-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه الفصل 47 بالعامية

  رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

الفصل السابع والأربعون

النسخة العامية


هل لها من الأمر أن ترحم وتعفو على روح مُنهكة؟ الإجابة ستكون لا، لو نهض هو وغادر الغرفة وأصبحت هي من تجلس على هذه الأرض بدلًا منه، لن يرحم ولن يعفو. يكفي شفقتها على أذنيه بسماع نبرة صوتها المنزعجة.

 

-       عايزة تعرفي إيه؟

-       متعملش غبي!

 

إجابة حيادية ومنصفة، تُريد أن تلقيه بهاوية الألم، وتريده أن يبوح والبوح شاق عليه، تدفعه للذكريات الحالكة التي صنعته، وحياة بأكملها لا تستحق كل ذلك، تنهيدته لم تكن من أجل آلامه، إنما من أجل تلك الفكرة السخيفة التي لوحت لخياله الشاسع الذي لا يتوقف.

 

عندما تصبح أسيرًا وتُجبر على الاعتراف تتواجد على الجهة المقابلة تلك اللذة في نفس السُلطات التي ستستمتع بمباراة حامية من التباهي بمهاراتها أمام لاعب قليل الخبرة لتوه أُعلن عن اسمه بنادي الناشئين، هناك لذة بأن تستخرج ما تريده من الذي تُمارس عليه سطوتك ونفوذك بكل ما تملكه، ليت هذا التخيل كان حقيقي!

-       انا امبارح حكيتلك لغاية فين؟

 

هذا ليس بسؤال، إنما مراوغة واضحة لاستفزازها بالنطق، فلتقول أي شيء، فلتخبره أنه سيبقى هنا للأبد، أو أن ما تفعله به رحمة على نقيض ما فعله منها، لتكشف ستارها عن جوهرها الذي يعشقه، مهما فعلت، ومهما امتلكت من خيال وحيل وأفكار، ستظل إلى النهاية تلك الفتاة الصغيرة الشاردة في كونها الرتيب بأفكارها المحدودة، هل لو ألقى بنفسه في سجن حقيقي سيظل مغرم بها للأبد؟!

 

-       كنت بتتكلم عن حياتك وأنت صغير مع باباك. لما كنت بتقرا، وإنك كنت طفل فاشل وراجل فاشل مع مراتك، أو بتتهمنا إننا بنقولك إنك فاشل.

 

ابتسم من مجرد تصور الأمر، بنطال أسود ضيق وقميص يُعانق قوامها الفاتن، الأزرق الداكن؟ لا بل الرمادي، سيليق بعسليتيها أكثر، وحزام لخصـ ـرها الرائع، جلدي أسود اللون، وحذاء يحاكي منتصف ملابسها، جلدي مثله، مظهر عملي بخصلاتها الرائعة لتستر فتنتها لتعقدها للخلف فلا يحتاج متهمها للشرود بالتمعن في تفاصيلها باهرة الملامح، ولكنها لن تستطيع أن تخفي تلك النظرات التي لو صوبتها بعسليتيها لمن تستجوبه سيسقط صريعًا لها هو وكلماته التي ستذعن لها دون مجهود!

-       قلتلك إن الأعراض الذهانية بدأت معايا لما كنت في اعدادي ولما دخلت الجامعة بعد ما بابا شاف إن كلية حقوق مناسبة ليا ومناسبة للمجموع القليل بتاعي، عرفت يُمنى وحبتها وهي كده كلها على بعضها عوضتني عن كل حاجة، فالمشاعر معاها خلت الأعراض تخف شوية، وسني في الفترة دي كان متقلب، هي كانت أكبر مني بسنة، كانت بتعرف تحتويني بمنتهى السهولة.

 

استمعت لكلماته وهي تستغرب صياغته، لم تكن تريد هذا، لم تتخيل أن الأمر سيكون بمثل هذه السهولة، بل قوله لا يتماثل مع تلك الكلمات التي كانت تؤلمها هي نفسها برسائله إليها.

 

آتى صوته بالمزيد لتظن أن ربما ستصل لما تريده فاستمعت له:

-       لما روحت الجيش وعرفت إنها بتخوني وكلام بابا ليا وهو عايزني إنسان شاطر في مجال أنا مبحبوش حصلي أول نوبة هوس، كانت عبارة عن شرب ومذاكرة كتير وبابا دايمًا كان جنبي ونوبة الهوس كانت خفيفة.. قعدت كذا شهر، بس اللي اكتشفته بعد ما فهمت عندي ايه إني جبت كُتب ملهاش لازمة، وابتديت أشك في كل الناس ما عدا بابا، وبعد الهوس هديت شوية وكنت طبيعي، واكتئاب بقا قعد سنين..

 

ضيقت ما بين حاجبيها وهي تستمع له بمقت لكلماته ووجدته يُتابع:

-       قبل جوازنا أنا جالي تلت نوبات هوس والباقي اكتئاب، نوبة هوس بعد ما عرفت اللي عملته يُمنى، نوبة في النص، ونوبة قبل جوازنا بسنتين اللي كنت هموت فيها البنت، كنت محظوظ أوي إن عاداتي اليومية من القراية والرياضة والتنظيم بتخليني اتغلب على الاكتئاب وبتبعدني عن نوبات الهوس، والدافع في الشغل إني اثبت ليمنى وبابا إني شاطر عشان انتقم منها وعشان أرضيه، فلو بتسأليني ليه مرضي مظهرش غير معاكي فمش لاقي أي مبرر غير إني كنت بتأثر بيكي وبعلاقتنا وبخوفي من إن كل ده يتهد وطبعًا مش هانكر إن عاداتي اتغيرت كتير من ساعة ما اتجوزتك. ولو عايزة تفسير أكبر للي عندي فأنا اضطرابي من النوع التاني نوبات الاكتئاب فيه ممكن تستمر بالسنين عادي من غير هوس خفيف.   

 

لقد كانت لتوها بالقرب من جامعته وبداية عمله وانتهى الأمر بزواجهما، كيف يتمكن كل مرة في صياغة كلامه بهذه الطريقة؟

 

كادت أن تتحدث ولكنها وجدته يستطرد:

-       أنا كنت مكتئب في اول جوازنا وبعدين كنت عصبي، الاعراض الذهانية معايا كانت بتزيد وبسمع أصوات وبتخيل حاجات كتيرة، وبعدين امزجتي نفسها كانت بتتغير كتير معاكي وبسبب إني مش عارف اخد قرار في حياتي وموضوع الطلاق وانفصالنا واللي افتكرته لما سافرت البلد جالي نوبة الهوس اللي كانت أكبر نوبة، بعدها انتي قدرتي تحطي أدوية في الأكل، فوقتني شوية، بس عدم انتظام جرعاتها واللخبطة فيها كل شوية خلتني لا مني في هوس ولا اكتئاب ولا حتى مزاج مظبوط، فدماغي وقتها كانت بتعك وبعدين دخلت في اكتئاب لما شكيت فيكي والتخيلات والهلاوس شغالة برضو معايا. اعتقد احنا الاتنين عارفين ايه اللي حصل وفي الاخر طلقتك. وبالنسبة لنوبة الهوس اللي شوفتيها لما كلوديا كانت هنا كانت بسبب إني شوفتك تاني، كانت بعد حوالي 11 شهر من طلاقنا وأظن انتي فاكرة فوقت منها ازاي.

 

استمعت لهمهمته بينما اتفرج ثغرها بذهول ليحدثها مُنهيًا كلماته:

-       بس كده، أظن أنتي بقيتي عارفة إن مرضي كنت بتغلب عليه ازاي وايه اللي حصل يخليني معاكي غير الباقين!

 

أطلقت زفرة ساخرة لتندم على كل وقتها الذي أضاعته بالثرثرة معه وقالت:

-       بتتكلم بمنتهى السهولة وكأن اللي عدا عليك كان سهل.

 

ابتسم بمصداقية ليتكلم قائلًا:

-       لا مكنش سهل، أنا بشرحلك الجزء العملي الواقعي النظري اللي هيديكي كل اجاباتك، إنما مش بكلمك بمشاعري ولا وجعي ولا قد ايه كان صعب عليا، مالوش لازمة.

 

ترددت وهي تحاول أن تواكب كلماته لتُفكر سريعًا بكلمات تستطيع أن تؤثر به وهو يبدو كالفولاذ لا يتأثر بأي شيء لتقول مستفزة إياه:

-       كالعادة بتخبي الكلام وسط الكلام وترغي كتير من غير ما تجاوب عليا، عارف، كل مرة أتكلم معاك تثبتلي إنك متغيرتش.

 

حاول ألا تتجلى ابتسامته بكلماته التي عقب بها:

-       انتي كنتي واضحة في اللي أنتِ عايزاه مني، قولتي إنك عايزة كل حاجة، سواء قبل ما اعرفك ولا بعد ما سبنا بعض، وكنتي عايزة تفسير منطقي للي كنت بعمله معاكي أو حتى مع غيرك، كل حاجة مريم قالتهالي أنا قولتهالك وممكن تتأكدي منها بما إنك من قرايبي من الدرجة الأولى وأنا مريض ممكن تفهمك تتعاملي معايا ازاي على ما اطلقك، دلوقتي معاكي تبرير واضح مني وممكن من دكتورتي، اظن عرفتي ازاي أوقات كنت بكون عادي ومش ظاهر عليا حاجة واوقات لأ. أنا إنسان مريض وعقلي بيفهم غلط في أوقات مُعينة، محتاجة تعرفي ايه تاني؟

 

شعرت بنفسها تحترق غيظًا من كلماته حيث اشتق من كلماتها اللية الماضية عندما سألته لتجد نفسها تصيح به:

-       مرضك يخليك تربطني من رقبتي جوا قفص ومتتكلمش معايا وتشرحلي ضهري وتحطلي الاكل زي الحيوانات؟ بعد نوبة الهوس اللي اديتك فيها أدوية بنفسي! أنت حتى مصدق كلامك ده؟!

-       أيوة مصدق، وانتي بنفسك بتقولي اهو كنتي مربوطة ومش بتديني ادويا ووقفت مرة واحدة، دماغي نفسها مكنتش مظبوطة، ولو راجعتي أوقات الدوا هتلاقيها في الأول بس كانت مواعيدها منتظمة، بعد كده وقفت، والتخيلات اشتغلت وشكيت في إنك ممكن تسبيني وتكوني مع راجل تاني بعد ما دخلت لقيت ابن خالتك بيلمـ ـسك وايـ ـده عليكي ولا كأنك مراته، وعملت الزفت اللي عملته وقتها وحبستك، كان فيه قبلها عشرين يوم مبنتكلمش، الدوا مكنش بانتظام، وساعتها كنت بعيد قراية رواية لماركيز ومتخيلتش غير كل الطرق اللي تخليني ابهدل واحدة ست والخيالات اشتغلت بقا، مش مبرر إنك تسامحيني ولا مبرر للي عملته فيكي وأنتي أصلًا مبتقبليش الأسلوب ده من التعامل، بس أنا بقولك الحقيقة ولو حابة تختاري أي دكتور نسأله أنا معنديش مُشكلة.

 

امتعضت ملامحها مما يقوله وحاولت أن تبحث خلف كلماته لتدرك أنها ببعض الأوقات كانت لا تستطيع وضع جرعات الدواء بانتظام ولكنها لم تقبل ذلك البرود الذي يتحدث به وكأن شيئًا لم يكن فتفوهت بغيظ:

-       تعرف، أنا غلطانة أصلًا إني سألتك، محامي وطلعت نفسك مريض وخلاص كده. أكيد عملتها مع ناس كتير. بس كلامك ده كله موضحليش اللي أنا عايزاه!

-       ده حقيقي فعلًا!

 

انزعجت من رده لتجده يستطرد:

-       عشان أنتِ مكونتيش صريحة فاللي أنتِ عايزاه معايا، ليه موقفتيش وقولتيلي إنك عايزاني احكيلك معاناتي كلها واحساسي ومشاعري. كنتِ اختصرتي على نفسك وجع دماغ ووقت ضيعتيه!

 

احتكم منها الغضب بشدة بفعل كلماته ليواصل من تلقاء نفسه بتنهيدة:

-       ومن وجهة نظري مالوش لازمة تعرفي مشاعري، هو أنتِ كنتي عملتي ايه بمشاعري أساسًا؟ هتغفرلي مثلًا اللي عملته فيكي؟! ولا هتفتكريها وأصعب عليكي؟ عارفة، مُشكلتك إن أنتِ مهما اتكلمتي معايا مش هتوصلي لحاجة، كلام في الهوا.. حتى مشاعري ملهاش لازمة، فالأحسن منتكلمش عنها، لو قولتهالك مليون مرة بمليون طريقة عمرها ما هتغير اللي حصل.   

--

-       ها، عجبتِك؟

 

عقدت ذراعيها وهي تحاول أن تُخفي تلك السعادة التي تملكت كل ما بها فهي عرفت أنه لم يكن يمزح بخصوص أمر عملها لترد باقتضاب:

-       ايوة كويسة، بس مش عشان جبتلي عيادة ده هيديك الحق إنك تكلمني بالطريقة اللي أنت كلمتني بيها دي.

-       ومش عشان بعملك كل اللي أنتِ عايزاه وبصبر عليكي يديكي الحق تعامليني بالطريقة دي!

 

-       طريقة ايه، هو أنا كنت غلطت فيك يعني؟

 

 

شعر أن لو استمر حديثهما بهذه الطريقة سيتحول لجدال حتمي لا مفر منه فابتسم وحدثها بمرح بالرغم من غيظه الشديد من تصرفاتها:

-       بقولك إيه، أنا ماما ماتت بقالها كتير ونفسي اتدلع وغلبان واتعلمت الصبر من يوم ما عرفتك، اتعرفنا واتخطبنا ومكوناش بنخرج ولا بنتكلم كتير، وبما إننا كتبنا كتابنا يعني ومن حقنا نتعامل شوية أكتر مع بعض، ممك أسأل فقرة الدلع هتيجي امتى في حياتنا أنا وأنتِ يا حبيبتي؟

 

تفقدته بلمحة عابرة من أسفل أهدابها لتتنهد ولانت نبرتها قليلًا لتخبره مُجيبة:

-       ما أنا لو كلمتك في حاجة بعد كده هتقولي عايزة أخلص من قرف أهلي فالأحسن اسكت وأقولك إن شاء الله نبقا كويسين وخلاص.

 

قلب عينيه ليُحدثها بنبرة متوسلة:

-       والله كان غصب عني واعتذرتلك، يا عنود أنا مبقاش بعملك قرد عشان ترضي وأنتِ في الآخر تعامليني بالنشفان ده، أنا خلاص بقيت خايف أحـ ـس إنك مش بتحبيني، لو لسه متضايقة فأنا آسف.

 

رمقته بقليل من الاستياء ثم سألته:

-       ولو اتكررت تاني؟

 

عقد حاجباه ثم أجابها بثقة:

-       صدقيني مش هتتكرر.

 

تريث لبرهة وهي تستغرق بالتفكير وهزت رأسها بالموافقة لتقول بهدوء:

-       تمام، بس لو حصلت تاني وانا لو كان عندي ستين سنة و 10 أولاد منك أنا هخلعك ومش هتناقش معاك أصلًا في الموضوع ولا هديك فرصة تتكلم، أنا بس عديتها عشان أول مرة، إنما إنك تعايرني بالأسلوب ده أنا استحالة أكمل معاك أبدًا.

-       اعايرك!

 

اشتق من كلماتها مُكررًا ليتعجب من قولها ليُحدثها بجدية:

-       قولتلك مقصدش، وأنا عمري ما اعاير حد أبدًا سواء أنتِ أو غيرك ده مش طبعي، صدقيني قلت كده عشان بس حا سس إنك مش طيقاني وزي ما يكون حد غاصبك عليا.

 

امتعضت ملامحها بالانزعاج وهتفت به:

-       وهو لو كان حد غاصبني عليك كنت اتكلمت معاك أصلًا.

 

ابتسم زافرًا بدلًا من أن يفقد أعصابه مرة ثانية ويتفوه بما لن يُعجبها وأخبرها بنبرة ذات مغزى:

-       يا عنود، يا حبيبتي بطلي دبش بدل ما نتخانق تاني!

 

رفعت حاجبها بتحدي وحدثته بثبات قائلة:

-       ما احنا هنتخانق، أنت أصلًا ازاي تعمل اللي عملته ده في الشارع، افرض اللي شافونا ميعرفوناش ومتقولش مراتي، متعرفش فيه إيه في نفوس الناس.. أنت لو قربت مني بالطريقة دي تاني أنا هـ

-       هـت إيه؟ هتخلعيني عشان بوستك أو حضنتك أو مسكت أيـ ـدك؟

 

قاطعها وتبادلا النظرات لوهلة لتدارك قولها وتُنفي ما قاله:

-       أكيد طبعًا لأ، بس الحاجات دي مش دلوقتي.

 

ضيق عينيه وهو يأخذ نحوها خطوة لتتأهب هي:

-       امال امتى؟

 

ابتلعت من تلك النظرة المتلاعبة بعينيه واجابته:

-       لما نبقا نتجوز.

 

ابتسم بخبث ودنا منها بخطوة أخرى ليقول:

-       ما احنا متجوزين من امبارح ولغاية دلوقتي مسمعتش منك حتى كلمة حلوة ولا شوفتك بتضحكي ولا أي حاجة تقول إنك مبسوطة خالص باللي حصل.

 

نظرت نحو قدماه وهي تستعد في أي لحظة للابتعاد وأخبرته بتوتر:

-       اقصد بعد فرحنا، أنت فاهم قصدي كويس.

 

شعر بما تفعله فتوقف بمكانه وهو يتفقدها في صمت وقلب شـ ـفتاه وهز رأسه بالموافقة:

-       خلاص خليني لغاية فرحنا بتفرج على الخدود دي من بعيد.

 

رفعت حاجباها وهي تكرر كلمته:

-       خدود!!

 

أومأ لها بالموافقة ثم أخبرها:

-       أكتر حاجة بحبها في ملامحك..

 

تنهد ثم التفت وخرج للشرفة ولم تفهم لماذا تركها وذهب فتبعته ونادته متعجبة:

-       يونس، أنت هتفضل واقف هنا ولا هنخرج؟

 

حمحم ولم يلتفت لها ليجيبها باقتضاب:

-       معلش سيبيني خمس دقايق.

 

شعرت باختلاف نبرته وقبل أن تخبره بالمزيد بادر هو وهو يلتفت لها وأخرج مفتاح سيارته وقدمه لها:

-       لو حابة ممكن تستنيني في العربية.

 

هي تعرف ملامحه جيدًا، ولم تره قط بمثل هذه التعابير على وجهه، ومهما بلغ جدالهما لم تشعر أبدًا بمثل هذا الحزن الذي يتضح بصوته فسألته وهي تقترب نحوه بعفوية:

-       فيه إيه مالك يا يونس؟ أنت كويس؟

 

هز رأسه بالموافقة بينما التفت مرة ثانية وترك المفتاح على سور الشرفة وأخبرها:

-       أنا تمام، استنيني بس تحت وانا هنزل كمان شوية، كلمي عُدي على ما اجيلك وقوليله إننا خرجنا خلاص عشان لو هتروحي معاه.

 

التزم الصمت التام فازداد استغرابها من تصرفه فسألته مرة ثانية:

-       فيه إيه بجد، احنا مش جينا هنا سوا، وبعدين كنا هنخرج؟

 

التفت نحوها بلمحة جانبية واجابها متكلمًا بجدية:

-       أنا طول عمري بحب الهزار والضحك، بحب اللي حواليا يكونوا مبسوطين وبكره النكد، من ساعة ما شوفتك النهاردة وأنا عمال اراجع نفسي وأقول إيه اللي أنا عملته معاكي غلط عشان معاملتك دايمًا تفضل ناشفة كده، أنا مش هاخطفك يعني ولا مستعجل على أي حاجة قبل الجواز بس كل ما أقرب منك أو بهزر معاكي بكلمة أنتِ بتقفليني. أنا بس عايز غلطة واحدة عملتها عشان أفهم سبب معاملتك دي، سيبيني شوية أفكر وهلاقي حل، استنيني في العربية ولو فعلًا خرجنا دلوقتي أنتي مش هتتبسطي.

 

زفرت بعمق وهي تتابعه وفكرت بكلماته وترددت لوهلة وهي تتفهم ذلك الحزن الذي رأته جليًا على ملامحه بعد أن عانت منه لسنوات طوال حياتها وحدثته بهدوء:

-       أنا أول مرة عمر يحضـ ـني تقريبًا كانت امبارح قبل ما انزل القاعة عشان كتب الكتاب،  بابا وماما معملوهاش، مطلعتش منهم حتى، عدي دايمًا بيتريق على كل حاجة، بابا وماما كاتنين متجوزين بيتعاملو كأنهم جيران فيه بينهم مشاكل، ده يعني لو كانوا هاديين من غير خناق، فأنا مش عارفة اتعامل معاك ازاي، بعاملك زي اصحابي، وبحاول اتعامل معاك كويس، بحكيلك على كل حاجة وبقولك حاسة بإيه وبعرفك إيه اللي بيضايقني وبحبك وواثقة فيك، بس فيه كلام مش بعرف أقوله، فيه حاجات متعودتش اعملها، مشوفتهاش أصلًا في حياتي عشان اتعامل بيها.. معلش أنا آسفة..

 

وقفت تلك الدموع المكتومة فوق مُقلتيها لتحول بينها وبينه لتواصل بحُزن:

-       اصبر عليا شوية، أنا بحاول والله، بكرة هتعود عليك وعلى اللي بتحبه واللي بتكرهه وهابقا كويسة و..

 

قاطعها جاذبًا إياها ليضـ ـمها إليه لتتحول عبراتها إلى بكاء وربت عليها وحاول أن يوقفها عن البكاء وأخبرها بهدوء آسفًا على كل ما سمعه:




تابع قراءة الفصل