-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 26



قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى





رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 
الفصل السادس والعشرون


انقلب حال المشفى -الذي يعمل به "عز الدين"- رأسا على عقب، تسابقت الأقدام، وعلا الصخب وارتفع في المكان. عج الرواق الذي يحتوي على غرفة الكشف العاجلة التي تتواجد بها "زينة" بالكثير من الأطباء والممرضين، الذين سارعوا في المجيء للاطمئنان على زميلهم، وعلى زوجته التي كانت في حالٍ أسوأ منه، وانتقلت إلى غرفة منفصلة لإجراء الفحوصات النسائية اللازمة، لما نجم عن الحادث من نزيف مهبلي، بالإضاقة إلى الخدوش والكدمات متفاوتة الحجم والخطورة المتفرقة في جسدها، بينما تعرض "عز الدين" لالتواء في يده اليسرى نتيجة لسقوطه بكل حمل جسده عليها، وبعض السجحات والخدوش التي ملأت نفس الجانب من وجهه، لذا كان الاهتمام الأكبر -واستجابة لطلب "عز الدين" المستجدي- من نصيب "زينة". وقف "عز الدين" بالقرب من باب غرفة الكشف بالخارج، وهو يتنفس في تسارع شديد، تخوفا على كل من زوجته وجنينه برحمها، كانت دقات قلبه هادره، ضجيجها من شدة الخفقان كان يتردد في أذنيه، نظراته ظلت مثبتة على الباب، منتظرا بصبر نافذ، وقلق عارم خروج أي أحد من المتواجدين بالداخل ليطمئن قلبه، ويسكت صخب رأسه، وأثناء ذلك ظل يتضرع للمولى بداخله ألا يريه مكروها بأي منهما، في حين كانت الممرضة المجاورة له تطلب منه بتهذيب:


-لوسمحت يا دكتور عز، خلينا نفحصك ونشوف إيدك، لإن الواضح إن فيها كسر.


لم ينظر لها، وبقى على وضعيته المناظرة لباب الغرفة المنغلق، ورد عليها بلا مبالاة مخالطها خوفه الذي يتآكل بسائر خلاياه العصبية:


-هاتطمن على مراتي الأول.


لم تيأس من إقناعه، وقالت له في إلحاح متزايد:


-طيب حتى نعقم الجروح اللي في وشك.


التفت برأسه لها، وتشنج جسده، بعد أن فقد كامل القدرة على التحكم في أعصابه، صارخا بها بانفعال:


-قلتلك هتطمن على مراتي الأول.


انتفضت الممرضة من عصبيته المباغتة، وحالته المنفعلة التي تراه عليها لأول مرة، وأطرقت رأسها في حرج، بينما هو رفع يده السليمة، وفرك بها وجهه في ضيق من نفسه، ثم نظر لها بعدها واعتذر منها بصوت نادم:


-معلش أنا آسف، أعصابي مشدودة من قلقي.


ضمت شفتيها للحظة، قبل أن ترد عليه في تفهم:


-مقدرة الموقف يا دكتور، ربنا يطمنك على المدام.


هز رأسه في إيماءة بسيطة، ثم أراح ظهره على الحائط خلفه، ولم يكد يغمض عينيه وهو يردد في نفسه رجاوات ودعاوات لزوجته والجنين بأحشائها، حتى انتفض قلبه في صدره عندما استمع إلى صوت فتح الباب، آنئذ هرع نحو الطبيب الذي خرج من الداخل، وسأله في تلهف بالغ:


-خير يا أحمد، زينة حصلها إيه؟


رد عليه الطبيب "أحمد" بعد زفرة سريعة، مطمئنا إياه بوجه عابس:


-الحمد لله النزيف قدرنا نوقفه، بس..


لم يتابع عبارته، وأخفض نظراته عن عيني "عز الدين" مما ضاعف من قلقه، وراح يسأله بتوجس خيفة:


-بس إيه؟


اعتلى الأسف أمارات وجهه، وهو يخبره بحذر:


-حصل إجهاض.


نزلت كلمته كالصاعقة على قلب "عز الدين"، مما شعر بروحه تُسلب منه، شحب وجهه، وبدا في لحظة كمن فارق الحياة، في حين تابع الآخر على فوره، ليثبط من الحزن الذي تفشى في وجه زميله:


-بس ربنا بيحبكم، ومرضاش يكسر قلبكم، جنين واحد اللي نزل.


ناظره "عز الدين" بتيه، وقد انزوى ما بين حاجبيه بتفاجؤ وهو يسأله في صوت مهزوز:


-جنين واحد! هو كان فيه أكتر من جنين؟


قطب الطبيب جبينه في غرابة، ثم أجابه مؤكدا باستيضاح:


-ايوه، مدام زينة كانت حامل في توأم، ازاي معندكش علم؟ ده تقريبا المدام في الشهر الرابع.


وخزة استقرت ببن جنبات قلبه، لتشعره بألم مضاعف على فقيده، الذي أعلمه بوجوده رحيله القاسي، التمعت عيناه بدموع حبيسة، وقد زاغتا عن الطبيب، الذي أخبره في صوت لين وهو يربت على جانب ذراعه:


-ربنا يعوض عليك يا عز، وشد حيلك كده عشان مراتك، وأنا من رأيي بلاش تعرفها حاجة عن الجنين اللي نزل ده دلوقتي عشان مايحصلش مضاعفات، ولا قدر الله يحصل نزيف تاني ووقتها ممكن تخسروا الجنين التاني.


أومأ له وهو يبتلع غصة البكاء التي تمزق حلقه، من تحامله على نفسه، وردد بصوت مختنق:


-حاضر.


ضم الطبيب شفتيه في أسى، وربت على كتفه قبل أن يتحرك من أمامه، رأى البقية أن وجودهم غير محبب، خاصة مع رؤيتهم لحالته المذرية، وانهيار الوشيك لتماسكه المتزعزع، وفي تلك الأثناء من الأفضل تركه ينفس عن شعور خسارته لجنينه دون تطفل منهم، لذا بدأوا في الانسلال من محيطه شيئا في شيء، بينما كان هو كمن يوجد في عالم آخر، جلس على الكرسي بتيه عما حوله، بعدما شعر بارتجاف قدميه وعدم قدرتهما على حمله، تواترت الدموع من عينيه، وبدأت شهقاته في الظهور، دفن وجهه في يديه، ولم يعبأ بالأعين التي ربما تسترقى النظر له في حالة هوانه، وبكى على ما تعرضت له زوجته، وعلى جنين لم يعرف بوجوده إلا بعد مماته، ظل لعدة دقائق ينتحب بصوت تمزق حزنا، وفي لحظة رفع رأسه عن يديه، ونظراته حدقت بالفراغ أمامه، وقد انبجس بغتة في رأسه صوت أخيه المهدد عندما قال:


-يبقى انت كده بتعاديني، وانت متعرفنيش ولا تعرف عداوتي شكلها إيه.


بدأت الشكوك تساوره حياله، فالحادث الذي تعرضت له زوجته -تحديدا في ذلك الوقت- يدعو للريبة، ومع ذهاب فكره إلى احتمالية تدبير أخيه للحادث، حتى تطرق لذهنه كلمات "مجد" المحذرة، عندما أتى لزيارته في المشفى:


-عاصم مش سهل، اتقي شره وابعد عن طريقه.


حسن ظنه بمن حوله حاول صرف الشك عن رأسه، إلا إنه لم ينجح تلك المرة مع تردد صوت "مجد" حينما أضاف له:


-عاصم ملهوش عزيز، ومبيبقاش على حد أيا كانت درجة غلاوته عنده.


تلك الكلمات بالتحديد ضاعفت من شكه، فهو على علم بأنه ليس بعزيز له، ولا تشكل أخوته فارقا عنده، ما الذي سيمنعه إذن من إيذاء زوجته؟ لكي يلوي ذراعه عن طريقها، ويجعله ينفذ له رغباته، ويبتعد عن حياته، أعتصر عينيه بقوة، محاربا التصديق في تلك الاحتمالية، ولكن فشل مجددا فشلا ذريعا، عندما اندفعت إلى رأسه كالذوبعة تهديدات أخيه المقيتة، عندما تظاهر بالاكتراث به، حينما كان طريح الفراش في بيته، في فترة تعافيه من آثار اعتداء رجاله عليه، آتيا إليه حتى يعلم بنتائج فعلته المشينة، كانت عيناه تلتمع بالشر، وبغير أن يشعر بالذنب دمدم بكراهية واضحة في صوته، عندما وجده ما يزال على موقفه المعترض:


-يعني انت متعلمتش الدرس؟


ثم قوله التالي حينما جاءه ردا مغايرا لما يريد من "عز الدين":


-اللي عندي هيزعلك، واللي فات كان قرصة ودن بالنسبة للي جاي. 


كز "عز الدين" على أسنانه، وتهدجت أنفاسه في غليل مكتوم، وبدأ في التصديق بإنه من وراء حادث زوجته، وما جعله ييقن من شكه صوت تتابع تهديداته التي أخذت تتردد في سمعه:


-انت متعرفنيش يا عز، أحسنلك اعمل اللي طلبته منك، زعلي وحش وانت مش قده.


فتح عيناه وقد اشتعلت نظراته بغضب جحيمي، وفقد قدرة تحكمه بانفعاله، وآخر عباراته المليئة بالخسة تدوي بداخل رأسه:


-أنا عملت بأصلي معاك للآخر، وجيت لحد عندك، بس انت كده اللي اختارت، ومترجعش تندم على نتيجة اختيارك.


عند تلك النقطة وقد عماه شكه، واستقام واقفا بعد أن تشنجت سائر عضلات جسده، لن يؤثر الصمت تلك المرة، أو يسامح في حقه كالسابق، فإن كان هو المتضرر فيما مضى، فالضر قد مس زوجته وجزء من روحه كان ينمو داخلها تلك المرة، وعنده لا يوجد غفران لمن يلحق الأذى بعائلته، حسم أمره، وسار في الرواق المؤدي إلى خارج المشفى، وبداخله مع كل خطوة تزداد النيران اشتعالا، فالمسامحة لن تعوضه خسارته، أو تهدأ من فوران دمائه، وتطفئ حريق قلبه.



❈-❈-❈


ما زال رأسه يعج بالضجيج الذي أحدثته صخب الذكريات الماضية، الذي ظل يعيد الكثير منها في رأسه منذ الصباح، والتي حُفر وترسخ عن طريقها منذ صغره تأثيرات سلبية في نفسه، وجعلته إنسانا مشوشا، مليئا بالعُقد والاضطرابات النفسية، فرغم قوته الواضحة، إلا إنه لا ينكر ضعفه مهما صدر منه من أفعال ناطحة، حتى شخصيتة المهيبة، في الباطن تحوي شخصية اهتزازية، لا تستطيع أخذ القرارات المصيرية، أو حتى التفكير في حلول عقلانية، وحينها لا يسعه غير اللجوء إلى العنف والسادية، لموارة تخبطه، وعدم قدرته على إصلاح ما يفسده بسوء تفكيره. بعدما أُرهق من الجلوس، ومزاولة الأعمال الروتينية، في ظل تشوش فكره البالغ، وثب عن جلسته، وتوجه للوقوف أمام النافذة الزجاجية المتواجدة في مكتبه، كان المنظر الطبيعي الخارجي، من الحشائش الخضراء، والأشجار العالية، باعثا على بعض الهدوء في نفسه، ولكن صوت ضميره حال دون صفاء ذهنه، حيث إنه لم ينفك للحظة عن الصراخ به، وتنبيهه إلى أنه لم يعد كالسابق مسئول فقط عن نفسه، بل أصبح كل ما يقوم به من أفعال قميئة، ومساوئ بغيضة، ستعود بطريقة او بأخرى إلى زوجته وأولاده.


مهما حاول الهروب من الأمر الواقع، حقيقة أنه أصبح زوجا ووالدا لن تتغير، وبعد كل ما لاحظه على نفسه، وأيقن منه بشأن طريقة حياته المشينة، الحل الوحيد هو التغيير الجَدي، ليس ككل مرة حاول فيها وفشل، وأقنع نفسه أنه قادرا على محق الشرور من داخله بمفرده، تلك المرة يجب أن يكن هناك دافع، ورقيب، وناصح، إصلاح نفسه الحاملة لنفس الأفكار الخاطئة، والمبادئ الغير صالحة، لن يصلح نهائيا مهما كثرت المحاولات، التغيير يجب أن يتم بمساعدة خارجية، حاملة للوعي الكامل، والتفكير الصائب. بعد تفكير بالغ، اقتنع بأنه الحل الوحيد أمامه، والقاطع في نفس الآن، وما لن يستطيع مجددا العناد به، فإن ترك نفسه على حالها، سيطول أطفاله ما طاله من دمار، وكما تسبب والده في تشييد كيان قاسي ومُدمَر مثله، سيفعل المثل مع طفلين، والثالث أيضا إن كُتب له الحياة.


عاد من شروده إلى الواقع المحيط، عندما نفذ عبر سمعه الصخب الدائر خارج مكتبه، تحفز في وقفته، وظهرت علامات الغضب على محياه، وكاد يتحرك نحو باب المكتب، حتى يرى لمن تلك الأصوات المتداخلة، وما سببها، ولكنه وقف محله، عندما وجد الباب يُفتح والجا أخيه بهيئة يرثى لها، ومن خلفه كان بعض الموظفون يحاولون منعه، ولكن حالته التي كان يتضح عليها الهياج العصبي، جعلته يتمكن من تخطيهم، وتوجه نحوه بخطوات منفعلة، ثم على حين غرة، وقبل أن يستوعب "عاصم" وجوده المفاجئ في مكتبه، لكمه في وجهه، مال وجه "عاصم" إثرا للكمته إلى الجانب، كما تراجع جسده قليلا إلى الخلف، كز على أسنانه وما كاد يلتفت له برأسه، حتى أمسك به "عز الدين" من عنق سترته، وهزه في عنف وهو يسأله في غضب أهوج:


-ليه عملت كده؟ لييه؟


حدجه "عاصم" بنظرات تقدحان شررا وهو يزيح بيديه قبضتيه عن ثيابه، ثم أشار نحو الخارج بعينيه القاتمة -من كبحه لجماح غضبه- إلى الموظفون الذين صدموا مما حدث نصب أعينهم، استجابوا إلى أمره الصامت، وبعد أن أغلق آخر فرد منهم الباب من خلفه، عاد ببصره إليه ودمدم في وجهه بغليل غاضب:


-انت قد اللي انت عملته ده؟


لم يعبأ "عز الدين" بتشنج وجهه، ودفعه في صدره وهو يهتف فيه بعصبية بالغة:


-أنا قلتلك زينة ملهاش دعوة، ليه تدخلها في اللي بينا يا عاصم؟


استشاط غضبا من دفعته، وكاد يفقد التحكم في أعصابه، ويرد له لكمته، ولكن بغتة تعقدت ملامحه، فقد لاحظ الخدوش المتواجدة في جانب وجهه، كما أن لفظه لاسم زوجته استرعى كامل انتباهه، واستكان جسده الذي كان متهيئا للعراك منذ لحظة وردد بغرابة:


-زينة!


اهتزت شفتا "عز الدين" برجفة تعبر عن عصبيته الممزوجة بكسرته، وتابع في لومه الغريب بالنسبة ل"عاصم" بنبرة مليئة بالحسرة:


-ذنبها إيه تترمي في المستشفى بين الحياة والموت؟ وذنبها إيه تخسر ابنها اللي لسه مشافش النور؟


تضاعفت غرابته من كلماته الغير مفهومة، وسأله باستفهام غير مصطنع:


-انت بتتكلم عن إيه؟


لم تخبُ عصبية "عز الدين" مما هو واضح على أخيه من عدم فهم لما يقول، ورأى أنها مراوغة مقصودة منه فقط لابعاد التهمة عن نفسه، وبنفس النبرة المنفعلة رد عليه باتهام واضح:


-انت عارف أنا بتكلم عن إيه؟ نفذت تهديدك ليا في مراتي، لقيت إن اللي عملته فيا مجابش نتيجة فقلبت العطا على زينة عشان تبقى لويت دراعي صح، مش كده يا عاصم؟


ما يزال عقله غير متوصلٍ لما يريد اتهامه به، وتشوش بشكل بالغ من كلماته، وبصوت انفعل صاح به مستنكرا:


-إيه اللي نفذت تهديداتك في مراتي وقلبت لعطا على زينة؟ إيه التخاريف اللي بتوقلها دي؟ أنا مش فاهم انت بتقول إيه ولا إيه اللي ورا اللي انت جاي تعمله.


رفض عقله تصديق ما يدعيه، وهدر في لهجة ناقمة:


-لا يا عاصم مش هيخيل عليا الفيلم ده، اعمله على حد تاني غيري.


اشتدت عضلات وجهه من تصميمه على اتهامه بما لا يعلم عنه شيء، وعلق بنفاذ صبر بصوت محتدم:


-أنا مبعملش أفلام. 


لم يدع "عز الدين" له الفرصة لإضافة المزيد، ولاحقه قائلا بنوع من التكذيب:


-انت بنفسك مهددني إن اللي هتعمله هيندمني، لكن اللي متعرفوش إن اللي عملته كسرني، كسرني ووجع قلبي.


زوى ما بين حاجبيه في تعجب مما يقول، وهتف محتجا:


-عملت فيك إيه!


صرخ بنبرة تضاهي نبرته صراخا، وقد برزت عروق رقبته من شدة انفعاله:


-خليت حد يخبط مراتي بعربية وهي بتعدي الطريق، مراتي كانت حامل في توأم، وجنين منهم مات، ليه تعمل فيا كده أنا مأذتاكش في حاجة؟


ناظره "عاصم" بنظرات متفاجئة، ورغم أنه قد توصل للصورة الكاملة لما أصاب زوحته، إلا أن انهيار أخيه جعله عاجزا عن تبرئة نفسه من اتهامه له بتدبيره الحادث، وبينما يراقب ما يصدر منه بصمت، تابع "عز الدين" عتابه الهادر:


-كل ده عشان طالبت بحقي، يا أخي والله لو كنت قلت من الأول إنك هتدخل مراتي أو حد من عيلتي في تهديداتك لكنت اتنازلت عن كل حاجة، لكن ليه تكسر قلبي الكسرة دي على مراتي وابني؟ ليه تخليني ابقى حاسس إني روحي بتطلع من الخوف عليهم؟


انهمرت دموع "عز الدين" رغما عنه، والتفت بجسده ليبعد وجهه الباكي عن عيني الآخر، شعر حينها "عاصم" بالتأثر من انهياره، وكاد يرفع يده ليربت على ذراعه، ولكنه شعر بتيبس به، كأنما رفضت فعل ما لم تعتَد عليه، فعادة ما يصعب عليه التهوين على الآخرين، حتى وإن رق قلبه داخليا على ما أصابهم، ولكن ظاهريا لا يبدو عليه أي تأثر يُرى، كما الحال الآن لم يجد غير إظهار الجمود وهو ينفي له شكه حوله، بعد حمحمة بسبطة جلى بها صوته ردد:


-أنا معملتش حاجة يا عز، صدقت أو ماصدقتش دي حاجة ترجعلك.


مرر "عز الدين" أصابع يده على عينيه وما حولهما، مجففا دموعه، وما تبقى منها عالقا على طرفيه، في حين اضاف "عاصم" عندما لم يجد منه ردا:


-بس لو أنا اللي اتسببت في اذى لمراتك او دخلتها في الموضوع زي مابتقول كان زماني بقولها في وشك، أنا مبخافش، واللي بعمله مش بداريه، زي ماجيت لحد عندك بعد اللي عملته معاك وعرفتك إن انا اللي وراه.


أغمض "عز الدين" عينيه، ورفع رأسه وهو يتنفس مطولا، فكلماته جلعته يتذبذب حيال شكه به، حتى أنه شعر من خلال نبرته بصدقه، وبعد مرور عدة لحظات من الصمت، أكمل "عاصم" بهدوء مطنبا في محاولته لنفي التهمة عنه، كأنما لأول مرة يعبأ بتصديق أحدٍ له:


-لكن أنا المرادي فعلا معملتش حاجة، ومعرفش حتى إيه اللي حصل ليك أو لمراتك.


التمعت حدقتيه مرة أخرى بالدموع، وتكلم باختناق جاثم بقوة على روحه:


-احنا كنا رايحين للدكتور عشان المتابعة، أكيد فرحتها كانت هتكبر لما تعرف إنها كانت حامل في توأم، من قبل حتى ماتعرف خسرت واحد ويا عالم التاني هيكمل ولا هيروح هو كمان.


تنفس نفسا مطولا وزفره بنفس الطريقة، كأنه يثبط على طريقه بكائه الوشيك، وعندما تراءى له صدق أخيه، خبا شكه من داخله، ورأى أن وجوده ليس له داعٍ، فزوجته في حاجة إلى وجوده جوارها، بدون أن ينظر له بدأ في السير نحو الخارج، ولكن "عاصم" حينها استوقفه قائلا:


-استنى يا عز.


استدار له ورمقه بنظرات يشع منها البؤس، وسأله بأسى:


-إيه عايز تاخد حق اللي عملته؟ ولا في تهديدات تانية عايزه تقولها قبل مامشي؟


توجه "عاصم" نحو المكتب وأخذ من فوقه هاتفه وسلسلة مفاتيحه، ثم تقدم منه، وقال له بصوت جاد بعد أن توقف قبالته:


-أنا جاي معاك.


حاد "عز الدين" بعينيه عنه، وقد شعر ببعض الخزي من تسرعه، وأسلوبه المهاجم له، وأومأ له بهدوء وبدأ في السير، تبعه "عاصم" بصمت، ولا يدري حتى لمَ قرر الذهاب معه، ولكن جزء في أعماقه حثه على وجوب الوقوف جواره في تلك المحنة، كأنما الخير الذي زرعته به والدته، ما يزال ينبض بداخله، وما يزال يحاول أن يعيده إلى سابق عهده، حينما كان طفلا صغير لم يوسم الشر به.


تابع قراءة الفصل