-->

رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 18 - 2

 

قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية رحلة الآثام 
(ما طواه التامور وطمره)
 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة منال محمد سالم


الفصل الثامن عشر 
الجزء الثاني
(أَوْس)
❈-❈-❈


أثناء سيرها معه كانت ساهمة، تمشي مدفوعة بتوجيهه وبشكل آلي عبر الطرقات إلى حيث يقطنان، دار في رأسها عشرات الأفكار، ورسمت العديد من السيناريوهات لما ستكون عليه ليلتهما بعد كل ذلك المجهود المبذول من قِبل خالتها لتحلية صورتها في عينيه، انتبهت "فردوس" لزوجها، وانتفضت كالملسوعة فجأة عندما تكلم في نبرة معاتبة:
-إنتي مش معايا خالص!!
سألته بحرجٍ وهي ترمش بعينيها:
-هو .. إنت كنت بتقول حاجة؟
كرر عليها سؤاله مبتسمًا في بساطةٍ:
-كنت بسألك ناقصك حاجة نجيبها في سكتنا؟
هزت رأسها قائلة:
-لأ، ماظنش.
عاد الصمت يخيم بينهما من جديد، فسعى "عوض" لفتح سبل الكلام مجددًا، فقال بشيءٍ من الصدق، وكأنه يعبر لها عن مشاعره المتأثرة بها:
-بس تعرفي النهاردة كان شكلك حلو.
تفاجأت بمدحه غير المتوقع، فسكتت للحظةٍ، تحاول استجماع جملة ملائمة، فقالت كالبلهاء:
-كتر خيرك.
تفهم التردد الظاهر عليها، وأكد لها باهتمامٍ متزايد:
-أنا مش بجاملك دي الحقيقة.
على عكسه كانت متبلدة، جامدة، تجد صعوبة في مجاراة طريقته السلسة في البوح بما يناوش القلب، فاكتفت بالصمت، وتحاشت النظر ناحيته، لتتطلع للأمام ممعنة النظر في الحواجز المعدنية التي تسد مقدمة الطريق، هتفت متسائلة في استغراب حائر:
-هو الشارع مقفول ولا إيه؟
دقق النظر هو الآخر في الناصية المزدحمة بعشرات البشر، وقال:
-مش عارف، بس أول مرة يحطوها هنا.
تباطأت خطواتهما، واستطالت عنق "عوض" محاولًا تبين ما يحدث عبر الحشد الذي يملأ جنبات المكان، علق مُبديًا تحيره:
-ده في زحمة ودوشة قدام.
توجس قلبها خيفة من حدوث مكروه ما، فرددت بتلقائيةٍ:
-ربنا يستر..
أشار لها بيده لتتوقف قائلًا بلهجة شبه آمرة:
-استني كده أما أسأل.
استجابته له هاتفة في إيجازٍ:
-طيب.
سارع "عوض" في خطواته بعدما تركها واقفة في مكانٍ غير مزدحم ليستطلع بنفسه الأمر، آملًا ألا يكون خلف ذلك التجمهر كارثة مفجعة.
❈-❈-❈
بدأ قلبها يدق بسرعة كعادته كلما ولج إلى الغرفة، ارتاعت فرائصها ظنًا منها أنه قد جاء لأخذ رضيعها قسرًا، شددت من ضمه له، ونظرت إلى "مهاب" بقلقٍ معكوس بقوة على محياها، ازدادت مخاوفه مع صمته المدروس، فما كان منها إلا أن سألته بصوتٍ ما زال مرتعشًا:
-هتردني لعصمتك تاني؟
لم يمنحها الرد الشافي، ترك هواجسها المخيفة تأكل رأسها، وقبل أن تفكر في تكرار سؤالها المُلح عليه اقتحم الغرفة دون استئذان "ممدوح" ليلقي نظرة شاملة على "تهاني" والرضيع القابع في حضنها، اندلعت مشاعر الغيرة بدواخله تجاه رفيقه، فانتفض الحقد في مقلتيه، فهو دومًا يظفر بكل ما يتمنى دون عناءٍ، على عكسه، فهو يتلقى الفتات والمتبقي منه. أخفى ما يضمره في صدره وراء ابتسامة متكلفة، وتساءل وهو يتبختر مقتربًا من الفراش:
-أنا جيت في وقت مش مناسب ولا إيه؟
احتفظ "مهاب" بصمته، وصاحبه بنظراته الغامضة وهو لا يزال يتقدم للأمام، في حين تابع "ممدوح" كلامه قائلًا:
-حبيت أطمن على الدكتورة.
