-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 6 - 1

 رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني
من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب



الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني


الفصل السادس

الجزء الاول

❈-❈-❈

لقاء على الشاطئ 


لم يستلزمه التفكير بالأمر مرتين ، إذ أخذ قراره بالعودة للإسكندرية على وجه السرعة ، ونبع ذلك القرار من خوفه أن يرحل أبيه عن هذا العالم قبل أن يراه ، فحتى وإن كان غادر المنزل والبلاد غير آبه بما يمكن أن يصيبه من حزنه لفراقه أو فراق صغيرته ، إلا أنه منذ علمه بما أصابه من مرض ، وكأن ذلك الطفل الصغير السجين بداخله ، أراد التحرر من سجن البرود وأن يرى والده ، حتى وإن لم يكن له أباً مثلما أراده إلا بأيام معدودات وسرعان مارحل هو عنه ، لكونه سأم أمور الخداع ، فعلاقته بوالده علاقة معقدة شأنها شأن باقى علاقاته ، فلا شئ بحياته صار مثلما تمنى ، كأنه جمع تعاسة العالم وسوء الحظ وحده ، ولكن كانت بدأت أموره بالعامين الماضيين تسير على نحو لا بأس به ، خاصة بوجود الصغير ، الذى أضفى على حياته البهجة ، وساهم بأن يتحلى بالقوة والصمود فى أوقاته الحالكة التى لم يحسب لها حساباً ، ولم يكن يعلم أن التعاسة ستعود وتسكن فؤاده هكذا بوقت مبكر بعدما ظن أنه أعاد ترتيب حياته على النحو الذى يرضيه، لذلك أراد منح الصغير ومنح سجود ما تم حرمانه منه وهو صغير ، ألا وهى عاطفة الأبوة 


أخرجه من إستغراقه بتفكيره صوت ميس وهى تصيح عبر الهاتف بنبرة تخللها الفرح لعودته :

- بجد يا راسل هترجع خلاص ، أنت متعرفش أنت وحشتنى قد إيه وحشتنا كلنا وخصوصاً مراتك ، دا حياء روحها هترجعلها لما تعرف أنك هترجع تانى 


أسرع راسل قائلاً بنبرة مفعمة بالفزع :

- متقوليلهاش يا ميس ولا تقولى لأى حد إن أنا راجع ، مش عايز حد يعرف 


لم تلفظ ميس بكلمة واحدة ، حتى ظن أنه فقد الإتصال بها ، فناداها أكثر من مرة ، حتى عاد إليه صوتها وهى تقول بدهشة من إصراره أن لا تخبر أحد بشأن عودته :

- مش عايزنى أقول لحد ليه يا راسل فى إيه بالظبط أنا مش فاهمة إيه سر إصرارك ده 


دلك راسل جبهته وندت عنه زفرة مرهقة ، ورد قائلاً بصوت خافت :

- لما أرجع هتعرفى يا ميس ، سلام دلوقتى علشان أعمل ترتيباتى وأشوف أول طيارة راجعة مصر ، وزى ما قولتلك متقوليش لحد 


بالدقيقة التالية كان مغلقاً هاتفه وعائداً للداخل بخطوات شبه مهرولة ، ذلك الأمر الذى جعل ساندرا تعقد حـ ـاجبيها بدهشة من تصرفه ، ولكن لم يكن لديها الوقت الكافى لسؤاله ، إذ وجدته يركض على الدرج حتى وصل غرفة وفاء ، ودق الباب وولج بسرعة ، فتبعته لتعلم ما أصابه جعله يتصرف على هذا النحو ، وبعد وصولها لغرفة وفاء وقفت على عتبة الباب ونظرت إليهما 


نظر إليها راسل نظرة عابرة ومن ثم وجه بصره لوفاء وهو يقول بنبرة مشوبة بالقلق :

- ماما إحنا لازم نرجع إسكندرية رياض النعمانى تعبان وفى المستشفى ، أنا كلمت ميس وعرفت أنه محتاج يعمل عملية ضرورى ، علشان كده لازم نرجع 


أنتفضت وفاء من مكانها بعدما كانت جالسة فى فراشها بإرتياح ، ووزعت نظراتها بينه وبين ساندرا ،التى مازالت تقف مكانها ولا يبدو عليها أن بنيتها أن تقول شئ ، فشدت بيـ ـدها على يـ ـد راسل وهى تقول برصانة :

