-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 18 - 1

 

قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية رحلة الآثام 
(ما طواه التامور وطمره)
 رواية جديدة قيد النشر


من قصص و روايات 

الكاتبة منال محمد سالم

الفصل الثامن عشر
الجزء الأول
(أَوْس)
❈-❈-❈

بعد نجاح عملية الولادة القيصرية لها، تم نقلها إلى غرفة منفردة، لتقوم إحدى الممرضات برعايتها الرعاية اللازمة، ريثما تستفيق كليًا. كانت "تهاني" تشعر بآلام متفرقة في أنحاء عظام جسدها، وذلك كردة فعل طبيعية جراء اصطدامها العنيف والمتكرر على طول درجات السلم. تأوهت في صوت واهن، وهي تحرك رأسها للجانبين على الوسادة، تجمعت الدموع في عينيها، وراح صوت أنينها يرتفع بالتدريج، انحنت عليها الممرضة لتضبط غطاء شعرها البلاستيكي، وسألتها إن كانت تريد شيئًا، فأخبرتها الأخيرة بسؤالٍ، وبهمسٍ شبه مسموع:
-اللي في بطني عايش؟
أجابتها في التو، وبابتسامة مشرقة على محياها:
-أيوه، ما شاء الله ابنك بخير.
خفق قلبها بقوةٍ، وردت بصدرٍ ينهج:
-ابني!!
استغرقها الأمر لحظاتٍ معدودة لتخامر هذا الشعور الرائع بكونها قد أنجبت وصارت أمًا. بلهفة ممزوجة بالحماس هتفت تطلب منها رغم انخفاض نبرتها:
-عاوزة أشوف ابني.
ربتت الممرضة بحنوٍ على كتفها قائلة بنفس الوجه الباسم:
-اطمني، هيجيلك هنا كمان شوية.
أغمضت "تهاني" عينيها لهنيهة مستمتعة بذلك الإحساس الخلاب، لتظل تردد على لسانها بتنهيدة متشوقة:
-ابني.
راودتها ذكرى مشوشة للحظة سقوطها من على الدرج، فتنفست الصعداء لكونها قد مرت وانقضت على خير، تنبهت لصوت الباب وهو يفتح لتجد أحد الأطباء يلج منه مخاطبًا إياها بشيء من الودية:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة.
نظرت تجاهه، وردت وهي تحاول الابتسام:
-الله يسلمك.
تفقد اللوح المعدني المدون عليه آخر الملحوظات المتعلقة بشأنها، والمتدلي من على طرف فراشها، ثم سألها مهتمًا:
-حاسة بإيه؟
تحسست جبينها، وأخبرته بإيجازٍ:
-تعبانة.
هز رأسه في تفهمٍ، وقال:
-متقلقيش، شوية وهترتاحي.
اقترب منها ليفحصها عن قربٍ، ثم أضــاف:
-أنا موصي الممرضة وهي هتقوم باللازم معاكي.
استمر في فحص أنبوب المحلول الموصول برسغها وهو يخاطبها:
-بصراحة أنا مكونتش متخيل إن رغم صعوبة وضع العملية إنها تعدي على خير.
ضيقت عيناها ناحيتها، فابتسم أكثر وقال:
-إنتي والمولود كويسين.
عند ذكر رضيعها صاحت تسأله في لهفةٍ:
-عاوزة أشوف ابني، هو فين؟
أجابها ببساطةٍ وهو يكتف ساعديه أمام صدره:
-مع دكتور "مهاب"، باباه!
عندئذ انتابها الفزع، هربت الدماء من وجهها المتعب، وهمهمت في صوتٍ متقطع، مستشعرة تلاحق دقـــات قلبها:
-"مهاب"!!
اندهش للتغير الذي طرأ على ملامحها، وبدا متعجبًا أكثر حين سألته في صوتٍ خائف للغاية:
-هو فين؟
لم يعرف بماذا يجيب، فشأنهما معًا لا يخصه، لذا فضل أن يتحدث بحيادية، فتكلم في هدوءٍ:
-أنا عاوزك تهتمي بصحتك بجانب اهتمامك بالمولود، ده جرح خطير، محتاج وقت عقبال ما يلم، وإنتي فاهمة طبعًا يا دكتورة.
كان الشائع في هذه الفترة الزمنية وضع النساء لحملهن بصورة طبيعية، فكان من النادر اللجوء للولادة القيصرية، إلا في الحالات القصوى التي تتطلب ذلك، وبالتالي اضطر الطبيب أن يزيد من الاستفاضة في إسداء النصح لها تجنبًا لأي مضاعفات قد تنعكس بالسلب عليها، فأكمل على نفس النهج:
-ويا ريت تظبطي مع دكتورة نسا، بحيث تاخدي وسيلة قبل ما تفكري تحملي تاني.
تجاهلت كل ما قاله، وهتفت ترجوه بنظرتها قبل نبرتها:
-أنا.. عاوزة .. ابني.
أومأ برأسه مرددًا وهو يهم بالتحرك مبتعدًا عن سريرها الطبي:
-متقلقيش.
شيعته بنظراتها اللهفى إلى أن خرج من غرفتها وهي تتحرق بشدة لرؤية وليدها، تنفست بعمقٍ قبل أن تحرر الهواء من صدرها في هيئة زفير بطيء، تعلقت عيناها بسقف الغرفة، وأخذت تحدث نفسها في قليل من الراحة:
-ابني كويس، الحمدلله.
❈-❈-❈
طال انتظار وصول رضيعها إليها، وراح شعور الاطمئنان الذي غمرها يتلاشى، ليحل كبديل عنه شعور الخوف والاضطراب. تضاعفت مخاوفها بصورة مرعبة عندما وجدت زوجها يقف عن عتبة الباب يراقبها بنظرات قاسية للغاية، جعلتها ترتجف في رقدتها، حاولت الاعتدال فاجتاحتها موجة من الألم؛ لكنها لم تتفوق على رهبتها منه، تمتمت باسمه في صوت مرتعش:
-"مهاب"!
تقدم مُختالًا في خطواته ناحيتها، دون أن ينطق بشيء، فقط عيناه تحومان عليها، كأنما يتعمد استثارة أعصابها، وزيادة ارتياعها منه. تسارعت نبضات قلبها، وسألته في صوتٍ لاهج ما زال مرتجفًا:
-فين ابني؟
وقف أمام فراشها، يُطالعها من علياه بنظرات دونية، احتقارية، تحمل الإهانة في طياتها، أجابها مقتضبًا في الكلام، بعد صمت بدا لها ممتدًا، وكأنه لا ينتهي أبدًا:
-موجود.
نظرته إليها لم تكن مريحة بالمرة، شعرت من خلال تأملها المرتعب لملامحه أنه يكمن لها شيئًا، وزاد ذلك الهاجس قوة عندما استطرد قائلًا من جديد:
-بس الأول في حاجة لازم أقولهالك.
هزت رأسها كأنما تسأله دون كلام، فأخبرها باسمًا في تشفٍ أصابها بالصدمة العظيمة:
-إنتي طالق!
جحظت عيناها في ذهول مرتاعٍ، وغمغمت بلا تصديقٍ:
-إيه؟
تابع معلقًا في لذة مغيظة لها، وممتعة له:
-مش ده اللي كان نفسك فيه من زمان.
شعرت حينها وكأن أنفاسها انقطعت، بتوقف عضلة قلبها، بظلامٍ تام ساد ما حولها. اخترقت كلماته المسمومة طبلتي أذنيها وهو يواصل إخبارها ببرود وقسوة:
-وجه الوقت اللي أقولك فيه أنا مابقتش عاوزك.
كانت تنظر إليه كالموتى، الصدمة المفاجئة جعلت ذهنها عاجزًا عن التفكير، ورغم هذا استمر يفرغ ما في جعبته هاتفًا بنبرة هازئة متهكمة بشدة:
-روحي اثبتي نفسك كدكتورة مالكيش مثال، وانجحي، إنتي حرة.
بدأ عقلها يعمل من جديد، ليوضح لها فداحة قراره، وأكد لها ذلك بقوله الحاسم:
-بس ابني مالكيش دعوة بيه، وأنا هعرف أربيه بمعرفتي.
آنئذ خرجت عن طور جمودها اللحظي لتفجر صارخة فيه، متجاوزة في إحساسها بالقهر والعجز أي شعور بالألم الجسدي:
-حرام عليك يا "مهاب"، إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته، وقال وهو يحدجها بنظرة مزدرية:
-قولتلك كل حاجة بتتعمل بمزاجي.
سدد لها نظرة احتقارية جعلت داخلها يتفتت، وقلبها يتمزق إربًا وهو يتابع:
-وإنتي ماتلزمنيش دلوقتي.
إعلانه بطرده من جنته المزعومة جعل كيانها يتبدل كليًا، انتفضت من رقدتها لتمد ذراعها نحو يده، أمسكت بكفه تشده منه متوسلة إياه في حرقةٍ:
-أبوس إيدك ماتحرمنيش من ابني.
استجدت فيه عاطفة إنسانية غير موجودة به من الأساس، فلم يرأف بها، ولم يكترث لشأنها، بل نفض يدها بقوةٍ كأنه ينفر من لمستها المقززة، بكت في قهرٍ، وهي ترى منه هذه المعاملة المتجافية. انسحق قلبها بين ضلوعها عندما رأته يستدير ليتجه نحو باب الغرفة تمهيدًا لمغادرته، أحست بناقوس الخطر يدق، إن تلكأت أو فكرت لربما خسرت وليدها الذي لم تره بعد للأبد، لم تنتظر كثيرًا، بل اندفعت ناهضة من على الفراش، وطوفان من الألم الجارف يجتاح كل ذرة فيها، انفلتت منها صرخات متقطعة، وهي تجاهد للحاق به، تاركة خلفها بقعة من الدماء تلوث فراشها، كان كل ما فيها يرتج، ومع ذلك لم يشفق عليها، ولم يبالِ لأمرها كعهده معها. بالكاد استوقفته عند العتبة، فركعت في الحال على ركبتيها عند قدميه، وقتئذ نظر إليها باستحقارٍ أكبر مستلذًا بتحقيق انتصار زهيد من لا شيء. بلا تفكير أو وعي راحت تردد متسولة مشاعره:
-أنا هعيش خدامة تحت رجلك، بس خليني جمب ابني.
أمام إحساس الأمومة، ورائحة الصغار الملائكية يهون كل شيء وأي شيء! بيديها المرتعشتين، تعلقت بساقه، وظلت تتوسله في انكسارٍ:
-مش هعصالك أمر مهما كان، اللي هتؤمرني بيه هنفذه مهما كان.
ثم أحنت رأسها بطواعية كاملة، كأنما تريد تقبيل حذائه، وتابعت في ألمٍ شديد:
-أبوس رجلك ماتبعدهوش عني.
كانت كالعبدة الذليلة، مشهدًا لطالما أغراه، وعايشه مع العابثات المتمرسات في طقوس العشق الآثم، واليوم يتجدد بشكل أكثر واقعية وتأثيرًا عليه، ورغم هذا علق بجمودٍ مستخفًا بما تفعله:
-ماظنش إنك هتستحملي، إنتي واحدة عندك طموح وآ...
قاطعته رافعة بصرها إليه قبل أن يكمل جملته للنهاية مؤكدة لها عن انصيـــاع صريح له:
-لأ، جربني، ولو عصيتك طلقني تاني.
مط فمه قليلًا، فواصلت توسلها المهين:
-بس ماتحرمنيش من ابني.
كانت لترضى بأي احتمال طالما أنه لا يتضمن حرمانها من رضيعها، ذل الخدمة أهون عليها بكثير من وجع الفراق! تركها "مهاب" تلتاع بشوقها وأنينها معقبًا في النهاية بعدما نفض ساقه ليتخلص من قبضتيها:
-تمام يا دكتورة، هشوف.
زحفت على يديها في عجزٍ واضح نحو الخارج وصوتها الباكي يرجوه في حرقةٍ أشد:
-"مهاب"، رجعلي ابني، خليني أطل عليه.
لم يلتفت إليها، بل انصرف في نشوة مريضة لترتكن بظهرها على الجدار المجاور لغرفتها وهي تنوح في حسرة متعاظمة:
-آه، يا وجع قلبي عليك يا ضنـــايا!
❈-❈-❈
تأهبت ابتسامتها المبتهجة للبزوغ عندما سمعت صوت زوجها يأتي من الخارج، خاصة مع امتلاء رأسها بعشرات النصائح والحكايات المخجلة عن العلاقات بين الزوجين لضمان استمرار اشتعال جذوة الحب بينهما لأطول فترة ممكنة، فتحمست لإسقاط ذلك الحاجز الوهمي الفاصل بينهما، ومحاولة إعطاء الفرصة لقدرٍ من الملاطفة والتقارب، لعل وعسى تنجذب إليه، وتجد فيه ما يعيد دفقات المياه إلى مجاريها الطبيعية. أوشكت "فردوس" على الذهاب إليه لاستقباله؛ لكن خالتها منعتها من الخروج لتؤنبها بنبرتها، وكذلك بنظرتها الحادة إليها:
-إنتي هتطلعي كده؟
سألتها مندهشة وهي تخفض بصرها لتتأمل سريعًا ثوبها المنزلي الفضفاض القديم، وذي اللون البرتقالي:
-ماله شكلي؟
بفظاظةٍ واضحة صارحتها:
-يقطع الخميرة من البيت.
عبست كليًا، وانطفأت الفرحة في عينيها، بل إنها كادت تبكي تأثرًا من كلامها اللاذع؛ لكن خالتها لم تعبأ بما تفوهت به، واستمرت في تعنيفها:
-أومال احنا كنا بنتكلم فيه إيه من صباحية ربنا؟
كادت تبرر موقفها بأنها أمضت النهار بطوله في تنظيف المنزل، وغسل الثياب، والقيام بكافة الأعمال العالقة تخفيفًا من العبء المُلقى على كتفي والدتها؛ لكن الأخيرة لم تهتم بمجهودها المستهلك، وهتفت تأمرها:
-روحي الأوضة خديلك قميص عِدل من بتوع "تهاني" البسيه.
الإتيان على ذكر نوعية ثياب شقيقتها نشط ذاكرتها باهتمامها بانتقاء الجيد من الأقمشة، والمواكب لما يسمى بصيحات الموضة، وإن كان كاشفًا للأكتاف، بارزًا للمنحنيات، وملتصقًا بالأجساد؛ لكنها كانت تفتقر للشجاعة لارتداء ذلك، فتلبكت، وقالت باعتراضٍ حرج:
-بس آ...
في التو منعتها من الاحتجاج بإصرارها الحاسم:
-من غير بسبسة، عاوزين الجدع مايشوفش غيرك.
مع سيل الإهانات المتواصل فقدت حماسها لمواصلة الأمر، فردت بإحباطٍ:
-يا خالتي أنا ماليش نفس.
زمت شفتيها هاتفة بها بغيظٍ مكتوم:
-أومال هيبقالك إمتى؟ لما يرجعلك معلق في دراعه واحدة تانية تفرسك؟
ارتفع حاجباها للأعلى، فلكزتها "أفكار" بقبضتها المضمومة في ذراعها، وحذرتها:
-مايبقاش مخك ضِلم.
لم تبدُ راضية عما تسعى لإجبارها عليه، فتابعت خالتها إعطاء تعليماتها عليها:
-ماتضيعيش الوقت، أمك هتفضل معاه، وإنتي البسي حاجة مدندشة من هدوم أختك الجديدة.
ردت على مضضٍ، وكأنها تستصعب تنفيذ ذلك:
-طيب.
قبل أن تغادر استوقفتها مرة ثانية آمرة إياها:
-استني كده وريني خدودك!!
قطبت جبينها متسائلة في تحيرٍ:
-مالهم دول كمان؟
أمسكت بهما بأصابعها وراحت تضغط عليهما بشكلٍ أوجعها وهي توضح لها ما تقوم به:
-خليني أقرصهم عشان يبان فيهم الدموية كده.
تأوهت من الألم، ورجتها:
-بالراحة يا خالتي.
تجاهلت شكواها، واستمرت في جذب خديها بقساوةٍ طفيفة لتكسبهما هذه الحمرة الشديدة، ثم تصعبت بشفتيها، لتدمدم بعدها في سخطٍ:
-بلا خيبة!
❈-❈-❈
ابتسامة حقيقية صادقة، نابعة من أعماق قلبها، ظهرت على صفحة وجهها الباكي، عندما عاد إليها بعد وقت طويل وهو يحمل رضيعها، كانت قد فقدت الأمل في رجوعه، حقًا شعرت وكأن روحها قد ردت إليها حينما رأته، أقبلت عليه بذراعين مفتوحتين لتضمه في لهفة وشوق، متناسية ما بها من أوجــاع، وكأن في ضمته البلسم الشافي لجراحها الغائرة، هانت كل المصاعب مع احتضانها له. قبلت "تهاني" وليدها من كفه الضئيل والدموع تطفر بغزارة من طرفيها، كلمته في صوت رقيق رغم اختلاطه بالبكاء:
-ابني حبيبي.
وجوده معها، وبين أحضانها، جعلها تقبل وترتضي بأي مهانة مهلكة لها في مقابل عدم خسارته، راحت تهمس له في أذنه برجاءٍ شديد:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
كفكفت دمعها بظهر كفها، وتابعت:
-فداك كل حاجة يا حبيبي، المهم تفضل في حضني.
ابتسامتها المشوبة بالبكاء ضاعت فجأة، وحل الفزع على قسماتها عندما حادثها "مهاب" فجــأة:
-احتمال يجوا يحققوا معاكي.
سألته بقلبٍ ازدادت وتيرة دقاته وهي تضم رضيعها إلى صدرها في خوفٍ، كما لو كانت تخشى من أخذه قســـرًا منها:
-في إيه؟
أجاب بنبرة هادئة:
-بخصوص وقوعك من على السلم.
في البداية تطلعت إليه ببلاهةٍ، وكأنها تحاول استحضار تفاصيل مشاجرتها الأخيرة معه، لم تضع الوقت في الصمت، وقالت من تلقاء نفسها:
-أنا دوخت ووقعت من نفسي.. إنت ملكش دخل.
نظر إليها مبتسمًا قليلًا، واستحسنت ردها:
-كويس.
أشاحت بنظراتها بعيدًا عنه، لتعاود التحديق في الوجه النائم هامسة :
-حبيبي.
مجددًا تكلم "مهاب" ليشتت نظراتها عن الرضيع:
-صحيح أنا خلاص قررت أسمي ابني "أَوْس"!
كررت الاسم باندهاش غريب:
-"أوس"!
قال متباهيًا بحُسن اختياره:
-أيوه، حاجة مختلفة، وتليق بيه.
تأملته "تهاني" بتعجبٍ، فواصل توضيحه المملوء بالزهو:
-"أوس الجندي"، اسم يليق بحفيد الباشا "فؤاد الجندي"!
❈-❈-❈
تبعثرت خيوط الكلمات وتفرقت أثناء حديثه مع حماته عندما رأى زوجته تطل من الداخل وهي متأنقة في ثوبٍ ضيق، من اللون الأحمر، له فتحة صدرٍ متسعة، يكاد ما يبرز أسفلها من مقومات مغرية يعلن عن وجوده المشوق. بدا متأهبًا في جلسته، وعجز عن إبعاد نظراته الفضولية عنها، فقد كان غير معتاد على رؤيتها هكذا، تدلى فكه للأسفل باستغرابٍ، وراح يتأملها مليًا، ليتسلل في حرجٍ واضح من تحديقه الذي طال بها عندما هتفت به "أفكار" في مكرٍ، وابتسامتها العابثة تتراقص على شفتيها:
-امسك الصينية عن مراتك يا "عوض"، ده بيتك، إنت مش غريب.
نهض من موضع جلوسه متجهًا إليها ليحمل عنها صينية الشاي قائلًا وهو مطرق الرأس:
-عنك.
ردت عليه "فردوس" باقتضابٍ:
-تسلم
اختطف نظرة سريعة نحو نتوءاتها الشهية، فانتفضت به حواسه الكامنة، تنحنح في حرجٍ، وباعد عينيه عنها ليعاود الجلوس في مكانه، محاولًا قدر المستطاع تحاشي النظر ناحيتها، وتوجيه الحديث إلى "عقيلة"، لئلا يبدو اشتهائه للاقتراب منها واضحًا. استمرت "أفكار" في اللعب على وتيرة تحفيز الزوجين، فقالت مدعية وجود الألم بظهرها:
-يستر عرضك يا "دوسة" اعدلي طرف السجادة لأحسن مش قادرة أوطي.
حملقت فيها "فردوس" بغرابة، وتعابيرها تعكس حيرة جلية، وكأنها لا تفهم مقصدها، فأشارت لها خالتها بعينيها نحو البقعة القريبة من زوجها، لتظهر تأثيرها عليه كأنثى عند وجودها في محيطه. أكملت "أفكار" جملتها مزيدة في توضيحها:
-بدل ما حد يتكعبل فيها.
-حاضر.
قالتها "فردوس" وهي تسير إلى النقطة المشار إليها، من وجهة نظرها كان البساط مفرودًا، لا يحتاج لإعادة ترتيب، ومع ذلك مالت بجسدها مدعية انشغالها بتسوية أطرافه، وهي غير مدركة أن ما تقوم به من حركات عادية تعمل كمؤثرات محفزة لمشاعر زوجها المكبوتة. اعتدلت في وقفتها، فأمرتها "عقيلة" وهي تشير بيدها:
-شوفي جوزك لو ناقصة حاجة هتيهاله.
قال معتذرًا بمجاملة مهذبة وقد أطرق رأسه قليلًا:
-لأ كده فضل ونعمة، كتر خيركم.
ثم التفت ناظرًا إلى زوجته التي بدت مغرية، قبل أن يخاطبها في صوت جاهد ليجعله جادًا:
-مش يالا بينا بقى، عشان نسيب الجماعة يرتاحوا.
هزت رأسها موافقة، فنهض قائمًا ليضيف:
-هستناكي تحت عقبال ما تغيري هدومك.
قالت وهي تشرع في السير:
-طيب.
لكنها توقفت عندما اقترحت خالتها بخبث، ونظرة عبثية تلمع في عينيها:
-مالوش لازمة تعطلي جوزك، حطي عليكي العباية.
همَّت "فردوس" بقول شيء محتج يعبر عن انزعاجها من محاولة فرض وجودها عليه بهذا الشكل السافر؛ لكنها ابتلعت الأحرف في جوفها عندما منحتها خالتها هذه النظرة المحذرة، لتضطر مرغمة على إطاعتها في صمت، بينما رددت والدتها في سرها بتنهيدة راجية:
-ربنا يجعل في وشك القبول والرضا يا بنتي