رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 42 بالعامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل الثاني والأربعون
النسخة العامية
الخامسة
صباحًا..
بعد مرور
شهران..
استمع لصوت هذا الصفير الدؤوب الموضوع فوق
المنضدة الجانبية لفراشه لينهض بالرغم من عدم رغبته في النهوض وهذا الكسل الذي
يحاول أن يسيطر عليه منذ أسبوعان بأكملهما وبالطبع لن تنسى "فينوس" قبـ
ـلاتها الصباحية له، عليها التوقف قبل أن يقع في عشق كلبة حرفيًا ويقوم بالزواج
منها، لطالما أحب التلامـ ـس، وجدت نقطة ضعفه تلك الذكية!
قام بمداعــ بتها قليلًا قبل أن ينهض وفي
طريقه أشعل ماكينة القهوة المُعدة منذ ليلة أمس واتجه للمرحاض ليغتسل سريعًا قبل
أن يبدأ يومه كمحاولة أخرى لطلب هذا النشاط الذي لا يعلم من أين له به وهو في نوبة
اكتئاب، ليس عليه أن يُفكر هكذا، خصوصًا ليس اليوم!
رداء الاستحمام، ملابسه الرياضية، حقيبته، القليل
من القهوة، ملابس العمل، ما تبقى من أوراق قضية "فيروز عبد الحي" وتلك
المراجعة الأخيرة التي قام بها قبل أن يخلد للنوم، كتاب اليوم، دفتره، قلم، كل شيء
يتبع الروتين المنتظم الذي يداوم عليه منذ ستون يوم، لعل الوقت قد حان ليضيف بعض
الاثـارة ليومه بعد أن قام بحلاقة ذقنه وتقصير شعره!
ارتدى ملابسه الرياضية، تفقد عقاقيره بنظرة
حقد دفينة وذهب نحوها وكأنه أصبح عبد لها، ارتشف القليل من القهوة ثم اتجه للخارج
وهو يُمسك بكتابه ليريح عينيه ولو ببعض سطور قليلة، ولكنه فشل، توقفت عيناه رغمًا
عن أنفه ليبتلع بمرارة مما يراه، لم يعد هذا منزله، لم يعد هناك أي شيء به يدل على
أنه يملكه، فهذا بات مملوكًا لـ "روان" والآخر لـ "عنود" أمّا
هذا المنزل الجديد فهو بات ملاذًا آمنًا بكل ما قد يحتاج له.. يتمنى فقط أن ينال
اعجابها بعد أن تم تجديده بالكامل.. لا، هذا ليس تجديد، بل حالة إزالة تامة لمنزل
وبناء صرحٌ جديد بدلًا من السابق!
اتجه نحو سيارته ثم بدأ في الاتجاه نحو
النادي الرياضي وصف سيارته بالموقف المخصص لينظر إلى تلك الحروف على الواجهة “LA7” ليهز رأسه باستهجان، لا يُصدق أنه يترك منزله بكل صباح ليأتي إلى هنا،
تبًا لانصياعه لكلمات "مريم"، هذه المرأة باتت تُسيطر عليه بشكل ملحوظ!
نفس الروتين، نفس تلك المناشف الرائعة، ولا
شيء أفضل من وجود تلك الصناديق ليمتلئ هاتفه بالشحن إلى أن ينتهي من جولته
الروتينية، نفس العدو، نفس الوجوه المبتسمة برسمية، هذا الغبي "عُدي" لو
كان أخ بحق وليس مجرد تابع لوالدته لكان آتى معه هنا صباحًا كل يوم مثلما يفعل
هذان الرجلان، يتشابهان كثيرًا، لابد من أنهما أخوان.. لا هذا المُدرب لا يكره
أكثر من تعليقاته..
-
ده احنا كده بقينا عظمة اوي عن ما جينا،
عايزين routine جديد بقا يالا شد حيلك!
هز رأسه إليه بابتسامة مقتضبة ليرد عليه بسخافة:
-
لا أنا تمام، مبسوط كده.. لما أحب اغير
هاجيلك!
