-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 8 -2

قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية رحلة الآثام (ما طواه التامور وطمره) رواية جديدة قيد النشر





من قصص و روايات 
الكاتبة منال محمد سالم






الفصل الثامن  
الجزء الثاني
(اللعبة الوضيعة)
❈-❈-❈




هدأت خواطرها المزعوجة إلى حدٍ كبير بمرور عدة أيام، فكان إنهاك نفسها ما بين الدراسة والتدريب كفيلًا بإعطاء عقلها هدنة مؤقتة لعدم التفكير فيما يؤرقها، أو حتى في تقريع نفسها، فعادت إلى ممارسة نمط حياتها الروتيني بالتدريج. كانت "تهاني" على وشك المغادرة عندما خاطبها أحدهم من خلفها:

-كويس إني لاقيتك.

استدارت ناظرة إلى صاحب الصوت المألوف، فقالت بتعابيرٍ جادة، وبنبرة رسمية للغاية:

-خير يا دكتور "ممدوح"؟

تقدم ناحيتها وهو يحمل في يده عددًا من الكتب الضخمة:

-أنا عديت عليكي كذا مرة، بس مكونتيش موجودة.

بررت له بنفس الطريقة المتحفظة:

-أيوه، كان عندي آ...

لم يمهلها الفرصة للشرح، حيث قاطعها قائلًا، وعلى وجهه هذه الابتسامة الصافية:

-مش مشكلة، اتفضلي.

نظرت إلى ما يحمله باندهاشٍ متحير، ثم سألته:

-إيه دول؟

تحرك متجاوزًا إياها ليتجه نحو مكتبها، وضعهم بحذرٍ على سطحه، ونظر إليها موضحًا بهذا الوجه المبتسم:

-بصي يا ستي دي مراجع، وكتب متخصصة، هتساعدك في دراستك.

تبعته عائدة إلى مكتبها، ثم راحت تتفقد كل كتابٍ على حدا، وقالت في تعبيرٍ ذاهل وهي تجول بعينيها المتشوقتين بين أغلفتهم:

-دول إصدار حديث!!

أكد لها أيضًا بنظرة مهتمة:

-أيوه، ومحدود، مش مع أي حد.

تناقص التجهم من على محياها لتبرز ابتسامة صغيرة على شفتيها حين كلمته:

-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، أنا هحافظ عليهم زي عينيا.

رد بما يشبه النصيحة وهو يشير لها بسبابته:

-المهم تستفيدي منهم.

بلا تفكيرٍ أخبرته:

-أكيد، دول كنوز.

عرض عليها في لباقةٍ وقد تأهب للخروج:

-تعالي أوصلك في طريقي.

ترددت للحظةٍ، متذكرة كيف استغلت "ابتهال" الفرصة لتفسير الموقف على هواها، وبما يسيء إليها، لذا درئًا للمفاسد هتفت حاسمة الأمر بتعابيرٍ اكتسبت طابعًا جديًا مناقضًا لما كانت عليه قبل هنيهة:

-مافيش داعي تتعب نفسك، في عربية بتوصلني.

رأى كيف تغيرت ملامحها للرسمية، فاعتقد أن فسحتهما الأخيرة قد أصابت الهدف من ورائها، وأفسدت ما نما بينها وبين "مهاب" من ود وتقارب، لذا تعمد اللعب على نفس الوتيرة المحاذرة معها، وقال بعد نحنحة سريعة:

-مش حابب أكون بضغط عليكي، بس لو ده يريحك، فأنا معنديش مانع.

استحسنت تفهمه لموقفها، فاستطردت ممتنة:

-شكرًا على الكتب والمراجع.

لم تخبت ابتسامته المهذبة المرسومة على ثغره، وأردف وهو يهم بالخروج:

-دي حاجة بسيطة، عن إذنك يا دكتورة.

شيعته بنظراتها المتشككة إلى أن اختفى عنها، لتعاود المكوث بمفردها في غرفتها وهي شبه حائرة في شأنه. تساءلت بصوتٍ خفيض كأنما تفكر فيما يراود عقلها من أفكار متصارعة:

-يا ترى ده عاوز مني إيه؟!