- اللى تشوفه يا حبيبى ، وألف سلامة عليه ، كنت عارفة أن قلبك طيب ومش هيطاوعك أنك تسيبه فى ظرف زى ده ، بس هتعمل إيه مع ساندرا وساجد 


أطرق راسل برأسه أرضاً ورد قائلاً بهدوء:

- هناخدهم معانا يا ماما مش هينفع أسيبهم هنا لوحدهم ، هاخدهم علشان الكل يعرف أن خلاص بقى ليا حياتى هنا ، وان مش هرجع أعيش فى إسكندرية تانى 


رفع وجهه ونظر لساندرا وأضاف :

- ساندرا جهزى نفسك أنتى وساجد علشان هتيجوا معانا على إسكندرية ، أنا هحجز على أول طيارة ، لأن مفيش وقت 


ترك مكانه من جوار وفاء ، وإستقام بوقفته ولم ينتظر سماع كلمة أخرى منهما ، بل ما أن رآته ساندرا يقترب من الباب ، تنحت جانباً لتسمح بمروره ، وظلت تتبادل النظرات مع وفاء ، حتى إستطاعت بالأخير أن تخرج عن صمتها ، وتشابكت يـ ـديها وهى تقول بحيرة :

- تفتكرى ده قرار صح ماما وفاء أن أنا وساجد نقابل عيلتكم فى إسكندرية ، خصوصاً أن عارفة أن هناك فى زو جة لراسل 


لم تستطع وفاء إنكار خوفها وحيرتها بالتفكير مما سيحدث بعد عودتهم خاصة إذا رافقهم ساندرا والصغير ، وهى تعلم مدى حب وغيرة حياء ، فربما ستندلع حرب لن يستطيع أحد إخمادها ، ولكنها لم تشأ أن ترهبها أو تثـ ـير بنفسها الخوف ، وربتت على ذر اعها بحنان ، وأحثتها على إطاعة قول راسل ، وأن تذهب لإعداد حقيبتها وحقيبة الصغير ، بينما هى تركت مكانها على الفور تبحث عن حقيبة ثيابها ، وقد بلغ شوقها منتهاه لأن تعود لمسقط رآسها ، وأن ترى منزلها وصديقتها وكل أحباءها 


فبعد أن أنتهى راسل من حجز مقاعد الطائرة التى ستقلع بالغد عائدة إلى وطنه ، أخذ يلملم ثيابه ليضعها بالحقيبة ، ولم يخرجه من تلك الحالة التى ألمت به من ترقبه لعودته لمنزل أبيه ، إلا صوت صيحة الصغير وتصفيقه بيديه الصغيرتين ، فإلتفت خلفه على الفور ، وجد ساندرا تقف على مقربة منه وهى تحمل الصغير ، الذى سرعان ما مد ذرا عيه ، رغـ ـبة منه فى أن يحمله راسل


إستجاب راسل لمطلبه وأخذه منها وإحتـ ـضنه وقبـ ـله على رآ سه ، بينما عيـ ـناه ترصد وقفة ساندرا المتململة ، كأنها تريد قول شئ ولكنها تفتقر إلى الشجاعة لتقول ما لديها 

فحدق بها متسائلاً:

- مالك يا ساندرا ، كأنك عايزة تقولى حاجة ، لو فى حاجة قولى 


فركت ساندرا يـ ـديها وردت قائلة بإرتباك :

- راسل مش لازم أسافر معاك أنا وساجد ، خايفة أقابل أهلك وتحصل مشاكل


أسرع راسل بسحب يـ ـد الصغير ، التى كانت على وشك جذب نظارته وإسقاطها أرضاً ، وعاد يربت عليه بعدما رآى بوادر تململه وأنزعاجه بأنه أحبط مزحته ، فقـ ـبل رآ سه ورمق ساندرا قائلاً بهدوء:

