-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 27

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 
الفصل السابع والعشرون




فقدان الشخص الذي يعد مصدر الأمان الوحيد في الحياة، يجعل العقل يفقد اتزانه، خاصة مع الخوف من الفقد المستبد بالنفس، حينئذ يكون الإقبال كبيرا على أفعال غير مدروسة التبعات. افترشت علامات الذعر وجهها، بعدما دوى "عاصم" قنبلته الموقوتة في وجهها، بشأن زواجهما الذي أصبج على شفا الانتهاء، ربما لم يشكل وجعها البدني فارقا أمام الرهاب الذي تملك منها من تخيل افتراقه المحتوم عنها، بل وعادت البرودة لتحتل كيانها، فلوهلة غاب عقلها عن الوقع، وراح يرسم أمام ناظريها، صورتها وهي منزوية على نفسها، وحيدة، بائسة، بمفردها مرة ثانية في بيتها الفارغ.


كان الحل الأسلم بالنسبة لها، لإنقاذ زواجها، هو التخلص من ذلك الجنين، لاقت تلك الفكرة استحسانها، أو بالأحرى لم تجد سواها في غياهب تفكيرها، قامت مسرعة بمهاتفة الطبيب المدعى ب"سامح"، صديق زوجها، والذي كان في الماضي يلجأ إليه "عاصم" لمعالجة فتايات الليل الذي كان يمارس عليهن ساديته، والذي قام أيضا بإجهاض الجنينين السابقين لحملها بتوأمها. عندما سردت عليه الأمر، وطلبت منه تحديد موعدا لإجراء العملية، فاجأها برفضه القاطع، لخطورتها تلك المرة على حياتها، خاصة وأنه لم يمر على إنجابها سوى بضعة شهور، كما أنها معرضة لحدوث نزيف كونه سيغدو ثالث إجهاض لها.


لم تعبأ بتبعات العملية، أو ما سينجم عنها من احتمالية خسارة حياتها، وكل ما وضعته نصب عينيها، هو نفسها المكومة على الفراش تبكي قهرا من وحدة قاتلة إن نفذ "عاصم" تهديده تلك المرة وقام بتطليقها، وهتفت في تصميم:


-مش مهم، أنا همضيلك على إقرار إن اللي لو حصلي حاجة أنا المسئولة.


جاءها رده المعارض مجددا مردفا:


-مش هينفع يا مدام داليا، ده موضوع حياة أو موت، وأنا مقدرش أخاطر بحياتك.


حينئذ انفلتت آخر ذرات أعصابها، وهدرت في انتحاب باكٍ:


-يا دكتور افهمني، جوازي ممكن يبوظ بسبب الجنين ده، أنا مش عايزاه، أرجوك اعملي العملية، وانا همضيلك على الإقرار قبلها، وهخلي مسئوليتك من كل حاجة.


على فور انتهائها تكلم بنبرة هادئة:


-طب ممكن تهدي وتسمعيني.


عم الصمت لبضعة لحظات بينهما، التقطت "داليا" خلالهم أنفاسها، التي تهدجت من كثرة بكائها، ثم استمعت بعدها إلى تساؤله المستشف:


-أنتي بتقولي إنك لسه في الشهور الأولى؟


سارعت في الرد عليه في صوت مهزوز بعض الشيء، مؤكدة:


-ايوه، أنا تقريبا في نص التاني.


استمعت إلى زفرته السريعة عبر الهاتف، التي تبعها استطراده:


-طالما كده ممكن اكتبلك على دوا تاخديه، هينزل الجنين من غير عمليات، ونسبة المخاطر منه بتبقى قليلة جدا مقارنة بالعملية، ده غير إنه مجرب وإن شاء الله مش هيسبب مشاكل، بس في كل الأحوال لازم تكوني على تواصل معايا وقت ماتخديه، ولو حصل نزيف غير الدم اللي بينزل في الطبيعي وانتي أكيد عارفة كميته، تبلغيني فورا عشان أقدر الحق الموقف.


بعدما ابتاعت الدواء، ظلت مترددة في أخذه لعدة ساعات، فعندما وجدت نفسها تقبل فعليا على قتل ذلك الجنين، شعرت بوخزات تعصف بقلبها، فقد تملكت منها عاطفة الأمومة، ومررت يدها بقهر على بطنها، مستشعرة تلك النطفة العالقة في رحمها، انهمرت دموعها، وانتحبت حتى شعرت بالدوار ضرب رأسها، أصبح الاختيار بالغ الصعوبة، فإن اختارت زواجها، سيقتلها شعور الندم على إزهاق روح من روحها مدى الحياة، وإن اختارت جنينها، سيفترق عنها زوجها وستغدو حياتها بلا معنى بلاه.


زاد توتر أعصابها، وأصبحت ترتجف بشدة، آلمتها معدتها التي بدت كأنما تتلوى، مما جعلها تشعر برغبة ملحة في الاستفراغ، وضعت يدها على فمها، وأسرعت إلى المرحاض، تأوهت بإعياء بعدما انتهت، فقد كانت معدتها فارغة تماما، لعدم تناولها أي شيء منذ أن استيقظت. بعد ذلك غمرت وجهها بالمياه، حتى تستفيق قليلا، وتزيل شعور الخمول الذي تمكن من مداركها، ولكنها لم تستطع التحكم بجسدها الذي أصبح كالهلام، غير قادرٍ على حملها، تقدمت بساقين ترتجفان نحو حافة المغطس، جلست عليه بعدما جففت وجهها بالشرشف الموضوع في المرحاض.


سحبت شهيقا وزفيرا في تكرار متتالٍ، حتى تستطيع ضبط نفسها، ولكنها فشلت حينما استعاد إدراكها ما حل على حياتها الزوجية بين ليلة وضحاها، تساقطت دموعها ثانية، وتهدل كتفاها لأسفل وهي تهتز مع رجفة جسدها الناجمة عن البكاء، ظلت على تلك الحالة المنهارة لبضعة ثوانٍ، حتى انتفضت في ذعر من دخول "عاصم" المفاجئ، ولم تكد شهقتها تغادر حلقها، حتى اقترب منها في لمح البصر، وسألها عن تناولها من ذلك الدواء، شخصت أبصارها، وتطايرت الكلمات من فوق لسانها، حتى شعرت أنها عاجزة تماما عن النطق، فهيئته كانت مغايرة لما توقعت أن يغدو عليه عند معرفته بتخلصها مما ينمو برحمها، بينما هو عندما لم يجد منها أي ردا يُذكر، أعاد السؤال مجددا على سمعها بصيغة أشد انفعالا:


-انطقي، خدتي من الدوا؟


لمعت عيناها بالدموع، وأجابته بصوت مختنق:


-مقدرتش.


هدأ انفعاله شيئا فشيء من تصريحها، فخوفه -مجهول السبب- الذي انبجس بداخله بغتة، جعله يخشى خسارة ذلك الجنين، أو التسبب في إنهاء حياته قبل أن تبدأ، حتى لا يعيده ذلك الفعل الدنيء إلى نقطة البدء، متقهقرا ثانيةً لما كان عليه من طباع بغيضة، ليس من السهل التحكم بها إن ترك نفسه طوعا إلى شيطان رأسه، ليعيث الفساد في حياته، وحياة كل من يجمعه صلة به، وحينها لن ينفك الندم وصحوة ضميره عن تأنيبه، بينما هي لم تستطع التحكم بدموعها المنسابة، واطنبت مضيفة بأسى:


-مقدرتش أموته، أنا موت اتنين قبل كده، ومنكرش إني زعلت عليهم، بس مكنتش حاسة باللي حساه دلوقتي، بعد ما خلفت رائف ونائل وضمتهم لصدري، بقيت مش متخيلة اللي عملته، ولا هقدر اعمله تاني.


حدججها بنظرة منزعجة من إقبالها على أفعال مصيرية دون الرجوع إليه، وزجرها بلهجة ضائقة:


-أنا مطلبتش منك تنزليه، ليه بتتصرفي في كل حاجة من دماغك؟


بقهر شديد، وتخوف برز من عينيها الباكيتين، أخبرته:


-خوفت تطلقني.


ضم شفتيه وهو يشعر بالألم يوغر قلبه، من تسببه في جعلها تتمزق بين حفاظها على زواجها، ورغبتها في الاحتفاظ بجنينها، وبعد صمت دام للحظات بينهما، كانت هي تبكي بقهر، وهو يعاني من ضيق في الصدر، أحبرها بلهجة جادة:


-متنزليهوش يا داليا، أنا اللي بقولك.


نظرت له بعينين متوجستين، وبتلعثم راحت تتأكد من رغبته الخالصة في ذلك:


-يعني أنت..


فطن بغير تفكير لما ستسأله عنه، لذا قاطعها مؤكدا لها:


-مش عايزك تنزليه، ومش هطلقك.


لمعت عينيها بدموع فرحة لقبوله لذلك الجنين، وانفرجت شفتيها ببسمة مهزوزة، ولكن سريعا ما زالت تماما، عندما تذكرت تعنيفه الجسدي لها صباح اليوم، وفي لحظتها عبس وجهها، وظهر عليه كل أمارات البؤس، وعلقت باقتضاب مشبع بالحزن:


-طيب.


تخطته مرورا إلى الخارج، تاركة إياه مغمض العينين في ضيق من ملاحظته للتبدل الذي طرأ على محياهاه، وتكدر من الحرب الضارية الناشبة داخله، فقد غلبته لأول مرة قلة الحيلة حيال ما يحدث في حياته، فلا هو يريد الاستمرار على ذلك النهج البغيض، ولا هي ترحم النيران التي تشتعل بكل كيانه من تسببها في إجباره على فعل ما لا يريد.



❈-❈-❈


تأكد من إراحة جسد زوجته على الفراش، ودثرها جيدا أسفل الغطاء، حتى يعوض جسدها الدفء الذي فقدته بسبب ما جابهته من عناء اليوم، في تلك الاثناء دلفت "داليا" إلى الغرفة، فقد علمت من العاملة بتعرض "زينة" إلى حادث عرضي، غير متفقة لكامل الأسباب. رغم التعب البدني، والضغط النفسي المتمكن منها منذ الصباح، إلا أنها لم تدخر وسعها في التوجه إليها للاطمئنان على حالها. بشرح سريع قصت عليها والدة "عز الدين" ما حدث، حينها ظهر الأسف على وجهها، وتقدمت من "زينة" النائمة بإرهاق، ومسحت برقة على جانب ذراعها، مرددة في صوت حانٍ:


-ألف سلامة عليكي يا زينة.


نظرت لها بعينين شبه منغلقتين، وردت عليها بصوت خفيض، متعب:


-الله يسلمك يا داليا.


شعرت بالحزن على ما حل عليها، ولكنها أرادت أن تطمئنها من ناحية جنينها، ونصحتها بجدية:


-إن شاء الله هتبقي كويسة انتي والبيبي، أهم حاجة بس متقوميش من على السرير غير للضرورة.


هنا تكلمت "أمل"، مؤكدة على أهمية ما قالته:


-الدكتور اللي جابه عاصم شدد على كده برضه.


قطبت "داليا" جبهتها من ذكرها لاسم زوجها، وسألتها في اهتمام بالغ مليء بالتعجب:


-اللي جابه عاصم! هو عاصم كان معاكم؟


ردت عليها مؤكدة بامتنان بالغ تشبع به صوتها:


-ايوه، ده مسبناش اليوم كله.


غاب تركيز "عز الدين" عن حديثهما، حينما تذكر موقف أخيه الداعم معه، ووقوفه إلى جواره الذي كان صادما له، بداية من إحضاره الأطباء لإعادة فحص زوجته، نهاية بإصراره عليه أن يسمح لأحد الأطباء المتواجدين بفحص يده، حينما كان منتظرا خارج غرفة زوجته خروج الطبيب الأجنبي؛ لإبلاغه بتشخيص مطمئن يريح قلبه حول حملها. فقد كان ممسكا بمرفقه، ويبدو على وجهه علامات الألم، وحينما لاحظ "عاصم" تحامله على نفسه، توجه نحوه، وأخبره بأسلوب جاد:


-لازم حد يشوف إيدك.


نظر له بانتباه يعلوه بعض التيه، ورد عليه بإيحاز من بين فكره الشارد، والقلق:


-بعدين.


لم يستسغ "عاصم" الإهمال المحسوس في رده، وكرر قوله بتصميم متزايد:


-الدكتور جوا مع مراتك، لحد ما يخلص الفحص خلي حد يبص على إيدك، ويطهر كمان الجروح اللي في وشك.


زم شفتيه بقليل من القلق، وأخبره بمماطلة:


-اصبر بس لما..


رمقه بنظرة لا تقبل المناقشة، وهو يقاطعه قائلا بنبرة شبه آمرة:


-خلاص بقى، وروح يلا وأنا واقف مكانك.


حرك "عز الدين" بؤبؤي عينيه منتبها إلى صوت "داليا" المتحدث إلى والدته، ورغم عودة ذهنه إلى الواقع المحيط، إلا أن تركيزه ظل منصبا على موقف أخيه الداعم، والمساند له، وهو في أوج ضعفه وانهياره، حينئذ شعر بوجوب التوجه إليه، وشكره عرفانا بجميله. تحفز في وقفته، ووجه كامل نظره نحو "داليا"، تنحنح بخفة، قبل أن يتساءل باهتمام:


-هو صحيح فين عاصم؟ كنت عايز اكلمه.


حولت نظرها إليه، وأجابته بصوت فاتر يشوبه حزن دفين:


-هو طلع غير هدومه ونزل، أكيد قاعد في المكتب تحت.


تأهب في وقفته، وفرق نظراته بينهن، وهو يبلغ بالأخص زوجته:


-طيب أنا نازله.



❈-❈-❈


خليط من المشاعر المتضارية، ظل يجول ويصول داخل نفسه، الخوف، التخبط، والضعف، كل ذلك وأكثر كان يشعر به داخل خلجات صدره، الرضوخ إلى الأمر الواقع ليس من سماته، فهو دائما ما يكون بربريا، وعنيدا تجاه أي أمر يشعر بأنه يُفرض عليه، ولكن تلك المرة اختلف الأمر كل الاختلاف، فقد أدرك حقيقة كونه ليس مخولا دائما للرفض، وليس على الجميع كل مرة تنفيذ أوامره، فثما أمور رغما عنه سيتخلى عن سطوته بها، وسيوافق -حتى وإن كان مكرها- على الإذعان لها.


كثيرا ما أعماه شيطانه، وازداد في طغيانه، ولم يعبأ بالأذى الذي يلحقه بأقرب الأقربين له، مما جعل زوجته مؤخرا تنفر تقاربه، وترفض وده، حتى أنها لجأت إلى لفت نظره إلى تسببه في إيلامها نفسيا قبل أن يكون جسديا، كأنما بتلك الطريقة تتوسل عطفه، حتى يقلل من عنفه، حينها رأى صورة والده في نفسه، وأدرك أن أذاه كما طالها سيطول ابنائه، حتى إنه سيحول كل مشاعر الحب الكائنة في قلبها نحوه، إلى نبذ، ونفور، وسيهدم بيديه حينئذ ما تبقى من حطام حياته.


تلذذه الغريب بإيذاء الغير، واستمتاعه بإلحاق التعب على كل من يخالف رغباته، ويخرج عن طوعه، لم يكن نهائيا بالأمر العادي، الذي يمكن إغماض الطرف عنه، عندما كان يحاول أن يحلل تلك الشخصية المشينة، المتجسد بها منذ سنوات، لوهلة بدأ يستوعب حقيقة كونه مريض، يحتاج إلى إعادة تأهيل، متذكرا كل مرة ألقى "مجد" ذلك الوصف على سمعه، وحينها كان يقابل الأمر بسخرية وهزو، ولكن اتضح أنه كان ينبهه إلى بغاضة ما أصبح عليه.


التغيير، ذلك ما كان يسعى له منذ فترة، تحديدا عندما واجهته "داليا" لأكثر من مرة بتعانفه المتزايد معها، وهجرها له المتكرر الذي جعله يخشى تصاعد الأمور بينهما، متخوفا من أن تصل إلى قرار جدي بالفراق، وعندما ضاقت عليه جميع الطرق، وأُغلقت في وجهه جميع الأبواب، قرر البحث عن حل ينتشله من بؤرة الفساد، الذي يعيش بها منذ سنوات، وفي خضم تفكيره، لم يجد غير عرض حالته على طبيب نفسي.


فبتلك الطريقة سيتسنى له إصلاح ما أفسده والده به، ولكنه في نفس الآن لم يرد تعرية نفسه أمام الغرباء، لذا بعد قليل من التفكير؛ قرر أن يسرد تفاصيل مرضه، منسوبة إلى شخص آخر، وليكن صديقا مجهولا، ولقد رأى في ذلك الحل الأفضل. حينما جالس نفسه بعد مواجهة "داليا" له بعنفه الجائر، واتخاذه ذلك القرار الجاد، أول شخص جاء على صفحة ذهنه، ليرشح له طبيبا كفءً في ذلك المجال، كان صديقه المسمى ب"سامح"، سريعا ما هاتفه، وبعدما تبادلا العبارات الإعتيادية عبر الهاتف، طلب "عاصم" دون تمهيد:


-عايزك تشوفلي دكتور نفسي كويس.


حل الصمت لثانيتين بينهما، على ما يبدو أنه تأثير صدمة الطلب على الآخر، ثم سأله في غرابة محسوسة في صوته:


-ليه؟


تلجلج "عاصم" للحظة، وتدارك تسرعه في طلبه دون تمهيد مسبق، حمحم بخفة، ليتحكم في لعثمته، ثم تكلم بهدوء مصطنع:


-مفيش، واحد صاحبي حالته النفسية متضررة شوية وعملاله مشاكل بينه وبين مراته، وأنا من فترة اقترحت عليه إنه يعرض نفسه على استشاري نفسي، وأقنعته، فحابب أفيده وأخليه يروح لدكتور كويس، وعشان كده بسألك لو تعرف دكتور ارشحهوله.


ارتسم الانزعاج على وجهه، من عدم تمكنه من رؤية معالم وجه الآخر، حتى يعلم منها إنطلاء كذبته عليه من عدمها، في حين أسكت صوت أفكاره رد "سامح" بنبرة صوت عادية غير مشككة:


-ايوه اعرف دكتور كويس، هبعتلك اسمه ولوكيشن العيادة بتاعته، بس انت مكلمني عشان كده بس ولا إيه؟ مفيش أي مصيبة من مصايببك؟


تساءل بالأخير ببعض المزاح اللزج، مما جعل الضيق يتفشى بقسمات "عاصم"، من هزوه الملموس في عبارته المشيرة إلى جموحه مع العاهرات، وإحضاره لمعالجة ما يعثيه بهن، وبصوت بدا متحجرا، حدثه باقتضاب:


-لأ مفيش، أنا هقفل بقى، ومتنساش تبعتلي زي ماقولت.


آتاه قبل أن يغلق، رده الذي اختلط بالحرج:


-طيب ماشي، سلام.


لم يضيع الوقت، وفور أن أرسل له صديقه اسم الطبيب ملحقا به عنوانه، وبعض التفاصيل المقتضبة عنه، سارع في حجز موعد لاستشارة نفسية، وحينما جاء اليوم، والساعة المحددة، ردد على مسامع الطبيب نفس الكلمات المكذوبة، التي أخبر بها صديقه بشأن حاجته للطبيب النفسي، اجتذب بعد ذلك الطبيب منه تفاصيل ما يعانيه صديقه المزعوم، آنذاك استرسل "عاصم" أمور بسيطة مما لاحظ غرابتها على أفعاله، وبتفهم وحنكة طيب متمرس، توصل سريعا إلى نوع الحالة المرضية، وبهدوء أخبره:


-صاحبك بيعاني من مرض بيطلق عليه السادية، واعتقد اسم المرض مش هيبقى غريب عليك.


قطب "عاصم" جبينه، وظهر الاستنكار على وجهه، وهو يسأله بقليل من التجهم:


-مش غريبة عليا ازاي؟


حافظ الطبيب على هدوء ملامحة، وهو يوضح له مقصده:


-يعني الفترة الأخيرة السادية كمرض بقى منتشر بصورة واضحة، ده غير إن الكلمة بقت متداولة بين معظم الناس كتعليق على أي فعل عنيف أو غير آدمي.


ضم شفتيه في تفهم، ثم ما لبث أن تساءل باهتمام يمتزج بفتور مصطنع:


-طيب لو صاحبي عايز علاج لحالته، يبدأ بإيه؟


بنفس اللهجة العملية، والرزينة، رد عليه الطبيب:


-يبدأ بإنه يشرفني هنا، هيتكلم معايا، هيعرفني مشكلته حاجة حاجة، وهنبدأ مع بعض برنامج العلاج النفسي والدوائي، وبإذن الله كل حاجة هتبقى تمام.


بدأ الضيق في حفر طريقه على وجه "عاصم"، وسأله بانزعاج لم يرِد له أن يظهر في نبرة صوته، حتى لا يتم كشف أمره:


-طب لو هو مش عايز يجي بنفسه، ينفع تبلغني باللي المفروض يعمله عشان يغير من طريقته ويحاول يتحكم في نفسه في وقت غضبه.


زم الطبيب شفتيه في رفض ملحوظ، واعترض بنبرة آسفة؛ مستيضيحا السبب:


-للأسف لازم يتابع معايا، مينفعش يبقى فيه وسيط، خاصة في علاج اضطرابات الشخصية السادية، عشان زي ماقولت لحضرتك في برامج نفسية بنمشي بيها مع المريض، وده مش هينفع يتم من غير حضوره شخصيا.


أومأ "عاصم" في تفهم، ونهض عن جلسته، ومد يده في حركة روتينية مصافحا إياه وهو يختتم الجلسة قائلا بلباقة:


-تمام، فرصة سعيدة يا دكتور.


صافحه الطبيب في حبور، هاتفا بود اتسم به صوته:


-أنا أسعد يا عاصم بيه، نورت العيادة الشوية الصغيرين دول.


قبل أن يشرع "عاصم" في المغادرة، أتم الطبيب كلماته مشددا عليه بطريقة غريبة كأنما فطن لأكذوبته ويخصه هو بنصيحته:


-ولو حابب تساعد صاحبك بجد، عرفه إن لازم يبقى عنده عزيمة وإرادة للتغيير، وده مش عشان مراته بس، عشانه هو في المقام الأول وعشان حياته تتغير للأحسن.


لم يجد ردا مناسبا، فقد تفشى التوتر به، من احتمالية تعرية طباعه المستترة أمام عينه، لذا اكتفى بإيماءة بسيطة من رأسه بالموافقة، وسارع في المغادرة من بعدها. رفضه لتلقيه العلاج المطلوب عند طبيب نفسي، خاصة بعدما عرض حالته على ذلك الطبيب، وتأكد من أنه مريض سادية، كان راجعا إلى عدم قبوله برؤية نفسه ضعيفا، مختلا يحتاج إلى معالج نفسي حتى يعيده إلى طور عقلانيته، أقنع نفسه حينها بقدرته على إصلاح نفسه، كأنما في ذلك عنادا لما كان يراه والده عليه، من الضعف، وقلة الحيلة.


حتى بعد مامته، كلماته التي كان يستفز بها أعصابه، لكي يؤدي له أي فعل ملطخ بالشرور، والأذى للغير، أصبحت العامل المساعد في تقهقره عن إصلاح ما أفسده فيه، أعمته تماما عن رؤية الصواب، وعن حقيقة استحالة قدرته على قطع جذور ما زُرع فيه، من أفكار، ومصطلحات فاسدة، أفسدت كل ما به، ولم يتبقَ في غياهب ذاكرته سوى ومضات، وأطياف، من طفولة كانت تجمعه بوالدته. أغلق "عاصم" الحاسوب، بعدما فتحه، في محاولة بائسة في صرف ما يجوس في عقله بالعمل، ولكنه فشل عن شغل ذهنه كالعادة، زفر نفسا متعبا، وعاد بظهره للخلف، ولكنه ما لبث أن اعتدل بتكاسل في جلسته، عندما استمع إلى صوت دقتين على باب الغرفة، اتبع ذلك ولوج "عز الدين"، تابع تقدمه نحو بعينين تحملان بعض الغرابة من مجيئه، وسأله مستفهما بعدما توقع حدوث خطب ما:


-في حاجة؟


تابع قراءة الفصل