❈-❈-❈

كان الوقت أوان العشاء تقريبًا حينما شعرت بالإرهاق، وبالنوم يزحف إلى جفنيها، لتشعر بثقل رأسها، وتبدأ في التثاؤب. فها هي عطلة أسبوع أخرى تمضيها بين الكتب والمراجع والملخصات، موهمة نفسها بأنها بذلك تقوم بتعويض ما فاتها، لتحقق نتائج طيبة في دراستها. ظنت "تهاني" أن ليلتها ستمضي على خير حينما استعدت لتأوي إلى الفراش؛ لكن كعادتها اقتحمت عليها "ابتهال" الغرفة لتفسد عليها سلامها النفسي بسؤالها المتعجب وهي تقضم قطعة من الخيار:

-إنتي هتنامي دلوقتي؟

ردت باقتضابٍ وهي تستلقي على الفراش بعدما أزاحت الغطاء:

-أيوه.

اقتربت من جانب سريرها، وسألتها وهي تلوك ما قضمته في فمها:

-مش هنسهر شوية مع بعض؟

جاوبتها بصوتٍ متكاسل:

-لأ.

جلست "ابتهال" على حافة الفراش، مجاورة لها، تتأملها مليًا بنظراتٍ طويلة غريبة، فقد جال بخاطرها بعد تفكير عميق أن تستفيد مثلها من صحبة الأثرياء، وتنال ما يخدمها وينقلها لمستوى آخر من الرفاهية والعلم، خاصة مع افتقارها لهذا النوع من علية القوم في قسمها التخصصي. لذا تعمدت أن تواصل الثرثرة بلا توقفٍ وهي تتناول ما تبقى من الخيار:

-ده إنتي حتى ما بترضيش تخرجي معايا!

نفخت في صوتٍ مسموع، ودمدمت بتأفف:

-مش فاضية.

لكزتها "ابتهال" في ساقها متسائلة في سخافةٍ، وشعورها بالغيرة الممزوجة بالفضول يتفشى فيها:

-بقولك إيه؟ أومال الدكتور إياه الحليوة مافيش أخبار عنه؟

لم تحبذ "تهاني" التطرق إلى سيرة "مهاب" نهائيًا، خاصة مع هذه المتطفلة المزعجة، يكفيها أنها استطاعت تجاوز ما عانته بصعوبة، لذا أولتها ظهرها مهمهمة في وجومٍ مقتضب:

-معرفش.

ألحت عليها في استنكارٍ سمج، رافضة تمرير الأمر دون التحري أكثر عن تفاصيله:

-معقولة؟ ده إنتي المفروض تمسكي فيه بإيدك وسنانك...

بجهدٍ عظيم حاولت "تهاني" سد أذنيها عما تتفوه به؛ لكن "ابتهال" تابعت مضايقتها باستفاضتها النزقة:

-تعرفي، أنا سألت عنه زمايلي، وقالولي إنه حاجة أبهة، في العليوي خالص، وأبوه باشا من بشوات زمان.

مرة ثانية وكزتها بخفةٍ في ساقها لتثير انتباهها وهي لا تزال تثرثر:

-ده إنتي تبقى أمك دعيالك لو ده حصل.

ضجرت، وفاض بها الكيل من سخافاتها الزائدة، فانتفضت من رقدتها، لتعتدل ناظرة إليها، حدجتها بنظرة نارية وهي تنهرها:

-مش عاوزة أسمع حاجة عنه خالص، فيا ريت تسكتي!!

لم يشبع ذلك فضولها الجائع لمعرفة أصل الموضوع وتفاصيله، فتساءلت بوقاحةٍ:

-ليه بس؟

هدرت بها بانفعالٍ مبرر وهي تدفعها بيدها لتجبرها على النهوض من جوارها:

-مايخصكيش!

بنفس الطريقة السخيفة المنفرة تابعت أسئلتها لها وهي ترمقها بنظرة ماكرة:

-إنتو اتخانقتوا ولا إيه؟

فقدت آخر ذرات تحملها، انتفضت ناهضة بتعصبٍ من على الفراش، وهي تصرخ بها:

-هو إنتي عاوزة تعملي حوار من غير حاجة؟

ثم أمسكت برسغها لتشدها بقسوةٍ فتجبرها على النهوض وصوتها لا يزال صارخًا:

-كفاية بقى، حلي عن دماغي، وقومي من هنا.