- أنا عارف أن أكيد هيحصل مشاكل حتى لو مكنتوش أنتوا معايا ، بس مش عايزك تقلقى أحنا هنسافر أطمن على والدى وأشوف لو قدرت أعمله العملية ولما الأمور تتحسن هنرجع هنا تانى ، أنا مش عايزك تخافى ، حتى مراتى ممكن هى اللى تطلب إن أنا وهى ننفصل ، على العموم مش عايزك تفكرى كتير ، ويلا علشان تخلصى ترتيب حاجتك لأن مفيش وقت ، وأنتى عارفة أن لازم أرجع هنا تانى لأن حياتى فى إسكندرية خلاص أنتهت


حركت ساندرا رأ سها ببطئ ، وأخذت تضع هى ثيابه بالحقيبة ، بينما هو أخذ الصغير وولج لشرفة الغرفة ، ظل يهدهد الصغير بين ذرا عيه ، حتى سمع صوت أنفاسه التى أنبأته بأنه غط بنوم عميق ، فأدنى بوجـ ـهه منه ببطئ وحرص وقبـ ـل وجنته المشربة بحمرة خفيفة ، أرتعد الصغير بخفة بين ذرا عيه ولكن سرعان ما عاد لنومه الهادئ ، فأخذه وخرج من الشرفة ، وجد ساندرا أنهت ترتيب ثيابه بالحقيبة ، وما أن اقتربت منه لتأخذ الصغير لتذهب به لغرفته ، أشار إليها برأ سه دلاله على رفضه ، وأخبرها أنه هو من سيذهب ليضعه بفراشه ، بتلك الحجرة التى يتقاسمها مع سجود 


فهو ما أن وصل لغرفة إبنته وجدها تضع ثيابها بعشوائية داخل حقيبة سفرها ولم يخفى عليه حماسها وحركتها المفرطة بالغرفة بعد علمها بأنها ستعود للإسكندرية

فقال بصوت خافت لكى لا يفزع الصغير :

- بتعملى إيه يا سيجو ، أنتى بترمى هدومك كده ليه فى الشنطة


صفقت سجود بيـ ـديها وقالت بحماس كعادتها :

- عايزة أخلص يا بابى خلاص هنرجع وأشوف مامى تانى 


لن يقتصر الأمر على العودة فقط ، بل أنها سترى حياء وجدها وستعود لتلهو من جديد بحظيرة الخيول ، فكم تتمنى رؤية كيف أصبحت تلك المهرة الصغيرة ، التى أطلق عليها جدها إسم "سيجو" تيمناً باللفظ التحببى لها ، رآت أبيها يضع الصغير بالمهد المتأرجح ، وبعد أن إستقام بوقفته ركضت إليه وأرتمت بين ذرا عيه تقبـ ـله على وجنتيه بنهم ، كأنها تقدم شكرها وعرفانها له بأن سيعوض نزهتهما هنا بنزهة أخرى تاقت إليها منذ أن جاءوا لهنا ، ألا وهى أن تعود بين ذراةعى والدتها وتنعم بدلال جدها لها ، وبعد أن منحته العديد من قبـ ـلاتها الممتنة ، عادت لتكمل لملمة أغراضها خاصة الدمى المحببة إليها ، وزاد شعورها بالسعادة ، بعدما رآت أبيها يجلس على طرف الفراش ، ليعيد ترتيب ثيابها بالحقيبة ، وبعد أن أنتهيا ، إستلقت على الفراش ونظرت لأبيها بحب وهو ينحنى إليها يقبـ ـل جبينها بعدما دثرها بالغطاء ، فأغمضت عيـ ـنيها تحدوها رغبتها بأن تغفو سريعاً وما أن تستيقظ تجد أن اليوم التالى قد جاء وحان لقاءها بوالدتها 

❈-❈-❈

بعد إنتهاء جولته بزيارة الأماكن السياحية والأثرية بالإسكندرية، فكر أدم بأن يذهب للشاطئ ، على الرغم من أن مدير أعماله بات يشعر بالتعب والإرهاق ، وألح عليه بأن يعودا للفندق ، ولكن أدم قابل طلبه بالرفض ، وأصر على إكمال جولته السياحية ، فضحك بعد سماعه عبارات التبرم والتذمر من ذلك الشاب الذى يرافقه ، فهما صديقان منذ إحترافه الغناء ، فهو ليس مدير أعماله فقط ، بل صديقه المقرب أيضاً ، وهو من ساعده بتعلم اللغة العربية ، كونه من أصل عربى ولكنه مقيم مع عائلته بفرنسا منذ سنوات طويلة ، وأدم هو من ألح عليه بأن يعلمه النطق بالعربية ، على الرغم من أنه وجد صعوبة بتعلمها فى البداية ، إلا أنه الآن إستطاع التحدث بها بلكنة جذابة ، بإمكانها جذب الفتيات المولعات بالمطربين ، خاصة إذا غازلها باللغة العربية ، التى تحمل من التشبيهات البلاغية ما يستميل به عقول وقلوب الفتيات


