-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 51 بالعامية

   رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

الفصل الحادي والخمسون

النسخة العامية



لقد طفح الكيل من الحياة بما وبمن فيها، مجرد قرار أخذه لينام ويستيقظ يجد نفسه بغرفتها، متى سينتهي هذا العذاب؟ لقد حاول قتل نفسه لمرات وقد فشل والآن المحاولة من جديد قد تُسفر عن أذاها، والده لن يُصدق أبدًا أن ابنه مختل عقلي يحتاج لعلاج حتى يوم مماته! لماذا عليه أن يتحمل كل هذا العذاب؟!

 

وقف أمام منزله بعد أن اتجهت قدماه بعفوية ثم وجد نفسه لا يملك مفتاح فاكتفى بفتحه بنظام الحماية الذي لا يعرف كيف تذكر الرمز الخاص به ووجد كلباه بالداخل ليلاطفهما عندما اقتربا منه بالرغم من الغضب الشديد الذي يُسيطر على كل ما فيه، هو ليس غاضبًا سوى من أنها الوحيدة التي تتحمل ما لا ذنب لها به، ما الذي حدث ليلة أمس على كل حال؟

 

كل شيء يخذله، الحياة وهي وعقله ونفسه ووالده وعمله، ما الذي حدث بقضية "فيروز عبد الحي" وما تاريخ اليوم؟ وأين هاتفه؟ وما هذا التشويش والألم برأسه؟ هو بالكاد يتذكر ما حدث يوم أمس!

 

اتجه نحو مطبخه ليصنع بعض القهوة وأعد أي طعام يتناوله حتى يتمكن من تناول دواءه وفي حين انتظار نضج القهوة استمع للجرس فاتجه بنفس الحالة من الغضب وهو يتفقد من الذي آتى ليجدها هي وتُمسك بهاتفه ووجدها تطالعه بنظراتٍ متفحصة ليجذب الهاتف من بين يـ ـديها وكاد أن يُغلق الباب فمنعته وحدثته بأكثر نبرة هادئة استطاعت أن تتكلم بها:

-       استنى، عايزة أتكلم معاك شوية.

 

لا يفهم تمامًا ما الذي يُعاني منه ولكنه يعرف أن غضبه الذي يشعر به يمكن أن يكلفه الكثير معها فاختار أكثر الحلول سلمية ليخبرها باقتضاب:

-       كلميني على الموبايل!

 

وجدت الباب مُغلق بالفعل بوجهها لتندهش من فعلته فيوم أمس كان رجل واليوم هو رجل مختلف تمامًا عن هذا الطفل التائه الذي كان لا يعرف أي شيء عن حياته ولكنها أدركت أن عليها ترك غضبها ومقتها لتصرفه جانبًا الآن واتجهت عائدة لمنزلها وتناولت هاتفها ثم هاتفته سريعًا وبمجرد استقباله للمكالمة سألها بطريقة تفتقر ولو لذرة من الامتنان على كل ما فعلته:

-       عايزة إيه؟

 

حاولت مرة أخيرة أن تتحدث له بهدوء لكي يفهم تمامًا ما يمر به فمكالمتها مع "مريم" قد وضحت الكثير بالفعل:

-       أنت امبارح أخدت أول جلسة ect وحتى جيتلي المكتب وادتني ورق مهم كاتب فيه كل حاجة تخصك، لو مش مصدق ممكن تفتح المكتب بتاعك كنت شايل نسخة هناك فيها كل الـ passwords وحساباتك.

 

اتجه ليرى ما إن كان كلماتها صحيحة بينما تابعت هي:

-       حاول تفطر وتشرب سوايل كتيرة ومن الساعة اتناشر متشربش أو تاكل حاجة، بلاش أي أدوية خالص في الفترة دي، مريم قالت كده وممكن تتصل بيها تسألها، وبلاش سجاير أو كحول أو حتى pipe.

 

نظر لتلك الأوراق ليقلب أول صفحة ورأى ما كُتب فيها:

-       روان متعرفش حاجة عن النسخة دي، لو شاكك راجع كاميرات البيت.

