-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 5 - 1

 رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني
من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب
الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق



رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

الفصل الخامس 1

ج٢–٥-" حلم طال إنتظاره "




فتلك الدموع التي ذرفها في جنازة عمه ، لم تكن دموع حزن على فراقه ، بل لأنه ذهب مساء أمس إلى ذلك المشفى الذي انتقلت إليه ياسمين بعد الحادث ، وبسؤال الممرضة عن الفتاة التي كانت تقيم بغرفة العناية الفائقة أخبرته أنها توفيت في الصباح ، ولا يزال يتذكر كيف كان حاله بعد أن تلقى نبأ وفاة حبيبته التى لم تكن تعلم بوجود حبيب مغرم بها ، وتمنى منها نظرة واحدة ، فكأن أحدهم شق صـ ـدره و سحب قلبه وضغطه بقوة حتى نزفت آخر قطرة دم منه ، ولم يعد قادرًا على ضخ الدم بعروقه مرة أخرى

كم كان هذا الشعور بفقدان الحبيب قاسياً ، إلا أنه شعر الآن بفداحة أفعاله مع أخته وزو جها ، وهو الذي استنكر بكائها وحرصها على رؤيته ولو لثوانٍ معدودة عندما أمرها بتركه ، فهو الآن يتجرع من كأس الألم ، وربما هى لديها فرصة لعودة زو جها ، أم هو فلن يكون قادرًا على رؤية حبيبته ، فدوى صوت بكاءه لتذكره بأنه فقد حبه الأول قبل أن يرى النور، على الرغم من يقينه بأنه كان حب مستحيل ، ولكن كانت روحه البائسة تبحث عن أي حل أو مخرج للعيش بالقرب منها

 

أنت بتتكلم عن مين يا ديفيد ومين ياسمين مش فاهمة منك حاجة

قالت حياء بتعجب من حاله وقوله ، وعلى الرغم من شعورها بالضيق منه ، إلا أن ذلك لم يمنعها من الجلوس بجانبه ، فما أن مدت يـ ـدها لتربت عليه ، وجدته يلقى برأ سه على كتفها ليكمل بكاءه ، فأرتجفت حياء لا إرادياً ، فتلك هى المرة الأولى لها ، التى تسرع بتخفيف الضيق عن شقيقها ، على الرغم من حذرها بالتعامل معه ، كأنها بعض الأحيان تنسى بأنه شقيقها ، ويرجع ذلك لإختلاف عقائدهما ، وشعورها بأنها إذا أقتربت منه ستقترف ذنباً 

 

فرد ديفيد قائلاً بصوت متحشرج :

دى بنت شوفتها وحبيتها يا حياء كنت مستعد أعمل أى حاجة علشان أقرب منها حتى أن أعتنق الإسلام ، بس هو حرمنى منها زى ما حرمك من جو زك ودمر حياتنا إحنا التلاتة حتى بنته عانت من جبروته لما حرمها من حبيبها ، أنا مش قادر أقعد فى إسكندرية تانى أنا هرجع صقلية ولو عايزة تعالى معايا أنتى وبيرى ، محدش هيفهم الوجـ ـع اللى إحنا التلاتة فيه غيرنا 

 

لم تفعل شئ سوى تطويق كتفيه وبكت على بكاءه ، فكلاهما يبكيان على أطلال ذلك العشق ، الذى تم حرمانهما منه قبل أن ينعمان به ، ولكنها لن تستطيع أن تغادر البلاد ، فهى تأمل أن يعود إليها حبيبها بالقريب العاجل 

 

فإبتعدت عنه وجففت وجنتيها وردت قائلة بهدوء:

أنا مش هقدر أسافر يا ديفيد ، مقدرش أسيب إسكندرية ، أنا حياتى كلها هنا حتى لو مكنش راسل معايا ، بس مقدرش أسيب أى مكان فيه ذكرى جمعتنى بيه ، جايز فى يوم يرجع تانى ونتعاتب ، على الرغم من أن زعلانة منه على اللى عمله من غير تفكير ، بس مستنية اللحظة اللى يرجع فيها وأشوفه تانى واقف قصاد عيني 