فصاح صديقه قائلاً بإمتعاض:

- كفاية بقى يا أدم أنا مبقتش قادر أمشى تانى ، هو أنت ناوى تزور إسكندرية كلها النهاردة 


أولاه أدم ظهـ ـره ووضع يـ ـديه بجيبه ونظر للبحر ، فظل الهواء يضرب ثيابه ووجـ ـهه ، ولكن إلتفت إليه برأ سه قائلاً بشجن :

- سمعت كتير عن إسكندرية وجمالها ، فحبيت أشوف ده كله ، مش ينفع أكون هنا ومش أزور كل مكان فيها ، وجايز أشوفها تانى 


أقترب منه صديقه وقبض على كتـ ـفه وهو عاقدًا حاجـ ـبيه متسائلاً بدهشة:

- هى مين دى اللى جايز تشوفها تانى


- حياء 

قال أدم بصراحة ، فهو منذ أن رآها بالحفل الغنائى وهو يتمنى أن يراها ثانية ، وكأنه يبحث عنها بكل مكان يذهب إليه 


ترك صديقه كتـ ـفه وقبض على ذرا عه بشئ من الحدة ، وجعله وجـ ـها لوجـ ـه معه ، فتغضن جبينه بإمتعاض ، فقال وعيناه تحذره من الإنجراف خلف جنونه :

- أدم متبقاش مجنون ، أنت من ساعة ما شوفتها ومبطلتش كلام عنها ، مع أنها اصلاً متكلمتش معاك كلمتين على بعض ، ثم مش أنت عرفت أنها ست متجـ ـوزة ومش متجـ ـوزة أى حد دى متجـ ـوزة إبن أغنى راجل فى البلد دى وراجل له مكانته ، متعملش مشاكل بسبب نزواتك وجريك ورا البنات 


زفر أدم أنفاسه الحائرة ، وجذب ذرا عه من قبضة يـ ـد صديقه ، فعاد يحدق بأمواج البحر ، وكأن ما سمعه من تحذيرات ، ليس له أهمية ولن يضعه موضع إعتبار ، فخلع حذاءه وثنى طرفى بنطاله وركض على طول الشاطئ ، لم يعلم طول المسافة التى ركضها ، إلا بعدما نظر خلفه ولم يعد يرى مكان صديقه بوضوح ، ولكن لن يكون العودة لذلك المكان الذى أنطلق منه راكضاً قراراً صائباً الآن ، خاصة بعدما رآى من كان يتمنى رؤياها منذ قليل 


فعوضًا عن أن يعيد أدراجه ، أكمل ركضه حتى وصل إليها بذلك المكان الذى وقفت به ، فرفع يـ ـده وألقى عليها التحية بوجه طليق :

- أهلاً حياء 


أرتعدت حياء بعد سماع صوته ، وتساءلت من أين ظهر لها فجأة ؟ وربما ساهمت دهشتها برؤيته ، أن تأخذ وقتاً كافياً لأن تجد رداً مناسباً ، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تقول بالأخير بشعور من الضيق :

- أهلاً بيك ، هو أنت ماشى ورايا ولا إيه 


أحـ ـس أدم بمدى أنزعاجها من رؤيته ، خاصة أنها عادت تنظر للبحر ، كأنها بإنتظاره أن يتركها وشأنها ، ورغم ذلك ظل مكانه ولم يكن بنيته أن يترك مكانه حتى لو كانت منزعجة ، فوضع يـ ـديه بجيبى بنطاله وغرز أصا بعه فى الرمال الرطبة وهو يقول بهدوء مميت :

- أنا كنت بتمشى وشوفتك قولت أسلمك عليكى ، شكلك مضايقة بعد ما شوفتينى ، ومش عارف ليه من أول ما اتقابلنا وأنتى زى ما تكونى عايزة نتخانق سوا 


