رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 45 بالعامية
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
الفصل الخامس والأربعون
النسخة العامية
هرب سريعًا قبل أن يلمحها من جديد، لم يعد
يضمن نفسه، ولم يعد يتخيل إلى أي مدى قد يُمكنه السيطرة على هذا الوضع وكلما
اقتربت منه يشعر بإرادته لها تزداد وكأنه منوم مغناطيسيًا للاستجابة لها، يريدها،
يريد أن يعا نقها أو يلمـ ـسها أو يُحدثها وهي نائمة بجوار قلبه الذي لا ينبض إلا
لها.. الأمر ليس الرغبة الجنـ ـسية معها وحسب، تلك الحميمية التي كانت بينهما وهما
صامتان لا ينطقان حتى بحرف واحد هو يُريد العودة بشدة إلى هناك حيث ذلك الخيال
الذي كا يُعايشه معها يومًا ما، هو على أتم استعداد أن يدفع كل ما يملكه ليحظى
بيوم واحد مثل ماضيهما الهادئ حتى ولو كان الثمن أن يُقتل، ما الذي يحدث له وكيف
يحدث هذا وهو بات رهن إشارة من اصبعها، كل ما به مستسلم لها ولكل ما يحلو لها حتى
لو ستقف وتُلقي على مسامعه تلك الكلمات القاسية!
العقاقير لا تفيد، ونوبة اكتئابه التي يحاول
أن يُجاهدها ويُخفيها عن أعين الجميع لا تكبح تخيلاته ولا تردع تلك المشاعر
تجاهها، كل تلك الرياضة وكل النساء اللاتي يلمحهن بصحبة كل القوانين والقضايا
والاستغراق بالتفكير والثرثرة مع سطور كتبه، تبًا لا شيء يفيد ولا شيء كفيلًا بأن
يخمد رغبته بالتواجد بالقرب منها كأنها الهواء الذي يلزمه لمواصلة حياته البائسة!
حاول أن يهدأ في خضم تلك الأجواء الباردة وأشعل
واحدة من سجائره التي لم يعد يتناولها بكثرة مؤخرًا ليستمع لصوتها وهو أكثر ما
يُريد التباعد عنه الآن:
-
هو أنت إيه؟ أنت عبارة عن إيه بالظبط؟ أنت
إنسان كويس ولا إنسان وحش ولا أنت فيك إيه أصلًا؟
التفت نحوها بملامح احترقت بنيران الغضب واستنشق
نفسًا مطولًا من لفافة السموم التي يحتويها بين اصبعيه ثم حدثها بزجر:
-
ابعدي عني، بلاش دلوقتي!
وكأن كلماته ستُردعها عما تريد أن تحققه وعملت
عليه بالأيام الماضية، كان لابد لها من أن تُظهر ما سيخدعه ببراعة، لطالما كان
يتلاعب على مشاعرها ولها كامل الحق في فعل المثل لتحدثه بحرقة:
-
أنا حسيت باللي حصل، ممكن تبقا كداب شاطر اوي
بس لدرجة إنك تخلي قلبك يُدق أوي كده وأنا في حضـ ـنك؟! طب ازاي؟ بتعمل ده ازاي من
أول ما عرفتك وقربت منك وكل حاجة فيك كانت بتقول إنك بتحبني؟ بعيد بقا عن الناس
وعن الدنيا وأنت مخلي حياتك ليا أنا وبس أنا حـ ـسيت بده ولسه بحـ ـس بيه في كل
تصرفاتك، ازاي بجد تحب حد اوي كده وفي نفس الوقت تؤذيه اوي؟ علمني حتى عشان ابقا
شاطرة زيك! عشان اعرف اخدع كل اللي حواليا ويبقا معرفتك ليا جت بنتيجة!
