-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 8 - 1


قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية رحلة الآثام (ما طواه التامور وطمره) رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة منال محمد سالم






الفصل الثامن 
الجزء الأول

(اللعبة الحــقيرة)
❈-❈-❈



صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها، حاولت التغلب على ما يعتريها من مشاعر اللهفة والضيق بإلهاء نفسها بالانشغال بهذه الفسحة المفاجئة، على أمل أن يستريح عقلها ولو لبرهةٍ من التفكير في شأنه. ظنت "تهاني" أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة، لكونه خبير في هذا الشأن؛ لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة، ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيعٍ شتى، كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة، وسألته بحاجبين معقودين:

-هو احنا بنعمل إيه هنا؟

أخبرها بغموضٍ، ووجهه تداعبه ابتسامة شقية:

-هتعرفي دلوقتي.. اتفضلي.

ثم أشار لها بيده لتتحرك، فتبعته صامتة، إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية، أسعدتها المفاجأة السارة، وصعدت إليه بمساعدته. رغم اندهاشها من حسن اختياره إلا أنها استحسنته للغاية. ابتسمت تشكره في نعومة وهي تجلس مجاورة لحافة اليخت، ثم استطردت معترفة له:

-أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي، دي أول مرة، وفي يخت، بجد كتير عليا.

صحح لها "ممدوح" ما فاهت به بطريقة ماكرة ومراوغة لاستدراجها إلى طرفه في هذه المنافسة القائمة:

-ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.

أحست بشيءٍ من الحرج، وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوءٍ:

-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، كلك ذوق.

شعرت به يتحرك مبتعدًا، ليغيب عن أنظارها، فسحبت شهيقًا عميقًا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم، ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددًا وفي يده كأسًا مملوءة بمشروبٍ ما، ناولها إياه وقد تبسم قائلًا:

-اتفضلي.

تحفزت في جلستها، وسألته بترددٍ دون أن تمد يدها لتأخذه:

-إيه ده؟

تطلع إليها بغرابةٍ، فتابعت رافضة قبل أن ينطق موضحًا أي شيء لها، وعيناها تنظران إلى الألوان الممتزجة معًا:

-معلش، أنا مش بشرب.

ضحك في لطافةٍ، وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشًا:

-ده عصير فواكه، كوكتيل، إنتي فكرتيه حاجة تانية؟

زاد شعورها بالخجل، وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدما أخذت الكأس منه:

-أسفة، أصل افتكرت دكتور "مهاب" لما عزم عليا بشمبانيا.

تعمد وضع هذا الطابع الجدي على ملامحه وهو يسألها بنوعٍ من الترقب:

-وعملتي إيه؟

في التو أخبرته بلا تفكيرٍ:

-رفضت طبعًا.

جلس مجاورًا لها، وأردف في إيجازٍ:

-كويس...

أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد، وصدق حدسها عندما استأنف مسترسلًا بغموضٍ محير:

-أصله متعود يعمل دايمًا كده مع اللي يعرفهم...

من موضعه نظر إليها عن قربٍ، فرأى كيف تغيرت ملامحها، وغلفتها سحابة من الغمام، وإن ظلت هادئة، لا تعلق بكلمة. ابتسم وأكمل بنبرة موحية:

-وخصوصًا الجنس الناعم، ما هو معجباته كتير بقى.

شعرت بدمائها تحنقنٍ، بقدرٍ من الغليل يسري في عروقها، ويحتل كل ذرة في كيانها، ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه، تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض:

-وهو الصراحة مايتسابش، ألف مين تتمنى ترتبط بواحد زيه، مركز، وسلطة، ومال، وعيلة.

امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير، فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل؛ لكنه كان كالعلقم السقيم، و"ممدوح" لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها:

-بس هو مش بتاع جواز، أخره يقضي يومين حلوين مع بنت جميلة، شوية ويزهق، ويرجع يدور على غيرها، ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.

خفضت الكأس ويدها ترتعش، حاولت النظر إلى الأفق الأزرق الممتد على مرمى بصرها، وصوته يتخلل إلى أذنها ليخبرها بما أجج بداخلها مشاعر الضيق، والحنق، والغيظ:

-هو معذور، اتعود ياخد اللي عاوزه، طالما حط ده في دماغه، وبيقدم كل المغريات عشان يضمن إنها متفلتش من إيده.

أحست بتورية خفية في ختام جملته، ربما كانت هي المقصودة بهذا، فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعالٍ ملحوظ:

-وأنا مالي، هو حر في تصرفاته، أنا مش هحاسبه...

ازدادت أصابعها إطباقًا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها:

-وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.

ثبتت "تهاني" نظراتها عليه، وأنهت كلامها قائلة بحسمٍ غاضب:

-مش أكتر من كده. 

ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدًا لموضع إسناده، فتركته في الفراغ، فسقط في التو، وانسكب محتواه على السطح الخشبي، هبت واقفة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من تصرفها الأخرق، وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها؛ لكن "ممدوح" تدخل قائلًا وقد قام واقفًا:

-حصل خير، ما تشغليش بالك.

عاودت الجلوس وهي تطلق أنفاسًا بطيئة مختنقة بضيقها من بين شفتيها المشدودتين، لتتابعه بعدئذ وهو يتحرك من حولها ليحضر أحدهم لينظف الفوضى التي أحدثتها. أصبح كل شيء كما كان عليه قبل قليل، فاستطرد "ممدوح" مخاطبًا إياها بتحذيرٍ مباشر وهو مسلط نظره عليها:

-أنا عاوزك بس تاخدي بالك، ماتتخدعيش بالكلام الحلو.

صاحت به بحدةٍ:

-أنا مش عبيطة يا دكتور.

امتص غضبها بحنكةٍ، وعلق مرددًا بهدوئه الواضح، كما لو كان يمدحها بغزلٍ مستتر:

-مش قصدي أي إهانة في كلامي، بالعكس إنتي إنسانة ذكية، وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.

استقبلت مغزى عباراتها بتحفزٍ، وكتفت ساعديها أمام صدرها، لترد بوجه منقلب:

-ممكن نرجع، أنا حاسة إني تعبانة.

قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم، وقال متفهمًا:

-حاضر.

تركها بمفردها، وذهب بعيدًا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط، زحفت الدموع إلى عينيها رغم مقاومتها لهذا الشعور المخزي، فخاطبت نفسها وهي تخنق غصة مؤلمة تحك حلقها:

-يعني أنا زيي زي غيري، مجرد لعبة في إيده؟

اختفى ما ظنت أنه كان جميلًا بوجوده، لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها، وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية، راقبها "ممدوح" مستمتعًا بما أحرزه من تقدم ماكر في إفساد خطة رفيقه، فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
❈-❈-❈

بنوعٍ من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدما ترجلت من هذه السيارة الغريبة، أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر، كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكلٍ يومي إلى هنا، وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين عزز لديها مشاعر النقم الساخط ناحيتها، ظل هذه المشاعر الخبيثة تتغلل فيها رويدًا رويدًا إلى أن باتت تحقد عليها بشدة، مصمصت "ابتهال" شفتيها في تذمرٍ، وأرخت أصابعها عن الستارة لتنسدل على الزجاج مرددة لنفسها:

-الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.

شردت نظراتها في الفراغ، ودمدمت بنبرة مغتاظة:

-شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.

تنهدت مليًا لتضيف بعدها بقنوطٍ:

-يا سلام لو عندي نص حظها.

ثم سارت تجاه الباب استعدادًا لاستقبالها، ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها:

-إيه يا سيدي الدلع ده كله؟ مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك، لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!

هذا ما كان ينقصها حقًا، واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها، وتراقبها في كل شاردة وواردة، ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسموم؟ لذا هدرت "تهاني" صارخة فيها دون مقدماتٍ لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة:

-"ابتهال"، ملكيش دعوة باللي بعمله، وأحسنلك متركزيش معايا.

في التو تراجعت عن طريقتها السخيفة معها مبدية دهشة مستنكرة لحدتها، ومع ذلك كلمتها بحذرٍ:

-إنتي متعصبة عليا كده ليه بس؟ 

ما لبث أن تابعت بتلميحٍ مبطن لم تستسغه:

-ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده. 

أطبقت "تهاني" على شفتيها محاولة ضبط أعصابها؛ لكنها تأهبت مجددًا عندما نطقت الأخيرة بغير احترازٍ لتستفزها:

-بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو، ارسيلك على واحد.

انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالهجوم، وهي تلوح بيدها لها:

-ملكيش فيه، ومش من حقك تتدخلي في حياتي، ولا تملي عليا اختياراتي، أنا حرة، اللي أشوفه مناسب هعمله غصب عنك وعن أي حد، سامعة؟

كعاصفةٍ رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب بعنف خلفها، فانتفض جسد "ابتهال" في ذعرٍ مشوبٍ بالاندهاش، حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحيرٍ غريب:

-هي مالها دي؟

ثم هزت كتفيها في عدم اكتراثٍ، وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها:

-أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله، بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
❈-❈-❈


اضطرب نومها، ووجدت صعوبة في استدعائه، فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحية الاستغلال والخداع، خاصة مع تكرار كلمات "ممدوح" الأخيرة لها في عقلها، ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه "مهاب" خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي، معتقدة في نفسها –بسذاجة- أنها ذات تأثير قوي عليه؛ لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه، وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء، ومع زاد الطين بلة أيضًا سخافات "ابتهال"، فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف، حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدموع المتأثرة من عينيها، ورددت تلوم نفسها بصوتٍ محمومٍ خافت:

-يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته؟

اختنق صدرها أكثر، وغصت بالمزيد من البكاء، فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها، لم تطق هذه الفكرة مُطلقًا، كيف لها أن تنخدع بحماقةٍ لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل؟ تبللت وسادتها عندما تقلبت على جانبها، لتتساءل بحرقةٍ:

-دي بقت قيمتي عنده؟ واحدة رخيصة من الشارع!!!

كفكفت دمعها المسال، وقالت في نبرة عازمة محاولة بها لملمة ما تبعثر من كرامتها المهدورة عبثًا:

-أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.

سحبت الغطاء ووضعته أعلى رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها:

-أهوو درس اتعلمت منه!!

❈-❈-❈

بجسدٍ مشدود، وكتفان منتصبان، وقف "سامي" خلف مقعد أبيه بمسافة خطوةٍ، ينتظر في صمتٍ تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه، قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة مُلحة، لا يكف عن التفكير فيها أبدًا، أن يصبح وريث ذاك العرش، الوحيد المتحكم في إمبراطورية "الجندي"، ما لبث أن تبخرت أحلامه، حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج، تصلب في وقفته، وراحت حواسه تتأهب في تحيزٍ مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشديد، ونظراته للحدة حينما ولج إلى الداخل وفي يده حقيبة جلدية سوداء اللون، تحدث الأخير مهللًا بحماسٍ رغم أسلوبه المهذب:

-"فؤاد" باشا! والدي العزيز.

ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه، ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه:

-لسه فاكر إن ليك عيلة؟

لاذ "مهاب" بالصمت، وسار على مهلٍ قاصدًا مكتب أبيه الضخم، بينما استغل "سامي" الفرصة ليوبخه هو الآخر، كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده، فيتخذ موقفًا مناوئًا ومعاديًا له، فهتف به في تجهمٍ ساخط:

-ده مصدق طبعًا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته، مافيش رقيب عليه، ولا حسيب!!

تحولت أنظار "مهاب" إليه، رمقه بنظرة نارية، قبل أن يرد بهدوءٍ تشوبه سمة العنجهية:

-أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا "سامي".

تابع تقدمه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه، لم يبعد ناظريه عنه، وتابع بغرورٍ يليق به:

-أنا "مهاب الجندي"، وعارف يعني إيه إني أكون ابن "فؤاد" باشا "الجندي"!!

انحنى قليلًا واضعًا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين، وأكمل في رنة هادئة:

-وعشان أخيب ظنك، أنا مش مقضيها فسح، وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.

فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفاتٍ بها، استقام واقفًا، ثم خاطب والده بتوقيرٍ:

-اتفضل يا باشا.

زرَّ "فؤاد" عينيه متعجبًا وهو يأخذ منه الملفات:

-إيه دول؟

أجابه باسمًا في ثقة كاملة:

-ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامات اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.

بفمٍ مفتوح، وملامح مبهوتة، حملق "سامي" في شقيقه مصدومًا، حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدمة على قسماته عندما تابع توضيحه المتباهي:

-وده عقد شراكة مع مؤسسة (...) لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.

تطلع "فؤاد" إلى كل ملفٍ باهتمامٍ ممزوجٍ بالإعجاب، وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن، بينما استمر "مهاب" في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخباره:

-أما ده بقى...

لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته، حيث قاطعه ملتفًا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوعٍ من المقارنة:

-شايف أخوك، يا ريت تتعمل منه.

ازدرد ريقه بصعوبة، وقال واضعًا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه:

-أكيد يا بابا.

استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها "مهاب" من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير "سامي" الحوار لموضوعٍ آخرٍ بقوله النزق:

-كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.

رفع بصره إليه متسائلًا في دهشة مستهجنة:

-جواز!!

حينئذ تكلم "فؤاد" موضحًا:

-أيوه، أخوك شايف عروسة مناسبة ليك، فيها كل المواصفات المطلوبة.

سكت لهنيهة، لينطق بتريثٍ جعل من حوله يصاب بالصدمة، وعيناه مرتكزتان على وجه شقيقه:

-معلش يا "سامي"، أنا مضطر أرفض العرض بتاعك.

استشاط الأخير غضبًا مما اعتبره تمرده غير المقبول، وهاجمه في الحال:

-إنت عارف دي تبقى بنت مين؟!!

ثم حدجه بنظرة احتقارية مملوءة بحقده العميق تجاهه قبل أن يتم جملته:

-هي لولا إنها عاوزاك مكونتش تحلم تتجوزها.

رد عليه ببرودٍ تام، قاصدًا إهانته كذلك:

-ده لأن طموحك على أده.. زي مخك.

لم يتحمل ازدرائه بهذه الوقاحة، فصاح به بنبرة مرتفعة وهو يرفع إصبعه في وجهه مهددًا:

-اتكلم عدل معايا!!

تجاهله عن عمدٍ، واستدار مخاطبًا أبيه:

-اسمحلي يا بابا أفهمك وجهة نظري.

كان لا يزال "فؤاد" على هدوئه الحذر، فأردف وهو يسترخي في مقعده الوثير:

-أنا سامعك.

عدَّل "مهاب" من وضعية جلوسه، وأصبح أكثر انتصابًا بظهره وهو يستفيض شارحًا:

-أنا معروف عني برا إني دكتور ناجح، من عيلة كبيرة، ليها سمعة زي البرلنت، مش أي حد يقدر يناسبهم، فطبيعي أكون محط أنظار بنات كتير، وخصوصًا لو كانوا بنات الأمراء وأصحاب السلطة.

حانت منه نظرة جانبية نحو شقيقه الحانق قبل أن يعود للتحديق في وجه والده متابعًا بنبرة مؤكدة:

-وأظن دول مش أي حد، أنا بس بدور على واحدة فيهم تقدر تدي لعيلتنا، مش تاخد مننا.

ظهرت أمارات التفكير على وجه والده، فأضاف "مهاب" أيضًا، وقد لاحت على ثغره ابتسامة متغطرسة:

-فاعذرني يا "فؤاد" باشا لو كنت مأخر الجواز ده.

منحه والده نظرة غامضة، ومع ذلك استمر يقول بنفس اللهجة الثابتة والواثقة:

-أنا راجل عملي، وببص لقدام.

ظن "سامي" أن والده سيثور عليه، سيؤنبه، وربما يهدده بحرمانه من مزايا الانتساب لعائلة "الجندي" جراء معارضته للأمر؛ لكنه صعق كليًا عندما عنفه محولًا الدفة ضده، ليصبح في موضع تقصير:

-شايف دماغ أخوك، يا ريت تتعلم منه.

عندئذ نهض "مهاب" واقفًا، ألقى ببسمة متشفية ناحية شقيقة، ليعاود التطلع إلى أبيه متسائلًا:

-تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟

أجابه بالنفي المشروط:

-لأ، بس مستنيك على العشا.

هز رأسه في طاعة وهو يخبره:

-طبعًا، ليا لي الشرف.

مرة ثانية سلط نظره على شقيقه، ليرمقه بهذه النظرة الشامتة، ثم ودعه:

-سلام يا "سامي"!

بالكاد كبح الأخير نيران غضبه المستعرة بداخله، وتوعده في قرارة نفسه وهو يكز على أسنانه، ويكور قبضة يده المتشنجة:

-ليك يوم يا "مهاب"