رواية جديدة رحلة الآثام لمنال سالم - الفصل 19
قراءة رواية رحلة الآثام كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
(لا كرامة معه)
تحذيره المشروط بطردها من جنته الزائفة، وإقصائه عن فلذة كبدها إن أخطأت وعصت أوامره مهما كان كفيلًا بإخضاعها، وجعلها أكثر حرصًا على عدم إغضابه، وإن لم تكن راضية تمامًا عما يفعل. التزمت "تهاني" بكل شيء، وتخلت عن أحلامها في سبيل البقاء معه. تنهيدة عميقة خرجت من رئتيها، لتمنح بعدها رضيعها الذي تهدهده بلطفٍ ابتسامة صافية، النسمات الرقيقة في الشرفة وهي جالسة به جعلته يغفو بالتو، ضمته إلى صدرها، وانهالت على وجنته تقبله في عاطفة أمومية جياشة. همست له بالقرب من أذنه:
-عشانك أنا مستعدة أتحمل أي حاجة، المهم ماتبعدش عني.
رغمًا عنها طفرت دمعة متأثرة من طرفها، مسحتها بسبابتها، وواصلت القول:
-إنت أغلى ما في حياتي.
احتوته في أحضانها الدافئة، وأغمضت عينيها مستمتعة بهذه اللحظات الثمينة، سرعان ما تبدد ذلك الهناء النفسي، وانتفضت في قدرٍ من الفزع عندما جاءها صوته المنفر:
-"تهاني"!
استدارت برأسها ناحية مصدره دون أن تنهض، وردت في صوتٍ مطيع:
-أيوه.
رأت زوجها مقبلًا عليها، ومن خلفه بمسافة بسيطة لمحت واحدة غريبة، تجهل هويتها، تقف في وقفة رسمية، وترتدي ثياب الخادمة. قرأ "مهاب" تساؤلها المحير في عينيها دون أن تنبس بكلمة، ومع ذلك أمرها:
-سيبي "أوس" للمربية بتاعته وتعالي.
كررت كلمته باندهاشٍ متعجب:
-مربية!
أتى تبريره وقحًا ومهينًا في نفس الآن:
-أيوه، أومال مفكرة هخلي واحدة زيك جاية من الحواري تربيه؟ تفهمي إنتي إيه في أصول التربية!
ابتلعت مرارة الإهانة قسرًا، وقالت مدافعة عن نفسها بألمٍ محسوسٍ في نبرتها:
-أنا أمه يا "مهاب"، مافيش حد هيخاف عليه ولا يحميه من الهوا الطاير زيي.
رد عليها بتصميمٍ:
-واللي جايبها فاهمة شغلها كويس، وعارفة هتتعامل معاه إزاي.
عفويًا تشبثت "تهاني" برضيعها في خوفٍ غريزي، وكأنه تخشى فقدانه بانفصاله عنها، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه، فرجته:
-صدقني، أنا هعمل المستحيل عشان أخليه أحس حد في الدنيا.
وكأنها نكرة، لا أهمية لرأيها، رفع سبابته أمام وجهها ينذرها:
-أنا قولت إيه!!
اضطرت مرغمة، وبحرقة تستعر في صدرها، أن تخنع له وتستجيب لأمره، فارتجف صوتها وهي تخبره:
-حاضر، اللي إنت شايفه!
فرقع "مهاب" بإصبعيه للمربية لتتقدم للأمام، تجاوزته متجهة إلى الرضيع، أخذته قسرًا من والدته، والتفتت ناظرة إلى رب عملها الذي حادثها باللغة الإنجليزية مُلقيًا عليها تعليماته، فأظهرت طاعتها الكاملة وهي تبتسم.
اجتمعت هموم الدنيا وشقائها في ملامحه التعيسة، وكيف له ألا يحزن وقد فقد المكان الذي يأويه في غمضة عين؟ حاول قدر استطاعته توفير النفقات اللازمة لتأجير منزلًا مؤقتًا؛ لكنه كان مكبلًا بالديون، وهذا أثقل كاهليه بشدة، خاصة مع إقامته غير المستحبة لدى حماته، لهذا أراد تلقي بعض المساعدة، فخطر بباله اللجوء لشقيقه، إذ ربما إن علم بُمصابه نجده في الحال. كما هو معتاد جلس "عوض" في انتظار دوره بالسنترال العمومي، الزحام كان متوسطًا، وحينما أخبره الموظف بالتوجه إلى كابينة الهاتف الخاصة بمكالمته، أسرع إليها، والتقط سماعة الهاتف مخاطبًا والدته، فشقيقه لم يكن متواجدًا، لهذا اضطر أن يخبرها عما حدث، فصاحت باستنكارٍ ضاعف من شعور الذنب لديه:
-أنا قولتلك من الأول إني مش راضية عن الجوازة دي، وإنت عاندت، وركبت دماغك، وهي اتطربقت في الآخر علينا كلنا.
همَّ بالكلام؛ لكنها استمرت مسترسلة بغضبٍ:
-هتفهم امتى إنها نحس ووش فقر.
رد عليها بحذرٍ، وقد غامت تعابيره:
-يامه ده نصيب، الحمدلله إننا طلعنا منها بخير.