تخبطت أنفاسه المختلطة بتلك الأدخنة لتتناثر
بالهواء كما تناثرت نصف لفافته وهو يُلقي بها بعيدًا واقترب منها ليحدثها بحرقة:
-
بحبك بس أنا غلط، بحبك آه بس صممت افرض عليكي
حياة متنفعكيش، في الأول كانت دي خطتي، إني اخليكي تحبيني عشان تبقي انتي وحياتنا
وكل حاجة على مزاجي، بس منفعش، مش أنتِ الست دي، ولا عمرك هتكوني، وأنا متزفت ما
بين إني حبيتك وبحبك وما بين إن عايز حياتي تكون بطريقة مُعينة زي ما أنا راسمها،
أنتِ أصلًا من يوم ما ظهرتي في حياتي وانتي لخبطتي كل حاجة! عارفة أنا كنت بفكر في
ايه؟
التقط أنفاسه ليُضيق عينيه متفحصًا إياها وهو
يرتبك بين حقيقة أنه يستغل مشاعرها وبين أنه يريد أن يُزيح ولو قليل من العبء عن
صـ ـدره ويبوح لها بكل شيء ليصل إلى درجة عدم التحمل واستسلم بالكامل للغضب الذي
دفع لسانه بنطق كل ما يحمله وحده دون علمها:
-
كنت فاكر إن حياتي آخر سنتين نضفت، نضفت من
كُتر الستات اللي مش فاكر شكلهم، والشغل الوسخ اللي كنت بشتغله والقضايا الشِمال
وعقدتي من يمنى وكنت اتعودت إن ماليش أم تطبطب عليا وكنت حاطط في دماغي إني هاعرف
واحدة دماغها وتفكيرها يناسبني، واحدة بقا تطبطب بدل مها الجندي، وتقول نعم وحاضر
وتبقا فضيالي وقافلة حياتها عليا، تعوضني عن وساخة يمنى وانضف معاها اللي باقيلي
من حياتي بس أنتِ وقفتي قدامي لخبطتي كل حاجة، أنا مروحتلكيش، أنتِ اللي جيتي
لغاية عندي برجليكي.. وكل اللي كنت بعمله معاكي مكنش بيكسر عِندك وقوتك وكل ما
أقول خلاص أنا هاخليها تعمل اللي أنا عايزه يا ترجعيني لنقطة البداية يا اما الاقي
نفسي بحبك أكتر وبقول نعم وماشي وحاضر.. اللي حصل إننا عمرنا ما اتفاهمنا، لا أنتِ
تنفعيني ولا أنا انفعك بس بحبك.. عرفتي ده حصل ازاي؟ ده تفسير كويس ليكي من غير
كدب؟ مصدقة الكلام ده ولا لأ؟! عايزة تعرفي ليه أنتي كنتي بتستحملي حاجة مش
قابلاها، عشان كنتي بتحبيني!! بس الحب مش هيغير تفكير جوا دماغ حد بقاله سنين!
لن تنكر أن كلماته أصابتها بمقتل وجعلت تلك
العبرات المكتومة تحول بينه وبينها كجدار صلب بين عشقه الذي تتيقن منه وبين ما
فعله بها لتتساءل بصوت مُختنق بفعل تلك العبرات التي تمنعها:
-
واللي أنت عملته فيا آخر شهر في جوازنا؟ ده
حب ده؟
تفقدها بملامح معترضة ليصيح بها:
-
فكرتك بتخونيني، مشوفتش غير ده، فهمت غلط
ودفعت التمن، ولسه بدفع فيه، ولسه هادفع اكتر من كده، واحد عايش عشر سنين متعقد من
إن حبيبته خاينة وشاف اللي شبهها بتخونه بعد ما اتصدم في شكلها وشافها وعرفها
واتجوزها وحبها! بقالها ساعتين في عمارة فيها شقة ابن خالتها اللي بتروحها كتير من
ورايا، اصدق ايه؟
-
تصدقني أنا، تصدقني وتصدق إني بحبك زي ما كنت
ما بصدق وبقول استحالة يذلني ويعاملني زي الحيوانات تاني، زي ما كنت بصدق كل وعد
بتوعدهولي، تكلمني وتسألني كنت فين وكنت بعمل ايه!
خلل شعره المموج بغضب حتى كاد أن يقتلعه بين
أصابعه وهو يستمع لصراخها الذي ارتفع مثل صوته تمامًا ثم التفت حوله ليرى انتباه
البعض له فجذبها بعيدًا حتى لا يثير جدالهم المزيد من فضول الجميع ليُحدثها بحرقة
وهو يُشير إلى رأسه:
-
دي تعبانة، أنا مجنون، أنا بشوف الغلط وبس،
أنا عندي زفت في دماغي لو ملحقتهوش بالأدوية والرياضة وبطلت شُرب ومشيت على نظام
معين هشوف أمي بتخون أبويا ونايمة مع را جل تاني وهصدق ده وهو في الآخر مجرد خيال،
من غير أصلًا ما تعملي حاجة لو قاعدة في سجن ممكن اتهمك واقولك انا شوفت فُلان
خارج من عندك، ممكن أقولك إنك حامل من واحد غريب، ممكن اعمل أي حاجة عشان أنا
مجنون، أنا مريض عقلي ونفسي و
-
وهو كل السنين اللي فاتت دي مكونتش مريض وجيت
معايا أنا بس وبقيت مريض ومرضك هو اللي اتحكم فيك؟! امال كنت محامي شاطر بقالك
سنين ازاي؟
قاطعته ودموعها الخائنة استسلمت لمشاعرها
للمرة المائة بعد الآلف أمامه ليُحدثها بإطناب وتخبط بين الغضب والألم الذي لا
ينتهي:
-
أنا لولا الهدوء اللي كنت عايش فيه، ولولا
شوية الرياضة على النظام اللي كنت عاملهم في حياتي كان زماني موت نفسي، وبعدين مين
قالك إني مكونتش مريض؟ أنا شغلي ده كنت بحفظه واسمعه مليون مرة وبضغط على نفسي
عشان ارضي بابا وابقا إنسان ناجح ولو في حاجة واحدة بس في حياتي، مش فاكرة إني قولتلك
إن كان فيه واحدة هموتها؟ ايه مشوفتيهاش وهي معايا باللي اخدتيه من ورايا؟ أنتي
معندكيش فكرة أنا كنت ممكن أعمل ايه في واحدة وأنا شايف إنها كده مبسوطة، معرفش
كنت بتخيل ولا كانو بيبقوا مبسوطين بجد، أنا كنت بضرب عُدي كتير جدًا ومش عارف كان
بيقول ايه عليا وبضرب ناس كتير حواليا، كنت بهزأ ناس كتيرة، أحيانًا كنت بقول
حاجات مش منطقية قدام القاضي وبعدين أقول لأ مش ده اللي حفظته، وافتكر إني فهمت
غلط واحاول الحق نفسي، ما تروحي تسألي مريم، هي اللي قالتلي وفهمتني كل ده عن
نفسي، ولا اقولك حاجة، متصدقنيش.. ولا تسأليها، احنا كده كده هنتطلق، وكده كده
حياتنا مش هتنفع مع بعض، أنتِ بكلمة واحدة منك ممكن توصليني لنوبة كاملة ادخل فيها
معرفش اطلع منها عشان حبيتك اوي وبقيت بتأثر بأي كلمة منك، وأنا مجنون ومنفعش، يوم
هتلاقيني راجل حلو وعشرين لأ.. أنا لا انفع راجل ولا زو ج ولا أب ولا تنفع حياة
معايا، يالا روحي ابتدي حياتك مع واحد تاني.. احنا بنتكلم ليه أصلًا في الحاجات
دي، ابعدي عني بقا!
تملكتها الشفقة قليلًا بداخلها عندما اختنق
صوته بفعل تلك الغمامة التي أخفت مُقلتيه عنها ثم تركها وذهب فحاولت الهدوء وهي
تجفف عينيها ووجهها وأخذت تتنفس بعمق حتى زالت تلك الحالة بالكامل عنها وهي تتذكر
لم فعلت هذا منذ البداية وقررت أنها لن تكون المحاولة الأخيرة لها معه.
❈-❈-❈
بعد مرور ساعتان..
قام بضـ ـمها إليه ثم حدثها قائلًا:
-
معلش أنا تعبان اوي ومحتاج أنام، مش قادر،
عمومًا كتب الكتاب كلها نص ساعة ويخلص، شوفي هتكوني فاضية امتى وكلميني عشان
اخليكي تقابلي مهندس كويس وتختاري كل حاجة في البيت..
ابتسمت له وهي لأول مرة تشعر بمثل تلك الفرحة
وأخبرته بامتنان وهي تومأ له:
-
شكرًا يا عمر
-
تصبحي على خير، ولو بابا قالك حاجة عديها
واسكتي وكلها كام شهر وهتطلعي برا بيته.
أومأت له بالموافقة بينما اتجه ليُصافح
"يونس" وهو يتفقده بغيظ وبداخله نسبة هائلة من إيمانه برأي والده عنه
ليخبره:
-
مبروك.. مقدامكش حل غير إنك تاخد بالك منها
عشان متشوفش مني وش وحِش!
ابتسم له دون أن تظهر أسنانه بينما اختلفت
ملامح الآخر وهو يتفقده باستغراب وسأله بتلقائية:
-
ايه ده فيه ايه؟
-
مفيش، بحذرك بس!
ابتلع وأخذ خطوة للخلف ليضغط الآخر على كف يـ
ـده ليعاود إخباره بتحذير:
-
متنساش ها، يالا تصبح على خير..
لم يرقه يومًا ولطالما وجده رجل غريب للغاية
فتابعه بعينيه حتى غاب عن مرمى بصره فاقترب من "عنود" وسألها:
-
هو اخوكي ماله؟ ليه متعصب وحسيته بيهددني
كده؟ هو فاكر إني مش كويس معاكي ولا أنتِ اشتكيتيله مني؟ أنا معملتش حاجة على
فكرة!
ابتسمت له لتتنهد بسعادة قائلة باقتضاب:
-
معلش استحمله..
لم يفهم لماذا يفعل كلاهما هذا وسألها من
جديد:
-
هو بجد أنا مضايقك في حاجة؟
هزت رأسها بالنفي ثم همـ ـست بأذ نه وهي
تحاول التخلص من فارق الطول بينهما لتقف على نهاية أصابعها:
-
قولتله إني بحبك اوي وإن عندي استعداد نتجوز
قبل الاجازة الجاية..
اتسعت ابتسامته وهو ينظر لها برغبة وقال
بمرح:
-
هو ده الكلام، ما تأجلي السنادي يا حبيبتي
وبعد ما نتجوز ابقي كملي.
قلبت عينيها ثم ابتعدت عنه قليلًا لتقول
بثقة:
-
شوفت، ده بقا كان امتحان صُغير، ومن أولها
اهو بتيجي على دراستي عشان أنت عايز حاجة، إنسان أناني درجة أولى! قال جواز في
الدراسة!! بعينك!
امتعضت ملامحه وهو يزفر بخيبة أمل وحقًا هو
لا يفهمها ولا يفهم عائلتها بأكملها ولكنه يعشقها بكل ما فيها وليس لديه أي مانع
بأن يتقبل منها هذه الحجارة المتناثرة بكل حرف تنطق به!
❈-❈-❈
خرج من السيارة بعد أن توقف السائق أمام
بوابة منزلها هي وطوال الطريق لم يتمن أكثر من شيئان، أولهما أن تعا نقه وتخبره أن
كل شيء سيكون أفضل والذي لن يحدث سوى بأحلامه، وثانيهما كان موته بطريقة تُقنع
والده أنه قد مات دون أدنى تدخل منها!
جر قدماه بصعوبة وهو يتجه صوب هذا المنزل
الصغير الذي شيده لنفسه ليُصبح ملاذًا له بعد أيام كارثية تخبطه بين المصائب
والآلام وقام بإغلاق هاتفه لكي يبتعد عن الازعاج بالكامل ليستمع لها تُناديه:
-
عمر، استنى..
التفت وهو يرى السائق يتجه بالسيارة بعيدًا
في اتجاه عودته للمرأب ليراها تقترب آخذة خطوات نحوه بثوبها الذي يُلائم كل ما بها
وملامحها الفاتنة تغرر بثباته فحاول أن يُقنع نفسه بضرورة السيطرة على نفسه وانتظر
مترقبًا قولها لعله ينتهي من هذا اليوم بأكمله فتوقفت أمامه على مقربة كانت كفيلة
بانقباض قلبه مما قد يفعله لو فقد سيطرته على نفسه معها واستمع لقولها:
-
أنا آسفة، مكونتش اقصد إن كلامنا يبقا بالشكل
ده..
ابتسم بسخرية وعقب بنبرة مُتعبة:
-
مش هايبقا ليه شكل تاني غير ده، احنا الاتنين
بقينا سبب وجع بعض، مالوش لازمة تعتذري على حاجة انتِ مغلطتيش فيها من الأول!
تبادلا النظرات لوهلة وكانت على يقين من شدة
إرهاقه التي تتضح على كل ملامحه لتتأكد أن هذه هي الفُرصة المناسبة ولكنها وجدته
يقول:
-
تصبحي على خير.
التفت لكي يتجه صوب منزله ولكنها أوقفته:
-
استنى يا عمر.
التفت لها برأسه وهو يلمحها بطرف عينيه وتمنى
لو كان ظلام الليل كافيًا ليستر فتنتها التي تتوهج كنجمة ساطعة في سماءها الحالكة
بينما لم يُفده على الاطلاق وانتظر استطرادها بالكلام:
-
على الأقل قولي مريم قالتلك ايه، زي ما
استحملت كل الوقت ده معاك أنا من حقي أعرف!
زفرة متهكمة غادرت صـ ـدره وهو يحول انظاره
عنها ليقول:
-
عمرك ما بتسيبي حاجة تعدي عليكي من غير ما
تعرفيها!
كاد أن يعود لطريقه من جديد بعد أن أخذ عدة
خطوات وتركها خلفه مُعرضًا عن الاستجابة بما طالبت به ولكنه توقف بعد أن لاحت فكرة
برأسه، التحدث لها يعني المزيد من التمتع بعسليتيها وهي تنظر له، أليس كذلك؟!
التفت مرة ثانية ليجدها ما زالت منتظرة فأخذ
القليل من الخطوات نحوها وسألها:
-
عايزة تعرفي إيه؟
ادعت نظرات التشتت وهزت كتفيها وأخبرته
متصنعة التردد:
-
كل حاجة، سواء قبل ما تعرفني ولا بعد ما سبنا
بعض، وعايزة تفسير منطقي للي كنت بتعمله معايا أو حتى مع غيري، كل حاجة مريم
قالتهالك أنا من حقي أعرفها، يمكن حتى في يوم لما أفكر أنت ليه عملت كده فيا يبقا
عندي مبرر.
رفع حاجبيه وهو يسخر مما يحدث، حتى النوم لا
يستطيع أن يحصل عليه، كما أنه في حالة جيدة للغاية حتى يجلس أمامها ويبوح لها بكل
ما حدث، يا له من تخيل رائع!
تفقدها فوجدها تعانق نفسها بذراعيها من شدة
البرودة فسألها:
-
تحبي تقعدي عندي ولا عندك؟
اتسعت عيناها بتفكير، هي لا تريد له أي
ذكريات بمنزلها الجديد ولن تسمح له بترك المزيد من بصماته التي تعصف برأسها كلما
تذكرتها فحدثته قائلة:
-
عندك!
تفحصها لوهلة وهز رأسه بالموافقة واتجه وهي
تتبعه نحو منزله بينما عبثت أفكاره بداخل رأسه، امرأة يشتهيها بثوب رائع وملامح
يعشقها تأتي بعد منتصف الليل لملاذه الصغير، هل سيمارسان الجنـ ـس الليلة؟!
نفض تلك الفكرة من رأسه سريعًا وقام بفتح
الباب الذي يطل على الحديقة ودخل لتتبعه الأخرى وبمجرد أن أضاء الأنوار ابتعدت
للخارج من جديد بعد أن اندفع كلباه نحوه فشعر بما فعلته ليخبرها:
-
سيبك بقا من دور الرعب ده، أوفيد بيحبك على
فكرة واستحالة يعملولك حاجة.. عمرهم ما هيؤذوكي.
عقبت بسخرية وهي تقف بجانب الباب بينما وقفت
"فينوس" لتعانقـ ـه:
-
بمنظرهم ده، لا خليني في دور الرعب بتاعي أنا
مبسوطة كده.. مش عايزاه يحبني..
التفت نحوها بعد أن دفع "فينوس"
للخلف وأخبرها بحزن ونبرة حزينة:
-
طول ما هم عارفين إني بحبك وبيشوفوا أنا
بعاملك ازاي عمرهم ما هيعملولك حاجة، تعالي.
جذب يـ ـدها رغمًا عنها ليجد تصلبها بينما قربها
من "أوفيد" بقوة لتتكلم بتوتر:
-
لا عمر متهزرش، أنا مش عايزة اتعامل معاه
ثبت مُقلتاه المتعبتان عليها وهو يتملك يـ
ـدها بمزيد من القوة ليضعها فوق رأسه وهو يخبرها:
-
ميفرقش عن تايني في حاجة، جربي، عمرك ما
هتبطلي خوف غير لما تجربي..
ابتلعت وهي تشعر بهذا الشعر الثقيل أسفل
أناملها بينما شرد هو بملامحها المتوترة ولمـ ـسته لها وغرق بشروده لتذكره بالكثير
من المرات التي كانت تتوتر بها كلما اقترب منها لتفيقه من شروده وهي تهتف به بخوف:
-
خلاص، طبطبت عليه اهو، ممكن بقا تسيب أيـ
ـدي.
أومأ لها بالموافقة ثم اتجه للداخل وتبعه
كلاهما بينما زفرت هي براحة لابتعاد ثلاثتهم وأخذت تتفقد هذا المنزل الصغير، طابق
واحد، طراز عصري يختلف كثيرًا عن حقيقته، بعيدًا بالنهاية ترى جدار معبأ بالكتب
ومكتب كبير وكرسي عصري أمام هذه المكتبة التي انتهت بنصف جدار آخر يفصله عن فراش
وثير، ومنضدة جانبية صغيرة مُعلق فوقها مصباح يتصل بالحائط الخشبي الذي كان بمثابة
رأس السرير.
وأمامها أريكة بالكاد تكفي لثلاث أشخاص فصلت
طاولة صغيرة بينها وبين شاشة كبيرة تستند على حائط اتصل بمطبخ عصري وأرض خشبية
بالكامل للمنزل بأكمله، ألوان بدرجات الأزرق الفاتح وبعض التفاصيل البيضاء
والرمادية والكثير من اللون الأخضر لبعض النباتات باختلاطهم بلون الأخشاب، لقد
تغير كثيرًا عما عهدته عليه، مكتبه يبدو مُزريًا بكثرة تلك الأوراق عليه والكتب
التي لم يكترث بإغلاقها، لا تُصدق أنه ترك أربعة من الدفاتر كُحلية اللون فوق تلك
المنضدة الجانبية لفراشه، أليست هذه الدفاتر تُشبه ما حاولت أن تقرأ ما به يومًا
ما؟ ومنذ متى وقد توقف عن تنظيم أشياءه؟ وما الذي حدث حتى يمتلك هذا الدفء في مثل
تلك التفاصيل؟!
-
بلاش تريقة، بحاول ابعد عن الاكتئاب شوية!
همهمت له بعد أن انتبهت على صوته بعد أن
انتهى من وضع الطعام لكلبيه ووجدته يُمسك بكوبين من القهوة لتتعجب من إجابته على
ما يدور في رأسها:
-
اقعدي.
اتجهت نحو الأريكة وجلست بينما وضع هو
الكوبان فسألته بقليل من الاستغراب:
-
قهوة الساعة واحدة بليل؟
-
هنحتاجها!
ارتسمت على شـ ـفتيه ابتسامة عندما تذكر نفس
تلك الكلمات عند أول مرة آتت لمنزله ليجدها تتعجب متسائلة:
-
من امتى وأنت بتسيب مكتبك مبهدل كده؟
التفت نحوه وامتعضت ملامحه ليقول بنبرة
مستغرقة بالتفكير:
-
عشان شغال على حاجات فيها ولسه مخلصتهاش،
ميغركيش المنظر، أنا عارف كل ورقة مكانها فين، ويمكن أنتِ بس مشوفتنيش وأنا بشتغل
قبل كده.
هزت رأسها بدون اكتراث وتفقدت المنزل مرة
أخرى لتجد كل شيء مُنظم به ولكنه لم يعد يدل على مثل تلك البرودة لتتنهد وأخبرته:
-
قولي كل حاجة يا عمر، من حقي أعرف كل حاجة.
هز رأسه بالموافقة وسلط نظراته على قهوته
وبدأ في التحدث:
-
لو عايزة تعرفي كل حاجة فممكن اقولهالك من
اليوم اللي بعتبر حياتي ابتدت فيه نظريًا، بعد ما فوقت في المستشفى!
تريث لبرهة لتسخر بداخلها، يوم انهيارها
الأكبر كان هو يوم بداية حياته، ألم يجد سوى هذا اليوم ليعتبره بداية حياته؟! يا
للسخرية!
-
صحيت، فهمت إن بابا مكنش عايز يستعجل إنه
يفصلني عن الأجهزة وأنس واخواتي اخدو القرار وعملو كده من وراه، بس بمجرد ما شافني
متضايقش منهم وكان لازم أقنعه إنك مش السبب، كملت اكتئاب وزعل وسألت عليكي عدي
قالي إنك سافرتي، ده بإختصار يعني..
لم يُرد أن يوضح هذه الأيام اللعينة في حياته
وهو ما زال يتذكر كيف كان وهو يبكي أسفل ملابسها، ويفقد وعيه، ولا يُريد من الدنيا
شيء سوى تواريه خلف التراب، لو كان حدث هذا لكان راحة له من كل ما يُعايشه الآن،
منذ متى وهو يمتلك تلك الرفاهية بتحقيق ما يُريده؟
امتدت يده لتجذب تلك القهوة التي رأى بها
ملامحه التي لم يعرفها بذلك الوقت وتابع:
-
روحت لمريم، كنت عايز أعرف اللي قالتهولك ده
وخلاكي مقتنعة اوي كان إيه. قعدت معاها مرة وبعدين ابتديت ما بيني وبين نفسي اجمع
مواقف كتير سواء معاكي أو مع غيرك، كلمت عُدي وخليته يساعدني في باسورد كل كاميرات
المراقبة اللي كانت في البيت هنا، شوفت كل اللي حصل في الوقت اللي جالي فيه نوبة
هوس.
ارتشف من قهوته واختار أن يترك المنزل كنكرة
دون تعريف لمن منهما تعود ملكيته وحاول بشتى الطرق ألا تجرحها كلماته، لا يريد
ابتزازها بالرغم من مقدرته على فعلها، يعرف أن بداخلها تلك الفتاة في مكان ما وحتى
لو كانت تتظاهر بنقيض كل ما كانت عليه.
احتمت من تلك الذكرى الكريهة بكوب قهوتها
واقتربت قليلًا من الطاولة لكي تتناول منه ولم تستطع تملك القدرة على متابعة النظر
له، تلك الأيام وكل ما تبعها كانت بمثابة رعب قائم طوال اليوم، سواء كانت معه
خلالها أو حتى وهي نائمة، كانت تستيقظ مفزوعة خوفًا من أنه قد يكون فعل شيء، وكل
ما توالى بعد تلك الأيام كان بمثابة تصميمها على الفرار منه بأي طريقة، هي لا تود
الخوض في تلك التفاصيل ولا تريد أن تتذكرها على الإطلاق فسألته وهي تحاول أن تعبر
تلك الفترة بكل ما فيها:
-
وبعد ما شوفت اللي حصل كله؟ إيه اللي حصل؟
امتلأت نبرته بالسخرية وهو يُجيبها دون أن
ينظر لها:
-
إني اغتـ ـصب مراتي في مكان ممكن أي حد
يشوفنا فيه وأنا ضد التصرفات الجريئة في العلن، ارمي في الكُتب اللي أنا بحبها
وبحافظ عليها في الأرض، اصرف اكتر من عشرين مليون جنيه في شهر ونص، التوكيل اللي
عملتهولك معرفش ازاي وأنا عمري ما افكر انتقم من واحدة ست باني اخد منها فلوسها أو
شغلها حتى لو عملت ابشع حاجة ممكن اتخيلها فيا، شوفتك وأنتِ بتحطي الدوا في الأكل
وراقبت تصرفاتي، كل حاجة كانت بتقول إني مجنون وفيه حاجة في عقلي مش مظبوطة، وابتديت
أراجع كل اللي كنت بعمله في حياتي من زمان، بس كنت مستغرب ليه عمر ما حصلي كده قبل
منك!
المزيد من ذكر التفاصيل سيجعلها تعود لتلك
النقطة اللعينة التي ستفقد بها السيطرة على نفسها، كيف عليها أن تمنعه من التحدث
في مثل هذه الأمور وفي نفس الوقت تريده أن يُقر بكل ما يؤلمه وألمه بالفعل دفعة
واحدة؟ إن لم تتحمل القليل بعد لن تصل لكل ما خططت لفعله!
انزعج من وهنه الهائل بقص كل ما حدث عليها
ليزفر بضيق وواصل بصوت مختنق:
-
ساعتها حسيت إني ظلمتك أكتر وظلمت نفسي وروحت
أشوف بسام، قولت يمكن لو اعتذرت يبقا حاجة كويسة، أو مش عارف ليه عملت كده..
توقف عن الكلام من تلقاء نفسه لتلتفت نحوه
باستغراب ونطقت مستفسرة بدهشة:
-
بسام؟! ده كان امتى؟!
التفت نحوها ليشعر أن هذه المرة هي المرة
الوحيدة التي يقترب لها منها منذ عام كامل دون جدال أو كحوليات أو حتى تزييف أمام
أعين الناس وأجابها:
-
كنتي في مينيسوتا، بعد ما أنا ما فوقت بحوالي
أسبوع أو تمن أيام بالظبط. أنتِ كنتِ في أمريكا طول الوقت ده؟
كادت أن تجيبه بأن ليس له شأن بها، وأنه بدأ
في اتباع طُرق خبثه المعهودة، لقد كان الحديث عنه منذ البداية، كيف يحوله ليُصبح
عنها هي؟ ألم يكن سبب جلوسها هُنا هو طلبها منه بأن يخبرها بكل شيء؟ ولكن لو كان
هو خبيث فلقد تعلمت منه الأمر، أيريد أن يخدعها لمعرفة التفاصيل التي يجهلها؟
الرجل الذي يموت شوقًا لتجميع أكبر مقدار من المعلومات بالرغم من أنها هي من تريد
أن تفعل ذلك، ليكون إذن خبث وخداع ومكر ولترى من سينتصر بجلسة الاعترافات تلك!
أخذ ينظر لها ولم يتفهم تلك النظرات منها
ليتدارك ما قاله سريعًا:
-
لو مش عايزة تقولي خلاص براحـ
-
كنت في فرنسا.
حمحمت بعد أن قاطعته وصممت على أن تدفع به
المزيد من التشتت والألم النفسي الذي سيُهلكه بالكامل لاحقًا:
-
دفنت نفسي في الشغل، حاولت اهرب من كل اللي
كان بيحصل وباباك بيتهمني إني قتلتك، وافتكرت كلامك ليا وانت بتقولي إني مبعرفش
اعمل حاجة في شغلي غير البرمجة والتصليح، فقلت أبدأ أخلي الشركة دولية، وعملت كذا
عقد مع كذا شركة.
استرخى بجلسته بالأريكة وهو يُعيد ظهره للخلف
ليتساءل بسخرية:
-
ووقتها عرفتي دايفيد، مش كده؟
تناول البعض من قهوته ليرى كيف تتضح ملامح
خصـ ـرها المنحوت وهي تعانــ ـق كوب قهوتها الدافئ وتلك التقسيـ ـمات بظـ ـهرها،
هل كان يُعطيه كامل الحق بعلاقتهما الحمـ ـيمة؟ تبًا، جـ ـسدها وقوامها رائعان
يخلبان عقله دائمًا!
التفتت نحوه وهي ترمقه من أسفل أهدابها الطويلة
بزينة عسليتيها الفاتنتين ليرتبك من تلك النظرة لتجعله يزفر بمشقة ومن جديد زجر
نفسه لتذكره هي الأخرى بكلماتٍ منبهة:
-
هو الكلام كان عني ولا عنك، آه عرفت دايفيد
هناك، كمل، عملت إيه بعد ما روحت لبسام؟!
عادت من جديد لتنظر بالأرضية أمامها في
انتظار سماع المزيد منه ليحاول هو انتشال نفسه بالهروب من تفاصيلها ليحدق بالسقف
وتكلم مجيبًا بطمأنينة لا يشعر بها سوى معها:
-
اشتريت كتب وابتديت افهم أنا عندي إيه،
ابتديت اشوف كنت بعمل تصرفات كتير مش منطقية، مقدرتش اروح لمريم وقتها على طول..
كنت مصمم أشوفك الأول واتطمن عليكي وسافرتلك وشوفتك وبعدها رجعت وابتديت مع مريم.
نفخ بضيق وتجرع جرعة ليست بقليلة من قهوته
إلى أن أنهى ما بكوبه ثم اقترب ليضع الكوب أمامه على الطاولة وشابك أصابعه بتفكير
استغرق منه وقتًا ليس بالقليل ولم يجد أن تعديله من جلوسه جعله أقرب إليها وواصل:
-
أنا اتشجعت شوية لما شوفتك بتلعبي رياضة
وبتضحكي للي رايح واللي جاي، آه كنت فاهم إن كل اللي عملته فيكي خلاكي تعاني بس
طريقتك في المصحة وهدوءك اداني دافع شوية إني أكون أحسن فرجعت وابتديت مع مريم
اللي فسرت ليا حاجات كتير وكلامها على الكلام اللي قريته ربطه بكل تصرفاتي، يمكن
دي اللي هتفسرلك أنا مريت بإيه وده هيكون التفسير والتبرير اللي أنتِ عايزاه زي ما
قلتي، ودي على فكرة الفترة اللي حسيت إن حياتي بتبتدي فيها واقعيًا وعمليًا مش
نظريًا بس.
سلطت تركيزها على كلماته وهي ترتشف قهوتها
بصمت بينما سلط هو تركيزه على كل ما تذكره من كلمات "مريم" ليستطرد:
-
أول حاجة إني روحت مدرسة بعيد عن أهلي في سن
صُغير مع إهمال ماما ليا وقسوة بابا في تربيتي خلوني طفل تايه، بدور على الاهتمام
والاحتواء مش لاقيهم، ابتديت كطفل أغير من عُدي اللي واخد اهتمامها، المشاعر
اتحولت لحقد وغيرة وكُره ليه وليها مع السنين، وبالنسبة لبابا فأنا أكتر واحد عارف
إنه بيحبني بطريقته، عايزني يشوفني أحسن واحد بس من وجهة نظره.
-
بيحبك اه، واضح!!
عقبت بسخرية فالتفت نحوها مما جعلها هي
الأخرى تلتفت نحوه وتبادلا النظرات لبرهة وهو يرى عدم اقتناعها بكلامه فأخبرها:
-
زيك، حب بابا ليا زي حبك ليا، انتو الاتنين
بتحبوني بس عايزين أعمل اللي أنتو شايفينه صح ومقبول من وجهة نظركم.
ضيقت ما بين حاجبيها بتعجب وسألته بعفوية
متهكمة:
-
أنت شايف إن طريقتنا واحدة؟
تفقد ملامحها عن قُرب ليرى نفسه يُقبلها دون
انقطاع وهي تبادله بعد أن يتوقف عن تلك اللعنة التي يقصها عليها وهو لا يُريد أن
يتذكرها وحاول الانتباه لسؤالها المتهكم فأومأ بالموافقة ثم أجاب متخذًا استفسارها
على محمل الجدية وحاول أن يفيق نفسه من تخيله الذي لن يحدث أبدًا:
-
آه، أنا عايش وسط الخيالات والعزلة وبابا
شايف إن هدوئي الزيادة والحاجات اللي كنت بقراها وبحبها وبتعلق بيها ملهاش لازمة
وتافهة ومش هتفيدني ومش مناسبة لراجل ناجح ويُعتمد عليه وكده هكون فاشل، بس أنا
ابنه وبيحبني وصمم يخليني محامي زيه وكمان ابقا شاطر، إنما أنتِ كنتي شايفة إن
اللي بعمله معاكي غلط وإني اربطك أو اضربك ضرب خفيف او اقعدك تحت رجلي ده مش على
مزاجك ومش حباه والصح من وجهة نظرك إني أفضل الزوج الرومانسي الهادي الحنين،
وصممتي تغيريني وتغيري اللي أنا بحبه خصوصًا في وقتنا في السرير مع بعض أو لما
باجي اقرب منك، بس أنا كنت جوزك وكنتي بتحبيني بالشكل اللي أنتِ عايزاه ولما كنت ببعد
عن اللي أنتِ بترفضيه كانت حياتنا بتبقا حلوة وهادية ومفيهاش مشاكل.. فأنتِ وبابا
نسختين من بعض، لو بقيت زي ما انتو ما عايزين هلاقيكم جانبي وبتحبوني وبتساعدوني،
إنما لو فكرت إني أعمل اللي أنا عايزه هلاقيكم أول اتنين معترضين على كل حاجة
والمشاكل بتبدأ ما بينا، فمن وجهة نظري أنتم الاتنين بتتعاملوا معايا بنفس
الطريقة!
امتعضت ملامحها ونظرت أمامها بانزعاج لمجرد
هذا التشابه، يستحيل أن تكون نسخة من هذا الرجل الملعون القاسي، واهتزاز رأسها
بالنفي الذي آتى بعفوية منها دون أن تشعر كما تبع حركتها التلقائية كلماتها التي
انطلقت منها برفض قاطع لوجهة نظره الكريهة:
-
استحالة، كلامك مش صح، أنا بعترض على الغلط،
مفيش إنسان بيحب مراته يعاملها بقلة احترام وقسوة وإهمال وخبث. إنما باباك بيعترض
على الصح وشخصيتك من زمان!
ابتسم لقولها وألقى على مسامعها الكثير من
علامات الاستفهام التي لا ينتظر عليها إجابة حقيقية ولم يتوقف عن متابعة ملامحها
الفاتنة وتمزق مشتتًا بين مقدرته على السيطرة على نفسه وبين صوغه لأسئلته التي
لابد من احتوائها على الكثير مما سيُذكره بأوقات بينهما لا يتمنى أكثر من عودتها:
-
فكري
كويس كده، امتى عاملتك بقلة احترام قدام حد؟ امتى كنت خبيث معاكي؟ امتى كنت قاسي
عليكي؟ وامتى اهملتك؟ امتى بابا كان قاسي عليا؟ وايه سبب قسوته؟ ليه أصلًا كان
رافض شخصيتي من وأنا طفل صغير؟ ايه سبب إنه رافض تضيع وقتي في حاجات ملهاش لازمة؟
لو كنتي بتنفذي كلامي، كنت ببقا معاكي كده؟ مش لازم تردي على فكرة!
نهض بسرعة ليحمل الكوبان وقام بالتوجه نحو
المطبخ لتتابعه وهو يقوم بغسلهما وتجفيفهما ووضعهما بالمكان المخصص للأكواب وقام
بفك ربطة عنقه وهو يحاول أن يتخلص من تأثيرها عليه ليشرع بالتدخين بعدها فنهضت وهي
تقترب منه وجلست على واحدًا من المقاعد المحيطة بطاولة المطبخ الرخامية أمامه
بالجهة المُقابلة ليجدها تجذب واحدة من سجائره لتضمها بين شـ ـفتيها ليحقد على
لفافة التبغ التي تستطيع تملك ما لا يتملكه هو ولاحظ كيف بسطت يـ ـدها له لتطالبه
بالقداحة فقام بإشعال سيجارتها وهو يُتابع كيف تتفلت تلك الأدخنة من بين شـ ـفاهها
ليلعن حظه الذي لا يسمح له بجذبها إليه وتقـ ـبيلها حتى الصباح!