تحركت "ابتهال" مبتعدة عنها وهي تزم شفتيها مرددة بغير رضا:

-براحتك .. إنتي الخسرانة!

لكنها توقفت عند عتبة الغرفة مستطردة بسماجةٍ:

-صحيح، التلاجة معدتش فيها أكل كفاية، عاوزة فلوس أشتري بيها اللي ناقص.

اشتد بها غيظها منها، فعجزت عن تحمل المزيد منها، لذا انفجرت مفرغة فيها كامل عصبيتها المكبوتة:

-يعني أنا طول اليوم برا، ولما برجع بنام على طول، تقريبًا مابفتحش التلاجة دي خالص، وإنتي كل يوم والتاني هاتي فلوس؟ هو في إيه؟!!!

ردت ببرودٍ استفزها أكثر:

-مش احنا شركا؟

أخبرتها صراحةٍ وهي تضرب كفها بالآخر:

-لأ، خلاص، كل واحد في سكة.

قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ حائر:

-يعني إيه؟

رغم أنها لم تضع ذلك القرار في الحسبان قبل وقت سابق، إلا أنها شعرت بحتمية تنفيذ الأمر إراحةً لنفسها من ملاحقتها الخانقة لها، فأكدت لها ما سمعته بعزمٍ شديد:

-أنا من بكرة هدور على مكان أكون فيه لواحدي وبراحتي.

انصدمت من قرارها المباغت، واحتجت متسائلة في استهجانٍ:

-ليه كده يا "تهاني"؟ أنا زعلتك في إيه بس؟

لم تراوغ أو تجمل كلامها عندما أجابتها:

-ببساطة كده مش مرتاحة معاكي.

المزاح كان مستبعدًا في هذا الشأن، رأت "ابتهال" في عينيها تصميمًا عجيبًا على فعل ما انتوته بشكلٍ قطعي، مما هدد مخططاتها التي ترسمها لمشاركتها جزءًا من الترف الذي تحياه بمفردها، فاستعطفتها بدموعٍ زائفة:

-هو عشاني بس عِشرية حبتين؟ ده احنا المفروض نكون سند لبعض.

أجهشت بالبكاء المصحوب بنحيبٍ مرتفع وهي تلومها:

-حرام عليكي، كده تكسري بخاطري، ولا عشان بقيتي مسنودة من رجالة غريبة عننا!!

جملتها الأخيرة احتوت على تلميحٍ فجٍ غير مقبول أبدًا، انطلقت "تهاني" صوبها مدفوعة بحنقها، وراحت تدفعها دفعًا للخارج وهي تصيح بها:

-امشي من هنا، اطلعي برا.

ثأرًا لكرامتها ردت عليها "ابتهال" تتوعدها وقد توقفت عن ذرف الدموع فجأة، لتبدي لها نوايا غير طيبة تجاهها:

-ماشي، وأنا هقول الناس على اللي بتعمليه يا محترمة!

هدرت في ذهولٍ كبير:

-أنا بعمل إيه؟

ألقت عليها تهمتها بفجاجةٍ حتى تعاود التفكير مجددًا:

-كل يوم مع راجل شكل، والله أعلم بتعملوا إيه سوا.

انقطعت أنفاس "تهاني" في صدمةٍ جلية، بينما "ابتهال" تزيد في إرعابها بكلامها المهدد:

-تخيلي بقى لو أنا حطيت شوية بهارات على اللي بشوفه.

لتؤكد على تحذيرها الخطير استرسلت تنذرها بجديةٍ:

-والكل هيصدقني، لأني معنديش اللي أداريه ولا حتى أخاف إنه يضيع مني.

حينئذ قصف قلبها بقوةٍ من تهديدها الفارغ الذي لن يأتي عليها إلا بكل ما هو غير محمودٍ، فبرقت نظراتها، وأحست بدمائها تهرب من عروقها، ومع ذلك تحدتها قائلة بتشنجٍ:

-طب جربي تعملي كده وهايبقى آخر يوم ليكي هنا يا "ابتهال"!