شل الحرج صوتها ، خاصة أنها بدأت هجومها مبكراً ، ولا تعلم لما صارت بتلك الفظاظة كلما تحدث إليها رجلاً أو شاباً ، كأنها تريد أن تصب جام غضبها على كل من يقابلها ، خاصة أن أدم منذ أن قابلها وهو لم يخفى نواياه بأنه يريد مغازلتها ، وربما إمتناعها عن إعطاءه أى فرصة ليزيد من أقواله ، جعله يشعر بالتحدى 


قبضت على طرف حجابها ، الذى ساهم الهواء بأن يرفعه حتى كاد يغطى وجهها ، فردت قائلة بنبرة حملت بين طياتها الكثير من الحزن :

- سورى يا أستاذ أدم ، بس أنا قولتك أنا واحدة متجوزة ، ولو حد شافك معايا بنتكلم هيألف علينا حكايات ، إحنا فى مجتمع شرقى وكل خطوة محسوبة عليا فهمت 


أخرج أدم إحدى يـ ـديه وراح يعيد ترتيب خصيلات شعره ، التى عاث بها الهواء القادم من البحر فساداً وبعثرة ، فزفر قائلاً بإعجاب :

- أنا بحسد جو زك أن عنده زو جة زيك حياء 


إبتسمت حياء بدون مرح ، بل علقت غصة بحلقها وهى تهمس لذاتها بشئ من التفكه الساخر:

- صحيح اللى ميعرفش يقول عدس


لم ترغب فى المكوث طويلاً بهذا المكان ،ولا تريد أن تثار حولها أقاويل كاذبة ، وهى من تحمل كنية عائلة ذائعة الصيت بالمجتمع السكندري ، وأحياناً يتتبع الصحفيين أخبار كل فرد من العائلة ، لتضج الجرائد أو مواقع التواصل الإجتماعي بأخبار ربما تنافى الحقيقة 


فقالت وهى تهم بالمغادرة:

- عن أذنك يا أستاذ أدم


إستدار أدم ونظر لأثرها وهى تخطو تجاه سيارتها التى صفتها بمكان ليس ببعيد ، ولم تكلف نفسها أن تنظر إليه قبل أن تستقل السيارة ، إنتفض جـ ـسده فجأة وهو يشعر بتلك اليـ ـد التى حطت على كتـ ـفه 


رمق صديقه بحاجبين معقودين دلالة على أنه يشعر بالامتعاض منه ، وخرج صوته حاداً:

- أنت رعبتنى ، مش تتكلم علشان أعرف أنك قريب منى 


لوى صديقه ثغره قائلاً بسخرية :

- أترعبت ، دا على أساس أنك نسيت أن أنا معاك ولا علشان شوفتها خلاص توهت ومبقتش مركز فى حاجة ، بس عايز أقولك أنت بالنظام ده ، هتحط رجلك على أول طريق أخرتك إن شاء الله ، ويلا أهو نبقى أرتاحنا منك يا أبو عين زايغة ومش عاتق حد لا متجـ ـوزة ولا غير متجـ ـوزة 


وكزه أدم بصدره وهو يضحك ، لعلمه بأن صديقه يحذره من مغبة الاستمرار فى تفكيره ، وربما هو محق ولكنه يأبى الإعتراف بذلك ، فأشار إليه أن يتبعه وهو يقول بصوت حازم :