 

قام بفتح حاسوبه سريعًا بينما استمع لها وهي تسأله:

-       أنت فاكر اللي حصل امبارح ولا لأ؟

 

شرد باستغراق في التفكير وبدأت بعض ملامح الأحداث تتكون برأسه عن القضية وعن ذهابه لشركتها وعن "مايا" وتذكر ذهابه للمشفى وخروجه منها واضطرب وجهه عندما بدأ في تكوين فكرة عن نفسه معها ليلة أمس!

 

-       عمر، أنت كويس؟

 

نبهته بسؤالها الذي لا يملك إجابة عليه ليجدها تتابع من تلقاء نفسها:

-       أنا عارفة إن اليومين دول مش أحسن حاجة وهتعديهم، بس لازم متكونش لوحدك، اقعد حتى مع أي حد مش لازم أنا.. وعندي اقتراح ممكن يساعدك شوية.

 

تنهدت بعمق وهي تُفكر بالأمر وتتذكر كيف كان ليلة أمس لتُردف:

-       أكتب كل حاجة بتحصل اليومين دول، ولو حاسس إنك مش قادر تكتب ممكن تبعت كل اللي بيحصل في voice notes على الموبايل هيبقى أسهل من الكتابة، طبيعي تلاقي نفسك مش فاكر كل الأحداث بس أنا فاكرة كل حاجة حصلت لو عايز تسألني.. ويكون أحسن لو قعدت معايا أو مع مايا أو حتى اخواتك، لو احتجت حاجة كلمني!

--

بعد قليل..

ارتشف من قهوته وقد راجع تلك الكاميرات ولا شيء يدل على تواجدها بمنزله، لقد كانت صادقة معه إذن، لم يأتِ سوى سائقه ووضع بعض الطعام لكلبيه وأخذ بعض ملابسه وعاد من جديد ليذهب بكلبيه ليقضيا حاجتهما ثم أعادهما للداخل مرة أخرى.

 

نظر بالأوراق مرة ثانية ليجد موضع لملف على حاسوبه فتفقده ليجد الملف مُسمى بجملة غريبة "كلمة السر كاتبك المُفضل". هل كان أبله لفعل ذلك؟!

 

طبع الاسم بالعربية فلم يفتح بالمرة الأولى وفي المرة الثانية كتب اسمه كما ينطق بالإغريقي فاستطاع الولوج للداخل ليجد مستند قام بالنقر عليه وأخذ يقرأ ما فيه:

-       أنت بقيت بتاخد ect عشان الاكتئاب، محدش يعرف غير روان، وأنت لو مفوقتش مش هتعرف تكمل في القضايا ولا هتعرف تطلقها، فيه قانون مهم المفروض تشتغل عليه مع أنس، وبعد ما تجرب في قضايا الاغتـ ـصاب الزوجي والطلاق للضرر (مواعيدها مع باسم) وقتها هتبقا أدلة وممكن تتقدم في البرلمان وأنت معاك الأدلة اللي هتدينك عشان تقدر تطلق روان بسهولة (الأدلة موجودة من الكاميرات القديمة في البيوت).. رقم مريم لو مش متأكد موجود في موبايلك.

روان متعرفش أي حاجة عن القضية، متجبلهاش سيرة غير في الآخر خالص بعد ما تتأكد إن كل حاجة في صالحها.

الورق موجود فيه كل حاجة تخصك بس من غير أي حاجة ليها علاقة بروان، مايا ممكن تساعدك في القانون والقضية لأنها صحفية، عرفتها من الـ gym ورقمها على موبايلك.

 

نظر فيما يراه أمامه وتذكر ما قرأه منذ حوالي عام عن جلسات تنظيم إيقاع المُخ فبدأ يهدأ نوعًا ما بما أدركه ولكنه كان على يقين بأن الغضب ما زال بداخله في مكان ما، واقتراحها اللعين بتدوين كل ما يحدث له كان جيد، ولكن كيف سيفعلها وهو يجد بعض التشويش بالرؤية ولم يكن يومًا من محبي الكتابة باستخدام الحاسوب؟!

 

زفر بضيق ثم تجرع قهوته بالكامل ونهض ليسكب أخرى وهو يحاول ترتيب ما سيحدث بالساعات القادمة حتى موعد الجلسة الأخرى، يهاتف "مريم" أولًا، ثم والده فقط ليعطيه بعد المُسكنات حتى لا يُفسد له ما يريد تحقيقه، وبعدها قد يحاول الكتابة بأي طريقة، وإن لم تُفلح كل وسائله ربما سيحاول أن يتحدث لـ "مايا" أو يراها.

 

أعلن هاتفه عن وصول اشعار فتفقده ليجد رسالة من "روان" فقرأها حتى يرى ما الذي تريده:

-       أنا اخدت الشهر الجاي كله إجازة، لو حابب تعمل أي حاجة الفترة دي أنا معنديش مانع.

 

أغلق الشاشة من جديد ليتصاعد غضبه بتلقائية وهو لم يعد يتقبل فكرة أنها الوحيدة التي تتعامل مع وضعه الراهن، ليست هي المُذنبة لكي تتحمل هذه المسئولية وهو كالأخرق لا يعرف كيف يتصرف، وهو نفسه لا يستحق أن يجدها بجانبه بعد كل ما فعله معها.

--

بعد مرور ساعتان..

وجدت نفسها تشرد بالأرضية وهي ما زالت بنفس هيئتها تُفكر في كل ما يحدث، لقد هاتفت "مريم" ولقد فسرت لها سبب غضبه الذي كان مجرد عرض من أعراض نوبة اكتئابه التي لن تُكفيها جلسة واحدة مثل جلسة أمس، ما زال هناك ذلك الشعور بداخلها، هو لا يستحق مساعدتها ولكن من هناك سواها ليفعل؟!

 

كلما قاربت على تفسير تصرفها منذ الأمس تشعر بالفزع، لا تريد مصارحة نفسها بحقيقة الأمر على الإطلاق، عقلها يتشتت بين الكثير من الحقائق، نعم، لن تُنكر، ربما بالماضي لو كانت رأته في نفس مثل الحالة التي يمر بها الآن وهو يخضع للعلاج بهذه الطريقة كان ستكون أكبر داعمة له، ولكن الآن، بعد كل هذا العذاب الذي استمر لشهر وتبعه عام وشهور من عذاب غريب لم تستطع التخلص منه بالكامل، لا يستحق أي مما تفعله، ليست هي من عليها أن تتظاهر بأنها الزو جة المثالية لبقائها بجانبه وهي تُعينه على ما يمر به، هل تفعل هذا لأنه الوحيد الذي يمكنه بطريقة ما أن يُخلصها من هذا الزو اج؟ أم تفعل هذا لتعاطفها معه؟ تفعل ما تفعله منذ أمس لأنها قد تفعل المثل مع أي شخص؟ لا تجد إجابة، أو ربما تجد وهي لا تريد الاعتراف بهذا، لم تواجه قط أن يأتيها شيء أرادته بشدة بعد فوات الأوان..

ستبقى مُشكلتها الأزلية دائمًا وأبدًا هي عدم استطاعتها التصرف في الأمور الجديدة عليها وحتى ولو خضعت لأعوام من العلاج، تدرك هذا الآن، مُشكلتها لم تعد النجاح والفشل فحسب!

 

انتبهت على صوت الجرس فنهضت لتتفقد من الطارق ولم تكن تتوقع أنه هو بعد كل هذا الغضب الذي حدثها بها ولكنه باغتها بقدومه فتفقدته بنظراتٍ متسائلة عن سبب قدومه ليندفع للداخل بأريحية وهو يقذف بحاسوب إليها فأمسكت به ثم تحدث إليها بنفاذ صبر:

-       مش عارف أكتب، ومش عارف أركز في الكلام اللي بكتبه، وبما إنك صاحبة الاقتراح اقعدي اكتبي كل حاجة حصلت امبارح.

 

اندهشت بسخرية من كلماته وعقبت بتساؤل انطلق منها باندفاع:

-       ما تجرب الـ voice notes؟

-       معرفتش.

 

انتظرت أن يلتفت لها حتى يواجهها إلى أن فعل وتبادلا النظرات لبُرهة لتأتي الكلمات منه بحزن استطاعت الشعور به بسهولة ولم يُكلف نفسه عناء إخفائه:

-       صدقيني حاولت الاقي حد غيرك أقدر أثق فيه مالقتش.

 

تحاشت النظر لملامحه لتتنهد بيأس فتابع هو:

-       مش عارف بعد الفترة دي ممكن انسى إيه وافتكر إيه، أنا عايزك تكتبي كل اللي حصل امبارح.

 

هزت رأسها بالموافقة واتجهت لتجلس فوق تلك الأريكة التي اضطرت آسفة أن تشاركها معه وحاولت أن تتخلص من غرابة هذا الموقف وكأنه الأمر الوحيد الغريب بينهما وأجبرت نفسها على تناسي كل ما يتعلق به من غرابة منذ أن عرفته لتقول بهدوء دون أن تلتقي أعينهما:

-       اعتبر إني هنسى كل اللي هيحصل الفترة دي زيك بالظبط لغاية ما تعدي.

 

استمعت لزفرته الساخرة مما استدعى انتباهها وطالعته بتساؤل ليقول:

-       مش عارف ما يمكن تفكريني بالأيام دي زي ما كنتي بتفكريني بحاجات تانية.

 

أدركت تمامًا ما يقصده ودون أن تنوي الأمر انطلق لسانها بعفوية:

-       بعد اللي عملته مستني مني اطبطب عليك وأقولك معلش متزعلش ولا المفروض كنت أعمل إيه!

 

التوى فمه بمزيد من السخرية وهو يعقب على قولها:

-       مانا قولتلك ملقتش غيرك، حتى لو فكرتيني باللي بيحصل في خناقة على الأقل هيبقا معاكي حق.

 

قامت بفتح شاشة الحاسوب في عصبية دون أن تنظر له وسألته باقتضاب:

-       عايز أكتب إيه؟

-       شكرًا.

 

رفعت عيناها نحوه من خلف الشاشة وهزت رأسها بإماءة عابرة ليُجيب تساؤلها السابق:

-       اكتبي كل حاجة من ساعة ما روحتلك المكتب لغاية دلوقتي، بكل الكلام اللي اتكلمناه.

--

بعد الجلسة الرابعة..

فتح عيناه وهو يحدق بهذا السقف الغريب بعد أن استمع لصوت هاتفه الذي أيقظه رغمًا عن أنفه، تشويش دام لوهلة وهو يستيقظ لا يدري أي هو، ألم ضئيل بفكيه، ما السبب لهذا؟! هل لكمه "عُدي" ليلة أمس؟ أم دخل بشجار مع أحد ما؟!!

جلس على الفراش ثم تفقد المزيد من محتويات الغرفة، القليل من ذكريات ليلة أمس بدأت تعود وتتضح برأسه، هو بمنزلها، وهذه الورقة تنص أنه يخضع للجلسات، وهناك قاعدة جديدة على ما يبدو قد وضعاها معًا، سيمكث في منزلها بهذه الغرفة لبعض الوقت إلى أن يُنهي جلساته..

 

ملاحظات عدة عن غضبه، عن تشوش رأسه، وعن استمرارهما كما هما إلى أن يُنهي تلك الجلسات بالكامل وحتى تحصل منه على الطلاق، تاريخ بداية وتاريخ نهاية، وأسبوعان إضافيان، وهدنة يبدو أنهما أتفقا عليها فيما بينهما.. هذه الورقة لابد من أن تترك هنا كما يرى خط يـ ـده يُذيل هذه الورقة التي كُتبت وطُبعت إلكترونيًا، توقيعه فقط كان بمثابة تأكيد ليس إلا وتاريخ التوقيع يعود لعشرة أيام ماضية كما يُعلن هاتفه عن تاريخ اليوم..

 

هُناك صفاء غريب برأسه، لا يشعر بالغضب، لا ينسى الكثير من الأحداث، أو ربما هذا ما يتوقعه، لم يظن قط أنه سيأخذ القرار بخضوعه لتلك الجلسات التي بدأ القراءة عنها منذ عام أو أكثر، ولكن لو أخذ القرار فهو يثق أن هذا مُلائم لما يمر به.. الجديد اليوم هو أنه لا يريد قتل نفسه والتفريط في الحياة بأكملها، وأهم شيء يشعر بأنه يريد الاستيقاظ ولا يريد العودة للفراش.. يُمكنه أن يبدأ يومه بهذا.

 

انتقل للخارج بخطوات متأنية وهو يُطالع المنزل حوله ومر في طريقه بغرفتها وتردد لوهلة ولكن ما زال الوقت مُبكرًا، لا يريدها أن تستيقظ من أجله، ولكن بمجرد نزوله تسللت لأنفاسه رائحة طعام شهي فتتبعها ليراها تتحرك بخفة وهي تصنع طعام الإفطار فوقف ليطالعها لوهلة وتمنى أن يستمر في النظر إليها ولكنها لم تتركه يفلت من أسفل عسليتيها فتفقدته بلمحة عابرة وأخبرته وهي تعود لمتابعة نضج الطعام:

-       صباح الخير.

 

اقترب بعد أن شعر بموافقة هذه الأجواء من الهدوء لما قرأه بتلك الورقة وعقب بنفس هدوئها:

-       صباح النور.

 

دعا نفسه للاقتراب وكان كفيلًا له أن يراقبها في صمت، فما يراه الآن أفضل بكثير مما يتذكره من ليالي الوحدة البائسة وهو يعا نق برأسه مجرد أحلام يقظة كالمراهق الأبله الذي أضاع حبيبته، استيقاظه ورؤيته لها وهي تقوم بمهام زو جة يعشقها فقدها بالفعل؛ وحتى لو لعدة دقائق أو بعض أيام، هذا أفضل ما قد يجده بالحياة.

 

-       عامل إيه النهاردة؟

 

استمع لسؤالها وهو يتابعها تسكب له بعض القهوة ثم وضعت الكوب أمامه فرد باقتضاب:

-       تمام.

 

طالعته بنظرات متفحصة وسألته وكأنها تحفظ هذا التتابع الغريب من الأسئلة:

-       الصداع، جـ ـسمك بيوجعك، حاسس بحاجة غريبة؟

 

ترقبت بملامح مستفسرة ليجيبها بهدوء:

-       عضلات جـ ـسمي شادة عليا بس كله تمام، مش حاجة كبيرة اوي.

 

تنهدت وهي تهز رأسها بالموافقة وبدأت في نقل الصحون إلى مائدة المطبخ المرتفعة وسكبت لنفسها كوب من القهوة وجلست على مقعد في مقابلته وشرعت في تناول الطعام لتجده يُطالعها لفترة مطولة وكأنه لن يتوقف عن فعلته فرفعت عيناها نحوه باستفسار وسألته:

-       فيه إيه؟

 

ارتسمت ابتسامة على ثغره لم يستطع منعها وأجاب وهو يشيح بنظره إلى صحنه:

-       مفيش.

 

لم يدم الصمت لمدة طويلة حيث حاولت هي بطريقة غير مباشرة أن تستشعر إن كان هناك أي تحسن بحالته المزاجية فمن المفترض أن يكون هناك تقدم بعد الجلسة الرابعة وقد يحتاج كذلك لمزيد من الجلسات فتكلمت بنبرة مقترحة:

-       حابب نعمل إيه النهاردة، المفروض كنا هنروح الـ clinic عشان أوفيد وفينوس وبعدين نروحهم وممكن لو تحب نتعشا برا أو نروح سينما لكن لو مش حابب ممكن نفضل قاعدين في البيت ونعمل أي حاجة تانية.. ممكن برضو نخرج مع مايا، اتصلت بيك امبارح بليل عشان تطمن عليك على فكرة.

 

كيف اتصلت به "مايا" ويبدو أنها قد أجابتها، هل كان غائب عن الوعي لفترة طويلة؟ ما الذي يحدث هنا؟!

-       أنت كنت نمت فرديت عليها، أنا عارفة إن مايا صاحبتك من أسبوعين على فكرة أو أكتر، مالوش لازمة تعمل نفسك مش فاهم أنا بتكلم على إيه!

 

تمنت أن نبرتها كانت تلقائية لا تعبر عن فضولها الشديد خلف تلك العلاقة الغريبة ودفنت ارتباكها بداخلها لطوال صمته الذي قضى عليه بقوله المقتضب:

-       مش كده، أنا مش هخاف يعني!

 

تفقدته بجبين مقطب وهي لا تفهم ما الذي تعنيه اجابته ليُردف هو أثناء تناول طعامه دون أن ينظر لها:

-       أنا بس مش فاكر أنتو اتقابلتو امتى.

 

ردت باقتضاب وهي تملأ شوكتها بمزيد من الطعام:

-       اتقابلنا يوم أول جلسة.   

 

همهم لها دون اكتراث وكان على يقين أنها ستتحدث بمزيد من التفاصيل فهي لطالما كانت فضولية وخصوصًا فيما يتعلق بعلاقاته وبدأ بمنتهى الأريحية بالعد التنازلي وهو في غاية الاستمتاع ليستمع لها تخبره:

-       شكلكم لايق على بعض على فكرة.

 

رفع عيناه نحوها بابتسامة وقرر أن يتلاعب معها قليلًا فقال بامتنان:

-       شكرًا.

 

لو كان يقصد أن يجعلها تحترق لقلة التفاصيل فلقد نجح، حسنًا، لا يهم، لماذا تهتم من الأساس؟ سيتزوجها أو هي صديقته، لا يفرق الأمر معها، لا تكترث له ولن تفعل!

نهضت لتبتسم له باقتضاب واستطاع رؤية ذلك الاحتراق بعسليتيها بينما وجدها تقول:

-       أنا شبعت.

 

التفتت للخلف وهي تتخلص من بقايا طعامها وسكبت المزيد من القهوة بكوبها واتجهت للخارج ولم ترى تلك الابتسامة والملامح المستمتعة التي تحتل وجهه.

--

جلست تتجرع قهوتها بغيظ وشعرت وكأنها دخيلة على حياته ولكن في الحقيقة هي من تكترث له والوحيدة التي وجدت نفسها محاطة بتلك التفاصيل التي تخص "عمر الجندي"، لو كانت صديقته أو هناك علاقة ما بينهما، لما لا توفر هي عليها وتأتي لتتفقد حالته، على الأقل ستملك بعض الوقت لعملها الذي لم تذهب له منذ أيام بسببه، تبًا لكلاهما.

 

توجهت للداخل وتناولت حاسوبها ثم عادت للخارج من جديد فاليوم يبدو رائعًا بتلك الشمس الدافئة ولقد استيقظت بمزاج رائق وليس هناك من يستحق أن يُعكر عليها اليوم منذ بدايته.

 

أخذت تطالع بريدها الإلكتروني وهي تنظم صندوق الوارد وتوافق على البعض وترفض بعض الطلبات ثم ولجت لتتفقد واحدة من تلك المُشكلات التي لا تستطيع الإدارة التقنية إنهائها بالفعل وكلما كتبت كلمة المرور تجد رسالة خطأ فتيقنت أكثر من مرة من صحته وأخذت تكبس زر الموافقة لمرات بمنتهى الغيظ والعصبية الشديدة إلى أن انتهى الأمر وكأنها تُعذب هذا الحاسوب الذي لا ذنب له بأي مما يحدث.

 

-       خلاص هتكسريه، بالراحة.

 

جذب الحاسوب من أمامها لتتفقده بغضب وانزعجت مما فعله لتنهض وهي تحاول استعادته منه مرة ثانية:

-       هاته لو سمحت.

 

عقد حاجباه وهو يتفقدها وتسائل بنظرة مستمتعة بعينيه وتحدث سائلًا باستهجان:

-       هو مش المفروض كنتي إجازة ولا إيه؟

 

قلب عينيها بنفاذ صبر وهي تتنهد لترد باقتضاب:

-       ورايا حاجات مهمة.

 

حاولت الحصول على حاسوبها مرة ثانية بينما رفعه للأعلى ومنعها ممُسكًا بذ راعها الذي يحاول أن يصل له ليستكمل بنفس نبرته السابقة:

-       كل ده عشان محكتلكيش على مايا؟ مكونتش أعرف إنك لسه بتغيري عليا أوي كده!







تابع قراءة الفصل