وضعت يدها أعلى منتصف خصرها، ثم ساومتها بخبثٍ، وهذا الهدوء مستبد بها:

-وليه نعادي بعض من الأساس؟ خلينا زي ما احنا، وأنا يدوب هاخد حتة من التورتة اللي إنتي غرقانة فيها، ويا دار ما دخلك شر.

وقبل أن تفكر في رفض عرضتها رفعت يدها أمام وجهها، وأخبرتها بابتسامتها الظافرة:

-خدي راحتك، وماتستعجليش في الرد.

تركتها "ابتهال" على حالتها المصدومة، وغادرت، لتقوم "تهاني" بغلق الباب وهي ترتعش كليًا، ظلت تعبيراتها مصعوقة، وعيناها مذهولة. بالكاد تمكنت من التماسك وهي تسير شبه زاحفة بخطواتها نحو الفراش. أخذت تردد مع نفسها في توجسٍ شديد:

-دي لو عملت كده أبقى أنا ضعت على الفاضي!!!

❈-❈-❈

التنازل يبدأ بمرة تتنحى فيها المبادئ جانبًا، ثم يستمر ذلك في الحدوث تباعًا، كحبات العقد حينما تنفرط من رباطها، وتتناثر في كل اتجاه، ليتحول في الأخير لأمرٍ إلزامي على صاحبه! جاء "بدري" لزيارة زوجته في بيتها بعد تحديد ميعادٍ مسبق، جلسا معًا بالصالة، وبمفردهما، فتوهمت الأخيرة أنه أتى بالبشارة، ليسعدها بأخبارٍ سارة تخص إعلان موعد زفافهما؛ لكنه صدمها بمسألة سفره للخارج، فوجمت، وجفل قلبها. ابتلعت "فردوس" ريقها بصعوبةٍ، وسألته بتعابيرٍ شاردة، ونبرة مهتزة:

-طب وجوازنا؟

أجابها ببرودٍ تام:

-مافيهاش حاجة لما يتأجل شوية.

زحفت الدموع إلى مقلتيها، حتى بدا وجهه مشوشًا في عينيها، تجاهل ما تشعر به، وزفر معللًا لها رغبته:

-مش أحسن ما يبقى حالنا على أده، ده أنا هشتغل عشان أجيبلنا بيت يبقى بتاعنا لواحدنا.

حين رفرفت بجفنيها انسكبت عبراتها على صدغيها، لتبكي في صمتٍ مقهور، ورغم هذا لم يبدُ "بدري" متأثرًا بحزنها الجلي؛ لكنه حاول أن يظهر تعاطفًا غير موجود فيه، فربت على ذراعها في رفقٍ، وتابع:

-الحكاية مش هتطول، ده كام شهر بالكتير، ولو ما اتوفقتش هرجع تاني.

تفرس فيها بناظريه، وأدرك حينها أنه منذ اللحظة الأولى لم يشعر بالانجذاب إليها، حاول إرغام نفسه على تقبلها، وأكمل ما ظن أنه مناسب لشخص مثله لا يملك إلا القليل، فارتضى بها شريكة في حياته لن تشتكي فقره، ولن تطمع في تحقيق ما يفوق قدراته، ومع ذلك ظل هذا النفور سائدًا، لكن ما لبث أن ازداد تعمقًا به حينما لاحت هذه الفرصة الذهبية في الأفق، فكيف له أن يضيع ما أوشك على الظفر به مقابل التمسك بها؟ حضر من تأملاته الشاردة، لينعكس ضيقه على تقاسيم وجهه عندما خاطبته "فردوس" بحزنٍ: 

-طب ما تاخدني معاك، واهوو ناخد بحس بعض.

هتف منتقدًا ما رددته بحدةٍ:

-شيفاني يعني غاوي غربة وبهدلة؟

انتفض بدنها من صراخه رغم خفوت نبرته، فتنفس من بين أسنانه ببطءٍ ليضبط حاله، لم يرغب في إثارة المتاعب دون داعٍ، حك طرف ذقنه، وهمهم بنبرة لانت قليلًا:

-لما أرتب أموري، غير كده مش هاقبل على نفسي أبهدلك في بلاد غريبة يا بنت الناس.

داهمها الحزن أكثر، فخشي أن تنوح ويتضاعف بكائها، فتأتي والدتها لمحاسبته، لذا أضاف ملطفًا، ولو كان كذبًا:

-أنا مستغناش عنك. 

استسلمت مصدقة عذب كلامه، وقالت بصوتٍ مهموم:

-هاقول إيه غير أمري لله.

انتفخ صدره في ارتياحٍ بعدما أتم مهمته بنجاحٍ، ليعلق باسمًا في حبورٍ:

-تعيشي يا بنت الأصول.

ثم مال ناحيتها هامسًا لها قبل أن يهم بالنهوض:

-فهمي أمك بقى على الحكاية، وأنا هعدي عليكي تاني.

قام واقفًا، وودعها في الحال:

-سلام.

اصطحبته إلى الباب وهي تمسح بقايا دموعها براحة يدها، لتستدير دفعة واحدة فور أن أغلقت الباب لتنظر إلى والدتها التي بادرت بسؤالها:

-في إيه يا "فردوس"؟ قالبة سحنتك ليه؟!!

❈-❈-❈

مع انحدار الشمس نحو المغيب، كان كلاهما يقفان عند الجراج الملحق بالمشفى، أمام سيارته، في انتظار وصول العربة التي تقل "تهاني" إلى مسكنها، فالأخيرة قد أصرت على إعادة ما استعارته من كتب ومراجع إليه، لتنهي بذلك السبب الذي يدفعها لمقابلته. لاحظ "ممدوح" سرحانها غالبية الوقت، بالإضافة إلى قلة كلامها خلال محاولته استطالة الحديث، فاستطرد مستفهمًا منها:

-إنتي مش معايا النهاردة، في حاجة مضايقاكي؟

تنبهت من شرودها المحفوف بما يزعجها ويقلقها من نوايا "ابتهال" غير المعلومة لها، لكنها حتمًا لن تشارك مخاوفها معه. تصنعت الابتسام، وردت:

-لأ، عادي، شكرًا مرة تانية على الكتب، أنا ممنونة ليك.

وضع يده في جيب بنطاله، وعقب باسمًا:

-العفو، ولو احتاجتي أي حاجة أوعي تترددي تطلبيها مني.

قالت كنوعٍ من المجاملة:

-حاضر.

أملت أن تصل العربة في أي لحظة لتعفي نفسها من هذا الحرج، ومن إيجاد أي مبررات لتفسير موقفها الحذر معه، اندفعت ناظرة إليه بنظرة ضيقة عندما تكلم مرة أخرى في صوتٍ هادئ لكنه جاد:

-المهم، أنا كنت عاوز أبلغك بسفري.

سرت خفقة غريبة في قلبها، لأن ذكره لمسألة السفر أنعش ذاكرتها بما بذلت كل الجهد لنسيانه، سألته بوجه مصدوم:

-إنت هتسافر؟

أطلق زفرة بطيئة من جوفه، وعقب بلهجةٍ شبه منزعجة:

-إن كان عليا مش حابب، بس مضطر أرجع.

أبقت عينيها عليه، فأكمل بلؤمٍ مدروس:

-أنا لازم أطمن على الباشا "فؤاد".

ظهرت الحيرة في وجهها، فأعطاها التوضيح المطلوب، والذي كان متيقنًا أنه سيؤثر فيها:

-والد "مهاب".

أحست بغصة قاسية تحز في قلبها، قاومت انعكاس تأثيرها عليها، وحافظت على جمود ملامحها، إلا أن نظراتها نطقت بما لم يبح به لسانها. ابتسم في مكرٍ، وأردف:

-وهبعتله سلامك طبعًا.

تحرجت من نظرته الفاحصة لها، وقالت وهي تهرب من تحديقه المحاصر لها:

-شكرًا، المهم يبقى كويس.

زفر "ممدوح" الهواء عاليًا، ليضيف بعدها:

-أنا مش عارف هيعدي عليا الكام يوم دول إزاي؟

التفتت تنظر إليه في شيء من الاستنكار؛ لكنه أبدى أسفه النادم في التو:

-أعذري جراءتي شوية، بس أنا خدت على إني أشوفك كل يوم ولو لدقايق.

لعقت شفتيها، وهتفت مشيرة بيدها للأمام نحو حافلة صغيرة قادمة من على بعدٍ:

-عربيتي جت.