 

أسند ديفيد ظـ ـهره للأريكة وأعاد رأ سه للخلف وحدق بالسقف ، ومازالت عيـ ـناه تفيض بالدموع ، فحتى وإن كانت شقيقته أو إبنة عمه سترفضان السفر معه ، سيغادر هو لصقلية بأقرب وقت متاح لديه ، فإن طالت إقامته هنا ستزيد ألامه وجراحه ، لذلك يجب عليه أن يرحل عن الإسكندرية 

 

رآى شقيقته تهم بالمغادرة ، فأصر على إيصالها لمنزل والد زو جها ، قاد سيارته حتى وصل لمنزل رياض النعمانى ، وظنت حياء أنه سيغادر ما أن يقوم بتوصيلها للمنزل ، ولكنه ترجل من السيارة وأصر على مقابلة رياض ، وتعجبت حياء من إصراره بمطلبه ، ولكنها دعته للدخول 

فوصلا لغرفة المعيشة التى يتخذها رياض مجلساً له لمقابلة ضيوفه وزائريه ، رفع عيـ ـناه ورآى ديفيد يأتى خلف حياء ، فقطب حاجبيه وعصفت ملامح الضيق وجـ ـهه ، إلا أنه لم يفه بكلمة ، فتقدم منه ديفيد حتى جلس على أحد المقاعد القريبة منه ، وأنتظر رياض أن يبدأ حديثه ، إلا أنه وجده جالساً يفرك يديه بتوتر وإرتباك 

 

فخرج أخيراً عن صمته وهو يقول بندم :

رياض باشا أنا جيت علشان أعتذر لك على كل حاجة حصلت منى فى حق راسل او حق حياء أو اى حد منكم ، عارف أن أسفى وندمى مش هيفيدوا بحاجة ، بس أنا كمان كنت مخدوع وأنضحك عليا من صغرى ، عارف أنك ممكن متكونش طايق تبص فى وشى وليك عذرك ، بس محبتش أمشى قبل ما أقول كل اللى عندى وأن عمى أدريانو هو السبب فى قتل بابا وماما واخواتى وكمان قتل ابنك وجدى ومراد الزناتى وهو اللى وقع العيلتين فى بعض وأنا بعت ايلين المزيفة علشان تنقلى اخبارك ده غير ان عذبت راسل فى السجن فى إيطاليا ، وأنا راضى بأى حكم هتقوله خلاص حياتى مبقتش همانى ولا فارقة معايا 

 

إنتظر ديفيد ثورة رياض أو حياء بعد ما سمعاه منه ولكنهما جالسان بهدوء ولا يبدو على محياهما التأثر بما قاله ، فأزاحت حياء يـ ـدها عن وجنتها وردت قائلة بهدوء:

إحنا عارفين كل اللى بتقوله ده يا ديفيد ، عارفين من ساعة ما انا رجعت معاك من تايلاند وسمعت ادريانو كان بيتكلم مع حد على موت وجدى ومراد و أهلنا وانه بس سايبنا علشان كل الأملاك بإسمنا وفى حال إحنا اتقتلنا ومومتناش موتة طبيعية كل الأملاك هتضيع عليه ، علشان كده مقدرش يعمل فينا حاجة كان بس بيهددنا بكلامه علشان نخاف ، بس أنا لما عرفت قولت لعمى رياض على كل حاجة ، وكمان كنا متفقين مع الشرطة علشان نوقعه ، وفى ظابط قابلته وهو اللى عرض عليا أن أوقع أدريانو وكنت بشتغل معاه وأنت سهلت الموضوع أكتر لما روحت وسلمت التسجيلات والأدلة اللى تدين أدريانو وكمان انقذت نفسك لأن انت كمان كان ممكن يتقبض عليك ، لأن الظابط كان مفكر أنك دراعه اليمين وهتمسك المافيا من بعده ، فلما أنت اللى ساعدت الشرطة بالتسجيلات ، ضمنت سلامتك وسابوك 