ثم وجه حديثه إليها متسائلًا باهتمامٍ:
-إيه الأخبار؟
توترت "تهاني" من وجوده، وتضاعفت دقاتها، فإن كانت مشاعرها قد انجذبت إليه بسبب لطافته ووديته معها، إلا أنها لن تضحي بقطعة منها لأجل أهواءٍ وقتية نتجت جراء الوحدة والشعور بالفراغ. ارتجفت في رجفتها عندما أجاب "مهاب" بنبرة موحية:
-ماتقلقش عليها.
حينئذ تكلمت من فورها، وبصورة رسمية استغربها:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، أنا كويسة.
اندهش الأخير من الجفاء المريب الذي تظهره ناحيته، وكأنها راحت تعيد بطواعية وضع الحواجز بينهما، كان فطنًا للدرجة التي جعلته يخمن انصياعها الواضح، فقال مشيرًا بيده:
-الدكتور برا قالي إن في حد جاي يسألها عن تفاصيل الحادثة.
أخبرته دون أن تفكر للحظة، كما لو كان الجواب معدًا بشكل مسبق:
-ده قضاء وقدر، والحمدلله إنه اكتبلي أنا وابني عمر جديد، وده اللي يهمني دلوقتي.
مط فمه في إعجابٍ، ثم حول نظراته تجاه "مهاب" الذي كان يحدجه بنظرته المتباهية، اقترب بعدئذ منه، مال ناحيته، وهمس له:
-برافو، عرفت تطلع من المشكلة دي كمان من غير خساير...
هز "مهاب" رأسه في نشوةٍ، بدا متفاخرًا بتحقيق نصرًا جديدًا في معركة لم يبذل فيها مجهودًا، استكمل "ممدوح" الناقص من جملته، فاستطرد بسخريةٍ محسوسة في نبرته:
-وبعيل كمان.
صحح له بصرامةٍ رغم خفوت صوته:
-اسمه "أوس"، يا ريت تحفظه.
تلقائيًا اتجه "ممدوح" بنظراته القاتمة تجاه الرضيع، وعلق بإيجازٍ غامض:
-أكيد.
ربت "مهاب" على جانب ذراعه وهو شبه يطرده بوقاحةٍ:
-بيتهيألي وجودك مالوش لازمة.
حملق فيه مرة ثانية، ابتلع الإهانة المستترة في طريقته المتعالية، واستقبلها بابتسامة متصنعة مرددًا:
-صح، هاسيبكم سوا.
همَّ بالانصــراف؛ لكنه توقف عند الباب ملتفتًا برأسه نحو "تهاني"، أعطاها نظرة لم تسترح لها، قبل أن يدور ببصره ليستقر على وجه "مهاب"، ابتسم في سخافةٍ، وخاطبه قائلًا في تهكم متوارٍ:
-نتقابل بعدين يا .. "أبو أوس"!
❈-❈-❈
أثار الغبار التي سادت في الأرجاء جعلت الرؤية غير واضحة، مشوشة، والسعال كان منتشرًا بين المتواجدين. حاول "عوض" اختراق صفوف البشر المجتمعين بكثافة ليصل إلى المقدمة، التقطت أذناه عبارات مبهمة عن تواجد مكثف لعناصر الشرطة مع رجال الإسعاف وسيارات الإطفاء، ما إن وصل إلى آخر نقطة كان مسموحًا فيها للحضور بالوقوف حتى استطاع فهم ما حدث، رأى العقــــــار الذي يقطن به وقد انهار تمامًا منذ ساعات، على حسب ما سمع، ليخلف العديد من الضحايا العالقين أسفل أطنان من الركام الخرساني. تدلى فكه للأسفل، وحملق بعينين متسعتين في رعبٍ للأطلال المرابطة كجبل من الحجارة أمامه، حلت الصدمة عليه كالصاعقة، فعجز عن الكلام أو التعليق. تنبه لضربة أحدهم على كتفه وهو يخبره كنوعٍ من المواساة:
-الحمدلله إنك مكونتش موجود، وإلا كنت رحت مع اللي راحوا.
