدرك أنها تسخر منه ومن أفعاله بينها وبين نفسها، ولكن ربما قد حان الوقت ليدع لهذا العبء الذي حمله منذ أن أدرك فداحة اخطائه معها ليستطيع بعدها تحمل عبء جديد يتلخص فيما أصبحت عليه، بهذه الطريقة لن يتمكن أبدًا بالصمود دون أن يتخلص من عبء من الاثنين.

 

-       أنا في ساعة واحدة كنت عارف إن مراتي بتروح مكان من ورايا، سرقت كل حاجة مهمة عني، فلوس اتاخدت مني وأنا مش فاكر حاجة عنها، قدامي اسامي مش أقل من 100 دكتور ودكتورة في مبنى واحد، في مليون مجال، وفي نفس اليوم روحتي نفس المكان وقعدتي فيه أكتر من ساعة ونص والاقيكي بعدها بتقوليلي طلقني، واحد جرب الخيانة ووجعها قبل كده، إنسان بطل يحب سنين ورفض أي علاقة ارتباط مع أي واحدة ست، تفتكري دماغه هتروح فين وهو شايف ابن خالتك قبل كده حاطط أيـ ـده عليكي؟

 

ضيقت عينيها نحوه وهي تهز رأسها بالموافقة لتجبر نفسها على التحدث بالرغم مما استلزمته تلك الكلمات التي قررت قولها لتكون بمثابة خنجر ينغرس بقلبها:

-       فهمت إني بخونك، وبعدين؟

 

 عقد حاجبيه وهو يتفقد ثباتها الظاهري الذي يتأكد أنه يناقض كل ما بداخلها ليصعب عليه النطق ولكنه دفع نفسه لعله ينتهي مما لا يستطيع مواكبته حتى الآن:

-       أنا يومها الصبح مكونتش قادر أسيب حضنك، أنتِ ندهتيني عشان تحضنيني، احنا كنا مستحيل نبعد عن بعض، أنا قولتلك يومها لو عايزة تروحي لأي دكتور أنا موافق.. مقدرتيش تستني أبدًا؟

 

ابتلعت وهي تبتعد عن مواجهة عينيه وهو ي1كر الأمر بهذه الطريقة، لن تنكر كيف كانت تشعر بهذا العناق الأخير الذي جمعهما، تعرف كيف تحول معها بتلك الأيام الأخيرة الهادئة بينهما، ولكن بالطبع بعد أن أصبحت نسخة طبق الأصل لتلك المرأة التي تحلو له، وكأنه يكفر بكل من لا يقول له سمعًا وطاعة!

 

-       كل اللي كنتي بتعمليه خلاني أحس إني مغفل، إنك كنتي بتمثلي عليا، مبقولش أبدًا إني مش أنا اللي وصلتك لده، بس أنا بتكلم عن اليوم ده بالذات!

 

استمعت لذلك الذنب الجلي بنبرته بينما سيطرت على تلك الضربات المتسارعة التي تجذبها لنوبة جديدة لو غرقت بها الآن مثل ما فعلت صباح اليوم ستعطي له كامل الحق في المزيد من شعوره بأن يقوم بإنقاذها، وهي لديها كامل الاستعداد للموت من تحمل كلماته فضلًا عن تركه ينتصر بظنه أنه فعل أمر وحيد جيد معه، لن تُعطه لذة الشعور بأن يرى نفسه داخل إطار صورة البطل حتى ولو بينه وبين نفسه!

 

تفهم ذلك الهروب منه، ومن نفسها، ومن ذلك الماضي القريب، قد يكون سبب هروبها هو الخوف، أو إرادة نسيان ما حدث بكل ما تملكه من قوة، أو عدم القدرة على المواجهة، لا تستطيع النظر إلى من قام بقتلها بيـ ـديه المجردتين وهو في نفس الوقت الوحيد الذي عشقته بكل ما لديها من مقدرة على العشق!

حاول السيطرة على نفسه، ما زال الأمر في بدايته، لو فقد نفسه الآن لن يحقق هدف ما آتى من أجله، القليل بعد وسينتهي، أو يتمنى أن يفعل:

-       أنا مش ناسي كلامك لما شوفتك يومها بليل، وانتي بتواجهيني إني مريض، وأنتي بتقوليلي إننا لو انفصلنا ممكن نرجع لبعض، مكونتش شايف غير صورة ليكي أنتِ ويونس، ومش شايف غير جثثكم انتو الاتنين!

 

رفعت عسليتاها نحوه بعبرات كُتمت ليرى انعكاس وجهه الكريه بهما، هذا أقسى ما يُمكن أن يراه، نفس الوجه الذي يتهرب من مواجهته يمتزج بأكثر من تجعله يشعر بالرعب بمجرد تبادل لمحة خاطفة معها، عليه الصمود لينتهي وسيفعل:

-       أنا عرفت إني كنت غلط وأنتِ الصح.. بس عرفت متأخر اوي.. عمري ما شكيت إني ممكن أكون إنسان مش واعي للي بيحصله أو مش ملاحظ إنه بيعاني من حاجة معينة، يمكن ده اللي اتربيت عليه، ويمكن كنت خايف أفشل كإنسان طبيعي زي ما فشلت في كل حاجة، فيه مليون تفسير بس أنا مش عايز أتكلم في اللي حصلي، أنا بتكلم عني وعنك لأنك أنتِ الوحيدة اللي من حقها تسمع ده.. أنا يومها مشوفتكيش غير نسخة منها، بس النسخة الأذكى، والنسخة الأقوى، أنا حبيتك أكتر من أي حد حبيته في حياتي، سواء هي ولا بابا، كل حاجة معاكي أنتِ بالذات من أول الكلام والحب والتفاهم لغاية علاقتنا الجنـ ـسية مع بعض كانت أكتر من مثالية بالنسبالي.. فإن كل ده يتحول في لحظة لإنك بتخبي عليا تفاصيل حصلت في شهر ونص مش فاكر فيهم حاجة وإنك بتروحي من ورايا مكان وأنتِ بتتهربي من أي حد ممكن يقولي مكنش ليها غير تفسير إنك على علاقة بيه..

 

زفر بعمق ونكس وجهه للأسفل وهي يبتعد عن مواجهتها وحاول الصمود للمزيد من الدقائق التي يعدها بفارغ الصبر لتنقضي وينقضي معها هذا العبء بداخله ثم تابع بصوت مهتز:

-       أنا بعرف اكدب كويس، وكدبت عليكي وقولتلك هطلقك، بس كان من الغباء إنك تصدقي إني هطلقك بسهولة، سواء ماسكة ورق عليا ولا لأ، وصدقي أو متصدقيش بس أنتِ بالنسبالي مش زيها، هي كنت هقدر أمثل عليها واكدب عليها واخليها تصدقني بس أنتِ الوحيدة اللي بتفهمني من غير ما أتكلم، فمكنش ينفع اتصرف معاكي زي ما عملت معاها..

 

تساقطت دموعها حسرة مما تستمع له ومنع نفسه بأعجوبة عن إيقافها فهو لا يُريدها أن تتألم ولكن ربما يبدو أن الألم بات الأمر الوحيد الذي يعيدها لأرض الواقع بدلًا من هذا الخيال المدمر الذي باتت تعيش به فتابع بالرغم من رفض لسانه للتحرك:

-       كان لازم اخدرك، ابعدك بعيد، لأنك لو كنتي صاحية قدامي كنت هقتلك، كان لازم أفكر ازاي ممكن اخليكي مجنونة زي ما بتقولي عليا مجنون، وأنا عمري ما بقدر أفكر وانتي جنبي وقدامي، وخصوصًا بعد كل اللي عدا عليا معاكي، ابقا كداب بجد لو قولت إني محستش إن الدنيا دي كلها بتاعتي ومش محتاج حاجة أكتر منك، أنتِ ببساطة كنتِ دُنيتي.. فإني اشوف دُنيا كاملة بتخوني وبتضحك عليا مكونتش هاقدر أبدًا أواجهها وأنا مش عارف أنا بعمل إيه ولا عارف ازاي ده حصل!

 

تأهبت "مريم" باهتمام لما تسمعه بينما تساقطت دموعها اثناء ابتسامتها بحسرة، لطالما كان يُغرقها بهذا الكلام المعسول، ولطالما صدقته، لطالما انطلت عليها كلماته الساحرة وهو يتكلم بهدوء بتلك النبرة التي ظنت أنها أفضل صوت قد يملكه رجل، ولكن ليس هذه المرة!

-       بُصلي وأنت بتتكلم!

 

كلمته آمرة ليذعن بتأني لتدفعه ملامحها لمزيد من الاضطراب بداخله ولكنه حاول أن يتمالك نفسه لكي لا ينهض ويُلقي نفسه من هذه النافذة فلو حدث له شيء والده لن يرحمها بل ستعاني حقًا ما لم تتخيله بعقلها وما لم تذقه على يـ ـده هو نفسه ليجبر نفسه بالتحدث إليها بعد أن أكملت متسائلة:

-       وبعدين؟ إيه اللي حصل؟ كمل!!

-       حبستك، كنت مخطط اجيبلك دكاترة عشان عمري ما كنت هرتاح لو موتي بين يوم وليلة، شوفت إن الحب اللي حبتهولك هيبقا مالوش لازمة لو انتهى بموتك بعد ما اكتشفت خيانتك بوقت قصير، مليون حاجة وحاجة كانت في دماغي، التلت أيام اللي كنتِ محبوسة فيهم في الصندوق الحديد كنت بفكر ايه أكتر حاجة بتخوفك، إيه اكتر حاجة بتوجعك، طول عمرك بتخافي من الحيوانات، وبيوجعك أوي إن اللي قدامك ميتكلمش معاكي وميدكيش أهمية، دايمًا بتحبي تحسي إنك ليكي أهمية وحاجة غالية أوي الكل يتمنى يوصلها، عشان كده قصدت ملمسكيش ولو مرة واحدة.. كمان مكونتش أقدر الـمـ ـس واحدة غيري لمـ ـسها..

 

نحى نفسه عن متابعة النظر لها وهو ينطق بما فعله وغالبه هذا الاختناق اللعين الذي يعرف أنه لن يتخلص منه سوى بالسماح لأنفاسه بالانعكاس كبكاءٍ غير منقطع ولكنه تمالك نفسه بصعوبة ليستمع لها والقسوة تتجلى بنبرتها:

-       كمل، وبُصلي وأنت بتتكلم.. مش أنت اللي كنت بتصمم إني ابصلك في عز ما كنت بتعاملني زيي زي الحيوانات؟! أظن سهل عليك تبصلي وأنت بتتكلم بحريتك من غير ما حد يخوفك أو يحبسك أو يخليك تحت رجليه زي الحيوانات..

 

-       طيب، ممكن النقاش يـ..

 

 

تدخل صوت "مريم" لتلتفت لها وهي تنهاها بسبابتها عن المتابعة وهي تخبرها بسخرية:

-       ده أهم مشهد في الفيلم، متضيعيش على نفسك تفاصيل اللي حصل، ده احنا ما صدقنا يتكلم!

 

التفتت من جديد نحوها ثم عقدت ذراعيها وأشارت له أن يتابع ليجد ذلك الثقل على لسانه كجبل يأبى التزحزح ولكنه حاول بكل ما يملك من قوة أن يدفعه على التحرك:

-       كنت سامعك وانتِ مرعوبة، وانتي بتصرخي بكلام مش عارف أفسره وبتخبطي وبتستنجدي بيا وأنا..

 

ابتلع وهو يحاول المتابعة ليهمس بخفوت وخجل لن يشفع له أمام ما سيتفوه به بمصداقية:

-       أنا كنت مبسوط وبضحك وفرحان باللي أنتِ فيه!

 

تساقطت عبرة خائنة لعينة أمامها لتبتسم هي وهي ترمقه باحتقار بين دموعها التي لم تملك مثقال ذرة من تحكم عليها بينما تكلمت بنبرة جعلته يتمنى لو تنشق الأرض أسفله وتبتلعه وهي ترمقه بهذه النظرات:

-       أرجوك تكمل.. الحتة الجاية حلوة أوي.. هتخليك مبسوط أكتر!

 

تتقصد أن تتوسل الآن برجائها أن يتحدث، يعرف أنها تفهمه أكثر من نفسه، تتوسل أن ينطق بما لا يستطيع تحمل نطقه، ولكن ليصيبه ما يصيبه، لو كان هذا يحلو لها فلتفعله!!

 

-       تلت أيام بحالهم سيبتك محبوسة عشان أنا انسان مريض، كنتي بتتحايلي عليا تكلميني وتخرجي، بس زي ما أكون عمري ما حبيتك، وقتها عقلي صمم إنك متستاهليش زيك زيها أو يمكن أسوأ منها، مالقتش طريقة مناسبة هتوجعك غير عذاب المعتقلات السياسية، التجارب النفسية اللي اتعملت، زي التجويع والحبس والتخويف، أنتِ إنسانة، الإنسانية نفسها بتفرق معاكي، الإحساس لوحده والتفكير ممكن يدمروكي، أنتِ عمرك ما كان بيفرق معاكي الضرب، أنتِ دايمًا كان بيفرق معاكي كرامتك، إنك تحسي إنك مُجبرة على حاجة، ولو المشاعر ماتت بينك وبين اللي قدامك عمرك ما هتستحملي تتعاملي معاه.. وده اللي عملته.. حسستك إنك بتتعاملي مع جماد.. من غير كلمة ولا لمـ ـسة.. اخدت منك كل إحساس الأمان..

 

تساقطت عبراته التي خسر أمامها وكانت أقوى منه بينما تساقطت عبراتها على ما تستمع له، ليتها عرفت رجل لا يفهمها إلى هذا الحد المُخيف، لو كان يعرف كل هذا عنها، كيف تمكن من فعل كل ما فعله معها بغرفته الجحيمية اللعينة؟ كيف سطا على أنفاسها الحرة ليقوم بأسرها مرات ومرات؟ والآن يبكي، وكأن بُكاءه سيُغير من فجاعة ما حدث!

 

-       اخرجي، كانت دي أول كلمة تسمعيها بعد حبس تلت أيام في صندوق حديد ضيق ضلمة!

 

تقاذفت عبراتها كأسهم محمومة بنيران تُهلكه كلما تراشقت بمقلتيه المتابعتين لهلاكها الذي صنعه بكل ما يعرفه وتعلمه وقرأه يومًا في كتاب ما، ليته كان رجل جاهل لا يستطيع فهم ما يعنيه هذا!

 

كادت أن تتكلم ولكنه سبقها مجيبًا على هذا التساؤل بعينيها:

-       فاكر، والإجابة ايوة، فاكر بصتك يومها، فاكر وجعك وانتي مش قادرة توقفي على رجليكي، فاكر سؤالك، انتي سألتيني إن كنت عمري حبيتك!

 

ارتجفت ملامحه ولم يقو على متابعة النظر إليها وتبلل قميصه بفعل تلك الدموع المُنسابة آلمًا وقهرًا على إيذاء نفسه، فكل ما يتعلق لا يمثل له سوى الحياة بكل معانيها ولقد أفسد حياته بنفسه!

 

-       يوميها قولتي إنك بتابعي مع مريم من ورايا، بس مصدقتكيش، كل اللي كنت شايفه هو إنك بتحاولي تدوري على كدبة عشان معرفش اللي بينك وبينه وعايزة تطلعيني مجنون عشان يبقا سهل عليكي تبعدي عني.. أنا آه صح مجنون، بس بتجنن أكتر لما أعرف إنك هتبعدي عني، لما رفعتي قضية الخلع، لما قولتيلي أطلقك، فاكرة ساعتها أنا كنت ببقا عامل ازاي؟! مرة نوبة هوس شديدة، ومرة اتغيرت معاكي، ومرة موت نفسي!

 

لم تشعر ولو بلمحة من الشفقة سوى على حالها لتهتف بين أسنانها المرتجفة بفعل كل ما يذكره:

-       تبصلي وأنت بتكلمني!

 

استطاعت رؤية هذا القهر بتجلي بمقلتيه وهو يبكي مثلما كانت تبكي هي لأيام وأيام لتضيف وهي تبكي في راحة:

-       وبعدين.. كمل..

 

رمقها بحسرة وهو لا يستطيع أن يُصدق أنه فعل بها ذلك:

-       بعدها دخلتك الأوضة البيضا، كنت متأكد إنك هتخرجي متجننة منها!

 

انقطعت أنفاسه بفعل بكائه الصامت وعقد قبضتيه المرتجفتين وشعر أنه لو نطق بكلمة أخرى سيفقد المقدرة على التحدث للأبد ليطول صمته لحظيًا بينما تابعته بحسرة واشتعل ذلك الألم بداخلها أضعاف مضاعفة، لو كان يعشقها لهذه الدرجة الشديدة لماذا فعل بها كل ذلك؟

 

-       كنت عايز اوصلك لإنك متحسيش بحاجة وكل التركيز يبقا على عقلك، زي ما كنتي شايفاني مجنون كنت عايز اجننك! ده اللي بتعمله الأوضة دي، بتخلي الانسان ميحسش غير بالجنون بيشوف كل حاجة مختلفة قدامه.. أنا سبتك جواها تلت أيام وكنت عارف كويس أنتِ بتحسي بإيه، بس من كتر ما أنتِ قوية جرحتي ايدك عشان تحسي وتشوفي لون تاني غير الأبيض..

 

كيف لقلب لمـ ـست نبضاته يستطيع التخلي عن الرفق بمن عشقها؟ كيف لعقل امتزج بعقل آخر يستبيح أن يتخلى عن تصديق الحقيقة واتباع كذب محض؟ وكيف لرجل يعلم أنها لن تعشق سواه قتلها بهذه البشاعة؟

 

لن يفيد بكائه ولا ارتجافه، لن يُفيد هذا الجص الذي يدل على محاولة انتحار جديدة، لن يشفع له الاعتراف بما فعله بها، ليس هذه المرة، ولو تحول بكائه لأنهار من الدماء وهو يظن أنه رجل شجاع بما يفعله، لن تتغير تلك النظرة التي باتت تنظر له بها، كاذب ودنيء وكل ترهاته التي ترنم بها عن العشق وهذا الخيال التافه لن يمكنه من امتلاك ذرة شفقة عليه!