 

رفع ديفيد حاجبيه تزامناً مع فتح فمه بإندهاش ، فشقيقته على علم ودراية بكل شئ منذ البداية ، وهو من كان يظن بأنها ستصاب بصاعقة لعلمها بكل تلك الحقائق ، فهى تعلم كل شئ عن مقتل والديهما وأشقاءهما ، بل قبل علمه هو بهذا الأمر ، ولم تكتفى بذلك بل تحالفت مع والد زو جها على أن يثأرا من أدريانو ، فكم يشعر هو الآن بالغباء وأنه ضيق الأفق ، لظنه بأن شقيقته ما كانت إلا فتاة مغلوبة على أمرها ، وأنها لم تستطع الدفاع عن نفسها أو زو جها لخوفها من بطش أدريانو ، ولكنها  كانت بالحقيقة تحيك لهما مفاجأة ، كان سينال هو منها نصيبه ، لولا أن ثار قلبه فجأة لعلمه بما لاقته محبوبته ورغب فى الثأر لها    

 

رمق ديفيد شقيقته وقال بصوت حانى :

أنا دلوقتى مش خايف عليكى يا حياء ، لو أنا سافرت 

 

نظر رياض لحياء ومن ثم نظر لديفيد قائلاً بإصرار وتشجيع لزو جة ولده :

حياء ميتخافش عليها وهى بـ ١٠٠ راجل ، وأنت متخافش ولا تقلق عليها دى دلوقتى مدام حياء راسل النعمانى ، اللى هيتعملها ألف حساب من كبير وصغير وخصوصاً لما تبدأ تدير شركات النعمانى مع عاصم ، لأن مفيش حاجة تنسى الواحد همومه غير الشغل ، وحياء ذكية وإسمها هيلمع فى عالم البيزنس ، مش كده يا حياء 

 

أماءت حياء برأسها بهدوء ، فرياض أتخذ ذلك القرار ، رغـ ـبة منه فى أن تترك حزنها جانباً ، لعل العمل يلهيها عن التفكير بما حدث لها مؤخراً ، على الرغم من عدم يقينه بأن حيلته تلك ستفلح بجعلها تنسى حزنها مؤقتاً ، حتى يعثر على ولده الهارب 

 

فقال ديفيد بإعجاب :

فعلاً كلامك صح يا رياض باشا ، حياء أختى ميتخافش عليها 

 

فهو أيقن الآن مدلول حديثها له ذات مرة بأنها ليست ضعيفة أو تفتقر إلى الحيلة ، بل أنها قادرة على فعل ما يعجز عقله عن إستيعابه وكل هذا من أجل ذلك الرجل ، الذى وقعت بعشقه ، ونصبت نفسها حارسة له ولإبنته ، بل كانت جيشه الوحيد ضد تلك المؤامرات التى كانت تحاك له بالخفاء ، ولكن ماذا نالت بالنهاية سوى أنها باتت بمفردها تواجه حزنها ويأسها ، ولكنه متيقناً أن من تفعل كل هذا من أجل أن تجعل أسرتها بمأمن من المكائد قادرة على تجاوز محنتها ، بل ستصبح أقوى من ذى قبل ، خاصة أنها الآن تعيش بكنف رياض النعمانى ، وهو من أشتهر عنه قوة الذكاء والحكمة وتخطى الصعاب ، فهو لن يخشى ترك شقيقته هنا إذا سافر لصقلية ، فهى ستكون أمنة بمنزل والد زو جها ، بل ربما إذا عاد للإسكندرية مرة أخرى ، سيجد شقيقته صارت من فتاة رقيقة ، لإمرأة قوية تجعل الجميع يحاذر بمعاملته لها خشية من غضبها وشراستها