التفت للجانب الآخر عندما خاطبه أحد الجيران:
-ده في ناس اتدفنت بالحيا هنا!
أضاف ثالث من ورائه:
-ده إنت ربنا كتبلك النجاة.
رويدًا رويدًا تدارك عقله ما حدث، وأدرك حقًا أن الدار التي كانت تأويه لم تعد موجودة، اختفت مع كل ما يخص عائلته وزوجته من متعلقات شخصية، وذكريات أسرية، كان "عوض" في هذا الموقف تحديدًا قليل الحيلة، لا يملك زمام نفسه، فما كان منه إلا أن ردد مستسلمًا للواقع المرير:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
هتف أحد المتواجدين من جديد:
-احمد ربنا إنك كنت برا.
استدار تجاهه متسائلًا في تخبطٍ عظيم:
-ده حصل إمتى وإزاي؟
رد عليه الرجل وهو يحك مقدمة رأسه:
-محدش عارف بالظبط، بس آ...
قبل أن يتم جملته قاطعه صوتًا صارمًا لأحد أفراد الشرطة ينهر به الجميع:
-يا جدعان ارجعوا لورا خلونا نشوف شغلنا.
تراجع مع من تراجع للخلف بعيدًا عما كان بيته ولسانه يردد بتحسرٍ موجوعٍ:
-لطفك يا رب، هتصرف إزاي دلوقتي؟
نظر إليه الجيران بتعاطفٍ وشفقة، وعلق عليه أحدهم:
-ليه حق الراجل يكلم نفسه، كان زمانه مع الأموات!
❈-❈-❈
انقاد بلا وعي إلى خارج الزحام، وهو مشوش الذهن تمامًا، فاقدًا لقدرته على التفكير السليم، وكيف له أن يفعل وهو في وسط كارثة عظيمة لم تكن موضوعة في الحسبان؟! كانت "فردوس" لا تزال تنتظره عند البقعة التي تركها فيها، ضجرت من الوقوف بمفردها ومع ذلك لم تتجرأ لمخالفة أوامره، لمحته يجتاز الحاجز وهو باهت الملامح، مشتت النظرات، أقبلت عليه تسأله في قلقٍ:
-عرفت في إيه يا "عوض"؟
استجمع قدرًا من شتاته المبرر، ونظر إليها بعينين حزينتين للغاية، فسألته مرة أخرى بتوجسٍ أكبر:
-إيه اللي حصل؟
أجابها وهو بالكاد يحبس دموعه:
-البيت راح.
بدا كلامه مبتورًا، منقوصًا، غير واضحٍ لها، لذا سألته مستفهمة:
-بيت إيه اللي راح؟!
سحب نفسًا عميقًا، وأجابها بصوتٍ مختنق:
-العمارة وقعت كلها.
انخلع قلبها بين ضلوعها، وسألته في صوت أخذ في الارتعاش:
-عمارة مين؟
أجابها بحسرة تملأ كامل وجهه، وهو يغالب دموعه:
-العمارة اللي ساكنين فيها، غير الناس اللي ماتوا وآ..
حينما أدركت الكارثة التي حلت بها صرخت لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي؟!!!
في التو استدارت ناظرة إلى التجمهر الموجود بالأمام وهي تكمل ولولتها المفجوعة:
-يادي الخراب المستعجل.
استوعبت الكارثة التي ألمت بها، فاندفعت بتهورٍ تجاه الحاجز؛ لكن "عوض" استوقفها بالإمساك بها من ذراعه ليسألها:
-استني رايحة فين؟
هتفت في قهرٍ، وهي تذرف الدموع بحرقةٍ من عينيها:
-حاجتي وعفشي، وهدومي.