ودعها ويده ممدودة لمصافحتها:

-خدي بالك من نفسك.

مدت ذراعها إليه بقليلٍ من التردد، فأمسك بكفها بأطراف أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، ارتجفت من تصرفه المبالغ فيه، فلم يكترث، وسألها وهو مسبل عينيه تجاهها:

-في حاجة حابة أجيبهالك معايا وأنا جاي؟

سحبت كفها هاتفة بارتباكٍ:

-لا شكرًا.

همت بالابتعاد عنه؛ لكنه مجددًا اعترض طريقها ليعترف بنزقٍ زاد من ربكتها:

-هتوحشيني.

حذرته بنظرة مدهوشة:

-دكتور "ممدوح".

تراجع خطوة للخلف، وقال مطرقًا لرأسه:

-أنا أسف...

ما لبث أن ثبت نظره عليها ليتابع بتخطيطٍ مدروس:

-بس اتعودت أعبر عن اللي بحسه بصراحة للناس الغاليين عندي.

حافظ على تبسُّمه العذب وهو ينصرف تجاه سيارته:

-أشوفك على خير يا دكتورة.

لم تنطق بشيء، وأخذت تراقبه وهو يغادر المكان ليهاجمها هذا الشعور الغريب بالحيرة والتخبط، تساءلت مع نفسها في اضطرابٍ:

-هو بيعمل كده ليه معايا؟!!

❈-❈-❈

كان أول ما فعله عندما عاد إلى أرض الوطن، هو الالتقاء برفيق الدرب، وصديق السوء، فكانا على موعدٍ مع فتاتين من محترفات الإغواء، في منزله الخاص بمغامراته الجامحة، ليمضوا جميعًا سهرة مميزة، بها من المغريات ما يلهب الحواس، ويشعل الرغبات. قصَّ "مهاب" ما حاكه ببراعة ليجعل كفة الميزان ترجح لصالحه أثناء مواجهته مع أبيه في مقر عمله، فنال بلا عناءِ رضائه، وأوقع شقيقه الأرعن في مكره، فأصبح الأخير هو المقصر والملام بدلًا من تمجيده. كركر "ممدوح" ضاحكًا، وارتشف من كأس شرابه المسكر، ليردد بعدها في إعجابٍ كبير:

-يا ابن الإيه، ده إنت شيطان!

تركزت عينا "مهاب" على الفتاة اللعوب التي راحت تتمايل بدلالٍ كبير وغنج مثير في ثوبها القصير، لتقوم بإغرائه أثناء رقصها على مقربة منه، استرخى أكثر في جلسته، وخاطبه وهو يلتهم صاحبة القوام الفاتن، بنظراتٍ تزداد طمعًا لنهشها:

-عشان ما يلعبش على النغمة دي كتير، جملتين حلوين، دخلت بيهم على الباشا الكبير، على طول صدق واقتنع.

حين تمايلت بليونةٍ في محيطه، مد ذراعه بغتة تجاهها، ثم جذبها بقوةٍ من رسغها لتسقط في حجره، شهقت الفتاة متأثرة بخشونته القاسية، فكتم صوتها بقبلة عنيفة مطالبة بالمزيد، ليحيط بعدئذ جسدها بذراعيه، أصبحت كليًا أسيرته، ولم تظهر أدنى مقاومة له، تركته ينهل عدد لا بأس به من القبلات النهمة على أي موضع تطاله شفتاه. راقب "ممدوح" ما يفعله بنظراتٍ حادة، وعلق متهكمًا، وقد أخذت كؤوس الخمر تلعب برأسه:

-وإنت سيد مين يلعب بالكلام! أستـــــاذ!!

توقف "مهاب" عن تقبيل الفتاة حينما رأى الأخرى تنتظره عند الردهة، وهي شبه مستعدة لممارسة طقوس العشق الآثم معه، كانت وقفتها مائعة، واستثارتها حاضرة، فرمقته بنظرة تواقة متعطشة لفيض قوته، طرح الأولى عنه بجفاءٍ وكأنها نكرة، لتسقط عند قدميه متأوهة من الألم المباغت الذي ضرب جسدها، ليتحول صوت أنينها لضحكة مجلجلة، وقدم "مهاب" تداعب بطنها المكشوف، نظر لها بغير مبالاة، وقال وهو يتخطاها:

-خدها، أنا زهقت منها.