--

ألحت عليه صغيرته بأن يصفف لها شعرها قبل خروجهم لتلك النزهة التى وعدها إياها صباح اليوم ، فبعد أن ألبستها وفاء ثوبها الجميل المغطى بنقوش ورود حمراء نافسته وجنتيها بالإحمرار ، أصرت أن من سيصفف لها شعرها هو أباها مثلما كان يفعل من حين لأخر قبل مجئ حياء ، فوضعت فرشاة الشعر بيـ ـده وجلست أمامه بطاعة ، كانت الفرشاة تجرى بين خصيلاتها الحريرية بسهولة ويسر ، يمنحها قبـ ـلة على وجنتها أو رأ سها من حين لأخر ، فعشقه لإبنته فريد من نوعه ، لا يشبه أى رابط من تلك الروابط الإنسانية التى تربطه بالمحيطين حوله ، والوحيدة التى إستطاعت منافستها بهذا العشق هى حياء ، فكأن كل منهما ملكت وريد من أوردة قلبه ، فإن كان نصف قلبه مازال حياً بوجود سجود قريبة منه ، فنصفه الأخر بطور الإحتضار 

 

أنتهى سريعاً من لملمة خصيلات سجود ، وقال باسماً:

خلاص يا سيجو خلصنا يلا بينا 

 

تعلقت يـ ـد الصغيرة بيـ ـده ، فلم يكتفى بذلك ، بل أنحنى إليها وحملها وخرج بها من غرفته وهبطا الدرج ووجدا وفاء بإنتظارهما للخروج لتلك النزهة ، المتمثلة بالذهاب للسينما ومدينة الألعاب وتناول العشاء بأحد المطاعم الفاخرة

 

بعد إنقضاء وقتهم بالسينما ومدينة الألعاب وحان تناول العشاء ، إصطحبهما راسل للمطعم ، وجلسوا على إحدى الطاولات ، وما أن رفع رأ سه ورأى تلك النادلة الحسناء ، إمتقع وجـ ـهه على الفور ، فما ذلك الحظ التعيس ، الذى يجعله يرى تلك الفتاة بكل مكان يذهب إليه

 

فأسرعت ساندرا بالإقتراب من الطاولة وإبتسمت قائلة بترحيب :

أهلا راسل ، ماذا تريدون من أجل العشاء؟

 

قطبت وفاء حاجبيها عن سبب علم تلك الفتاة بإسم راسل ، إلا أنها لم تملك الوقت الكافى لسؤاله ، إذا أسرع بإخبارها بأصناف الطعام التى يريدونها وذهبت على الفور 

فنفخ بضيق أنتبهت عليه وفاء ونظرت إليه بتمعن وتساءلت :

هى البنت دى تعرفك منين يا راسل ؟

 

دلك راسل جبهته كأنه شعر بصداع مفاجئ ورد قائلاً ببرود :

ماهى دى البنت اللى حكيتلك عليها انها دخلت البيت وافتكرتها حرامى وضربتها فى وشها 

 

أماءت وفاء بهدوء وسرعان ما جاءهم الطعام ، فلاحظت أنه يتناول طعام بعجالة ، كأنه يريد الذهاب من المكان بسرعة ، وعندما رفعت عيـ ـنيها وجدت تلك الفتاة تحدق به وهى تبتسم ، بل أنها ظلت طوال جلستهم تطارده بعيـ ـناها ، لذلك لم تبدى إعتراضاً عندما أخبرها راسل بضرورة العودة للمنزل 

 

وصلوا للمنزل وحمل راسل سجود التى غفت بنومها أثناء عودتهم ، فوضعها بالفراش وهبط الدرج ووصل للحديقة ، وبعد عشر دقائق تقريباً وجد وفاء تخرج إليه تحمل قدحان من القهوة ، فأخذه منها وأمتن لصنيعها لكونه كان بحاجة لها 

 

جلست وفاء قبالته على المقعد الخيزرانى ، إرتشفت من قهوتها ونظرت إليه قائلة بهدوء :

راسل مش ناوى بقى تقولى على اللى حصل ، أظن انا سيبتك وقت كافى ، ودلوقتى لازم نتكلم 

 