قال لها بألمٍ:
-استعوضي ربنا.
انتشلت ذراعها من يده، وصاحت في صراخٍ مفطور:
-يعني إيه؟ كله راح كده في غمضة عين؟
حاول تهوين الأمر عليها، فعلق:
-قولي الحمد لله إن احنا بخير.
انفجرت تبكي بقهرٍ أشد، وافترشت الرصيف بجسدها لتبدأ في النواح والولولة عاليًا:
-آه، يا وجع قلبي، أنا مش مكتوبلي أفرح وأتهنى أبدًا!!!

❈-❈-❈
مجددًا رفعت كوب الماء إلى فمها لترتشف ما به، فتبلل جوفها الجاف، قبل أن تخفضه لتنخرط في نوبة بكاءٍ جديدة مصحوبة بالندب والتحسر، بعدما عادت إلى بيت أمها لتمكث فيه مؤقتًا. نظرت إليها والدتها بأسفٍ وحزن، ففرحتها لم تدم كثيرًا، بل إنها تبخرت كالسراب، لتظل كعهدها تعيسة الحظ، ورفيقة أصيلة للغُلب والشقاء. جاءت "أفكار" لتفقدها، فلم تسلم من لسانها اللاذع الذي لم يترفق بها، زادت من شعورها بالإحباط والألم بقولها السليط:
-أنا مشوفتش واحدة فقر كده في حياتي أكتر منك.
من بين دموعها الغزيرة تأملتها "فردوس" تعاتبها بشيء من اللوم:
-خلاص يا خالتي بقى، كفاية تعتيت في جتتي!
أيدتها "عقيلة" في كلامها قائلة بضيقٍ:
-سبيها في حالها ياختي، الحمدلله إنها بخير.
لم تبدُ مثلهما متعاطفة، حزينة، أو حتى الهم يملأ قلبها، كانت تفكر بالعقل، تحسب كل خطوة وفقًا المستجد من الأوضــاع، لهذا أبدت جمودًا غريبًا وهي تسأل:
-وهتعمل إيه بعد كده؟
أجابتها بتحيرٍ:
-الله أعلم.
لم تتحمل "فردوس" تأنيبها القاسي، وكأنها من تسببت في انهيار المبنى القديم، فنهضت من موضعها لتتجه إلى غرفة نومها القديمة، حتى تختلي بنفسها، بينما زمت "أفكار" شفتيها مغمغمة وهي تشيعها بنفس النظرات الجامدة:
-ده جوزها يعتبر على باب الله، لا عنده أملاك ولا أبعدية.
ثم ركزت بصرها على شقيقتها وتابعت:
-هيدبروا حالهم إزاي؟ هيباتوا في الشارع بقية عمرهم.
لم تجد "عقيلة" ما ترد به عليها، فواصلت شقيقتها الكبرى استرسالها المزعج:
-وموت يا حمار عقبال ما الحكومة تديهم شقة.
يئست من لغوها الزائد، وقالت حاسمة رأيها:
-خلاص يا "أفكار"، هما هيفضلوا هنا معايا، البيت فاضي عليا.
تفاجأت بما قررته فجــأة، ودون ترتيب مسبق، لتظهر رفضها لاقتراحها النزق في صيغة متسائلة:
-وبنتك "تهاني" لما ترجع؟ تلاقي راجل غريب أعد معاكو؟
ردت مصححة لها:
-ده جوز أختها، مش حد غريب.
أصرت على رفضها قائلة:
-برضوه، ده البيت أد كده، وآ...
كانت موقنة أنها لن تسلم من احتجاجها ونقاشها، وإن استمرت طوال النهار، لهذا قاطعتها منهية الجدال في هذا الموضوع:
-ساعتها نبقى نتصرف.
كادت تنطق بشيء؛ لكنها أسكتتها:
-بس مش هاسيب "فردوس" تبات في الشارع ولا على الرصيف.
علقت عليها بتذمرٍ ساخط:
-والشملول جوزها فين؟ المفروض يدور على بديل.
بعد تنهيدة سريعة أجابت:
-أهوو بيعمل اللي عليه.
التفتت "عقيلة" برأسها نحو باب المنزل عندما سمعت الطرقات عليه، نهضت متجهة إليه لتفتحه، فوجدت "إجلال" عند عتبته، أردفت الأخيرة مرددة بأنفاسٍ لاهثة أكدت على لوعتها:
-سلام عليكم، إزيك يا خالتي؟ لا مؤاخذة إن كنت جيت من غير ميعاد، بس أنا أول ما عرفت بالخبر جيت جري أطمن على "دوسة".
رحبت بها قائلة:
-فيكي الخير يا بنتي، خشي واسيها بكلمتين جوا.
كانت ممتنة لاستقبالها، وانطلقت في التو نحو الداخل، لتلازم صديقة الطفولة، وتشاركها في مصابها، طامعة أن تنجح في التهوين عليها.
❈-❈-❈
منذ الصغر، أدرك الفارق والاختلاف بين الشقيقين؛ فالكبير متهور، ومندفع، لا يحسب الأمور جيدًا بعقله، يفعل ما يطرأ على باله بغير حسبانٍ، والصغير على النقيض، يمتلك من الذكاء والفطنة ما يجعله قادرًا على تسيد الآخرين وقيادتهم، لا يثير المتاعب، وإن وقع في المصائب وجد السبيل للخروج بلا أدنى خسارة، لهذا كان الابن المفضل لديه، مما زرع الغيرة والحقد في نفس ابنه البكري مع مرور الزمان. الأزمة الأخيرة أوضحت له ما ظن أنه غفل عنه، لهذا أراد إعادة توزيع الأدوار خاصة مع التطورات الجديدة. لجأ السيد "فؤاد" لمحاميه لتنفيذ ما فكر فيه في فترة تعافيه، وشرع الأخير في تحقيق مطالبه دون تأخيرٍ، وصار كل شيء مثلما رغب. استغرب "سامي" من استدعاء أبيه له في مكتبه وقت وصوله، سأله بعدما استقر على المقعد المقابل له:
-خير يا باشا؟
في زهوٍ بائن في نبرته، وكذلك على تقاسيمه، جاوبه باسمًا بقدرٍ قليل:
-أخوك بلغني إنه جاب ولد.
غامت تعابيره للغاية، وهتف غير مصدقٍ ما سمع للتو:
-إيه؟
تابع والده حديثه إليه مهمهمًا:
-بقى لعيلة "الجندي" حفيد.
انزعج من الأريحية الواضحة على والده الأرستقراطي الصارم، فلو كان هو من تصرف برعونة، وتزوج بفتاة مجهولة الحسب والنسب، لربما عوقب بالطرد من جنته، وحُرم من نعيمه وترفه. أظهر "سامي" سخطه ونقمه عليه فقال:
-شايفك يا باشا مبسوط بالخير، يعني بالبساطة دي وافقت تدي لقب العيلة لحد ما نعرفش أصله من فصله؟!!!
حذره السيد "فؤاد" من التمادي في حديثه هاتفًا:
-خد بالك من كلامك يا "سامي"، اللي بتتكلم عنه ده ابن أخوك، من صلبه.
أصر على اعتراضه مدمدمًا بغلٍ يبرز في نظراته:
-بس يا باشا ..
بنفس اللهجة الشديدة الحازمة أمره:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة في الموضوع ده، اتصل بيه باركله وخلاص!
على مضضٍ اضطر أن يعقب، وتعبيرات وجهه تعكس كراهيته:
-اللي تؤمر بيه.
استعد "سامي" لينهض من مكانه؛ لكن جلس مذهولًا عندما أضاف السيد "فؤاد":
-صحيح، المحامي جهزلك ورق الشركة الجديدة.
سأله في صدمة متزايدة، ونظراته تتسع ببهجة لا يمكن إنكارها:
-شركة جديدة؟
أكد له بغموض ضاعف من وتيرة الحماس لديه:
-أيوه.
كان من الأفضل أن يرسله بعيدًا، أن يلهيه بالأعمال فلا يجد وقتًا لتدبير المكائد لشقيقه. استطرد السيد "فؤاد" موضحًا بهدوءٍ:
-في فرع هنفتحه برا مصر، وإنت اللي هتديره، بحكم خبرتك هنا.
وكأنه قد نال مبتغاه، تهللت أساريره، وانعكست آثار الفرحة على محياه، فقال بابتسامة عريضة للغاية:
-إيه؟ معقولة؟ أنا يا باشا؟
تعمد السيد "فؤاد" تجاهل مظاهر السرور البائنة على ابنه، وقال بصرامته المعتادة، كنوعٍ من التحدي:
-وريني هتثبت نفسك إزاي!
وقتئذ هب واقفًا ليخبره بثقةٍ ملأت صدره، ويده تزرر طرفي سترته:
-اطمن يا باشا، أنا هخليك تفتخر بيا.
هز رأسه معقبًا:
-منتظر ده.
انصرف بعدها "سامي" وشعوره بالنشوة يغمره، حادث نفسه في تصميم متحمسٍ للغاية:
-أخيرًا رضا عني "فؤاد" باشا، ودي فرصتي عشان أقدر أوريه الفرق بيني وبين "مهاب"، وساعتها بس هيعرف إنه كان غلطان لما وثق فيه عني!
❈-❈-❈
بدت وهي جالسة على طرف الفراش، ترتدي ثيابها تأهبًا لخروجها من المشفى، في حالة من الخنوع والاستسلام، امتدت يدها لتداعب برفقٍ حذر أنامل رضيعها النائم إلى جوارها، انتفضت واقفة مرة واحدة عندما فُتح الباب فجــأة، فوخزها جرحها الحي بقوة. تطلعت بنظرات قلقة، تظهر الخوف والتوتر، نحو "مهاب" الذي أطل منه باسمًا في غرور واثق، ابتلعت ريقًا غير موجود في جوفها، وسألته بنبرة مهتزة:
-قرارك إيه؟
تقدم ناحيتها بثباتٍ، وعيناه لا تحيدان عنها، مما أشعرها بالمزيد من الرهبة والارتياع، أحست بمدى ضآلتها أمام بطشـــه اللا محدود، خشيت أن يسحقها باختيارٍ صادم، فبادرت بإبداء استعدادًا تامًا لتنفيذ كل ما يأمرها به، حبست أنفاسها انتظارًا لكلمته الفاصلة، لم تطرف بعينيها وهي تنظر إليه، مــد يده ليحتضن طرف ذقنها، ارتجفت من لمسته التي لم تكن حميمية، أو دافئة، بل شعرت بها كلمسة قاتل يختبر أضعف نقطة في فريسته لـنحــرهــــا منها. حين تكلم شعرت بقلبها ينقبض:
-أنا فكرت ...
شعر "مهاب" برجفتها أسفل لمسته، فاستمتع بمدى تأثيره الطاغي عليها، ابتسم أكثر في انتشاءٍ، وأكمل:
-عشان ابني هردك.
وكأن الحياة قد عادت لتدب في روحها الكسيرة؛ لكن قبل أن تكتمل فرحتها هددها صراحةً، ويده قد أطبقت على فكها تعتصره:
-بس لو في يوم قصرتي في حقه، صدقيني مش بس هحرمك منه، هخليكي تندمي على اليوم اللي عرفتيني فيه!
لم تترك "تهاني" لعقلها الفرصة للتفكير أو التحليل أو حتى مراجعة ما أقره، بل هتفت في الحال رغم الألم الذي انتشر في عظام فكها، مظهرة فروض الطاعة والولاء الكامل له:
-حاضر، أنا مستعدية أعمل أي حاجة عشان أفضل جمب ابني طول العمر.
غابت ملامح التهديد من على قسماته، رمقها بهذه النظرة المتلذذة بانتصاره، ليربت بعدئذ برفق على جانب وجنتها معقبًا في استحسانٍ:
-كده تعجبيني .......................................... !!!


يتبع



إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة منال محمد سالم من رواية رحلة الآثام ، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية