رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 27 - 2
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
توقف قبالة المكتب، ويعلو وجهه أمارات الحرج، الذي ضاعف من استغراب الآخر، ولكن سريعا ما اتضحت الرؤية له، عندما أفصح "عز الدين" عن سبب نزوله:
-أنا بصراحة جاي اعتذر منك على اللي حصل مني في مكتبك.
التوى ثغر "عاصم" ببسمة غامضة، ونهض عن مقعده، ورد عليه بنبرة رآها الآخر غير مريحة:
-لا عادي ولا يهمك محصلش حاجة..
ناظر التفاته حول مكتبه وتوجهه نحو بنظرة مترقبة، بينما أضاف "عاصم" بعدما أصبح قبالته بهدوء مريب:
-ودي عشان متكررهاش تاني.
لم يكد يتفقه "عز الدين" علام توحي عبارته، حتى وجد قبضة الآخر استقرت فوق جانب وجهه، ارتد للخلف ووجهه مائل إلى الجانب من إثر قوة لكمته، غادر حلقه آنة متألمة، ورفع يده واضعا إياها فوق موضع الألم وهو يحدثه بانزعاج:
-إيه ده يا أخي، إيدك تقيلة.
حدجه بنظرة غير مكترثة بتألمة، بل بدت متشفية، وعقب بنبرة جامدة، وباردة:
-إيدك عرفت اهو، عشان تاني مرة تبقى تخلي إيدك جنبك.
اعتلى الضيق ملامحه، وهو يعلق بحنق زائف:
-طب راعي إني عامل حادثة حتى.
وضع "عاصم" يديه في جيبي بنطاله، ليزداد شموخا أمامه، وهتف بنفس الصوت الغير مبالي:
-كنت راعيها انت الأول وانت جايلي الشركة الصبح وعامل فيها بطل ملاكمة وانت متدشدش ومش قادر تصلب طولك.
رفع إحدى يديه، حك بها مؤخرة عنقه بطريقة تعبر عن خزيه، ورد عليه بذات النبرة المتحرجة:
-مانا كنت شاكك ان انت اللي ورا حادثة زينة، وافتكرت تهديداتك ليا.
أطلق "عاصم" دفعة من الهواء من صدره، كأنما عاد إليه إنهاكه النفسي بتذكيره بتهديداته السابقة له، وأردف بنبرة في الظاهر عادية:
-لو في نيتي اعمل حاجة كنت عملتها من ساعة مادخلت البيت ده، إيه اللي يخليني استنى المدة دي كلها؟
رد عليه بتبرير منطقي لظنه السوء به:
-أكيد مش هفكر في كده وانا مراتي مخبوطة بعربية، وبين الحياة والموت، وبعدين أنا قلت إنك بتخزنلي اللي بعمله، وخصوصا إني سخفت عليك الصبح على الفطار.
سدد له نظرة متغيظة من تذكيره له بسخافة حديثه معه صباح اليوم، وهتف بفتور:
-اديك قلت اهو، انت اللي سخفت عليا مش مراتك.
ضم شفتيه وهو يحرك وجهه في إيماءة توحي على تيقنه من براءته من شكه، تبعها تساؤله المستشف:
-المهم إنك مش متضايق من اللي حصل؟
ناظره "عاصم" من عليائه بنظرة مغترة، وقال له ببسمة لئيمة:
-خدت حقي.
رفع يده متحسسا وجنته عندما فهم علام يرمي بعبارته، وسأله بتهكم:
-انت مبتضيعش وقت؟
انفرجت شفتيه بابتسامة متشفية تعبر تمتعه بما ألحقه عليه من ألم، وعندما تدارك نفسه، اختفت بسمته، ورد عليه بجمود:
-احمد ربنا إني اكتفيت بكده، انا عامل حساب بس للي انت فيه.
قابل "عز الدين" رده بصدر رحب، قائلا بنبرة بها بعض المرح:
-لا حقاني وقلبك طيب الحقيقة.