تنهد راسل بعمق وبدأ يقص عليها ما علمه عن حياء وعائلتها وغضبه المستعر منها لإخفاء الأمر عنه ومراوغتها له وأخبرها أيضاً بأمر تلك الفتاة التى أدعت كونها إيلين النعمانى ، فتركته وفاء يكمل حديثه للنهاية وبعد أن أنتهى من سرد أسبابه 

 

وضعت وفاء قدح القهوة من يـ ـدها ونظرت إليه بتفحص وقالت بصدق :

يعنى علشان حوار سمعته أصدرت حكمك على مراتك وقررت تهرب من غير ما تواجهها وتعرف الحقيقة وتعرف أسبابها إيه ، وده يبقى تصرف ناس عاقلين وطبعيين يا راسل ؟ ليه مواجهتهاش وسمعت منها 

 

إرتجاف يـ ـده الحاملة لقدح القهوة ، دليلاً واضحاً على أن الصراع الدائر بخلده ، ربما حان الوقت لأن يطفو على سطح لسانه ، فإلى متى سيظل يرجئ تلك المواجهة مع والدته 

 

رد راسل قائلاً بإبتسامة ساخرة :

ومين قالك إن أنا طبيعى يا ماما ، أنا مفيش حاجة فى حياتى مشيت طبيعى للنهاية من أول ما فتحت عينى على الدنيا دى وانا مشوفتش حاجة عدلة ، مع أن اللى يشوف الظاهر يقول اه ده دكتور مشهور وجراح شاطر وإبن أغنى أغنياء إسكندرية ومن أكبر عائلات الأثرياء ، بس الواقع والحقيقة أنا وأنتى عارفينها كويس ، وبالنسبة لمواجهتى لحياء صدقينى مكنش عندى طاقة أن أواجهها أو أواجه أى حاجة فى الفترة دى ، عارفة إحساس إن طاقتك خلصت حتى مش قادرة تجادلى ولا تناقشى وبتبقى بس عايزة تهربى ، هو ده كان إحساسى وقتها ، مكنش فى طاقة ولا صبر ولا حتى إن أخد وأدى مع حد فى الكلام ، أنا يا ماما بنى ادم لحم ودم ومش حجر ولا ملاك علشان كل مرة هقع فيها أحاول أنسى وأكمل بعديها ، عارف ومتأكد أن أخدت خطوة غلط ، بس صدقينى مقدرتش وعارف أن ده ضعف منى ، بس هى دى حالتى حالياً ، أنا واحد غيرى كان بعد كل اللى حصله فى حياته كان هيبقى مكانه الطبيعى فى مصح نفسى من كتر العقد والصدمات اللى فى حياته  ، نفسى يا ماما اصحى من النوم الاقينى فقدت الذاكرة ومش فاكر حاجة ، وكمان فى سبب تانى بحاول أداريه ومفكرش فيه وأفتكرت أن ممكن أكون غلطان فى تفكيرى بس للأسف طلع صح

 

لم تفهم وفاء ما يعنيه بخاتمة حديثه ، فتقطيبة حاجبيها انبأته أنها بحاجة لأن يستفيض بشرحه عن ذلك الأمر الذى لم يخبرها به ، فعلقت عيناه بالنظر لإحدى الشجيرات وقال بنبرة مغلفة بحقد أسود نابع من تذكره لتلك المأساة التى عانى منها بإيطاليا :

عايزة تعرفى أنا أقصد إيه يا ماما ، أنا هقولك ، قصدى أن للأسف عرفت أن أخو حياء هو اللى عذبنى فى السجن فى إيطاليا ، وأنه هو اللى كان عايز يقتلنى من كتر التعذيب ، وعرفت أن هو بأتفه الأسباب ، لما سمعته بيتكلم فى التليفون بالإيطالى وبيشتم نفس الشتايم اللى كان بيقولهالى ، فضل الصوت يرن فى ودنى وفكرنى بكل اللى حصلى هناك ، وإزاى مكانش بيشفق عليا ويوصلنى لحافة الموت ، ولما يسيبنى علشان يعالجوا جروحى ، مكنش بيصبر أن جروحى تلم وتخف ، لاء كان بيكمل فيا تعذيب ويفتح جروحى من جديد ، كل وسائل التعذيب البشعة اللى لسه سايبة أثرها فى روحى قبل جسمى لحد  دلوقتى ، والمصيبة كمان عرفت أن حياء عارفة بالموضوع ده ومقلتش وأنا بس اللى كنت بتمنى أشوف اللى عمل فيا كده علشان أدوقه من اللى أنا دوقته ، بس علشان خاطرها هى بعدت ، عارف أن ملهاش ذنب ، بس علشان متبقاش واقعة بين نارين ، مكنتش هقدر كل ما أبص فى وشها أفتكر اللى عمله أخوها فيا ، محبتش أن أاذيها من غير ما أحس ، وخصوصاً أن اللى حصلى فى إيطاليا كان أبشع شئ مر فى حياتى كلها 

 

طالعته بعينان دامعتان ، ومدت أناملها ومسحت تلك العبرة التى إنسلت من جفنيها ، فربتت على ساقه وقالت برصانة :

بس الهروب عمره ما كان حل يا راسل ، وأنك تسيب مراتك كده لا منها متجوزة ولا منها مش متجوزة ، لو حاسس أنك  مش قادر تكمل معاها خلاص سيبها تشوف حياتها ، هى لسه صغيرة وميرضيش ربنا أنها تفضل متعلقة على ذمتك وأنت بتقول أنك مش عايز ترجع تانى ، سيبها تشوف نصيبها مع حد تانى ، متبقاش أنانى يا راسل 

 

فإن كانت قسمات وجهه مازالت على حالها من سيمات الهدوء والإنصات باهتمام لحديث وفاء ، إلا أن هناك عاصفة ضربت فؤاده ، قادرة على إقتلاع كل جذور العقل والحكمة ، فتخيله فقط أن تكون حياء زو جة رجل أخر غيره ، ويمتلكها مثلما سبق له إمتلاكها ، لهو جنون مطبق ، بل بمثابة إصدار حكماً ذاتياً بإعدام قلبه وعواطفه وأن يعود لذلك السبات الثلجى الذى كان يحيا به قبل لقاءها 

 

فرفت جفونه مرارًا بعد سماع إقتراحها ، وزفر قائلاً بتيه :

أنا فكرت فى اللى قولتيه ده يا ماما ، بس كل ما أخد قرارى بأن أطلق حياء مبقدرش أنفذه ، بحس بالعجز أن أنفذ خطوة زى دى ، وجايز فعلاً أن ده الحل لعلاقتنا اللى إحنا الاتنين بقينا بنعانى منها ، بس مش قادر اتخيل إنها تشيل إسم راجل تانى غيرى ، جايز دى فعلاً أنانية زى ما بتقولى ، بس أنا لا عارف أطلع خطوة لا قدام ولا أرجع خطوة لورا ، جايز فى يوم أقدر أعمل كده ، وأفتح القفص للعصفورة علشان تطير بعيد عنى ، علشان حياء تستاهل الأحسن دايماً مش واحد حياته معقدة وكل ما يخلص من مصيبة يلاقى غيرها ، حتى لو كنت ببرر لنفسى الغلط اللى عملته فى حقها من أن سيبتها من غير ما أواجها وكمان الرسالة اللى سيبتهالها وعارف أنها أكيد أتسببت فى حزنها ، بس من جوايا عارف ومتأكد أن حياء تستاهل واحد أحسن منى ألف مرة ، وأنها لازم تعيش حياتها طبيعى مع واحد ميحاولش يجرحها ، وأنها تعيش سعيدة ويكون عندها أولاد ، حياء فعلاً لازم تبعد عنى يا ماما ومش لازم أبقى أنانى

 

رفع يـ ـده ودلك عنقه شاعراً بسخونة جلده أسفل كفه ، فتلك الحرارة لا تقارن بغليان دماءه ، فنهض من مقعده وإستطرد قائلاً بإرهاق