 

-       بُصلي وكمل!  

 

تفوهت آمرة بعد أن حاول الهروب منها مرة أخرى لتتواتر كلماته بصحبة بكائه:

-       كنت عارف إني بجوعك، كنت عارف إني كنت بحرمك من أبس حقوق أي انسان في الحياة، كنت عارف أنا بعمل إيه كويس، كنت بشوف كل اللي أنتِ بتعمليه، وكل محاولاتك إنك تمنعي التخيلات وأنتِ بتتحركي وبتحاولي تلاقي أي حاجة تصحيكي من اللي أنتِ فيه، كان لازم أخرجك قبل ما تنسي كل اللي حصل، وكنت أجبن من إني اصارحك بإنك خونتيني.. يا ريتني صارحتك وواجهتك، بس مكونتش قادر.. طول عمري بتصرف بخبث!

 

كادت أنفاسه أن تتوقف من شدة ما يمر به ولم تختلف هي عنه حالًا لتدخل "مريم" من أجل وقف حالة من انهيار ستصيب أيًا منهما عما قريب:

-       أنا بقترح أن نـ

-       لو متكلمتش دلوقتي عمري ما هتكلم تاني..

 

رفع يـ ـده لكي يوقفها بعد أن قاطع كلماتها ليُكمل بعد أن جذبت كلمات "مريم" انتباهه ليستطيع التوقف للحظات عن ذرف العبرات التي حرقته ألمًا ليُكمل:

-       أنا لما مريت باللي حصلي وأنا صغير وبابا فضل ورايا لغاية ما اتعلمت مخافش من حاجة قدرت اتغير، إنما انتِ كنت بوصلك لمرحلة مينفعش علاج فيها، أنا يمكن قدرت أعدي التجربة دي وانا صغير عشان قسوة بابا عليا وأنا صغير لحقتني من إني أفضل جبان وخايف.. إنما انتِ لو مريتي بكل ده وأنتِ كبيرة ومفيش حد جنبك لا باباكي ولا أنا كان استحالة تعديها، وأظن إني نجحت في ده، للأسف دي الحاجة الوحيدة اللي نجحت فيها، رجعتك للطفلة ولأبسط الاحتياجات في الحياة وحرمتك منها وانا عارف إني مش هايبقا جنبك حد يلحقك من اللي أنتِ فيه غيري، واستنيت منك رد فعل معين.. ولقيته!

 

اجهشت بالبُكاء ليحاول منع نفسه فلم يستطع، يبدو أنه يُكمل هذه الحياة ليُضيف لقائمة فشله التي لا تنتهي مواقف عدة، يقسم أنه لو هناك جائزة لأكثر رجل فاشل بالحياة سيحرز المركز الأول بجدارة!

 

-       لما جبتلك العقرب، كنت قاصد اخوفك اكتر، عايز امحي مشاعر قيمتك لنفسك وحقك في إنك تكوني إنسانة ليها أبسط حقوق في الحياة زي الأكل والشرب والنوم والأمان، كنت واثق إن مفيش حد يخلصك مني، مكنش فيه حد يعرف البيت اللي احنا فيه.. لغاية ما العقرب لدغك!

 

نهض وهو لا يستطيع التحكم فيما يشعر به ولا تصديق أنه فعل هذا حقًا، كيف فعل هذا؟ لا تختلف عنه "مريم" في شيء، هي لا تُصدق ما يقوله، كيف تمكن من فعل هذا؟ لوهلة تدخلت انسانيتها البحتة بالأمر وهي تنظر نحو "روان" وهي تتساءل بينها وبين نفسها، كيف لم يؤثر هذا عليها سوى بنوبات قلق قوية فقط؟!

 

وجدتها تنهض وهي تجفف دموعها واقتربت منه ثم سألته باستهزاء:

-       مش قادر تكمل؟ ولا مش قادر تصدق إنك عملت كل ده؟ ولا مش قادر تتخيل إني لسه قادرة أوجعك بمجرد ذكريات لما بتفتكرها بيبقا منظرك كده؟ كمل! سكت ليه؟!

 

التفت إليها وهو يرتجف ذعرًا مما يُقدم على النطق به فهذا ليس الجزء الأصعب على الإطلاق بل التالي هو ما لم يُرد التفوه به منذ البداية ليجبر نفسه كما أجبرها لمرات على مواجهة وجهه الكريه ثم تابع:



تابع قراءة الفصل