ابتسم بداخله على رؤية ملامحه التي تتغير
وكانت تعبيراته بمثابة تسلية لا بأس بها لبداية اليوم، ومرت الدقائق واستطاع أن
يُضيف يوم آخر من التمرينات الرياضية قد تم بنجاحٍ ساحق، جيد، سيُشير إلى هذا
بقائمة المهام اليومية، ولكن بعد أن يغتسل أولًا ويرتدي ملابس العمل!
على سبيل التفاؤل الذي لا يدري من أين له به،
وطبقًا لمعايير تلك البدايات الجديدة، هذه الحُلة جديدة لم يرتديها قط، يتمنى أن
يحالفه الحظ بها وسيسمح لها بأن تُصبح حُلة الحظ، هذا لو امتلكه!
اتجه ليجذب عبوة عصير، وجبة لعينة ممتلئة
بالبروتين، عبوة مياه بلاستيكية، هو يمتن كثيرًا لوجود هذا الاختيار ضمن مميزات
هذا النادي الرياضي وأمسك بحقيبته ثم جلس على تلك المقاعد الطويلة وحدق لمدة
دقيقتان بذلك اللون الأخضر خلف هذا الزجاج الشفاف المُريح للنظر كما يفعل كل يوم،
ومن ثم أخرج كتابه وبدأ في القراءة وتناول الطعام على حد سواء!
-
الـ meeting
مهم اوي؟
عقد حاجباه عندما استمع لهذا الصوت النسائي وظن
أنها لا تتحدث له بل ربما تجلس بجانبه ليس إلا وتتحدث بهاتفها ليُتابع بتركيز ما
يقرأه وحاول أن يتجنب صوتها ليسمعها تتحدث من جديد:
-
شكلك النهاردة مختلف، عمومًا good luck
التفت نحو مصدر الصوت بنظرة جانبية جادة
جامدة وتساءل عندما وجدها تنظر له:
-
نعم؟!
امرأة تملك من مقومات الأنوثة ما قد يدفع
"أوفيد" لكتابة ملحمة، شعر أحمر طبيعي وهاج، ملامح لا يظن أنها مصرية،
القليل من تلك النقاط البُنية على بشرتها البيضاء تضيف لها حُسنًا، النساء بحر لا
يمكن للرجل أن يكتفي من عطاياه التي لا تنقطع، وبالرغم من كل هذا لم تحرك به
ساكنًا، هل أصبح راهب زاهد في عشق "روان" للأبد؟
أخبرته بابتسامة رائعة كانت لتدفعه منذ عامان
ونصف العام على تحويلها لصراخ لا ينتهي:
-
أنا بشوفك بقالك فترة بتيجي، أنا حافظة كل
اللي موجودين هنا..
قدمت يـ ـدها لتصافحه وهي تُعرف نفسها:
-
مايا مدكور..
❈-❈-❈
الثامنة والنصف صباحًا..
هاتفها اللعين لابد من أن يمتلك بعض الشفقة
عليها، صوته المزعج بات يُسبب لها صدمة، هذه ليست بأفضل وسيلة للاستيقاظ، ولكن
لولا صوته المُزعج لن تستيقظ أبدًا، هذا الدواء الساحر يجعلها كجبل نائم لا يتحرك،
تُجزم أنه أفضل ما تسرب لداخل جـ ـسدها، أو ثاني أفضل ما تسرب لداخل جـ ـسدها..
لقد أصبح عقلها وقح بشكل لا تتخيله بالآونة الأخيرة!
اتجهت سريعًا لتجلس على ركبتيها وهي تتفقد
تلك البقعة التي تركت بها جزء صغير من الشريط اللاصق الشفاف التي تضعها مساء كل
ليلة، فهو لا ينام سوى هنا إن آتى للمنزل بساعة مُتأخرة.. ولكن هذا اليوم العاشر
الذي تجد به نفس القطعة، آخر قطعة اختفت كانت منذ أحد عشر يوم..
زفرت بعمق وهي تُذكر نفسها، معنى اسم
"عمر" في معجمها لا يعني سوى الماضي، هي لم تعشقه، بل عشقت تلك التصرفات
التي ستقع لها أي فتاة ساذجة، رغبتها بالنجاح دفعتها تحمل كل شيء خاطئ، هو شخص
مريض باختياره أو طبقًا لأحداث مر بها، كل التعاطف لأي رجل مثله ولكن ليس العشق!
رفعت شعرها لتعقده للأعلى ثم جلست القرفصاء
على فراشها وتفقدت هاتفها، لترى أولًا ما الذي تُريده "علا" وبعدها
ستتفقد تلك الرسائل منه التي انتهت بعلامة استفهام، بالطبع يظن أنها ستتحرق شوقًا
لترى ما كُتب قبلها ليرغمها على تفقد رسائله، تبًا له!
تنقلت اعينها بتلك الرسائل ثم بدأت في ارسال
رسائل صوتية ردًا على كل ما كتبته:
-
الموضوع ده تنسوه خالص مش وقته، مالوش لازمة
اصلًا تحصل خناقة بين الـ HR
والـ Finance، لما اجي هبقا اتصرف وهاقنع
الاتنين!
-
معنديش مشكلة بس هي نص ساعة خليه يرتب كل
اللي عايز يتكلم فيه ويبطل رغي ويقول اللي عايزه مرة واحدة.. خليه يجي على 12 أكون
فايقاله..
-
معلش صحفي مين اللي عايزني؟ وعايزني بخصوص
ايه؟ سيبك منه!
-
عايزاكي تبعتيلي تقارير بالمصاريف دي وأنا
هشوف ليها لازمة ولا لأ.. أنسي عثمان خالص وأنا اللي اقرر مش هو..
انشغالها بالعمل جعلها تنسى تمامًا تلك
الرسائل التي أرسلها هو لدرجة أنها اتجهت للأسفل وهي تجيب على بقية الرسائل لتلتقي
بأخيها الذي يتناول طعامه قبل الذهاب للجامعة:
-
صباح الخير يا حبيبي.. عملت ايه في امتحان
امبارح؟ معلش أنا جيت يادوب على النوم على طول..
ابتسم إليها ابتسامة كانت تفتقدها منذ مُدة
كبيرة لتشعر وكأن كل شيء عاد لموضعه الحقيقي وهو يُجيبها:
-
صباح الفل يا روري، A+
قلبت عينيها وهي تحدثه بمرح:
-
نبطل الـ Ego (غرور) ده شوية هنبقا هايلين!
-
عايزاني اكدب عليكي يعني؟
ضيقت عينيها نحوه وهي تتنهد لتسأله:
-
مامي صحيت؟
أشار لها بالنفي وهو يقوم بإنهاء طعامه:
-
رُبى عاملة إيه؟
التفت نحوه ثم نظر لها بزجر ليقول:
-
ايه اللي ربى في نص البيت كده، انت
هتصاحبيها!
رفعت حاجبيها باندهاش لتتجه نحوه بغيظ لم يخلو
من المرح:
-
لا ده أنت تمشي بقا من هنا بدل ما اعمل campaign (حملة) واحط صورتك جنب صورتها ووسطكم قلب
احمر.. يالا على جامعتك يا بسام..
استهجنت ملامحه على ما تقوله بسخافة شديدة
منها ليرد هو الآخر محاكيًا إياها:
-
وليه ماعملش انا campaign في شوارع مصر وأقول فيها روان بتحبك يا عمر باللون الأحمر.. وعشان الـ creativity نحط بقا جملة زيادة، مقدرش أعيش من غيرك يا
عمر، ارجعلي يا عمر..
-
اسكت بقا بطل سخافة..
نهته لينظر لها باستفهام وهو يسألها بجدية:
-
هو ليه بقاله فترة مش بيجي؟
اجابته بما اتفقا عليه معًا بتلقائية:
-
بيخلص البيت عشان كان بيوضبه بعد موضوع
الحريق ده ومتابع مع المهندس وعنده قضية مهمة جدًا خلاص اعتقد هينطقوا بالحكم
النهاردة وبيجهز لكذا قضية تانية، بس اكيد هيجي تاني يعني..
هز رأسه بالموافقة ليخبرها وهو يرفع حقيبته:
-
تمام، ابقي سلميلي عليه..
قامت بالابتسام له بخبث وهي تغمز له لتقول:
-
وأنت ابقا سلملي على رُبى..
قلب عينيها وهو يذهب لتقترب وهي تتناول حبة
من التوت ثم صعدت للأعلى لكي تبدل ملابسها لملابس الرياضة لتتذكر رسائله فقامت
بتفقدها وهي تتعامل مع آلمها وصدمتها بعد وصولها لهذه المرحلة وأدركت أنها على
الأقل باتت تُعرف المشاعر بحقيقتها دون تجميل:
-
صباح الخير
-
البيت خِلص زي ما حددتي كل حاجة فيه، تحبي
تشوفيه النهاردة لو فاضية
-
؟
فكرت قليلًا ثم أخذت بالكتابة:
-
تمام، أنا هخلص النهاردة بدري شوية، ممكن على
تسعة كده أبقى هناك..
قامت بإرسال الرسالة ليأتيها الرد في ثواني:
-
ابعتلك سواق؟
تفقدت سؤاله لتسخر مما تقرأه لترسل له:
-
عندي 3
-
اهم حاجة متسوقيش أنتي
-
وهي كان مالها سواقتي؟
شعرت بالغيظ من اهانته المختفية خلف هذا
السؤال لتتغير نظراتها عندما رأت ما أرسله:
-
أنا عارف إنك بتتعبي في الشغل فبتأكد إنك مش
هتسوقي الطريق ده كله بعد يوم طويل!
أرسلت له وجه ضاحك وتبعته بملصق ساخر ولم تر تلك
الابتسامة على وجهه ثم قامت بطبع رسالتها:
-
الشاشة بتعيط من كُتر الحنية!
-
هتتعشي عندكم في البيت النهاردة؟
-
الشاشة مش شايفة من كتر العياط!
-
هتباتي فين طيب؟
-
الاهتمام لما بيترفض المتوقع إن الشخص يفهم،
عيب ده أنت محامي شاطر..
ملصق آخر بمزيد من السخرية ولكن جعلته يبتسم
رغمًا عنه:
-
طيب معاكي رقم محمود، لو مش
هتتعشي في بيتكم خليه يجيب أكل ويدخله التلاجة.. البيت مفيهوش أكل..
زفرت بحيرة وهي منزعجة من تلك الحقيقة التي
تتواجد دائمًا بمراسلاتهما النصية مؤخرًا، لماذا دائمًا الكلمة الأخيرة تكون له؟!
-
شكــ
مسحت تلك الحروف لتُفكر فيما ترد به لتعاود
المحاولة من جديد:
-
وهو يعني لولا اهتمامك مش هاعرف اتعشى، سمعت
عن اختراع الديلفيري؟
-
آسفة نسيت.. المِتر مواليد قبل الميلاد..
ملصق آخر جعله لا يستطيع السيطرة على ضحكاته
ليتعجب "باسم" مما يراه ليشير إليه بسبابته وهو يقول:
-
خليهم يتحركوا على المحكمة وكلملي السواق أنا
نازله..
حدق بشاشة هاتفه ثم أرسل لها رسالة أخرى:
-
معاكي حق، الديليفري اختراع هايل، بس ده مش
صحي لواحدة بتحاول تتعالج؟
-
ميرسي يا مامي.. مُتشكرة كتير.. المرة الجاية
هابقا اكل من أكلك.. متزعليش بقا مني..
ليس هذه القطة التي بات يحفظها من شدة عشقه
لهذه الصورة ليقوم بالرد على المُلصق خصيصًا:
-
شبهك اوي
-
مبيشبعش رغي!
-
طيب خلاص سلام!
تنهد وهو يضع هاتفه بجيب سترته لتصله عدة
اشعارات متتالية بملصقات عدة تدل بأكملها على الوداع ولكنها رسمت ابتسامة على شـ
ـفتيه لتتبعهم برسالة:
-
في ستين سلامة..
-
شوفتي مين اللي مبيشبعش رغي؟ اللي مش عايز
يرغي مبيبعتش 8 رسايل ورا بعض!
انزعجت بشدة لتلقي بهاتفها على الأريكة
بغرفتها ثم اتجهت لتمارس بعض الرياضة قبل تناول الطعام بصحبة والدتها والاستعداد
للذهاب لعملها..
نفس الروتين الصباحي الذي باتت معتادة عليه،
نفس العناوين الرئيسية التي انتظمت عليها منذ فترة، لقد كان الأمر شاق في البداية
بأن تجبر نفسها على خوض هذه الرحلة، كانت تعلم أن هذا هو الصواب منذ تلك اللحظة
التي قام خلالها بقتل نفسه أمام عيناها، الآن لم يعد لديها حل آخر سوى الاستمرار..
مررت أصابعها بخصلاتها وهي تجمع شعرها لأحدى
الجوانب ثم قامت طبعت شفتيها بلون ثابت يقارب لون الشـ ـفتان الطبيعيتان دون
مبالغة والقليل من مستحضر التجميل الخاص بأهدابها وتفقدت ملامحها بالمرآة لتشعر
لأول مرة منذ كثير من الوقت أنها بدأت تعود لما كانت عليه.
اتجهت للأسفل وهي تُمسك بحقيبة يدها لتجد أن
والدتها قد استيقظت فابتسمت إليها واقتربت منها لتقبـل وجنتـها لتخبرها:
-
صباح الخير يا مامي.
تفقدتها والدتها بابتسامة وردت قائلة:
-
صباح النور يا روري، شكلك حلو اوي النهاردة.
هزت كتفيها وهي تجلس في تلهف لتناول بعض
الطعام:
-
ما ده الطبيعي يعني.. ولا امتى كنت مش حلوة؟
بدأت أصابعها في توزيع الزبد باستخدام السكين
على ثلاث فطائر المُحلاة وقامت بسكب بعض العسل فوقها واستخدمت الشوكة لتقوم بنثر
بعض حبات التوت وبدأت في تناولها لتجيبها والدتها وهي تتابعها:
-
مش كده، أنا اقصد إنك شكلك مبسوط عن الفترة
اللي فاتت، نفسي تفضلي كده على طول.
هذا ليس أفضل ما يُمكنها أن تبدأ به يومها
فاكتفت بهز رأسها بالموافقة وابتسمت اليها وهي تعقب:
-
بقيت أحسن بكتير.
همهمت بتفهم لتسألها هذا السؤال الذي لطالما
تهربت منه:
-
مش ناوية تطمنيني وتقوليلي كان فيه ايه طول
الفترة اللي فاتت؟
تركت الشوكة وظلت ممسكة بالسكين واختلفت
ملامحها وهي تشرد بتفكير ناظرة للطعام لتواصل والدتها:
-
لو مش عايزة نفتح الموضوع وهيضايقك بلاش.
أطلقت زفرة مطولة وهي تتذكر تلك الفترة
الماضية بأكملها وما مرت به من تلك الدوامة بين الانكار والتجاهل والكتمان لتلتفت
نحوها وهي تنتقي كلماتها لكي لا تُصاب والدتها بأي مشاعر خوف أو انهيار وحاولت أن
تتوافق كلماتها مع تلك الكلمات التي أخبرها بها "عمر" منذ شهر بأكمله:
-
أنا يا مامي لما عرفت عمر وقربت منه في
البداية كانت طباعه غريبة أوي عننا، يمكن ماديًا هم ناس مستواهم زينا واجتماعيًا
من بعيد تحسيهم زينا، إنما مكونتش عايزة اكمل معاه وحسيت باختلاف شاسع ما بيننا،
إنما هو فتح معايا صفحة جديدة وابتدينا نقرب من بعض وحبيته، حبيت فيه الشخصية اللي
مش بتطلع مع أي حد غيري، بس برضو فضل فيه نفس الصفات الغريبة والتصرفات اللي مقدرش
استحملها، غير أنتِ عارفة إني كان نفسي اتجوز إنسان عملي وشاطر وناجح في شغله
وحياته زي بابي، عمر ممسكش ولا قضية وكل ما كان يجي يشتغل كان يزهق ويسيب شغله،
عنده عادات غريبة، غيرة زيادة ملهاش لازمة!
تلك الجملة جعلتها تتوقف لبُرهة وكل ما تقصده
هو ذلك العذاب الذي رأته منه طوال شهر كامل ثم واصلت:
-
لما طلبت الطلاق اول مرة حسيت إنه عايز
يحبسني، أو يعني عايز إن كل حياتي تبقى تحت عينه، مكونتش عارفة اتعامل معاه، حسيت
إن مخنوقة ومكونتش لاقية حل، بس هو رفض، حاولت مرة تانية بس لقيت تصرفاته زي ما
هي، وحتى قولتله تعالى نروح نشوف دكتور أو أي marriage counselling كان بيرفض وشايف إن تفكيري غلط، عايز يسافر
وميشتغلش وميكملش طموحه وأنا عمري ما اتعاملت مع شخصية زيه وحسيت اننا فشلنا،
لغاية ما وصلنا لآخر شهر ما بينا حاولنا نسافر ونتكلم بس خناقنا زاد كان وقت كله
عصبية مني ومنه وأنا صممت على الطلاق، أنا آه بحبه وهو كمان بيحبني بس مكوناش
عارفين نتفق لغاية ما وصلنا لحتة وحشة أوي كنت انا مقضياها عياط ومش باكل وهو لما
لقاني مصممة طلقني وضرب نفسه بالنار..
رأت التأثر الشديد على ملامح والدتها التي
قامت بمسك يـ ـديها بدعم وصدقت كل ما قالته لتتابع الأخرى:
-
أنا اعصابي مستحملتش، كنت مفزوعة، منظره وهو
بيموت نفسه، حياتي اللي ضيعت منها سنة في مشاكل، وشعور الذنب اللي كان عندي عشان
هو موت نفسه، التجربة كانت صعبة أوي، واخدت فترة على ما عدتها.. واديكي شوفتي
عصبيتي وقلة نومي والكوابيس اللي كانت بتجيلي كانت بتبقا كلها وأنا بشوفه بيموت
نفسه، وبعدين باباه أنا بحسه بيعامل مراته وبنته غير ما بابي كان بيعاملني أنا
وأنتي وهو كان خايف على عمر اوي ميفوقش من الغيبوبة.. كانت فترة صعبة عليا.. لكن
لما اتقابلنا تاني في خطوبة عنود وهو سابلي الحرية في أن اعصابي تهدى وحسيته رجع
شغله تاني وابتدا يروح لدكتور عشان يحاول يفهم شوية ايه المشاكل اللي كانت ما بيني
وبينه، جوازنا تاني مرة بقا أهدى بكتير!
هذه هي نهاية كذبتها، تتمنى فقط ألا تقوم
والدتها بمتابعة المزيد، وابتسامة مُرتجفة ارتدتها على وجهها لتحدثها والدتها
بتعاطف وحزن:
-
وليه محكتيليش كل ده؟ ليه فضلتي لواحدك في كل
ده؟
اتسعت ابتسامتها بالقليل من السخرية وقبل أن
تُلقي بأصابع الاتهام نحوها تقبلت خطأها بالكامل واجابتها:
-
بقا بذمتك يا ميمو أنتِ لو شوفتي حد فينا
زعلان بننقلك على المستشفى، عايزاني اتعبك واوجع دماغك بالزعل ده كله، وبعدين ما بقيت
اهو قدامك كويسة وبضحك ومبسوطة ونسيت كل اللي فات.. فرفشي كده بقا..
نهضت لتهرب سريعًا وقبلت وجنتها ثم يـ ـديها
لتحدثها قائلة:
-
أنا هتأخر على الشغل ولازم امشي، بلاش تزعلي
بقا واطمني أنا بقيت كويسة خلاص واديكي شايفاني اهو انا وعمر بقينا كويسين، باي..
-
طيب عمر هيجي النهاردة على العشا ولا لسه
مشغول؟
-
هبقا اكلمك يا مامي لما اعرف، هو كان مسافر
عشان قضيته ولسه راجع من يومين.. باي!
جذبت حقيبتها وهي تغادر مسرعة قبل أن تسألها
والدتها عن شيء جديد فلقد استلزمها طاقة كبيرة أن تحيك كذبها ببراعة ولكنها لن
تستطيع أبدًا قص تلك الفظائع على والدتها فهي لا تظن أن عقلها سيواكب كل ما واكبته
هي بالفعل طوال زوا جهما!