- يلا نرجع الفندق ، عايز أرتاح شوية ، وممكن تسكت عن كلامك ده ، أنا عارف بعمل إيه 


رفض صديقه أن يتحرك قيد أنملة قبل أن يخبره بما ينوى فعله ، إلا أن جذب أدم لذرا عه جعله بالأخير يسير بجانبه ، وكلما نظر لمحيا أدم الهادئ ، يعلم أن خلف هدوءه هذا ، عقل لا يكف عن التفكير ، ولكن ربما تلك المرة ستكون الخسائر فادحة ، فأدم كونه شاب غربى ، يرى كل أموره من منظور الحرية ، و لا يأخذ بمنطق أن هناك ضوابط تحكم المجتمع الشرقى ، حتى وإن حاول البعض التنصل من التمسك بتلك العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية ، فهناك الكثير مازال محافظاً على تلك الأعراف خاصة تلك العائلة التى ينحدر منها زو ج تلك الفتاة ، التى منذ أن قابلها وهو لم يكف عن الحديث عنها ، بل باتت لديه رغـ ـبة قوية فى التقرب منها ، ويتمنى رؤيتها بكل مكان يذهب إليه ، ولكن هناك شئ يحيره بتصرف أدم ، وهو لما يريد تلك الفتاة عن غيرها ، رغم أن حياته حافلة بالكثير من الحسناوات ،اللواتى كن أكثر جمالاً وجاذبية عن حياء ، فظل يسأل نفسه ما المميز بها عن غيرها ، لتجعل أدم يركض خلفها هكذا ؟

❈-❈-❈

بعد قضاءه عدة ساعات بإجتماع مع مدراء الفنادق الخاصة به ، أشار إليهم بالإنصراف ، فهو لم يعد لديه طاقة على الحديث أو أن يسمع شئ أخر عن أرباح الفنادق والتى زاد معدلها بالأونة الأخيرة ، ولما لا وهو يدير أعماله بقبضة من حديد ، ولا يقبل بأنصاف الحلول ، فإما أن تتم الأعمال على أكمل وجـ ـه ، أو لا يشرع فيها من البداية ، لذلك حرص مدراء الفنادق على تنفيذ أوامره خشية خسارة أحدهم لوظيفته التى تدر عليه ربحًا وفيرًا نظراً لسخاء عمران بمكافأة من يؤدى وظيفته على النحو المطلوب منه ، فإن كان إشتهر عنه سخاءه فى تقديم المكافأت ، فأشتهر عنه أيضاً كونه لا يرحم من يخطئ ، فهو لا يجادل أحد ، بل من يقدم على إرتكاب الخطأ ، من الأفضل له أن يترك وظيفته دون مجادلة 


- الحمد لله إن الإجتماع خلص ، دقيقتين كمان وكانت دماغى هتنفجر


قالها عمران وهو يمازح شقيقه معتصم ، وأرخى رابطة عنقه وزفر بإرهاق ، فمـ ـسح على وجـ ـهه وأسند ظهـ ـره لمقعده ، ولكن ما لبث أن مد يـ ـده وألتقط هاتفه بعد سماعه صوت وصول رسائل له ، فربما غزل أرسلت له اليوم صورة ميس ، مثلما اعتادت أن تفعل يومياً ، فهو من أوصاها بفعل ذلك 


أسند معتصم رأسه ليـ ـده وقال وهو يتنهد بعمق :

- وبعدين يا عمران أنت هتفضل مقضى حياتك تحب مراتك من بعيد لبعيد ، أظن كفاية كده 


مرر عمران يـ ـده على شاشة الهاتف ، فرد قائلاً وهو يمعن النظر بصورة زو جته :

- وهو أنا كنت قصرت يا معتصم ، ما هى اللى راكبة دماغها ، وأنا حاولت كام مرة أصالحها وهى بتزيد فى عنادها ، فخلاص أنا مش هذل نفسى ليها أكتر من كده حتى لو كنت لسه بحبها 


تغيرت ملامح وجه عمران على الفور ، بعد تذكره صد ميس المتكرر لمحاولاته لتصفية الخلافات بينهما ، فهو يقسم أنها لو كانت فتاة أو إمرأة أخرى ، لكان من أول محاولة تركها ولن يعود ليخطب ودها مرة أخرى ، ولكن هى ليست أى إمرأة ، بل هى ماسته ،والتى حاول من أجلها أن يتخلى عن القليل من كبرياءه ، ولكنه وصل لحد الإكتفاء من أمور دلالها ، كأنه أفسدها هو بمحاولاته بالعاميين الماضيين ، فمنذ أخر مرة ذهب بها لبيت جدها من أجل إعادتها منذ بضعة شهور ، ووجدها مازالت متمسكة بعنادها ومطلبها بأن يمنحها الطلاق ، أقسم على أنه لن يعيد الكرة مرة أخرى ، إلا إذا رآى منها ما يوحى برغـ ـبتها فى أن تعود إليه ولمنزله ، وكل هذا لم يمنعه بأن يوصى غزل بنقل كل تحركاتها داخل قصر النعمانى ، وهو يتكفل بأمر المشفى ، أو أى مكان تذهب إليه 


نقر معتصم بالقلم على سطح الطاولة وهو يقول بتفكه :

- خليكوا أنتوا الاتنين راكبين دماغكم لحد العمر ما يجرى ، وأبقوا اتقابلو فى الخمسينات ولا الستينات كده


رفع عمران ملف به بعض الأوراق وألقاه بوجـ ـه شقيقه وهو يقول بغيظ :

- ليك نفس تهزر كمان يا أخويا ، قوم يلا علشان أنا دلوقتى هروح أطمن على جدها فى المستشفى ومفيش مانع أفور دمها بالمرة بنت النعمانى 


قال شق عبارته الأخير بمكر ودهاء ، خاصة أنه مازال متذكراً كيف تغيرت ملامح وجـ ـهها عندما ذهب للمشفى لزيارة جدها بعد علمه بما حدث ، وعلى الرغم من أنهما لم يتحدثان سوياً ، إلا أنه شعر بمدى أنزعاجها برؤيته يتحدث مع إحدى الممرضات


ما أن إستقام معتصم بوقفته ليرافقه للمشفى ، وجدا السكرتيرة تطرق الباب وتلج منه وهى تخبر عمران بشأن أن هناك ضيفة تريد مقابلته ، نظرا عمران ومعتصم للسكرتيرة ، فأخبر عمران شقيقه بأن ينتظره بمكتبه ، حتى يرى من تكون تلك الضيفة التى تريد رؤيته ، فخرجا من غرفة الإجتماعات وذهب عمران لغرفة مكتبه 

وجد إمرأة تقف أمام النافذة وتوليه ظهـ ـرها ، فحمحم قائلاً بهدوء:

- أهلاً بحضرتك أنا عمران الزناتى خير كنتى عيزانى فى إيه 


إستدارت إليه المرأة وما أن رآها إتسعت حدقتيه ورمقها بذهول وصدمة ، فقال بصوت خرج خافتاً من دهشته برؤيتها :

- ليالى معقولة أنتى 


إبتسمت ليالى وأزاحت شعرها خلف أذنيها بسعادة لم تنكرها قسمات وجـ ـهها بأنهما تقابلا مرة أخرى ، حتى أنه لم ينساها أو ينسى إسمها ، فتقدمت بخطواتها منه ومدت يـ ـدها لتصافحه وهى تقول بإبتسامة عفوية صادقة:

- أزيك يا عمران ، متتخيلش أنا سعيدة قد إيه أن أنا شوفتك تانى 


أربكته الصدفة بأنه عاد وألتقى بها مرة أخرى بعد إختفاءها المفاجئ ، فصافحها بهدوء ودعاها للجلوس متسائلاً بإلحاح طفيف :

- ليالى أنتى كنتى فين ده كله بعد ما سابتى الشقة 


جلست ليالى على المقعد المقابل له وضعت ساق على الأخرى ، ولم يمنع عمران نفسه من تأمل هيئتها الجديدة عليه كلياً ، فهى صارت أشد أناقة بثيابها الثمينة وتلك الحُلى الماسية التى تزين عنقها وأناملها ومعصمها الأيسر 


غامت عيناها وهى تسرد له كل ما حدث لها مؤخراً:

- أنا بعد ما سبت الشقة مكنتش عارفة أروح فين ، بس لقيت مطعم إشتغلت فيه ، كان فى راجل سويدى من أصل مصرى بيتردد على المطعم ، عجبته فعرض عليا الجو از وافقت قولت أتجـ ـوز بدل ما أتمرمط ، اتجـ ـوزنا وسافرت معاه على السويد ، كان راجل غنى بس أكتشفنا أن عنده مرض خطير وللأسف أتوفى بعد كام شهر من دخوله المستشفى ، وورثت أنا كل أملاكه ، بس بعت كل الأملاك دى ورجعت إسكندرية مكنتش حابة أقعد فى بلد غريب ، فحولت كل الفلوس على هنا وفكرت إن أفتح مشروع سلسلة مطاعم وقولت إن أنت أكتر واحد هتقدر تساعدنى وخصوصاً أن عندك فنادق ومطاعم وعارف فى شغل البيزنس ده كويس 


أنهت حديثها وأخرجت من حقيبتها علبة سجائرها ومدت يـ ـدها له بها ، ولكنه رفض دعوتها بتهذيب ، فسحبت هى سيجارة وأشعلتها بقداحتها ومن ثم وضعتها بالحقيبة ، لكى تمنح نفسها وقت كافى قبل سماع رده ، فلا شئ دفعها للمجئ سوى أنها كانت تريد رؤيته ، وتلك المكانة التى تركها بقلبها ، لم يستطع أحد المساس بها حتى زو جها الراحل ، والذى لم تجعله يشعر بيوم بأن هناك رجل غيره يملك قلبها ، ولكن عمران مازال مهيمناً ومسيطراً على ذلك الجانب الأنثوى الضعيف منها ، والذى لم تكن تعلم بوجوده إلا بعدما رآت أفعاله معها 


رد عمران قائلاً بهدوء كأنه يتحدث مع أحد عملاءه :

- الموضوع عايز تفكير كويس يا ليالى وعايز حد يكون بيفهم فى البيزنس اللى من النوع ده ، علشان تتجنبى الخسارة وتقدرى تحققى أرباح من المشروع ، يعنى مش مجرد فكرة وفلوس بس 


دعست سيجارتها بمنفضة السجائر ، وهزت رأسها بالموافقة وقالت بعدما أسندت ظهـ ـرها للمقعد :

- أنا مش طالبة منك موافقة دلوقتى ، يعنى فكر براحتك وهنتظر ردك ، أنا مقدرش أامن حد على فلوسى غيرك أنت ، أنا همشى دلوقتى وأتمنى أسمع ردك فى اقرب وقت ودى الكارت بتاعى فيه نمرة تليفونى وعنوانى ، سلام يا عمران 


ناولته بطاقتها التعريفية وتركت مقعدها تتأهب للمغادرة ، بعدما شددت على نطق إسمه بصوت أنثوى رقيق ، مما جعله يزدرد لعابه ، كونه يعلم كيف كان هوسها به ، بل أنها تجرأت مرة وطلبت منه أن يتزو جها ، ولا يعلم هل سيكون من الحكمة أن تعود ليالى لساحة حياته مرة أخرى ، خاصة أن الوقت الحالى صارت الأمور بينه وبين زو جته متأزمة للغاية ، ولكنه عاد وتذكر أنه قادراً على الفصل بين عمله وحياته الخاصة ، وإن كان من قبل إستطاع ردع رغـ ـبة ليالى به ، فلن يجد مشقة بفعل ذلك ، إذا عادت وفكرت به بشكل يتنافى مع كونها تريد مساعدته بشأن العمل 


- مع السلامة يا ليالى

قالها عمران وهو يرافقها إلى باب غرفة مكتبه ، وبعد أن خرجا ووقفا أمام الباب ، دقق معتصم النظر بها بحاجبين معقودين بعدما صافحت شقيقه ، فهو لم يرى تلك المرأة من قبل ، وهو يعلم خير العلم بأن عمران ليس ذلك الرجل الذى تربطه صداقة بأى إمرأة كانت ، بل دائماً كان جافاً بمعاملة النساء قبل زو اجه ، حتى بعدما تزو ج ، أقتصرت عواطفه ومشاعره على زو جته فقط ، وبعدما حدث ما حدث بينهما ظل عمران وفياً لهذا الحب الذى يكنه لميس ، ولم يدع أى إمرأة أخرى تستميله إليها ، فبعدما تركت المكان ، عاد ينظر لشقيقه ينتظر تفسيره لوجود تلك المرأة هنا ، أو ماذا تريد منه ؟ ولكن عمران أرجئ الحديث معه بهذا الأمر ، لحين عودتهما من المشفى بعد أن ينتهيا من زيارة رياض النعمانى ، ومن داخله يعلم أن تلك الزيارة لن تقتصر على الإطمئنان على الأحوال الصحية لكبير عائلة النعمانى ، بل لكى يمتع عيـ ـناه برؤية تلك الشقراء ، ولن يجد ما يمنعه من أن يثير غضبها قليلاً ، فكم تبدو شهية وهى ثائرة

تابع قراءة الفصل