هدرت به عاليًا، حتى ظن أن من حوله سمعوا صوت صراخها:
-نصيب إيه بس؟ ده كل حاجة راحت، وبقينا على الحميد المجيد!
بالكاد استجمع خواطره، وقال بشيء من الخزي، مستصعبًا طلبه:
-طيب أنا دلوقتي عاوز قرشين وآ...
قاطعته قبل أن يتم جملته للنهاية بحسمٍ:
-منين يا حسرة؟ أخوك يدوب اللي جاي على أد اللي رايح!
علق بحلقه غصة مريرة، فخذلانها له كان موجعًا، انتبه لصوتها مرة ثانية عندما طلبت منه:
-بقولك إيه، إنت تطلق البت دي، وأنا ساعتها هحاول أتصرف وابعتلك قرشين تيجي بيهم عندنا.
هتف بلا تفكيرٍ رافضًا اقتراحها:
-مش هعمل كده يامه.
صاحت في حنقٍ:
-أنا غلبت معاك، ومابقتش عارفة أخد معاك لا حق ولا باطل!
ضم شفتيه، وردد بعد لحظة من الصمت الموجع:
-كتر خيرك يامه.
اخترق صوتها الحاد أذنه وهي لا تزال تتكلم:
-بس خدها مني كلمة، طول ما إنت سايب الفقر دي في حياتك مش هتشوف يوم عدل.
بشيءٍ من عزة النفس والكرامة قال:
-ربنا وحده اللي بإيده يقرر مصايرنا.
زادت من ضغطها عليه بحديثها الختامي:
-إنت مابتسمعش إلا نفسك، اقفل، ومشاكلك حلها بنفسك!
لم تضف شيئًا آخرًا، انقطع الاتصــال وهو على نفس الحال البائس، بل يمكن القول أنه أصبح أكثر بؤسًا وشقاءً بعدما أحبطته برفضها الصريح لتقديم يد العون له. خرج من السنترال يجرجر أقدامه وهو يُحادث نفسه:
-لطفك بيا يا رب! هعمل إيه؟!
غمره شعور المعذب العاجز الفاقد للحيلة والوسيلة، سار محني الرأس يتخبط في الطرقات والشوارع، وهو متحرج للغاية من العودة إلى منزل حماته، فبماذا يخبرها وقد وصلت الأمور لمداها الأخير؟
الانفصـــال عن وليدها كان عسيرًا، وغير يسيرٍ عليها، شعرت "تهاني" وكأن روحها تتمزق، وقلبها يتفتت، بالكاد حاولت الاعتياد على مُفارقته لتزاول عملها، تبدلت أحوالها كثيرًا، وصارت أكثر شهرة وتميزًا، كل الأبواب المغلقة فُتحت من أجلها، أصبحت تنتمي للطبقة الأعلى شأنًا، وبات يتم دعوتها للانخراط في أوساطٍ لم تكن لتظن أبدًا أنها ستصبح واحدة منهم، حتى مكان عملها تحول لشيء يليق بمكانتها الجديدة. في قرارة نفسها، كانت تتحرج من هذا الشعور الغريب الذي يناوشها من آن لآخر وتستنكره؛ بأنها راضية عن النقلة الكبيرة في حياتها، وإن كانت على حساب كرامتها؛ لكن سرعان ما جاهدت لتُسكت ذلك الصوت الداخلي المندد بهذا، لتقنع نفسها بأنها تفعل هذا مضطرة وإلا لعانت الأمرين وحُرمت من كل شيء.
لم تبرح مكانها بغرفة نومها، بعدما اختلت بشقيقتها لتحدثها فيما نوت فعله، حيث قررت الانتقال للحجرة الأصغر الخاصة بابنتيها، وترك هذه لـ "فردوس" وزوجها للإقامة بها لاتساعها، ريثما يجدان مكانًا مناسبًا للعيش فيه، وإن لم يحدث لم تشعرهما بالحرج لمكوثهما الدائم معها، بل وزادت على ذلك باقتطاعِ جزءٍ من معاشها الشهري وإعطائه لابنتها كمساعدة خفية في شراء ما ينقص. اعتبرت الأمر كتمهيد مسبق لتقبل الواقع المرير الذي فرض على الجميع ومحاولة التعايش معًا. رفضت "أفكار" ما اقترحته بشدة، ونهرتها في استهجانٍ:
-ده اسمه جنان يا "عقيلة"!!
نظرت إليها مليًا، فأكملت تعنيفها لها:
-إنتي كده بتريحيهم، وبتقوليلهم خدوا كل حاجة على الطبطاب، إزاي تعملي كده؟
استغربت من تحيزها الغريب ضدها، ورغم هذا عللت لها دعمها غير المقيد بشروطٍ مظهرة تعاطفها معها:
-ما هي بنتي، وظروفها صعبة، لازمًا أقف جمبها لحد ما حالهم يتظبط، والحكومة تعوضهم بشقة، ولا جوزها ربنا يكرمه ويلاقي مطرح تاني يعيشوا فيه.
بدت هجومية إلى حدٍ كبير وهي تخاطبها:
-دي مشكلته ويتصرف، ما أخوه خد أمه ومعيشها في الهنا برا، الناس بتحكي وتتحاكى على اللي عمله معاه، بس جه عند "عوض" وضاق به الحال، المفروض يقف جمبه ويساعده، ويشوف حل.
أطلقت "عقيلة" زفرة بطيئة، وقالت في صوتٍ مفعم بالأسى:
-ما احنا عارفين اللي فيها، أمه لا عمرها طاقت البت ولا هترضى بيها، احنا بنحاول نلم الدنيا على أد ما نقدر.
مصمصت شفتيها متمتمة:
-والله إنتي صعبانة عليا، محدش بالطيبة دي في الزمان ده!
في تلك الأثناء، استرقت "فردوس" السمع لما يدور بينهما، خاصة أن فضولها استحثها على ذلك، بعد تكرار لقاءاتهما بعيدًا عنها. في أعماقها كانت تشعر بأنها أهينت، اتهمت باطلًا بشيءٍ لم تتسبب فيه، أوغر ما سمعته صدرها، وملأوه بالحقد، لم تتحمل اتهاماتها المسيئة، ولا ظنونها الباطلة، فتحت الباب دون استئذان، واندفعت للداخل موجهة كلامها إليها بانفعالٍ:
-كفاية يا خالتي تملي ودان أمي ضدي، حرام عليكي بقى!
تفاجأت "أفكار" من اقتحامها السافر، وعنفتها في غيظٍ:
-إنتي واقفة تتصنتي علينا؟
ردت موضحة بحدةٍ:
-لأ، بس صوتك مسمع لبرا يا خالتي، ولو اتكلمنا بحق الله "عوض" بيعمل اللي عليه، بس ده قضاء ربنا.
نظرت لها شزرًا قبل أن تسألها بسِحنة منقلبة:
-طب ما يكلم أخوه ياخدكم معاه، ليه رمي البلا ده على أمك؟
هتفت في حرقةٍ:
-يا خالتي أخوه مرضاش بيا ورماني، إنتي نسيتي الله حصل؟ وفي الآخر أنا رضيت بالهم ورضيت بحكمك عليا، ليه محسساني إني وحشة مع أمي؟ وكل اللي حصل كان قضاء ربنا!
كل ما فاهت به أوحى بإدانة ملموسة لخالتها؛ ولكنها تظاهرت بأنها لم تكن متورطة في الأمر برمته، وأشاحت بوجهها للجانب موجهة حديثها لشقيقتها فقط:
-لما تحبي تشوفيني ياختي ابقى عدي عليا، واهوو ناخد راحتنا في الكلام بدل ما الغُرب يسمعونا.
ثم زمت شفتيها مجددًا، وقالت وهي تغادر الغرفة:
-سلام.
لم توصلها لباب المنزل كما اعتادت أن تفعل، بل مكثت في مكانها تسأل والدتها بعينين تغرقان في الدموع الساخنة:
-هي بتعاملني كده ليه؟
اقتربت منها أمها، وربتت على كتفها في إشفاقٍ، مهونة عليها حزنها قليلًا، فاستأنفت "فردوس" حديثها المرير:
-ما هي السبب من الأول في الجوازة دي!!
علقت عليها بحذرٍ:
-ماتخديش على كلامها، هي خالتك كده بتحب تتفك بكلمتين، اسمعي من هنا، وطلعي من هنا.
انفجرت "فردوس" باكية بحرقةٍ، وراحت تشتكي وتنوح في تعاسةٍ جلية:
-أنا مش عارفة ليه حظي في الدنيا قليل كده؟
حينئذ أخذتها أمها إلى حضنها، تاركة إياها تبكي على كتفها، ظلت تربت على ظهرها، وواستها بالكلمات اللطيفة، ودَّت لو امتلكت مفاتيح السعادة، وقتها لما بخلت عليها بها.
بعد مضي ما يزيد عن ستة أشهر، بذلت خلالها ما في وسعها ليل نهار لنيل رضائه، وإبداء فروض الطاعة الكاملة له، فاجأها حين أمرها بالسفر معه إلى ذلك المؤتمر الطبي، للغرابة لم تحضر فاعلياته مثلما توقعت! بل تركها وحيدة بالفندق حتى فرغ من التزامه، ثم اصطحبها إلى أرقى بيوت الأزياء والموضة، ليجري تغييرًا جذريًا في هيئتها الخارجية. اهتمت بها المتخصصات، وجعلن مظهرها يبدو مغايرًا تمامًا لما كانت عليه سابقًا، سيدة مجتمع رمن الطراز الأول، اندهشت "تهاني" لما قرره بشأنها، ورغم حيرتها إلا أنها أحبت الرفاهية المعروضة لها، وأرادت الاستمتاع بها على كل الوجوه، لحظتها توهمت أنه أدرك قيمتها، إذ ربما يحاول تعويضها عما عاشته معه، كانت حمقاء للدرجة التي جعلتها تصدق ذلك.
عادت إلى الفندق محملة بالحقائب المملوءة بالثياب والأحذية والحُلي الباهظة، تأملت ما صار ملكها مجددًا في عينين مبهورتين، وهي تكاد لا تصدق ما تخامره الآن من إحساس افتقدته بالنعيم والترف. تطلعت بتحيرٍ قلق إلى زوجها الجالس بعنجهية على الأريكة، واضعًا ساقه فوق الأخرى، وفي يده إحدى سجائره الغالية. في البداية ترددت في سؤاله عن الأسباب التي دفعته لفعل هذا، تغلبت على خوفها، وتساءلت:
-ليه ده كله؟ واشمعنى دلوقت؟
أجابها بغطرسةٍ وهو ينفث دخان سيجاره في الهواء:
-من النهاردة إنتي هتكوني واحدة تانية، تليق باسم عيلة "الجندي".
أصغت بعنايةٍ لما يخبرها به، خاصة حينما أضاف:
-واجهة مُشرفة، مش مجرد واحدة عادية والسلام.
راقها ذلك التغيير، واستحسنته، فقالت باسمة:
-حاضر، اللي إنت عاوزه هعمله.
كادت تمضي فرحتها للنهاية لولا أن كدر صفو هذه اللحظات بقراره الصادم:
-بالمناسبة، انسي خالص إنك كان ليكي عيلة ساكنة في حارة.
برقت عيناها ذهولًا وهو لا يزال يكمل:
-مش عايز أي صلة بيهم نهائي، هما مالهومش وجود في حياتك.
ما طلبه ليس بمسألة عادية تخص العمل، يمكن توفيق أوضاعها عليها، الأمر أصعب بكثير، إنه متعلق بأفراد أسرتها، لوهلةٍ شردت مستعيدة لمحات سريعة وخاطفة من شريط حياتها، بما تضمنته من أحداثٍ سارة وأخرى مؤسفة، كان العامل المشترك فيها هو حب والدتها، ولهفة شقيقتها، أخرجها من سرحانها اللحظي صوته الآمر والمحفوف كذلك بكلمات التحذير:
-لو خالفتي أوامري هتندمي ندم عمرك، سامعة؟
انتفضت مع صيحته الهادرة، وردت في طاعة:
-حاضر، في حاجة تانية؟
قال نافيًا:
-لأ.
استعدت للالتفاف، فاستوقفها بإنذاره القاسي:
-لو في أي تقصير مش هرحمك.
بلعت ريقها، وخنقت هذه الغصة التي برزت في حلقها بقولها المستسلم وهي تنظر إليه بحزنٍ:
-اطمن، أنا تحت أمرك.
صرفها بإشارة من يده، فأومأت برأسها بخفةٍ، وتحركت بخطواتِ شابها الخزي، يبدو أن أتعس لحظات حياتها ما زالت في الانتظار!
قامت في رأسها عواصف الأفكار المحيرات حينما استلمت هذه الأوراق الرسمية أثناء تواجدها بمحل البقالة، لم تعرف فحواها، ورفضت قراءتها على مرأى ومسمع ممن حولها، فما أسرع ترويج الشائعات المغلوطة على حساب الأبرياء، ولإسكات الألسن المتطفلة ادعت أنها تخص مشكلة شقة الإيواء التابعة لابنتها "فردوس"، فبدا الأمر مقنعًا للعوام. هرولت "عقيلة" عائدة إلى المنزل؛ لكنها عرجت على جارتها "إجلال"، دقت عليها الباب، ففتحت لها الأخيرة، ودعتها للدخول بعد تحيتها، ومع ذلك اعتذرت منها، لتطلب دون تفسيرٍ:
-اطلعيلي يا بنتي شوية لو فاضية، عاوزاكي في حاجة مهمة.
اعتراها الفضول، فسألتها بحاجبين معقودين:
-خير يا خالتي؟
ردت بمزيدٍ من الغموض:
-فوق هتعرفي.
ردت عليها وهي تشير بيدها للخلف:
-طيب هقول لأمي وأحصلك يا خالتي.
اكتفت بهز رأسها، وصعدت للأعلى، وقلبه يقفز بين ضلوعها خوفًا ورهبة. على أحر من الجمر انتظرت قدوم "إجلال" إليها، ما إن ولجت للداخل حتى أغلقت الباب خلفها، أمسكتها من معصمها، وجذبتها نحو الأريكة، أجلستها عليها والأخيرة في تحير واسترابة من تصرفاتها معها. بددت "عقيلة" الغموض السائد بقولها وهي تمد يدها بمغلفين مغلقين:
-في جوابات استلمتها من المُحضر وأنا عند البقال، وأنا مش عارفة فيها إيه، خدي شوفيهم.
تناولت الاثنين منها وهي ترد بانصياعٍ:
-عينيا.
فضَّت كل واحدٍ على حدا، وبدأت تقرأ بتعجلٍ، دون صوتٍ، ما كتب فيهما. تابعتها "عقيلة" بتوترٍ مترقب، حينما طال سكوتها سألتها في شيءٍ من الارتباك:
-ها عرفتي فيهم إيه؟
تلبكت، وترددت، وظهر ذلك بوضوحٍ على قسماتها ونظراتها؛ لكن لا مفر من معرفتها بالحقيقة، وإن كانت مؤلمة. بلعت "إجلال" ريقها، لتخبرها بتريثٍ، وهي تراقب ردة فعلها:
-ده واحد من المحكمة، وواحد من الكلية بتاعة "تهاني".
سألتها في لوعةٍ مشوبة بالإلحاح:
-مكتوب فيهم إيه؟ ما تقولي يا "إجلال"، بلاش تنهي قلبي معاكي.
رفعت المظروف الأول نصب عينيها، ثم أجابتها:
-بتاع الكلية فيه إنذار بالفصل!
لطمت "عقيلة" على صدرها منددة بما عرفته:
-يا لهوي! ليه كده بس؟
راحت تشرح لها ببساطة أن أسباب ذلك الإجراء الرسمي يعود لانقطاعها عن مواصلة دراستها في البعثة التعليمية دون توضيحٍ مبرر لهذا، كذلك تضمن إخطار المحكمة إلزامها برد كافة المصروفات والنفقات التي تم تخصيصها لها خلال مدة إقامتها بالخارج. واصلت "عقيلة" ندبها المصدوم لاطمة على فخذيها:
-يادي النصيبة اللي كانت لا على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها "إجلال" بشيءٍ من التعاطف، بينما مُضيفتها تتساءل في ذهول مصدوم:
-طب هي عملت كده ليه؟
هزت كتفيها متمتمة:
-الله أعلم بظروفها يا خالتي.
أحست "عقيلة" وكأن مطرقة قاسية قد هوت على رأسها، فجعلتها في حالة من الخوار والهوان، بدت لحظتها وكأن محيطها غام وساد فيه التشوش والضباب. حاولت النهوض من موضع جلوسها، فلم تستطع، بصوت شبه لاهث خاطبت جارتها وهي تنظر إليها بعينين دامعتين:
-اسنديني يا بنتي، مش قادرة أقف على حيلي!
عاونتها على القيام وهي تحاول التبرير لها بأي أعذارٍ، لعل وعسى تخفف بذلك من وطأة الصدمة عليها:
-أكيد في حاجة حصلت هناك خليتها تسيب ده كله.
انسكبت الدموع من مقلتيها وهي ترد عليها بأسئلة لا تجد أي إجابة مقنعة لها:
-طب وما رجعتش ليه؟ ده بيتها، وأنا أمها، دي...
تقطع صوتها لهنيهة قبل أن تحاول إتمام عبارتها في حزنٍ متزايد:
-دي بقالها شهور من آخر مرة اتصلت بيا.
ارتجفت كليًا، كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار عصبيًا، معتقدة أن ابنتها تعرضت لحادث مأساوي بشــــع، بدت غير قادرة على التماسك لمجرد تخيل ذلك، فاستنجدت بجارتها بصوتٍ واهن للغاية:
-أنا مش حاسة بنفسي، الحقيني يا "إجلال"!
ثم سقطت مغشيًا عليها، صرخت الأخيرة فزعًا لرؤيتها تفقد الوعي هكذا فجـأة:
-خــــالتي!
الإمعان في التحقير من شأنها، وإذلالها في كل فرصة تتاح له، كان ممتعًا له بشكلٍ لا يوصف، وكأن في تهشيم كرامتها لذة مشوقة ترضي نزعة غير سوية بداخله، خاصة حينما تتلقى الثناء أو التكريم من أحدهم، وكأنه يريد إخبارها بشكل مباشر ألا تنساق وراء ما تظن أنه المستقبل الباهر دون ضمان موافقته! امتثلت له رغم شعور الرفض السائد في وجدانها، ليس أمامها مهرب، عليها إسعاده وإلا حُرمت من سعادتها، كل ما كان يطلب منها ارتدائه، كانت تضعه على جسدها، فهناك ثيابٌ تُصيِّر الفتاة الوقورة كامرأة لعوب، وهذا ما أراده منها، أن تتألق في ثياب فتاة ليل عابثة، تُجيد اصطياد الرجال، كنوعٍ من التسلية له، قبل أن يطفئ لهيب الرغبة المندلع فيه. ألقى "مهاب" نظرة طويلة متأنية على زوجته وهو جالس عاري الصدر، وباسترخاءٍ على جانبه من الفراش، أشار لها بإصبعه لتدور حول نفسها، فاستجابت، وراحت تلف ببطءٍ، متأكدة أن عيناه الثاقبتان تنفذان إلى كل قطرٍ فيها. حين انتهت من دورتها وجدته يبتسم في رضا، أبدى إعجابه بدلالها وعلق بما يشبه السخرية:
-شيك أوي يا دكتورة.
اغتاظت من إهانته المبطنة، وهسهست بعبوسٍ:
-إنت بتتريق؟
وسَّد يده خلف رأسه معقبًا بتملكٍ مستفز:
-طبعًا، عندك مانع؟
ضمت ذراعيها أمام صدرها، كأنما تخفي بهما مقوماتها عن نظراته الجريئة المُجردة لها، وسألته في نبرة خجلة:
-مطلوب مني إيه دلوقت؟
رفع حاجبه للأعلى قائلًا بغموضٍ:
-تبسطيني يا دكتورة، مش إنتي مراتي؟
بين جنبات نفسها رددت في استهزاء:
-ولازمتها إيه دكتورة وأنا بالشكل ده؟!!
تنبهت لصوته الذي ما زال يكلمها:
-شوفي هتخلي جوزك مرضي إزاي!
حدجته بهذه النظرة الساخطة، فمن أمامها ليس بامِرئ طبيعي، إنما شيطان جالس فوق أعناق ضحاياه، وهي للأسف إحداهن!
من بعد الذي علمته، صار الوقت ثقيل المرور عليها وبطيء للغاية، فقدت "عقيلة" الشغف في كل شيء، ذبلت، وضعفت، ونال منها المرض، كل ما رجته فقط معرفة أي شيء عن ابنتها الغائبة قبل أن ترحل عن هذا العالم الفاني، تعذر على "فردوس" الوصول إليها بعدما انقطعت أخبارها تمامًا، سعت جاهدة للوصول إليها، سألت عنها القاصي والداني؛ لكنها اختفت وكأنه لم يعد لها في هذه الدنيا وجود. ذاك النهار، وتحديدًا أوان الضحى، كانت ممسكة بقطعة من القماش البالي، تستعملها كخرقة للتنظيف، مسحت بها على طرف حذاء زوجها المغبر، قبل أن تناوله إياه وهي تشكو إليه شأن أمها:
-طول عمرها كده "تهاني"، جايبة الهم لأمي، عمرها مريحتها، لحد ما هتجيب أجلها.
هز رأسه في أسف، وطلب منها في نبرة راجية:
-هوني عليها وخليكي جمبها، ده يعتبر ابتلاء.
في سأمٍ ظاهر عليها ردت:
-أديني بعمل اللي عليا وزيادة.
شكرها "عوض" على تنظيفها لحذائه، فسألته بعدما ارتداه:
-إنت رايح فين؟
أجابها وهو يسير تجاه الباب:
-هشوف في الحي وصلنا لإيه في موضوع الشقة ده.
-طيب.
قالت كلمتها هذه وهي تنحني لتحمل الدلو المملوء بالمياه استعدادًا للبدء في مهمة تنظيف أرجاء البيت. ألقت نظرة أخيرة على زوجها قبل أن يخرج ويغلق الباب خلفه، لتردد في سخطٍ:
-ما هو لو يجيلنا خبرها الكل هيرتاح!
جرفها الحنين إلى أشياء افتقدتها كثيرًا، كسماع صوت والدتها، إلى رؤيتها، إلى التمتع بحضن طويل دافئ بوجودها، تنهدت، وخرجت التنهيدة محملة بأشواق ورغبات تعلم جيدًا أنها لن تتحقق. كبتت "تهاني" ما تشعر به في دواخلها، فإفساد ما تحاول بنائه بأمنية شبه مستحيلة كان مرفوضًا. حضرت بجسدها هذا التجمع الطبي؛ لكن ذهنها غاب عما يدور من حولها، لاذت بالصمت كليًا، واكتفت بتقليب صفحات الكتيبات التي أمامها بنظرات فاترة، لتظهر اهتمامًا زائفًا بما يُطرح للنقاش. لم تنتبه لوجود "ممدوح" رغم أنها كانت تنظر تجاهه، ومع ذلك بدت وكأنها لا تراه.
نهض الأخير من مقعده حينما لمحها بين الحاضرين، واتجه إليها بخطى واثقة بعدما زرر طرفي سترته، أحست "تهاني" بشيء يظللها، فرفعت بصرها للأعلى لتجده أمامها، تفاجأت بوجوده، واعترتها ربكة موترة، خاصة أن ذلك هو لقائهما الأول بعد أشهر من الغياب الطويل، انطلق لسانها يسأله في شيءٍ من الإنكار:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
أتى رده موجزًا ومباشرًا:
-جاتلي دعوة.
سألته في نفس اللهجة المستنكرة:
-هو إنت مش كنت مسافر؟ رجعت ليه؟
وضع يده في جيب سرواله، وقال:
-طبيعي أرجع بعد ما أخلص اللي ورايا، بس الأهم إني رجعت من تاني...
تعمد التوقف عن الكلام ليضمن إصغائها التام إليه وهو ينهي جملته بكلمة واحدة عنت الكثير:
-عشانك.
فزعت لاعترافه النزق، وتلفتت حولها في ذعرٍ، كأنما ترتاع من احتمالية سماع أحدهم لما فاه به، نالت منها رجفة أخرى جعلتها أكثر توترًا عندما استطرد يسألها بألفةٍ متزايدة:
-إنتي زعلانة مني في حاجة؟
ردت باقتضابٍ، وبوجهٍ ذي ملامح رسمية، لتقطع عليه سبل التودد إليها:
-لأ.
أعاد فتح سترته، وجلس دون استئذانٍ مجاورًا لها، لاح على قسماتها تكشيرة عظيمة، ثم مال عليها متسائلًا بنبرة معاتبة، وهذه النظرة الماكرة تطل من عينيه:
-أومال بتتعاملي معايا كده ليه؟ ده أنا غايب عنك بقالي مدة، ويعتبر يعني أكتر حد خايف عليكي حقيقي من قلبه هنا!
صوته الدافئ، الحاني، والمهتم جعل الرعدات تنبجس في أعماقها، كانت متعطشة لهذا الشعور المفعم بالاهتمام والاحترام، قاومت التخبط الذي يداهمها حينما يُعاملها بهذه الحميمية اللذيذة، وحافظت على الحاجز الرسمي القائم بينهما، فخاطبته في نفس اللهجة الجادة:
-دكتور "ممدوح"، أنا واحدة متجوزة، وعاوزة أحافظ على حياتي مع ابني وجوزي، مش حابة يكون في مشاكل خالص.
بنفس الطريقة الملتوية، داعبها بكلماته، وهو يمد يده ليحتضن كفها:
-وأنا مش عايز غير إني أشوفك مبسوطة، والضحكة منورة وشك.
كانت كمن لامسه تيار كهربي، انتفضت مصعوقة، وسحبت يدها من أسفل لمسته الجريئة، لتنهره بعينين جاحظتين:
-إيه اللي إنت بتعمله ده؟!
ظل على هدوئه معها، فحذرته بتقاسيمٍ اكتسبت لونًا عدائيًا:
-ماتنساش نفسك!
أكدت له بترفعٍ يحمل في طياته التهديد:
-أنا ست متجوزة، وأظن جوزي مش هيقبل حد يتعدى على مراته
رمقها بنظرة غير مريحة، قبل أن يأتيها تعليقه نزقًا، وصادمًا لها على كافة الأصعدة:
-"مهاب" عرف يخليكي إزاي تخضعيله، وتكوني تحت رجليه.
بهتت ملامحها، وأصبحت شبه شاحبة بعدما فرت الدماء من وجهها، ازدردت ريقها، وردت بجمودٍ:
-لو سمحت، مايخصكش اللي بيني وبين جوزي.
اعتلت زاوية فمه ابتسامة هازئة قبل أن يسألها بلؤمٍ:
-على كده إنتي عارفة هو فين دلوقت؟
رمشت بعينيها وهي تجاوبه:
-وراه عمليات، مش فاضي.
ضحك ساخرًا منها، ليردد بعدها بما أوقد نيران الحنق في صدرها:
-مكونتش متخيل إنك بالسذاجة دي...
برقت حدقتاها بغضبٍ، فاستغل الفرصة كحرباء متلونة ونجح في استثارة حفيظتها بقوله المسموم:
-بس هو من الأول اختارك عشان كده.
انقبض قلبها بقوةٍ، وسألته مستفهمة بتعبيرٍ واجم للغاية:
-قصدك إيه؟
أراح ظهره للخلف في مقعد، وقال بخبثٍ، قاصدًا بذلك إشعال فتيل الكراهية بينهما:
-أنا رأيي ترجعي بيتك أحسن وتشوفي بنفسك.
تخللتها موجات من الخوف الممزوج بالشك، فنهضت دون مقدمات من موضعها، لتنصرف بلا تبرير، قاصدة العودة إلى منزلها، آملة في نفسها أن يكون ما أخبرها به مجرد أكذوبة حمقاء، افتعلها ليثير غيرتها لا أكثر!
لم يصدر عنها أي صوت وهي تفتح باب البيت بحرصٍ شديد لتلج إلى الداخل، كان البهو شبه معتم، خافت الإضاءة، أرهفت السمع، لا ضوضاء، قليل من الاطمئنان تسرب إليها، وراحت تخبر نفسها في استهجانٍ:
-أكيد قاصد يعمل كده عشان يضايقني.
تقدمت بتؤدةٍ، واتجهت إلى غرفة نومها، كان الباب مغلقًا، فانقبض قلبها بقوة، وتوجست خيفة من وقوع الأسوأ، تسللت ماشية حتى أصبحت أمام الكتلة الخشبية التي تخفي خلفها ما يدور بالداخل، ألصقت أذنها بها، وركزت كامل حواسها، انتفضت في هلع حينما اخترق أذنها هذه التأويهة الأنثوية المكتومة، أحست بشعور مماثل لطعنة غدر تنفذ في صدرها، ارتجفت يدها وهي تمسك بالمقبض لتديره، استجمعت شتات نفسها المتبعثرة، وفتحته لتتفاجأ بمشهد جعل عيناها تتسعان على آخرهما؛ المربية التي من المفترض أن ترعى رضيعها، وتنام بجواره، متواجدة هنا في غرفتها، بلا ثيابٍ تقريبًا، وتُطارح زوجها الغرام على فراشها، وأثر العشق الآثـــم يبدو جليًا عليهما.
ارتعدت كليًا، وانفلتت منها شهقة مذعورة وهي مذهولة بالكامل مما تبصره، شُل تفكيرها لحظيًا من هول الصدمة، وحينما استفاقت من جمودها، صرخت في استنكار غاضب للغاية:
-إيه اللي أنا شايفاه ده؟
لم يبدُ "مهاب" متفاجئًا من ظهورها، بل كان هادئًا، مسترخيًا، ومستمتعًا بما يجري، على عكسه ذُعرت المربية من حضورها، ونهضت عن الفراش باحثة في التو عما تستر به ما انكشف منها. اندفعت "تهاني" للأمام تجاهها، وواصلت صياحها المستهجن:
-على سريري! ومع دي؟!!
أمسكت بها من شعرها، وجذبتها منه في شراسة، لتقوم بلكزها في كتفها وفي أي موضع تطاله بقبضتها الأخرى. توقعت أن يتحرك زوجها من موضعه، يفض تشابكهما، يحاول الاعتذار أو إبداء الندم؛ لكنه لم يقم بشيء، ظل يطالعهما من موضعه باستمتاعٍ. حز في قلبها استهانته بخيانتها، وتعامله مع الموقف المشين بهذا الكم الهائل من الهدوء والبرود، أعاد "مهاب" ضبط ثيابه التحتية، وأمر المريبة باللغة الإنجليزية:
-اذهبي الآن.
رفضت "تهاني" تركها، وصرخت في عصبيةٍ جمة:
-مش هتمشي قبل ما أفضحها.
نظرت المربية بتوترٍ قلق إليه، وهمست في صوت مرتعش، كأنما تستجديه لينقذها من هذه الفضيحة الوشيكة:
-سيدي.
خاطب المربية بنفس اللهجة الهادئة وهو ينهض من مكانه:
-لا تكترثي بها، ارحلي.
حينئذ حولت ناظريها عنه، واستخدمت قدرًا من القوة لتدفع زوجته وتتحرر منها، ثم ركضت هاربة من الغرفة وهي تحاول تغطي ما ظهر من مفاتنها. كانت "تهاني" على وشك اللحاق بها؛ لكن "مهاب" منعها بالإمساك بها من رسغها، أصابها اشمئزاز عارم من لمسته التي تلت هذه العلاقة الآثمة، نفضت يدها، وأكملت صراخها بنبرة جريحة:
-إنت اتجننت؟ إزاي تعمل كده، لأ وهنا؟
اشتدت قبضته عليها، واخشوشن صوته قليلًا حين حذرها:
-ماتنسيش نفسك.
تطلُعها إليه من هذا القرب، وبعد ما شهدته، جعلها تدرك مدى قبحه، وبذاءته اللا متناهية، حاولت الدفاع عن كرامة سحقت بقولها:
-أنا عارفة إنك بتخوني وتعرف عليا كتير، بس اللي عمره ما يجي في بالي إنك تعمل ده هنا!
حدجته بهذه النظرة الاحتقارية النافرة وهي تزيد من هجومها اللفظي عليه:
-إيه القــــرف ده؟!
كان دنيئًا معها في رده المستفز:
-أنا أعمل اللي عاوزه في الوقت اللي يعجبني...
ثم دفعها بخشونة تجاه باب الغرفة وهو يكمل بقسوةٍ:
-ولو مش عاجبك، الباب مفتوح!
كادت تُطرح على وجهها من أثر الدفعة العنيفة؛ لكنها حافظت على اتزانها، والتفتت ناحيته تصرخ في حرقة، ودموعها تنسال بغزارة:
-بتخوني هنا، وعلى سريري!
مرر يده أعلى رأسه، وقال متباهيًا بما ارتبك ليزيد من تحطيمها ذاتيًا:
-لأ يا دكتورة، في أي حتة تيجي على بالي، فاهمة!
لم تجد ما ترد به عليه، وإن وجدت حتى لن تستطيع النطق بشيء، فأمثاله من الحقراء لا يستحقون سوى المــــوت. ابتسم "مهاب" في انتشاء لإخضاعها بغير مجهود، تقدم ناحيتها على مهلٍ ليخاطبها بعدها:
-أيوه، خليكي كده حلوة.
سددت له نظرة نارية قاتـــلة، لتوليه ظهرها تأهبًا لمغادرتها، تسمرت قدماها قبل أن تخطو حين سألها:
-رايحة فين؟
أبقت على نظراتها المقهورة بعيدًا عن وجهه، وأجابت بإيجازٍ:
-لابني.
ارتعش ظهرها، وأحست بوخزاتٍ حادة تتفشى فيه، عندما شعرت بيده توضع عليه، دار حولها لينظر عليها قائلًا بخبث:
-هو نايم، تعالي كملي اللي بوظتيه.
استنفرت، وتصلبت أكثر حين التفت يده حول عنقها ليتحسس بأصابعه جلده الناعم، تأففت، وأصابها الغثيان من لمسته، توسلته بصوت مبحوحٍ:
-سيبني دلوقتي.
شعرت بأظافره تخمش جلدها وهو يسألها:
-إيه مش عاجبك؟
كم كانت حمقاء وهي تظن أنها قادرة على تحمل هذا الجحيم المملوء بكل صنوف الإهانة والإذلال! وهو حقًا لا يكل ولا يكف عن تدميرها. أطبق بيده على عنقها، فتحشرجت أنفاسها، ونظرت إليه بذعرٍ، كرر عليها سؤاله، فأجابته بصوتٍ متقطع:
-أنا .. بس .. عاوزة أغير هدومي الأول.
دفعها معه للداخل وهو يقول باسمًا بشيطانية:
-أنا عاوزك كده، وهنا .. في الحتة دي.
وأشار تجاه الفراش .. بالطبع لم يكن بحاجة لأدنى محايلة لإقناعها بتسليمها جسدها ليعيث فيه كيفما شاء بالطريقة التي ترضيه وتستهويه، وفي نفس البقعة الملوثة بعشق غيرها، كل ما استطاعت فعله هو حبس أنفاسها، الإطباق على جفنيها، الدعاء سرًا بانتهاء هذه اللحظات القاسية، بين جنبات نفسها ظلت تردد بلا صوت:
-حــــيوان ......................................... !!