أنا دلوقتى حاسس إن أنا تعبان وعايز أنام عن إذنك يا ماما تصبحى على خير 

 

ولج للداخل ومن ثم صعد لغرفته ، وكأن حديثه مع وفاء نكأ جراحه ، فبالأيام الفائتة كان يحاول الظهور بمظهر اللامبالاة بما يحدث ، ولكن ما أن بدأ الحديث بينهما ، إتضح له الأمر من أنه واهمًا بشأن تفكيره ، ولكن ربما إذا عاد يمارس مهنته كطبيب ، سيساهم ذلك بأن يخرج من تلك الحيرة والتخبط بقراراته ، وستصير أموره أكثر إتزانًا ، فالفراغ الذى يعانى منه بوقته الحالى هو من يسلبه الراحة ، لكونه يقضى أوقاته بالتفكير

 

وقف أمام النافذة ليلقى نظرة على القمر ، ولكنه لم يجد سوى سُحب كثيفة تغطى السماء ، وكأن المطر بات وشيكاً ، وربما بالغد سيجد تلك الورود والزهور بحديقته ، قد أرتوت من قطرات الغيث الغزير ، فياليته هو الآخر يرتوى منه ، لعل بستان أمانيه والذى أحترقت به زهور الأمل والحياة ، يعود وينضح بالسعادة ، التى لم يكن له منها كِفلُ يوماً      

 

لم يكد ينتهى أسبوع أخر ، حتى بدأ راسل بالعمل فى المشفى المركزى التابع لتلك المقاطعة التى يقطن بها ، فتعجب مدير المشفى بالبداية كونه أنه علم أن راسل طبيب وجراح ماهر وشهير بموطنه ، بل أنه كان يملك مشفى أكبر من تلك المشفى التى سيعمل بها ، إلا أنه لم يشأ أن يخوض بأموره الشخصية أو أسبابه التى دفعته لترك كل هذا والمجئ لهنا 

 

أشار لإثنان من الممرضات بأن تعملا على نقل المريض لإحدى غرف الإفاقة وهو يقول بمهنية :

ضعوه بغرفة الإفاقة وما أن يفيق أبلغونى على الفور

 

لم يشعر بالملل أو الكلل من ممارسة مهنته كطبيب ، بل على النقيض ، كان يرهق نفسه أكثر بالعمل ، كأنه عاد يسير على تلك الخطى ، التى كان يتبعها من قبل ، فأحياناً صرامته وبروده مع المحيطين به ، جعل كثير منهم يحاذرون بتعاملهم معه ، فلا يراه أحد إلا وهو يلج غرفة الجراحة أو وهو خارجاً منها ، كأنه سيقضى بقية حياته بين جدران تلك الغرفة الباردة والتى تفوح منها رائحة الموت أحياناً 

 

فبعد إنتهاء يومه بالمشفى ، خرج قاصداً منزله ، ولكن فكر أولاً بشراء الحلوى والدمى من أجل صغيرته ، فذهب لأحد متاجر الدمى وأشترى ما يريده وعاد للمنزل ، فولج للداخل ولكن قبل أن ينطق بكلمة ، رآى ساندرا جالسة مع وفاء وصغيرته 

 

على الفور تركت وفاء مقعدها وأقتربت منه قائلة بصوت هامس:

الحمد لله إنك جيت دى عمالة ترطن من الصبح ومش فاهمة منها حاجة ، الله يسامحك جايبنى فى بلد مش بفهم هم بيقولوا إيه

 

قهقه راسل على ما قالته ورد قائلاً بتفكه :

مش فاهمة إيه بس يا وفاء ، أنتى بترضى تخرجى من البيت أصلاً

 

رفعت وفاء شفتها العليا وردت قائلة بإمتعاض :

أخرج وأقابل ناس لا أنا عارفة بيقولوا إيه ولا أنا عارفة أتكلم بلغتهم ، كان مالنا بس وإحنا كنا قاعدين وسط اللى شبهنا وفاهمينهم وفاهمنا

 

تابع قراءة الفصل