ران الصمت بينهما لعدة لحظات، رفع "عز الدين" يده وحك بإصبعه جانب أنفه، وهو لم يتزحزح من موضعه، تراءى ل"عاصم" رغبته في قول شيء آخر، رمقه بنظره متفحصة، وتساءل بجمود:
-في إيه تاني؟
ارتسمت بسمة صغيرة محبة على وجهه، وشكره بامتنان:
-شكرا يا عاصم.
عقد حاجبيه في تعجب، وسأله بعدم فهم غير مزيف:
-على إيه؟
رد عليه ومحتفظ على بسمته الممتنة:
-على وقوفك جنبي النهارده، حقيقي فرحت، وحسيت إني مش لواحدي، وإني عندي أخ واقف جنبي.
ابتلع "عاصم" بتلبك، فتلك المرة الأولى التي يشكره فيها أحد على فعل معاون، بدر منه بدون أي تفكير لئيم أو خبث دفين، وبصوت حمل طيف ارتباك قال له:
-انا معملتش حاجة يا عز.
دنا منه أخيه، وقال بمعارضة تحمل العرفان بالجميل:
-صدقني عملت كتير، أنا كنت طول عمري لواحدي، مليش لا أب ولا أخ ولا حتى عم ولا خال ولا اي حد كان بيوقف معايا في أي محنة، النهارده بس جربت أحس إني ليا حد واقف في ضهري، أقدر اتسند عليه.
لم يُبدِ "عاصم" أي ردة فعل تجاه ما رآه طيبة زائدة منه، بل ظل صامتا، متلبكا، ومتفاجئا مما انتسب إليه من صالح الأعمال، وما ضاعف من ربكته حقا، هو مباغتة "عز الدين" باحتضانه، في محبة أخوية، لأول مرة يشعر بها، كان بالنسبة له عناقا فريدا، حانيا، وصادقا، ففي لحظة بدد أخيه الفكرة الخاطئة الذي لطالما أقنعه بها والده، وهو أن من يجدون الراحة بحضن أحدهم، ليسوا سوى الفتايات اللاتي تبحثن عن الدلال، والرغبة في الشعور بأنوثتهم، ابتعد عنه "عز الدين" بعد ضمة استغرقت بضعة لحظات، ولكن كان تأثيرها كبيرا، ومتفاوتا في نفسي الأخوين، ناظره بعينين عالقا بهما لمعة دموع متأثرة بذلك القرب المفعم بمشاعرة أخوة لأول مرة يتسنى لكليهما تجربتها، وقال له بنبرة خفيضة:
-تصبح على خير.
رد عليه "عاصم" بتريث وهو على حالته المشتتة، والمتخبطة:
-وانت من اهله.
من بعد ذلك استدار "عز الدين" مغادرا، بينما بقى هو موضعه، ينظر إلى الفراغ بنظرة ازدادت تصميما على تنفيذ القرار الذي اتخذه صباحا، فإن تسببت أحداث اليوم بشيء، فلم تتسبب سوى بجعله يحسم أمره تجاه ما كان مذبذا بشأنه، متخذا القرار حيال عرض نفسه بشكل جدي على طبيبٍ نفسي، توجه نحو مكتبه، والتقط هاتفه من فوقه، جاء برقم مدون قبلا عليه، كان لمساعدة الطبيب النفسي الذي سبق وذهب إليه، ولكن كانت تلك المرة لاستشارة نفسية مشبعة بالمراوغة، ولكنه الحين سيتوجه لبدء تلقي برامج العلاج المطلوبة، والذي اقتنع أخيرا انه بحاجة لها لصلاح حاله، بعد مرور لحظتين بعدما أجرى الاتصال، جاءه رد المساعدة بنبرتها الرسمية، حينها أخبرها بصوت أجوف:
-عايز احجز ميعاد لجلسة، والأفضل تكون في وقت متأخر شوية.
طلبه الأخير كان نابعا من رغبته في عدم رؤية أحد له يتردد على طبيبٍ نفسي، وكأنما تفهمت الفتاة مقصده، وسألته باستشفاف:
-قصد حضرتك تكون آخر جلسة؟
أجابها في إيجاز مقتضب:
-ايوه.
حينئذ أبلغته بأسلوب عملي:
-تمام يا فندم، هراجع مواعيد الأسبوع، وبعدها هبعت لحضرتك الميعاد المحدد على واتساب الرقم اللي ظاهر عندي، ودلوقتي ممكن الاسم يا فندم عشان ادونه.
على فور طلبها اسمه حتى أخبرها بنزق:
-عاصم الص..
تراجع عن الإفصاح عن لقب العائلة، خشيةً على سمعته، فهو إن وثق بشق الأنفس في أن الطبيب يحافظ على أسرار المرضى خاصته، لن يثق بتاتا في حفاظ مساعديه على سرية الأسماء المدونة معهم، لذا قبل أن يكمل باقي أحرف لقبه، تدارك تسرعه، وأبلغها بجمود:
-عاصم كمال.
❈-❈-❈
ليت الصباح كما يأتي بنوره ناهيا ظلمة الليل، يضيء ما انطفأ في الروح، ويزيح ثقل ما لا تجد النفس عنه راحةً في البوح، استيقظت "داليا" من نومها، الذي جفاها وهي بمفردها في فراشها، عندما أبصرت تمدد زوجها جوارها، ظهر الحزن تدريجيا على وجهها، ونهضت عن نومتها، دون أن تيقظه ككل صباح تسبقه في الاستيقاظ، فقد استنزف كل مخزون عفوها، وغدت رؤيته تتسبب في تكدير نفسها، بتذكيرها بكل ما يبدر منه معها، من جفاء دائم، وتعنيف ظالم. بعدما قامت بروتين اغتسالها الصباحي في المرحاض، وقفت في غرفة الثياب لتقوم بتبديل ثوب نومها، حينئذ استمعت إلى صوت تثاؤبه يأتي من خلفها، منعت نفسها من الالتفات نحوه، متجاهلة وجوده، وتابعت خلع ثيابها، بينما هو قد فهم من عدم إيجاده لها جواره عندما فتح عينيه، أنها تعمدت ألا تيقظه، وستبدأ في عقابه على ما اقترفه في حقها بإقصاء نفسها عنه، رغب في تبديد حزنها في بدايته، ودنا منها قائلا بصوت لين، متحشرج قليلا بفعل النوم:
-طب قولي صباح الخير حتى.
قالت له بإيجاز، ووجه عابس لا يرى سوى جانبه:
-صباح الخير.
تأكد مما استنبطه، وتحرك ليقف قبالتها، وعلق بما يشبه المناغشة بصوته الثقيل:
-دي من غير نفس.
بدون أن تنظر إلى داخل عينيه، سألته بجفاء:
-عايزني أقولها ازاي؟
رفع يده وملس على جانب وجهها بظهر كفه، وقال لها بصوته الرخيم:
-عايز اللي متعوده منك كل يوم.
تفقهت لما يريد، ولم تتأثر ملامحها معبرة عن عدم إقبالها على تلبية طلبه، بينما هو قد ظن أنه تدلل مقصود منها، وانشق ثغره ببسمة ساحرة، يعلم أن لها تأثيرها عليها، وأنزل يده متلمسا ذقنها، رفع وجهها إليه، وهو يقترب بوجهها منه، قائلا بهمس ساخن:
-بس معنديش مانع نبدل الأدوار النهارده.
للغرابة لم يحرك بها ساكنا، بل كانت كالحجر الصلد بين يديه، لا روح فيه ولا صوت، ابتعد عنها وهو ينظر لها بنظرة ظهر بها ندم صادق، واعتذر منها في خفوت:
-متزعليش مني.
رأت أن العتاب لم يعد يجدي نفعا، لذا أومأت له في جمود غريب، قائلة باقتضاب:
-طيب.
كادت تتحرك من أمامه، ولكنه حال دون ذلك، ممسكا بساعدها، واقترب منها مرة أخرى، مطنبا على نفس الشاكلة النادمة:
-أنا عارف إني انفعلت جامد، ومديت إيدي عليكي، بس أنا كنت منبه عليكي إني مش عايز أطفال تاني.
فارت دمائها من تحميله كامل الذنب عليها في ذلك الأمر بالتحديد، وخرجت عن صمتها، هاتفة بصوت كانت تكافح حتى يخرج على شاكلة هادئة:
-انت مش محتاج تعيد نفس الكلام تاني يا عاصم، وأنا برضه من محتاجة أعيدلك أنه حصل من غير ماقصد.
ضاق ذرعا من نفس الرد المستهلك، وعلق بقليل من الانزعاج، مبررا خروجه عن طور عقلانيته معها:
-وأنا غصب عني إني اتعصب لما اسمع نفس الرد بتاع كل مرة.
أخبرته داليا بنبرة تهكمية:
-معلش بدبسك.
زم شفتيه للحظة وهو ينظر لها بنظرة معاتبة، وأردف باستنكار يمتزج باللوم:
-يعني أنا بصالحك وتبقى دي طريقة كلامك!
استنتجت من عبارته أن يقلب دفة الحديث لصالحه، لتصبح هي المخطئة كالعادة في الأخير، اعترى وجهها الضيق، وسألته بأسى:
-مستني مني اعمل ايه يا عاصم؟ ارمي نفسي في حضنك عشان منيت عليا وجيت صالحتني بعد ما اتعصبت عليا وضربتني عشان حامل منك، ده اللي يشوف اللي انت عملته يقول إني حامل من غيرك.
استثار قولها الأخير حمئته الذكورية، ورمقها بحدة، قائلا بجدية بما يشبه التحذير:
-داليا خدي بالك من كلامك.
تحفزت في وقفتها، وصاحت في استهجان يشوبه نفاذ الصبر:
-اشمعنى انا اللي اخد بالي من كلامي وانت لأ، ليه انا اللي بتعاقب على أي غلط بعمله وانت عادي بتغلط ومش بقولك كلمة عشان وقتها برضه هتجيب الغلط عليا.
حاد بنظره عنها، وضم شفتيه وهو يتنفس في ضيق، خاشيا من تبعات تبادل الردود المتحفزة فيما بينهما، بينما هي لم تلتزم الصمت، وتابعت بعصبية بدأت في الاندلاع:
-حتى حملي منك، بتعتبره غلط مني أنا، ده على اعتبار إني بحمل ذاتيا، واللي في بطني ده أنا جيباه لواحدي، ولا يمكن جايباه من راجل تاني.
هنا ولم يتحمل تكرارها التحدث عن لمس آخر لها، حتى وإن كان استهجانا منها على ردة فعله المبالغ بها على حملها، وهدر في خشونة:
-داليا.
بعينين ثابتتين على نظراته البارقة، لم يرتد لها جفن، سألته ببؤس شديد:
-إيه هتضربني؟ ولا هتشتمني؟ ولا هتكسر الأوضة؟ هتعمل إيه معملتوش قبل كده؟
خبت عصبيته، وتراجع انفعاله، ورمقها بنظرة هادئة، أمسك بذراعها بقبضة رقيقة، قائلا بأسف حقيقي غير مبتذل:
-دي آخر مرة يا داليا، معدتش همد إيدي عليكي تاني.
انتزعت ذراعها من يده وهي لم تبعد عينيها البائستين عن خاصتيه، وعقبت بشيء من السخرية المشبعة بالقهرة:
-بجد؟ المفروض بقى أفرح دلوقتي؟ طب بالنسبة لتهديدك ليا كل شوية إنك هتطلقني؟ ده عادي هيفضل على لسانك كل خناقة؟ طيب بتبقى عارف الكلمة دي بتعمل في قلبي إيه؟ بتبقى عارف تأثيرها على نفسيتي؟ بتبقى عارف قد إيه بتحسسني إني مليش قيمة في حياتك وإنك بتعطف عليا بجوازك مني وإنك في أي لحظة هترميني من حياتك زي ما كنت رميني قبل كده.
شاع الارتباك في وجهه، وحاول التبرير لنفسه، مرددا بتلعثم أصاب صوته:
-أنا مكنتش راميكي، أنا كنت..
توقف من تلقاء نفسه، غير عاثرٍ على مبررٍ واحدٍ لما كان يبدر منه معها في الماضي، كأنما عماه شيطان نفسه حينها عن إدراك تعذيبه لها، وإذلالها بحاجتها إلى وجوده في حياتها الفارغة، أطرق رأسه، ضاغطا على شفتيه باختناق من وضعها له في محل المذنب في حياتها، حتى وإن كان يعترف بحقيقة ذلك داخليا. حدجته بعينين مملوءتين بالشجن، وعندما لم يجد ما يفوه به؛ أطنبت هي بصوت مختنق:
-انت كنت دايس عليا، كنت بتعاملني زي أي عاهرة كنت بتروحلها، بس الفرق إنك كنت بتديلهم فلوس، لكن أنا كنت بتخلص معايا وتمشي، وقبلها كنت بتعرفني قد إيه أنا رخيصة وإن انا اللي ببقى عايزه القرف اللي كان بيحصل بينا مش انت، وان أنا اللي رميت نفسي في أوضتك من الاول خالص، وأن أنا اللي اتحايلت عليك عشان تبقى معايا، وانا اللي كنت بتحايل عليك عشان تكمل معايا..
علت نبرة صوتها تدريجيا مع تفوهها بكل حقيقة مُرة تمزق بسببها قلبها لأشلاء، تساقطت دموعها، وانتحابها أصبح صارخا، صُدم من حالة الهياج التي تمكنت منها، واقترب في نية لضمها وهو يحاول تهدئتها مرددا:
-خلاص يا داليا.
دفعته من صدره قبل أن يحتضنها، صارخة به بحرقة:
-ابعد عني يا عاصم.
تراجع إلى الخلف تلقائيا، وازدادت صدمته من دفعتها له، إلا أنه لم يغضب من انفعالها، بل استجاب إلى رغبتها، ومن موضعه -لأول مرة- توسل لها هاتقا:
-طيب اهدي، اهدي عشان خاطري.
ازداد نحيبها، وارتجف جسدها بشدة، ورغم ذلك عندما أبصرت اقترابه ثانيةً منها، تراجعت بجسدها للخلف في نفور، ورجته بنشيج شديد:
-عشان خاطري انا سيبني، روح شغلك وسيبني.
تفاقم قلقه من حالة الانهيار التي تملكت منها، وهتف بتصميم على عدم تركها:
-مش هقدر اسيبك وانتي في الحالة دي.
ناظرته بعينين تفيضان الدمع، وعقبت بابتئاس شديد:
-ليه يا عاصم؟ مانا كتير جيتلك وانا في الحالة دي وكنت بتزود عليا بكلامك ومقابلتك ليا، إيه اللي فرق دلوقتي؟
كانت تضيق عليه الخناق بشكل بالغ، رمش بأهدابه بربكة حقيقة، وبعد عدة لحظات حاول التبرير مرددا:
-الأول كنتي..
أنهت محاولته الفاشلة في اختلاق أعذار لدناءته السابقة معها، وسوء معاملته لها، وصاحت بحرقة:
-الأول كنت واحدة رامية نفسها عليك فمكنتش فارقة معاك، لكن دلوقتي بحكم جوازك مني وإني شايلة اسمك وام ولادك بقيت فارقة مش كده؟
كل ذلك الهجوم في صوته، جعله عاجزا عن الرد، بينما هي لم تكف، أو تكتفي عند ذلك الحد، بل أكملت على نفس المنوال المشبع بالتحسر:
-بس انت عارف إيه اللي هنوصل ليه في الآخر؟ إني فارقة معاك بس عشان شكلك وسمعتك، لكن لو على كوني أنا داليا، بنت خالتك عمري مكنت فارقة معاك.
انسالت دموعها بقوةٍ، وامتلأت تقاسيم وجهها بالقهرة، مما جعل شعور الذنب يجثم على صدره، وبعد أن كان متحمسا إلى بدء يومه بعدما عزم على إصلاح كل مفاسده، انطفأ حماسه بعد أن خرجت "داليا" عن صمتها، وواجهته بكل مساوئه، وإيذائه المرير، كأنما كلما يقرر أن يغير من نفسه، تجعله يتقهقر إلى سابق عهده، لاح البؤس في نظراته لها، وسألها باختناق:
-انتي ليه مصممة تصعبيها عليا؟
رفعت يديها وجففت عبراتها المنسابة، وبثبات متزعزع من استنزاف كامل طاقتها في البكاء، علقت ببحة أصابت صوتها:
-انتَ اللي صعبتها علينا يا عاصم، وجوازنا لو انتهى فعلا فانت اللي هتكون السبب مش أنا.
لم تنتظر منه ردا، وشيعته قبلما تلتفت لتغادر الغرفة بنظرة تحمل كل معالم الخيبة، حينئذ تفشى شعور الغضب بكل خلاياه، من عدم حصوله على مبتغاه، في نيل رضائها الذي كان يظن أنه سيحظى به من خلال عبارة معتذرة، ولمسة مداعبة، يمتص من خلالهما حزنها، ولكن على ما يبدو أن التقرب لها أصبح محفوفا بالتناحر واللوم والعتاب، مهما بدر منه من أعذار ومبررات وعن كافة ذنوبه تاب. لم يجد أمامه مع دبيب الانفعال الذي يسري في عروقه، غير بلورة زجاجية مزين بها أحد الأرفف جواره، التقطها وألقاها في الحائط المقابل له، كتنفيس عن غليل كبحه بجهد جهيد خلال انفعالها المشحون معه، حتى لا ينتهي التحاور الذي كان دائرا بينهما إلي شجار ملحمي، ولكنه لا يدري أنَّى له بالتحكم في نوبات غضبه إن استمرت على ذلك المنوال.
❈-❈-❈
رغم شعور الضيق، والاختناق المستبدين به، إلا أنه كالعادة لن يربط الأمر بعمله، انتهى من روتينه الصباحي، وذهب على فوره، حتى أنه لم يتناول الفطور، فقد شعر بفقد شهيته، توجه نحو سياؤته بوجه واجم، عابس، ومشدود، توجه نحو سيارته في المرآب، قام بإنهاء إغلاقها بجهاز التحكم عند بُعد، وقبل أن يفتح بابها، شعر باهتزاز هاتفه الجوال في جيب بنطاله، مد يده ليخرجه، وهو يستقل المقعد الأمامي خاصته، تفقد هوية المتصل، وجده أحد رجاله، انزوى ما بين حاجبيه في غرابه من مهاتفته له في تلك الساعة المبكرة من اليوم، ولكنه على كل ضغط على موضع الإيجاب وهو يدير محركها، ليرى ما الذي عنده، وبجمود نبرته رد عليه:
-ايوه.
نفذ عبر سمعه لهجته الرسمية المشبعة بالاحترام:
-صباح الخير يا عاصم باشا، آسف إني بكلمك دلوقتي، بس عرفت امبارح حاجة غريبة اوي، ومش عارف ساعدتك عندك علم بيها ولا لأ، فقولت ابلغك بيها.
استشعر من كلماته، بوجود خير هام بجعبته، ولكنه لم يكن ببالٍ رائق لسماع اي أخبار غير سارة، زم شفتيه في ضيق، وهتف في نبرة ضاجرة:
-حاجة إيه اخلص.
أخبره الرجل بما لديه من أخبار دون استهلال مرددا:
-كرم الزيني، المحامي اللي ماسك الشئون القانونية في الشركة عند سعادتك خطب امبارح.
تجهم وجهه من الخبر الذي رآه واهيا، وصاح به في استنكار مليء بالإنزعاج:
-إيه المشكلة في كده يعني؟ مايخطب
قبل أن يغلق الخط في وجهه، مما اعتبره قلة عقله، عاجله الآخر بتوضيح السبب الوجيه وراء إخباره عن ذلك الأمر، بما جعل الصدمة تتفشى على وجه "عاصم" على فوره:
-المشكلة إن اللي خطبها تبقى بنت توفيق العاصي.