نهض "ممدوح" بتكاسلٍ من موضعه، لم يتمكن من الوقوف باستقامة، فقرر التمدد بجوار الفتاة على البساط، صاح هاتفًا بترحابٍ غريب وهو يزحف تجاهها:

-هدية ماترجعش يا صاحبي!

شدها إليه، فأصبحت لصيقة به، ثم رفع جسده ليعتليها، وأتونٍ متقد من الحرارة ينضح من كل خلية فيه، لم تقاومه هو الآخر، بل فتحت ذراعيها مستقبلة دفقات القوة بتلهفٍ وكأنها لأول مرة تختبر مشاعر اللهفة. أقبل عليها ظافرًا بمتعةٍ عابثة معها، إلى أن انطفأت جذوة الرغبة، وارتوى من نهرها الجامح. نبذها بعدما فرغ منها، وكأنها قطعة خردة لا قيمة لها، لينهض عائدًا إلى الأريكة، ملقيًا بثقل جسده المنهك عليها، مد يده تجاه الطاولة ساحبًا من علبة سجائره واحدة ليشعلها، وراح يطرد دخانها ببطءٍ.

بعد برهةٍ انضم إليه "مهاب"، وجلس في مواجهته وفي يده زجاجة الخمر، سكب البعض في كأسه، وسأله إن كان يرغب في مشاركته الشرب، فقبل في التو، ليشعل هو الآخر بعد ذلك سيجارة جديدة. نفث دخانها دفعة واحدة مستمتعًا بمذاق التبغ المخلوط بالخمر في حلقه، ركز بصره على "ممدوح" عندما سأله بلا تمهيد:

-ناوي على إيه مع الصيدة الجديدة؟!

لم يفهم مراده، فرد عليه متسائلًا:

-قصدك مين؟

بادله نظرة غامضة، محملة بالكثير قبل أن يجيبه بكلمة واحدة:

-"تهاني"!

قهقه ضاحكًا في استهزاءٍ، ليردد من بين ضحكاته ساخرًا:

-أنا فكرتك بتكلم عن حد مهم..

هدأت نوبة ضحكه، فتابع موضحًا بفتور:

-عمومًا هي مش في دماغي.

جاء تعقيب "ممدوح" معاتبًا:

-وده ينفع؟ تسيب الساحة ليا كده ألعب فيها لواحدي؟

نفض "مهاب" رماد سيجارته المحترق بهزة صغيرة من إصبعيه، وعلق بلا اهتمامٍ:

-خد راحتك، صحيح هي وردة حلوة، وعاوزة تتقطف، بس شعبي، على قديمه، بتاعة جواز وعيال، وده ماليش فيه.

اعتدل "ممدوح" في جلسته هاتفًا بتحفزٍ طفيف:

-ومين جاب سيرة الجواز؟ تلاقيك خايف لأقطفها قبلك!!

أخبره بغطرسة واثقة:

-إنت عارفني مافيش واحدة تستعصى عليا مهما كانت فين!!

ثم مط فمه قليلًا، وأضاف بغرور معروف به:

-و"تهاني" مش هتاخد في إيدي غلوة!

لم يبدُ "ممدوح" مقتنعًا بهالة السيطرة التي يحاول إبهاره بها، فاستخف به، مما جعله يزداد تحمسًا لخوض هذه المغامرة، فهتف يُعلمه بما قرره في التو:

-تراهني، هخليها تسلملي نفسها برضاها ومزاجها؟!!

تطلع إليه بهذه النظرة المستهترة، وعلق عليه بلهجةٍ شبه مقللة من شأنه:

-أيوه، بكلامك الحلو، وكاسك اللي يدوخ، أسلوبك معروف، وأنا حافظه كويس.

تحداه "مهاب" قائلًا بصوتٍ غامض ومثير:

-لأ، هغير التكنيك خالص، وهتشوف.

عندئذ تقوست زاوية فم رفيقه، والتصقت بها ابتسامة لئيمة، مطعمة بالتحدي، ليستطرد معلنًا قبوله الدخول في ذلك النوع من المراهنة الخطيرة: 

-مستنيك تبهرني 

يتبع




إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة ، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية