-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 - الفصل 26 -2



قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 
الفصل السادس والعشرون
الجزء الثاني


تقدمه "عز الدين" سيرا في الردهة المؤدية إلى غرفة زوجته، فقد كان متلبكا طوال الطريق، ولم يكف عن مهاتفة الأطباء للاطمئنان على استقرار وضعها، حتى أنه من حين لآخر كان يرى تكوم الدموع بعينيه، وانسياب بعضها رغما عنه على وجنتيه، كل ذلك شغل تفكير "عاصم" بقوة، فكيف لكل ذلك الحزن أن يستوطن قلبه لفقده لجنين لم يُرى؟ فإحساس الأبوة بالنسبة له مقرون بوقت رؤية الأب لوليده، حتى أن هناك بعض الآباء لا ينتابهم ذلك الشعور، ولكن الحال كان يختلف عند "عز الدين"، فمنذ اليوم الأول الذي علم به بوجود نطفته في رحم زوجته، وهو يكن المشاعر لجنينه، كما يشعر بالمسئولية تجاه تكوينه بشكل سليم، وإمداد زوجته بالغذاء والأدوية المغذية لها وله، حتى يُولد في صحة كاملة، وهذا ما لم يفكر به "عاصم" قط، ولم يشغل حتى باله خلال حمل "داليا" بصحتها أو صحة جنينها، بل كل ما كان يهمه هو راحته الوقتية، الذي كان يشعر بها معها بعد ممارسته لما حرمه الله حدوثه إلا بين الأزواج. أوقفهما عن السير رجلان توجها نحوهما مباشرة عند رؤيتهما ل"عز الدين"، وهتف أحدهما بنبرة رسمية:


-مساء الخير يا دكتور عز.


من هيئتهما استنبط "عز الدين" أنهما شرطيان، آتيين للتحقيق في الحادث، بصوت بدا مبحوحا رد عليه:


-مساء الخير.


قبل أن يتحدث الشرطي المسئول عن القضية، صدح صوت الواقف جواره، موجها حديثه نحو "عاصم" عندما انتبه لوجوده:


-أهلا عاصم باشا، ده إيه الصدفة السعيدة دي.


تعرف عليه "عاصم" منذ الوهلة الأولى، فقد كان شرطيا سبق له التعامل معه أثناء إنهاء بعض القضايا العرضية في عمله، ورد عليه بلباقة:


-أهلا بيك.


عندما لاحظ ذلك الضابط إتيانه رفقة "عز الدين"، سأله باستشفاف:


-ساعدتك والدكتور بينكم معرفة؟


رمق "عاصم" أخيه بنظرة خاطفة، ثم رد على الضابط مصرحا بنبرة عادية:


-دكتور عز يبقى اخويا.


تفاجأ ثلاثتهم مما فاه به، فلم يتوقع "عز الدين" أن يعترف بأخوتهما بتلك السهولة، بينما الآخرين تفاجأ من وجود أخ له بالأساس، فقد كان "عاصم" ذو سيط كبير، ولم يدرِ أحد من قبل بوجود شقيق له، ولكن عندما استعاد الاثنين اسم الطبيب ثلاثيا في ذهنهما، انتبها إلى الكُنية المشتركة بينهما، لذا سارع الشرطي عندما تفقه سبب وجوده قائلا:


-يعني ساعدتك هنا عشان الحادثة اللي حصلت.


هز رأسه بالإيجاب، وقال له في إيجاز:


-بالظبط.


أشار الضابط نحو زميلة بيده، وتابع حديثه مع "عاصم: بنبرة عادت إلى رسميتها:


-على العموم حضرة الظابط كريم اللي ماسك القضية.


حول "عاصم" نظره نحو الآخر، وسأله بصوت جاد وهو يفرق نظراته بينه وبين أخيه:


-أنا عايز اعرف آخر التحريات في حادثة مدام زينة.


رد عليه "كريم" مستوضحا ما قام به:


-احنا قبضنا على صاحب العربية اللي صدم مدام زينة، لكن العربية اللي صدمت الدكتور عز عرفنا إنه قال في المحضر إن الغلط منه أثناء مرور الطريق، عشان كده ماخدناش أي اجراءات ضد السواق وأخلينا سبيله.


وجه ثلاثتهم النظر نحو "عز الدين" حينما تساءل بترقب:


-وعملتوا إيه مع صاحب العربية التانية؟


رفع الضابط يديه مستخدما إياهما كنوع من انفعالا جسديا تلقائيا أثناء رده عليه:


-والله هو احنا متحفظين عليه لغاية ما المدام تفوق وتقدر تكلمنا، ونفهم منها اللي حصل بالظبط، ونطابقه مع كلام الشهود اللي كانوا متواجدين اثناء الحادث، واللي معظمهم أجزم إن الحادث كان غير مقصود.


عند تلفظه بالأخير، تساءل "عاصم" باهتمام:


-وضحلي أكتر اللي الشهود قالوه، وازاي كان غير مقصود؟


أجابه الضابط بشرح سريع:


-معظم الشهود قالوا إن مدام زينة عدت الطريق وهي مش واخدة بالها من العربية، في نفس الوقت اللي العربية فيها كانت جاية على سرعة كبيرة، والغلط اللي على صاحب العربية إن المكان كان قريب من مطب صناعي، يعني كان لازم يخفف السرعة، لكن اتثبت إن العربية حصل فيها فجأة مشكلة في الفرامل، وده السبب اللي صعب على صاحب العربية تخفيف السرعة مرة واحدة وقت انتباهه لمرور المدام فجأة.


التفت "عاصم" بنظره نحو أخيه، كأنما يقرأ تعبيراته، باحثا بها عن تأكده من براءته، تهرب حينها "عز الدين" من النظر له، فقد شعر بالحرج من كونه اتهم أخيه اتهاما كهذا دون دليل قاطع، وها قد ظهر ما يثبت براءته مما نسبه له، ثم سأل الضابط بنبرة عادية:


-وإيه اللي هيحصل دلوقتي؟


رد عليه بتوضيح آخذٍ طابعا رسميا:


-اللي هيحصل زي ماقلت لسيادتك هناخد اقوال المدام، وبناءً عليها هنشوف فعلا هو كان متعمد يخبطها، ولا زي ما التحريات لغاية دلوقتي اثبتت إنها قضاء وقدر، وهنعرف منها وقتها إذا كانت هتتنازل عن القضية ولا هتطالب بتعويض مادي أو..


قاطع "عز الدين" حديثه، قائلا بعزة نفس:


-احنا مش عايزين تعويضات، ولو زينة قالت قضاء وقدر هنتنازل عن القضية.


لم يكترث الضابط لرده المندفع، فهذه القرارات لا يؤخذ بها إلا من المجني عليه، وقال له بجدية:


-والله ده هيتوقف على كلمة المدام لما تفوق.


بعد ذلك تحفز في وقفته، وأضاف بما سيختتم به الحديث:


-على العموم الدكتور قال إنها ساعة وهتقدر تتكلم معانا، فاحنا هنمشي دلوقتي وهنرجع تاني تكون المدام بقت كويسة ونعرف ناخد أقوالها.


رد عليه "عز الدين" بفتور:


-تمام.


أشار الضابط إلى زميله للمغادرة، أومأ له وقبل أن يتبعه قال ل"عاصم" ببسمة ودودة:


-سعيد جدا بالمقابلة السريعة دي يا عاصم بيه، ولو إن الظرف مش كويس، بس إن شاء الله نتقابل على خير مرة تانية، وربنا يطمنكم على المدام.


بادله بسمته وهو يهز رأسه له في تأكيد، بعدئذ سارا مبتعدين عنهما، في حين لمح "عاصم" -عندما حول نظره نحو أخيه- نوع من الحرج في نظراته، تفقه سببه، ولكي يزيح عنه ذلك الحرج، سأله بهدوء:


-مش هتدخل تطمن على مراتك؟


لاح التلهف في وجهه على ذكر زوجته، وأومأ له بالإيجاب وهو يرد عليه بتعجل:


-ايوه يلا.


ولج "عز الدين" ومن خلفه "عاصم" الغرفة المتواجد بها "زنية"، كان جسدها مستكينا فوق السرير، وموصول بيدها إبرة المحلول المغزي، ابتلع "عز الدين" غصة تكونت في حلقه وهو يتوجه نحوها، ولكنه لم يتحكم في لمعة الدموع التي ترقرقت بعينيه، جلس بجانبها على الفراش، وانحنى مقبلا جبهتها، ثم ابتعد قليلا وقال أمام وجهها بصوت خافت:


-سلامتك يا حبيبتي.


فتحت عينيها عندما نفذ صوته عبر سمعها، ولكن ما لبثت أن أغلقتها بهوان واضح، ملس حينها على شعرها بحنان، وسحب نفسا مطولا، ثم استدار نحو أخيه الواقف على بعد عدة خطوات منه، يتابع ما يحدث بصمت تام، قرر أن يعتذر منه عما فعله في مكتبه، خاصة بعدما تأكد من أنه ليس له يد فيما أصاب زوجته، نهض من جوارها، وتوجه إليه، رفع يده وحك بها مؤخرة عنقه، وابتدأ الحديث قائلا:


-عاصم انا..


قاطع كلامه دخول والدته المتلهوج، هاتفة بهلع شديد:


-عز.


تفاجأ من وجودها، فأنى لها بمعرفة بما حدث؟ توجه نحوها وهو يردد بدهشة واضحة:


-ماما!


تقدمت منه مسرعة، وأمسكت بيده، ثم سألته بتخوف وهي تفرق نظراتها بينه وبين زوجته:


-إيه اللي حصل يا عز؟ انت كويس؟ وزينة مالها؟ إيه اللي حصل يابني طمني؟


ربت على يدها المرتعشة القابضة على يدها بكفه الآخر، وقال مطمئنا إياها:


-احنا كويسين يا ماما متقلقيش.


تبادلا فيما بينهما حديثا يجمع ما بين الخوف والحزن لم يستمع "عاصم" لحرف منه، لشرود عقله في حالة أخيه الغريبة، فإذا حق الوصف، هو مختلف كليا عنه، يستطيع بسهولة إظهار ما يعتريه من مشاعر متغايرة، ويجمعه بأفراد عائلته ألفة شديدة لم يرَ مثلها من قبل، كما أن حبه لزوجته متفرد، ومثير لاهتمامه، فمنذ انتقلا للعيش معه لفت انتباهه استقرارهما الزوجي، الفاقد هو له في زواجه ب"داليا"، حتى أن تأثره بالغ الشدة لموت جنينه آثار دهشته، فقد انهار، وثار، وفار كل عصب من أعصابه من تسرب الشك إلى رأسه حيال إيذاء "عاصم" لزوجته، وتسببه في موت جنينه، في حين لم يعبأ هو لمرة واحدة لما يعتري "داليا" من تعب جسدي كثيرا ما يكون هو المتسبب به بفعل ساديته، أو حتى تسلل حزن طفيف لقلبه من قتله لجنينين بدم بارد من قبل، بل إنه لم يشعر بذرة ندم على أي منهما، ومن هنا يزداد يقينا بأنه لا يصلح -بتلك الشخصية المُدمَرة، والمُتهالكة- لأن يكون طرفا في أي علاقة حياتية على الإطلاق.



❈-❈-❈


سارت الأمور كما رتب لها تماما، بعدما اتفق معها على التقدم لخطبتها، كانت هي الداعم في الموافقة السريعة من والدها، الذي تفاجأ في بادئ الأمر من طلبه الزواج بها، وأعطى له ردا يوحي برفض مؤكد، ولكن كما توقع أجبرته موافقة ابنتها، وحبها الواضح له على القبول بتلك الخبطة، ولكن كانت موافقة محفوفة بالرفض، حتى أنه يحمل بداخل حياله كثيرا من الشك، فهو لم يلحظ من قبل وجود علاقة جامعة بينه هو وابنته، حتى أن ذلك الحب الذي رآه في عيني ابنته له مثير للريبة، ويخشى أن يكون قد تلاعب بعقلها، حتى يحظى بتلك الدرجة المتقربة منه، ويضع في مخيلته أن يكون -عن طريق زواجه بانبته- ذراعه اليمنى، ويجد له مكانة مهمة في أعماله. في بقعة شبه بعيدة عن تجمع الضيوف في حفل الخطبة، وقف "توفيق" بالقرب من "كرم"، وقال له بوجه جامد التعبيرات، وصوت أجوف خالٍ من الفرح:


-مبروك يا عريس.


تشكلت بسمة منمقة على شفتيه، ورد عليه بنوع من السعادة الذي رسمها بحرفية شديدة:


-الله يبارك فيك يا توفيق بيه.


زاد "توفيق" من اقترابه منه، وقال له بما يشبه التحذير:


-أنا وافقت على الخطوبة السريعة دي بس عشان خاطر سما، وعشان كمان أنت جيتلي بشكل جَدي وكنت دوغري وملفتش ودورت، بس لو حصل مرة وجرحتها حتى لو متجوزين هطلقها منك ووقتها هتنساها للأبد.


لم يخفَ عن "كرم" شكه حيال مشاعره الذي صرح بها له، أثناء طلب يدها منه للزواج، وبنفس التعببرات الغبطة، رد عليه:


-متقلقش يا توفيق بيه، سما في عينيا واتأكد إنها عمرها ماهتشتكي مني.


لم يزول شكه، او حتى يقل قليلا من كلماته المطمئنة، وعلق عليه بما يشبه التشكيك:


-الأيام هتثبت.


رأى "كرم" أن ابتعاده عن محيط عينيه الثاقبتين في ذلك الوقت هو الخيار الأفضل، فهو يشعر أنه يجرده من ثباته، لذا تحرك بعد ذلك نحو خطيبته، التي كانت منشغلة في تأدية الحركات الراقصة رفقة بعض صديقاتها، كان قد طلب قبلها من منسقوا الأغاني، تبديل الأغاني الصاخبة إلى موسيقى غربي هادئة، تصلح للرقص الثنائي، حاوط خصرها بيديه، وبحركة تلقائية منها حاوطت عنقه، قربها له أكثر حتى تشعر بحرارة أنفاسه، ودنا بوجهه من أذنها حتى تستمع إلى ما يقوله، متسائلا باهتمام:


-مبسوطة؟


سعدت داخلها لاهتمام الكبير بها، وردت عليه بتدلل لم يظهر منها سوى معه:


-عندك شك؟


انشق جانب ثغره ببسمة غير مزيفة من ردها، فقد لاحظ الجانب المرح من شخصيتها، وبعد برهة ابتعد قليلا، حتى يصبح وجهه في مقابلة وجهها، ليجعلها تسبح في نظراته الساهمة، الذي يعلم أنها ذو تأثير بالغ عليها، وقال لها بغزل صريح:


-شكلك زي القمر النهارده.


اتسعت بسمتها من إطرائه على جمالها، ومن محاولاته الدائمة في بث الثقة داخلها تجاه نفسها، ولكن مع ذلك يظل الشك الذي نجحت والدتها في حفره داخلها ينغص عليها راحتها، وراحت تسأله في رغبة منها لتأكيد منه:


-بجد شكلي حلو؟


لاحظ تشككها الدائم في مظهرها، لم يرد أن يعيد نفس الكلام، حتى لا تسيء فهمه، وتراه مجاملة منه، لذا لجأ إلى أسلوب مرح، واتخذ نفس ردها السابق في التعليق عليها مرددا:


-عندك شك؟


توسعت بسمتها حتى أصبحت ملء شدقيها، وتابعت معه الرقص وهي تشعر بدقات قلبها متعانفة من شدة سعادتها، فلأول مرة تشعر بأنها أكثر الناس حظا لكي تحظى برجل مثله في حياتها، بعد مرور بعض الوقت انتهوا من رقصتهما، وتوجها لكي يجلسا في المكان المخصص لهما، حتى يأخذا قسطا من الراحة. التفت "كرم" برأسه نحوها، يناظرها بنظرة متفقدة حينما مدت يدها ممسكة بيده، حانت منها بسمة رقيقة وهي تخبره:


-كرم انت غيرت حياتي الفترة الصغيرة من وقت مادخلت فيها، وحقيقي مش عارفة أقولك انت بقيت بالنسبالي إيه، بس..


تضرج وجهها بحمرة طبيعية، فاقت مورد وجنتيها ظهورا، ثم أكملت له بحياء خجل:


-بس اللي عايزه أقوله إني مش هخليك تندم أبدا على الارتباط ده.


لم ينكر تعجبه من خجلها الشديد من تفوهها ببضع كلمات لا تتطلب كل تلك الربكة، فكلما ازداد تقاربهما، كلما اكتشف بها سمة جديدة تثير دهشته، شخصية والدها الصارمة، وأسلوب والدتها المتعجرف، جعلاه يظن أنها شخصية جامعة لصفاتهما الغير مريحة، إلا أنها فاجأته بشخصية أخرى، مرحة، وذات روح نقية، تدفعه إلى معرفة المزيد بها، بعدما طال صمته في تفكيره بشخصيتها الاستثنائية، دنا منها، وقال لها بصوت رخيم لا يخلو من بعض المكر النابع من رغباته الشخصية، وهو ينظر بداخل حدقتيها اللامعة بحب يتزايد بداخلها له يوم بعد يوم:


-مستحيل اندم، انتي متعرفيش أنا بحسب لليوم اللي هنبقى فيه مع بعض ازاي.



❈-❈-❈ 


المساعدة والدعم، لم يكن يوما أهلا لهما، ولم يقدمهما إلى أي كائن كان؛ مهما كانت درجة قربه منه، إلا أنه عندما وُضع في الموقف الذي يتطلب منه تقديم يد العون، قدم المدد دون انتظار الطلب. عندما وجد شقيقه متخوفا من ردود الطبيب الذي أبلغه باحتمالية إجهاض الجنين الآخر، قام بمهاتفة أطباء أجانب مخضرمين، حتى يأتوا لفحص زوجته مرة أخرى، فلربما يجد عند أحدهم بعض العقاقير التي تساعد على حماية الجنين، وتنهي احتمالية فقده، كما أجبر أخيه على الموافقة على فحصه، وأثناء بقاءهم في المشفى طلب لهم بعض الأطعمة الجاهزة، والمشروبات الطازجة حتى تمدهم بالطاقة اللازمة، التي استنزفت في الساعات الماضية.


كان مترائيا له تفاجؤ "عز الدين" من موقفه الداعم، ووقوفه إلى جواره في ذلك الظرف العصيب، واكتفى أثناء لهوجته، وربكته الواضحة، بنظرات العرفان بالجميل، وللغرابة لم ينتظر منه "عاصم" كلمة شكر، أو حتى ثناءً على ما قام به معه، فقد كانت صدمته بما أقبل عليه مشوشة كامل تفكيره، كأنما رأى صورة والدته تسبح في فضاءات ذاكرته، تذكره بكل فعل طيب ومعاون لمن حولها، بكلماتها الناصحة التي طوتها الذاكرة، حتى ظن من كثرة آثامه أنها انمحقت من داخله، ولكن على ما يبدو أن تفكيره حينما انحرف ناحية الخير، بحث في بواطن ذهنه، عن أي ذكرى، أو حتى حدث عابر، يدفعه إلى المضي قدما.


ظل معهم حتى سمح لهم الطبيب -الذي أحضره- بعودة "زينة" إلى البيت، وذلك بعدما أعطى لهم بعض النصائح التي ستسير عليها الفترة القادمة، وطمأنهم من ناحية حالتها، حينما أخبرهم بأنه قد صادفه خلال سنوات حياته المهنية حالات مشابهة، أصبحت نسبة الخطورة، واحتمالية فقد الجنين شبه منعدمة، وذلك عندما تنفذ المريضة إرشادته بحذافيرها، ركب "عاصم" سيارته، وأدار محركها حينما أخبره أخيه بتأهبهم للعودة إلى البيت، حينها رأى أن مهمته التطوعية قد انتهت، وسبقه إلى الخارج. طوال الطريق ورأسه تستعيد أحداث اليوم، ولكن ما أخذ حيزا بالغا من تفكيره ما رآه على شقيقه، راح صوت ضميره ينهره بشدة على ما فعله بزوجته، وعلى رفضه لجزء منه وضعه في رحمهما، ومع ذلك يحملها هي الذنب كاملا، كأنما حملت بذلك الجنين بمفردها.


صف سيارته في المرآب، وبداخله يخشى مواجهتها، ليس ضيقا من تمردها ككل مرة، وإنما تخوفا من ردة فعلها، التي تجعل الندم يقطعه إربا بعد سماعها، ولا تخلف حينها سوى اختناقا يجثم على صدره لساعات متواصلة. دلف إلى الحجرة بخطوات متمهلة، وعينيه منكستين أرضا، كأنما لا يود أن يلتقي بنظراتها اللائمة، ولكنه حينما وجد الهدوء يعم الغرفة، رفع عينيه ومسح بنظرات متفقدة كامل أرجائها، باحثا عنها، إلا أنه وجدها خاوية من وجودها، ظن أنها بغرفة المربية رفقة صغارها، وحينما كاد يتوجه إلى الخارج،  سمع صوت خرير المياه إتيا من المرحاض، عاد أدراجه مرة أخرى، وأخرج من جيب بنطاله هاتفه، وحافظة نقوده، ألقاهما بإهمال فوق التسريحة، وشرع في التوجه نحو غرفة الثياب لتبديل ملابسه بأخرى بيتية، ولكن حال دون تحركه وقوع عينيه على علبة الدواء الموضوعة بالقرب من متعلقاته التي وضعها توا.


استرعى انتباهه شكل العلبة، مد يده والتقطها بفضول، لم يشكك في أمرها، لانتباهه إلى تناول "داليا" كثير من الأدوية منذ إنجابها، ظن في بادئ الأمر أنها مقويات تعوض جسمها ما فقده من الحمل والولادة، ولكن حينما أمعن النظر في وصف الدواء، جحظت عينيه، ودب الرعب في قلبه، وبدون أن يفكر مرتين، هرع نحو المرحاض، فتح الباب دون أن يطرق عليه، وجدها منزوية في أحد أركانه، جالسة على حافة المسبح، انتفضت في جلستها من دخوله المفاجى، ولكنه لم يعبأ سوى بما تطرق إلى ذهنه، توجه إليها، وجذبه من جلستها نحوه، ليرى عينيها داميتين والدموع تسيل على وجنتيها، ازداد ارتياعه، وشعر بتسارع وجيب قلبه، وبنبرة أظهرت خوفه سألها، وهو يرفع علبة الدواء أمام وجهها:


-خدتي من الدوا ده؟


يتبع...




إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية