-->

الفصل 34 من رواية مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 

رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 





 الفصل الرابع والثلاثون


ليلا، أثناء نومه في غرفة بيته البسيطة، استيقظ على رنين هاتفه، ارتفع بجذعه وهو يمد يده ملتقطا إياه من فوق الكومود المجاور لفراشه، حينئذ اعتلى وجهه الغرابة عندما وجد أن المتصل أخيه "عاصم"، وما ضاعف من غرابته الوقت الذي تعدى الثالثة صباحا. قرر أن ينحي غرابته جانبا الحين حتى يجيب عليه، ولكن مدة المكالمة كانت قد انتهت، وفي تلك اللحظة، تساءلت زوجته -التي استيقظت هي الأخرى على صوت الهاتف- بصوت ناعس مشوب بالتعحب:


-مين اللي بيرن عليك متأخر أوي كده؟


التفت برأسه نحوها وأجابها بنبرة تحمل الاستغراب الذي ما يزال ظاهرا على محياه:


-عاصم!


قطبت جبينها في مزيد من التعجب، فما الذي سيدفعه لمهاتفته في مثل ذلك الوقت، وعندما صدح صوت الهاتف، معلنا عن معاودته الاتصال عليه، ولمحت اسمه على شاشة الهاتف، قالت له بعجالة:


-طب رد شوف في إيه.


اعتدل أكثر في جلسته، ثم وضع الهاتف فوق أذنه بعدما استقبل المكالمة، و ردد في هدوء:


-ألو.


جاءه رد "عاصم" بصوت خامل طالبا منه:


-تعالى خدني.


زوى ما بين حاجبيه في استغراب من طلبه العجيب، تبادل النظر مع زوجته الغير مستمعة لما قيل في الناحية الأخرى عبر الهاتف، وتساءل بغير فهم:


-أخدك منين؟


أخبره بنبرة مشوبة بالتخبط:


-مش عارف.


من صوته الثقيل استشف "عز الدين" سُكره، وحتى لا يفسد صورته عند زوجته، نهض عن الفراش، وخرج من الغرفة وهو يسأله بصوت خافت بتأكد مما استنبطه:


-انت شارب؟


أجابه بتلقائية بلهجة بدت مستاءة من تساؤلات الآخر:


-أيوه، ومش شايف قدامي.


ضم شفتيه في حيرة من أمره، وما لبث أن أخبره بجدية:


-طب ابعتلي اللوكيشن.


بعد عدة لحظات من الصمت سأله بتشوش:


-بيتبعت ازاي؟


لم يقتنع بعدم علمه لكيفية إرسال موقعه، وسأله بعدم استيعاب:


-انت مش عارف بجد؟


بصوت استشعر منه بعض التذكر قال له بنفس النبرة المسلوب منها التركيز:


-خلاص افتكرت، أقفل كده هجرب.


أنهى المكالمة بعد قوله تلك العبارة المشوبة بالتيه، وقتئذ أبعد "عز الدين" الهاتف عن أذنه وهو ينظر إليه بحاجبين مرفوعين، مدهوشا من شخصية أخيه الغير مفهومة، فأين رفضه لوقوفه إلى جواره كأخ له في محنته، من مهاتفته الآن لطلب العون له أثناء تشتت وعيه عن الواقع المحيط! هز رأسه في استنكار ويعلو وجهه ابتسامة ضاحكة وهو يعود أدراجه إلى الغرفة، عندما دلف وجد زوجته جالسة على طرف الفراش، وسألته على الفور باهتمام:


-في إيه؟


لم يرد أن يعري طباع أخيه الغير محمودة لها، حتى لا يؤثر ذلك على صورته في نظرها، لذلك اكتفى بإخبارها بنبرة عادية وهو يتقدم منها:


-عربيته عطلانة وعايزني أروحله أوصله.


ثبتت نظراتها عليه وهو يتوجه نحوها، وأطنبت متسائلة:


-هو في مكان مقطوع ولا إيه؟


حرك وجهه بإيماءة بسيطة وهو يجيبها باقتضاب:


-حاجة زي كده.


قبل أن تزيد في استفساراتها، غير مجرى الحديث، مردفا بصوت جاد:


-أنا مش هتأخر، هوصله وارجع علطول، نامي انتي بلاش تستنيني.


وثبت عن الفراش، لتقف قبالته، وقالت له بصوت ناعم:


-مش هعرف أنام إلا لما تيجي.


لم ينتبه إلى ترقيقها لنبرة صوتها، وضم ما بين حاجبيه وهو يقول في غير استحسان:


-إيه اللي هيخليكي صاحية بس كل ده؟ نامي ومتقلقيش، أنا مش هتخطف يعني.


دنت منه أكثر، حتى التصقت به، أراحت ساعديها على صدره، وأخبرته بنبرة متدللة:


-مش هعرف أنام غير وانت جنبي، وأنا خلاص فوقت يعني مش هعرف أنام تاني دلوقتي.


انفرجت شفتاه ببسمة لعوب عندما لاحظ تغنجها المغري، وسألها بخبث لذيذ:


-فوقتي أوي؟


أومأت له وهي تناظره بنظرات شقية، حينها حاوط بيديه خصرها، وقال لها بهمسه الرخيم وهو يداعبها بلمسات مدغدغة لأنوثتها:


-على كده نسهر شوية لما ارجع.


همهمت بدلال مضاعف وهي تبتسم من فعل يديه الماكرة، وقالت بميوعة باعثة على الإغواء وهي تنسل من حضنه بطريقه مشوقة:


-نبقى نشوف الموضوع ده لما ترجع.


توسعت بسمته، وازداد وهج عينيه المنبعث منهما العشق الخالص لكل إنش بها، وقال بعجلة وهو يقترب برأسه من وجهها:


-خلاص ماشي، وأنا مش هتأخر.


التقم شفتيها بقبلة سريعة، ثم تركها ليقوم بتبديل ثيابه البيتية، حتى يذهب إلى أخيه الثمل، ليقله إلى البيت، كفعل أخوي معاون، منحيا شجارهما الأخير جانبا، ومن فور ذلك يعود إلى حضن زوجته الدافئ، والحاني.



❈-❈-❈





تشوش الذهن أحيانا يكون من السهل الوصول إليه، ولكن كيف عسانا أن نشوش القلب عما يضنيه، ويؤلمه؟ رغم تغيب تركيزه بفعل ما تجرعه من المشروبات المسكرة، إلا أن قلبه ما يزال ينزف وجعا، ابتعاد زوجته الغير متوقع، حال دون راحته، بل أنه صدع روحه، وجعل الوجع يستوطن قلبه.


خمسة عشر يوما، لم يكف عن البحث عنها، أو يمل من عدم العثور عليها، بل إن عدم إيجاده لها، يدفعه إلى الاستمرار في بحثه، حيث إن اختفائها، جعل الهواجس تدمر رأسه، والقلق ينهش بصدره، ولكنه رغم ذلك كان طوال يومه يحافظ على صورته الصلدة أمام رجاله المكلفون بالبحث عنها، وعندما يأتي المساء، ويحل عليه الليل، ينهار قناع الجمود، ويظهر على حقيقته، ضعيف، وحيد، وكسير دونها، يظل يبكي حتى يجف دمعه، وينتحب حتى ينتهي بكائه، وأحيانا يصرخ حتى يتقطع صوته، ومع كل ذلك لم يكن يزول الألم من دواخله. 


بعد إنهاك بدنه في وصلة انهياره التي باتت معتادة، شعر بإنه في حاجة إلى إراحة جسده على الفراش الذي ما يزال حاملا رائحتها، إلا أنه عجز عن تذكر طريق البيت، وفي خضم تيهه، لم يأتِ على صفحة ذهنه، سوى أخيه طيب القلب للجوء إليه، وعندما أخبره بمجيئه إليه، عاد برأسه للخلف وهو جالس بسيارته، أغمض عينيه، وراح يبحث عن بعض الراحة بداخله، ولكنه لم يجد سوى صورتها الباكية تلوح في أفق ذاكرته، لتصيب قلبه بوخزات قاتلة دون هوادة، مضاعفة من عذابه الموجع، اعتصر عينيه في محاولة لصرف هيئتها المنهارة عن ذاكرته، حتى أن الدمع فاض من طرفيه دون أن يشعر، وأثناء ذلك فتح عينيه مرة واحدة، عندما استمع إلى صوت دقتين على زجاج النافذة المجاورة له، اتبعها نداءً مكتوما بسبب الحاجز الزجاجي بينه وبين الخارج:


-عاصم.


التفت بنظره نحو مصدر الصوت، وعندما وجد أنه لأخيه، فرك وجهه بيديه، ثم مد إحداهما نحو الباب لفتحه، ثم قال له بنبرة خاملة مشوب بغير الرضاء:


-كل ده؟


امتقع وجهه وعلق بتهكم ممزوج بالضيق:


-ما البيه سهران في ديسكو في آخر الدنيا؟ كنت مستني آجيلك بطيارة يعني؟


قلب عينيه بملل من عدم تمريره لأي شيء دون تعقيب، وسأله ببرود متجهم:


-انت مبتعرفش تعدي حاجة خالص؟


لم يزول الانزعاج من فوق ملامح "عز الدين" وهو يعقب بنفس النبرة الضائقة:


-وانت مبتعرفش تبقى بني آدم خالص؟ في حد يدهول نفسه بالشكل ده؟


لاح التعجب فوق وجهه، وراح يقتبس مما قاله مرددا باستغراب:


-يدهول!


انفرجت شفتاه ببسمة تهكمية، مردفا باستخفاف هازئ:


-معلش كلام حواري بقى، عارفين إنك ابن ذوات ملكش فيه.


ضاق ذرعا من تعليقاته المزعجة، وسأله بسأم:


-اخلص هتروحني بعربيتي ولا عربيتك؟


هز رأسه بإيماءة معترضة وهو يرد بقرار حيادي:


-لا عربيتك إيه وابقى اروح بإيه أنا بعد ماروحك، هروحك بعربيتي طبعا، وابقى ابعت حد يجيبلك عربيتك.


لم يعلق على ما قاله، والتفت نحو الاتجاه الآخر، ليمسك بقنينة المشروب الكحولي، حينئذ توسعت عينا "عز الدين" وعلى الفور سأله باندهاش:


-انت بتعمل ايه؟


بعد أن أمسكها بيده، عاد إليه بعينيه المتواربتين من كثرة ثمالته، ورد عليه ببساطة:


-هاخد الإزازة معايا.


فغر فمه بدهشة متزايدة، وعقب بصدمة مضحكة:


-انت عايز تسلمنا على أي كمين! الله يرضى عليك سيب البتاعة دي من إيدك وانزل خليني أروحك وأرجع أكمل نومي.


امتعض وجهه، وقام بتركها من يده على مضض، وأخبره باقتضاب:


-انت وجع دماغ.


مد يده ليساعده على الخروج من السيارة، وقال له في اعتذار ساخر:


-معلش أسفين بوظنالك الدماغ اللي عاملها.


نظر له "عاصم" من طرف عينيه، وتشدق بنبرة فاترة، متغطرسة:


-الدماغ اللي عاملها! انت شايفني شارب حشيش؟


التوى ثغره بابتسامة مفتعلة، ورد عليه بهزو مرح:


-حشيش إيه وانت بتاع الكلام ده برضه، دي ماية زمزم اللي شاربها أنا عارف، يلا يا عم قدامي.


حينما بدأ يخطو بقدميه نحو السيارة الأخرى، حتى تعثرت إحداهما، وكاد يسقط أرضا، لولا يد "عز الدين" التي اشتدت في إسناده، وقتئذ قال له بسخرية ممازحة:


-اسند عليا يا شيخ عاصم، بدل ما المك من على الأرض.



❈-❈-❈





بعد وصولهما إلى الفيلا، ساعده في الصعود إلى غرفته، وعندما وجد جسده المترنح على مقربة من السقوط، سانده في خطواته المأخوذة نحو الفراش، حتى افترش السرير بجسده المنهك بإهمال، زفر "عز الدين" حينئذ نفسا متعبا، وفي تلك الأثناء صدح رنين هاتفه في جيب بنطاله، أخرجه وهو على يقين بأن المتصل زوجته، ضغط على موضع الإيجاب، ثم وضع الهاتف فوق أذنه، وبعدما تكلمت هي بضعة كلمات، رد عليها بنبرة عادية:


-خلاص وصلت عاصم وراجع أهو.


تابعه "عاصم" بنظراته الفاترة وهو ينصت إلى ما تقوله زوجته، والذي تبعه قوله الهادئ:


-لا مش هتأخر، نص ساعة ولا حاجة.


مع تعليق الأخرى بشيء كان مبهما عنه، ارتسمت ابتسامة على ثغر أخيه، واختتم المكالمة بعبارة حانية:


-ماشي يا حبيبتي، سلام.


أنزل الهاتف عن أذنه، وبينما يضعه في جيبه، سأل "عاصم" بلهجة متحفزة:


-عايز مني حاجة قبل مامشي؟


كأنما طريقته المفعمة بالألفة والود مع زوجته، ضاعفت من شعور الفقد الخانق لرفيقة روحه، وملاذه الوحيد بتلك الحياة، وبصوت بدا مهزوزا، بتلقائية بحتة أخبره:


-عايز داليا.


حز في قلبه رؤيته للمعة الدموع المتكومة بعينيه، ضم شفتيه في أسى على ما آل إليه حاله، وسأله بنوع من التعاطف الملموس في صوته:


-انت لسه ملقتهاش؟


هز رأسه بالسلب وهو يتنفس مطولا، مكافحا الاختناق النابع من الغصة المتكونة في حلقه، ورد عليه نافيا بنبرة كسيرة:


-مش لاقيها، دورت عليها في كل حتة، مفيش مكان مسيبتوش، معرفش بتعمل كده ليه فيا.


رغم عدم تقبله أفعال "داليا" الطائشة، والمجردة من العقلانية، إلا أنه لم يكن يريد التحامل عليها، لذلك قال له بحيادية:


-انا معرفش المشاكل واصلة لحد فين بينكم، ومش معاها في كل اللي عملته، بس هي أكيد عندها أسبابها.


اشتدت ملامحه الشاجنة وهو يرد عليه بانفعال باكٍ:


-مهما كان السبب متبعدش عني، متسيبنيش لواحدي تايه من غيرها.


حتى يقلل من انزعاجه من هجرها المشقي له، أخبره بتنبيه:


-بس انت طلقتها، كانت هتقعد معاك بصفتها إيه؟


انهمرت الدموع من عينيه وهو يصيح في تشنج منتحب:


-بصفتها كل حاجة ليا في الدنيا دي، أنا مبلاقيش نفسي غير معاها، مبقتش أب غير منها، ومبقتش عايز اتغير غير عشانها.


سحب الهواء لرئتيه، وهو يحاول أن يتحكم بزمام نفسه الضائعة، والمنهارة، وأكمل على نفس الشاكلة الحزينة دون انفعال:


-مكانش لازم تبعد عني وتسيبني دلوقتي، كنت محتاجها تقف جنبي زي ماكانت بتعمل دايما معايا، سابتني في أكتر وقت محتاجها فيه، سابتني في الوقت اللي مكنتش محتاج غيرها فيه.


لم يجد "عز الدين" ردا مناسبا، خاصة مع سُكره، وعدم اتزانه الواضح، الذي يصعب من تبادل أطراف حديث جدي، وعقلاني بينهما في ذلك الوقت، لذا اكتفى بقوله بصوت هادئ متأثر بما حل على أخيه:


-أكيد هتلاقيها يا عاصم.


ربت فوق كتفه، ثم بعد ذلك شرع في التحرك نحو باب الغرفة، ولكنه ما لبث إن التفت نصف التفاتة، حين استوقفه صوت "عاصم" المنادي بوهن:


-عز.


وجه وجهه نحوه، يناظره بنظرة مستفهمة عن سبب النداء، الذي سريعا ما وضحه "عاصم" بطلب به بعض الترجي المستتر:


-ارجع الفيلا تاني.


داخليا لم يكن راضيا عن تركه أخيه في تلك المحنة وحيدا دون معين، ولكن كرامته لم تسمح له بالقبول بالعودة ثانيةً، لما ألقاه الآخر على مسامعه من سيء الكلام، الذي كان متقصدا به التقليل من شأنه، والتحقير من أخوته، لذلك بصوت هادئ يحمل الابتئاس، رفض مطلبه بإباء وعزة نفس:


-معادش ينفع.


من بعد ذلك سارع في الذهاب، حتى لا يضعف مع تكرار الطلب، بتلك الطريقة المستعطفة لقلبه، ولكنه يعلم أن سبب ذلك التغير، ما هو إلا تأثير الكحوليات على رأسه، وعندما يزول تأثيرها القوي عن وعيه، سيعود إلى سابق عهده، رافضا القبول بحقيقة النسب الجامع بينهما، منهيا أي محاولة منه لتقوية أواصر أخوتهما.



❈-❈-❈





لم يتبقَ أمامه في دائرة معارفها على حد علمه، سوى شخص وحيد، لم يستفسر منه خلال الفترة الماضية، عن علمه بمكان زوجته المجهول عنه، وعندما وجد أن جميع الحلول قد انتهت أمامه؛ في إيجاده لها دون الحاجة إلى اللجوء إليه، قرر أن يتوجه إليه مكرهًا، فعسى أن يجد ضالته، في ذلك اللقاء المحفوف بكل ما هو غير متوقع. 


كان ذلك أول قرار اتخذه في صباح يومه، بعد أن استعاد بتفكير سريع أحداث الليلة الماضية، ومساعدة أخيه له دون ضيق أو لوم على ما بدر منه يوم هروب زوجته المشؤوم، ورغم أن موقفه الداعم، والمتسامح في نفس الآن، شغل حيزا كبيرا من تفكيره -الذي قد اُختزِل الآونة الأخيرة فقط في محاولات العثور على "داليا"- إلا أنه أراد أن ينحي أمر أخيه على جنب الحين، إلى أن ينفذ القرار الذي اتخذه -دون تفكير مسبق- أولا، فكان الدافع الأساسي به هو تأمله في إيجاد أي خيط يوصله إلى مكان زوجته. 


بعدما سمحت له السكرتيرة بالدخول إلى غرفة المكتب الخاصة بذلك الشخص، حتى خطى خطواته نحو الداخل، وبوجه صلب، ثابت التعبيرات، قابل فور دخوله صوت أنثوي مستفسر بشيء من الحدة المنزعجة:


-خير يا عاصم؟ جاي لحد هنا عايز إيه؟


أخر ما كان يوده في تلك الأثناء، هو الاختلاط بفرد من عائلة "الكيلاني"، وبالأخص صغيرة العائلة، الذي نابها حصتها من آذاه الغير إنساني، لما سيعيد في داخله شعور الاحتقار لأفعاله السابقة، الذي امتنع عن أغلبها منذ زمن قريب للغاية، ولكن لأجل الإمساك بأي شيء يصل به إلى زوجته، تحامل على نفسه المجيء لها، رغم العواقب السيئة المحتملة لتلك الزيارة المفاجئة. حافظ على هدوء ملامحه، رغم ملاحظته لتحفزها أثناء نهوضها عن المكتب، وسيرها نحوه، وبصوت جامد مواريا خلفه تشتت، وخوف عظيم، سألها مباشرة:


-فين داليا؟


قطبت جبينها فور نفاذ تساؤله -الذي رأته غريبا- عبر سمعها، وسألته بدورها باسترابة:


-يعني إيه فين داليا!


من ردها التلقائي، انتابه شعور بعدم علمها باختفاء زوجته، أو بالأحرى أي مما دار بينهما، التفت برأسه نحو الجانب وهو يزفر باستياء، وبعد لحظتين عاد بنظره نحوها، ودون تمهيد، أو شرح مسبق أخبرها:


-داليا سابت البيت.


فغرت عينيها في صدمة هائلة، وسريعا ما رددت بخوف مشوب بالاتهام الصريح:


-سابت البيت؟ انت عملت فيها إيه؟ أوعى تكون..


قاطع كلماتها المندفعة، مردفا بجدية شديدة:


-معملتش فيها حاجة، أنا أكيد مش هأذي مراتي.


انفرج ثغرها للجانب بحركة ساخرة، وتشدقت بنبرة تهكمية:


-مش هتأذيها! متأكد إنك فعلا مأذيتهاش؟


أغمض عينيه بانزعاج من مضاعفتها إشعاره بالذنب، تنهد بصوت مسموع، كأنما يثبط تخبط أعصابه، محاولا البقاء على طور هدوئه المزعوم، ثم قال لها دفعة واحدة:


-داليا حامل.


حلت صدمة مضاعفة على قسماتها، وشعرت وكأنما ألجمها ذلك الخبر الصادم، وقبل أن يدع لها فرصة لتدارك ما قاله، أو الرد عليه، تابع بطريقة مستميلة لقلبها:


-أكيد محتجاني معاها، انتي عارفة هي متعلقة بيا ازاي، لو تعرفي مكانها متخبيش عليا يا رفيف، وعرفيني.


تشتت تفكيرها، ومعه نظرات عينيها وهي ترد عليه بمصداقية:


-أنا بجد معرفش هي فين، بقالها أسبوعين مكلمتنيش، وتليفونها مقفول، ومعرفش أصلا أمتى سابت البيت وليه سابته، اللي أنا متأكده منه إن داليا فعلا متعلقة بيك بشكل رهيب، واستحالة تفكر إنها تسيبك..


توقفت عن المتابعة قصدا، وقد احتدمت نظراتها وهي تضيف بحدة:


-غير لو انت فعلا أذيتها أذى جامد فوق طاقتها، اللي انت أصلا دمرتها من ساعة ما دخلتها معاك في العلاقة القذرة اللي كانت بينكم.


تراءى له صدقها الغير مشكوك فيه، ولكن نطقها الأخير المقصود، جعل الغضب يتآكل بعروقه، من شعور الندم العظيم الذي يخنقه، حرك حدقتيها في الاتجاه الآخر متهربا بعينيه من نظراتها المتهمة، وباختتام لكلامه، طلب منها وهو يشرع في التحرك:


-لو كلمتك وعرفتي مكانها يا ريت تعرفيني.


قبل أن يستدير علقت بنقم يحمل نوع من الرفض المبطن للإذعان لطلبه:


-وإيه اللي يخليني أعرفك؟ طالما داليا نفسها مش عايزاك وبعدت عنك.


كز فوق أسنانه في محاولة جهيدة لئلا يثور في وجهها، ثم عاد بنظره لها وبملامح مشتدة، رد عليها بجدية:


-اللي هيخليكي تعرفيني خوفك على صاحبتك، لإنها دلوقتي لواحدها، ومش محتاجة لحد غيري جنبها، انتي عارفة قد إيه داليا بتحبني ومش بتقدر تبعد عني.


على قدر يقينها من حقيقة ما قال، إلا أنها استشاطت من نبرة الثقة في صوته، وصنفتها على أنها اغترار مغيظ، لذلك هاجمته بردها وهي تناظره بنفس النظرة الكارهة:


-وانت استغليت ده كويس أوي يا عاصم، لحد ما خليتها تبعد عنك وتكره حياتها معاك.


جمعت نظراته المسددة لها في تلك اللحظة مزيجا من الألم والغليل، ألم هجر حبيبته له، وغليل من مواجهة الأخرى المُجرِدة لسوء طباعه، وما جعل عيني كل منهما تبتعد عن الآخر، هو فتح الباب بغتة، وولوج "جاسم" من خلفه، الذي حينما رأى "عاصم" بالداخل أمامه، واقفا قبالة زوجته، حتى اندفع نحوه، وبصوت صارخ هدر به:


-انت بتعمل ايه هنا؟


عاد بنظره نحو "رفيف" التي اعتلى وجهها بعض التوتر من حضور زوجها، خشية من نشوب نزاع بين كلا العدوين، وببرود متنافي مع احتراق أعصابه قال لها:


-ياريت متنسيش اللي كلمتك فيه، هستنى منك مكالمة.


كاد أن يتوجه نحو الباب، ليغادر المكان قبل أن يتناحر مع الآخر، الذي لم يسمح له بالتحرك قيد أنملة، ممسكا به من ذراعه، وسأله مجددا بعصبية أشد:


-رد عليا أنا، بتعمل إيه هنا؟


أخفض "عاصم" حدقتيه نحو يده القابضة على ساعده، ثم رفع عينيه الثابتتين نحو وجهه، ناظره بقوة، وبدون أن يرف له جفن، جذب ذراعه من يده، وهو يقول له بلهجة جامدة:


-مراتك عندك، لا ناقصة إيد ولا ناقصة رجل، فياريت تهدى على نفسك شوية.


بعد تبادل نظرة سريعة تجمع ما بين النقم والغل، سار "عاصم" نحو الخارج، صافقا الباب من خلفه، في حين حول "جاسم" نظره نحو زوجته، وسألها بوجه مشتد:


-إيه اللي جايب الشخص ده هنا؟


رفرفت بأهدابها، بارتباك متخوف من اجتماع الاثنين الذي دائما ما يكون محفوفا بمخاطر اشتباكهما المحتمل، وأجابته بهدوء:


-جاي بيسأل على داليا.


زوى ما بين حاجبيه بتعجب مما قالت، وردد بغرابة لا تخلو من تهدج أنفاسه الغاضبة:


-داليا!



❈-❈-❈





أن يفكر في أمر أخيه، في تلك الأثناء، يدل على أنه أصبح يملك مكانة خاصة في قلبه، ففكره الآونة الماضية، لم يشغله سوى أمر حبيبته الغائبة، حتى أن خوفه واشتياقه لها، فاق خوفه واشتياقه لابنيه، الذي ظن أن لهما الجزء الأكبر من قلبه، ولكن على ما يبدو أن حبه لهما نابعا من حبه لوالدتهما، الذي اكتشفه، وتأكد من تملكه قلبه بعد فوات الأوان، كما أن شعوره في ذلك الوقت العصيب، بوجوب الذهاب إلى أخيه لاسترضائه، يوحي بأنه بات فردا من دائرة الأشخاص القليلين، والمهمين في حياته. 


بعد مغادرته فرع "الكيلاني"، وقبل أن يمارس عادته التي أصبحت روتينية الفترة المنصرمة ألا وهو بحثه طيلة النهار عن زوجته، توجه مباشرة إلى بيت أخيه، المتواجد في الحي الشعبي البسيط، تلبية لصوت داخله، ألزمه بإعادته إلى بيته والدهما، والحقيقة أنه مهما أنكر، وتظاهر بعدم الاكتراث لأخوتهنا، لن ينكر بينه وبين نفسه حاجته إلى وجود أخيه إلى جواره، فبعد أن ظن أنه بات وحيدا بعد وفاة والديه، ظهر هو في حياته، ليكون الفرد المتبقي له من أفراد عائلته، وعلى الرغم من بغضه السابق لذلك الظهور المفاجئ، والصادم، إلا أنه إن امتن لوالده على فعل شيء، فلن يكون لشيء سوى إنجابه لأخ مثل "عز الدين". 


بعد قول العبارات المرحبة من قبل أخيه، والتي لم تخلُ من صدمة واضحة من زيارته المباغتة، توجه به إلى غرفة الصالون، وأشار له بيده نحو المقعد وهو يقول له:


-اتفضل يا عاصم.


بعد أن جلس كل منهما على مقعدين متقابلين، سأل "عز الدين" أخيه بنبرة ودودة:


-تشرب إيه؟


ناظره بتعبيرات ثابتة، وأخبره بنبرة يمتزج بها الهدوء ببعض الحرج:


-أنا مش جاي اتضايف يا عز، أنا جايلك عشان ارجعك البيت.


داخليا سعد من مبادرته بالصلح، ولكنه ما يزال على موقفه حيال العيش معه مجددا، لذلك قال له بإباء رافض:


-بس أنا مش عايز ارجع تاني.


بملامح ضائقة استشف منه بتساؤل لا يحتاج لإجابة مؤكِدة:


-عشان اللي قلته؟


ضم شفتيه وأخفض نظره، فهو لا يود معاتبته في بيته، وبعد لحظات تُعد، رد عليه برد حيادي:


-عاصم أنا مش عايز نتعاتب، وده بيتي وأنا مرتاح هنا.


لاحقه "عاصم" بتعليق مفاجئ:


-والبيت التاني برضه بيتك، وانت ليك فيه زي مانا ليا، يعني انت زيك زيي.


دُهش من تقبله لحقيقة الأمر، ولكن ما فاه به المرة الماضية، ما يزال محفورا في ذهنه، وله تأثيره على كرامته، وبنبرة أضحت بين رفض وقبول؛ قال له:


-أنا مش عايز ابقى عالة عليك.


شعر بالخزي من نفسه، كونه من دفع ذلك الشعور إلى داخله، وأردف بجدية مهتمة:


-انت مش عالة عليا يا عز، انت قاعد في حقك، وأنا مفتكرش إني قولتلك كده، أو قلتلك تمشي.


انفرجت شفتا "عز الدين" ببسمة بائسة وهو يعلق بمرح طفيف:


-دي الحاجة الوحيدة اللي كانت ناقصة الحقيقة.


تنهد "عاصم" بصوت مسموع، وهو يحاول التماسك أمام لومه المبطن، الذي يتطلب اعتذارا صادقا منه، إلا أنه لم يعتَد من قبل على طلب الغفران من أحد، لهذا بدا متخبطا وهو يسأله في ضجر ضائق:


-هترجع، مش كده؟


لمس في صوته حاجته إلى وجوده، حتى وإن لم يفوه بذلك صراحةً، لذلك قرر أن يعدل عن قراره الرافض. ضيق عينيه عليه، وانشق ثغره ببسمة متسلية وهو يسأله في مرح هادئ:


-فارق معاك يعني؟


من طريقته استشعر استجابته لتصميمه، ولكنه أراد أن يستمع للموافقة منطوقة، وبإصرار متزايد قال له:


-هترجع يا عز، اخلص.


توسعت بسمته وهو يرد عليه بانصياع:


-هرجع يا عم متزوقش.


نهض "عاصم" عن مقعده وهتف في عجلة:


-طب يلا.


ارتفع حاجبا "عز الدين" مدهوشا من تعجله، وردد باستغراب وهو يقف ليصير قبالته: 


-يلا إيه؟ مش لما نجهز نفسنا الأول.


قطب جبينه في غير رضاء، وسأله مستنكرا:


-هتجهز نفسك لإيه؟


رد عليه في تعجب من استخفافه:


-هجهز نفسي لإيه! ده انا لو رايح رحلة هحتاج اجهز قبلها بمدة، مابالك بقى إني هنقل عيشتي لمكان تاني.


وافقه الرأي في قوله، خاصة وأنه لم يبلغ أيا من زوجته أو والدته عن القرار الذي أخذه توا بعد، كما أنه سيحتاج لمزيد من ااوقت حتى يعيد تجميع أمتعته الخاصة به وبأفراد أسرته، لذلك رضخ له، وشدد عليه:


-طيب، جهز نفسك النهاردة، وبكرا تبقى في الفيلا.


أومأ له بقلة حيله، ثم تشدق بنبرة ممازحة:


-على الله بس مترجعش تتضايق من وجودي، وارجع اشحطط الناس اللي في رقبتي دول، عشان أنا مبقتش فاهمك الحقيقة.


شرد بعينيه للحظة بعيدا عن وجهه، وغمغم بصوت بالكاد يُسمع:


-ولا أنا بقيت فاهمني.


ضيق ما بين حاجبيه في غرابة، سريعا ما زالت حينما أضاف الآخر بعد زفرة سريعة بتحفز:


-همشي أنا بقى.


نظر له في ذهول وهو يردف في تعجب:


-انت لحقت؟


ضبط سترته بيديه وهو يقول له باستعجالٍ أضحى غريبا بالنسبة للآخر:


-يدوبك، ورايا كام حاجة هعملها.


هز رأسه في إيماءة موافقة، قائلا بلهجة اصطنع الجدية بها:


-ماشي يا عم، أشوفك بكرا، ولا ناوي نتقابل النهاردة بعد نص الليل وانت متدهول؟


حملت كلماته الأخيرة بعض العبث المقصود، حينئذ اعتلى الضيق وجه "عاصم" من تكراره لتلك الكلمة الغريبة، وردد بانزعاج:


-متدهول تاني؟


غادر حلق "عز الدين" ضحكة متسلية، في حين تابع الآخر ببعض الغيظ وهو يشرع في السير إلى الخارج:


-هتذلني بيها سنتين قدام انا عارف.


تبعه في السير إلى الخارج، معلقا بودية مرحة:


-لا يا عم متقولش كده احنا اخوات.


لمس قلبه ذكره لأخوتهما، ولهذا السبب بالتحديد لم يأتِ على باله أن يلجأ لغيره أثناء تغيب وعيه، حتى رجاله وأفراد حراسته، لم يفكر بالاتصال على أي منهم، كأنما كان الدافع الأول في فعلته التلقائية، هو صلة الدم الجامعة بينهما، والأخير هو تسامح أخيه ونقاء قلبه. توقف أمام الباب من الداخل قبل أن يمد يده لفتحه، والتفت برأسه ناظرا له بنظرة متأثرة، رأى بها "عز الدين" شيئا من الغموض، وقال له بنبرة بائسة:


-عشان كده مجاش حد غيرك في بالي لما كنت متدهول.


تراءى له أن شجنه البالغ، حتى وإن ذُيل آخر قوله ببسمة صغيرة، باهتة، فإن صوته بعيدا كل البعد عن المرح. لاذ بالصمت وهو ينظر بتفحص لملامحه المنطفئة، التي أخفاها عنه وهو يقوم بفتح الباب، مودعا إياه بإيجاز:


-سلام.


تدارك صمته الذي طال عندما خرج أخوه فعليا من باب الشقة، وأخبره في محبة صادقة:


-نورت يا عاصم.


بقى موضعه، حتى اختفى "عاصم" عن مرمى بصره، نزولا على السلالم السفلية، حينئذ أغلق الباب، وفي داخله يشعر أن الحزن الذي ينبجس من كل ما به، ليس تأثرا فقط بهجر زوجته، بل أنه ممتد لنواحي أخرى في حياته، ما تزال مبهمة عنه.



❈-❈-❈




عندما تنزاح الغمامة عن العين، تظهر كافة الأمور على حقيقتها. العقل يعود إلى رشده، وشيئا فشيء يتوسع كامل إدراكه. لم تكن طباع "عاصم" القاسية، والغير إنسانية، مخفية عن ناظريها، وإنما كانت تغمض الطرف عنها طوعا، ولكن تكرار نفس الأفعال المستبدة، المستنزفة لطاقتها، والمستهلكة لروحها، جعل عينيها تتفتح لحقيقة صعوبة استمرار الحياة معه، ومع ذلك أعطت له فرصة أكثر من مرة، لخوفها الشديد من الفقد الذي يستبد بها منذ فقدت كلا والديها، ولكنها عندما وجدت أن جميع محاولاتها في الظفر بحياة هنية معه، ذهبت أدراج الرياح، وباءت بفشل ذريع بإقباله على خيانتها، بعد كثير من الوعود، والعهود، الذي قطعها على نفسه، وكررها على سمعها لأكثر من مرة، أيقنت أنه لن يتغير مهما ادعى، ولن يصبح لها الحبيب، والسند والسكنى مهما مر الوقت عليها وانقضى.


الوحدة التي كانت تخشى من أن تقبع بين جدرانها الموحشة، بكامل إرادتها رمت نفسها في هوتها الخانقة، والشخص الذي كانت تتخوف من العيش دونه، فرت من بين أحضانه، حتى أنها ابتعد عن كل مكان يسهل العثور عليها به، حتى لا يجتمع بها وترى حتى طيفه، تلك المرة ربما استفاقت من غشاوتها، ولكن مع ذلك فقدت رغبتها في الحياة، وانطفئت روحها. لأكثر من أسبوعين، وحالتها تشبه من فقد لتوه أحد والديه، أو أغلى الأحباء لديه، ولكن خسارتها الفادحة هنا كانت نفسها، علاقة خاطئة دخلت بها بريئة، ومسالمة، خرجت منها محطمة، ومُدمرة، البؤس المرسوم على قسماتها لا يوحي بفتاة لم تكمل عامها العشرين بعد، فكأنما أصبحت امرأة عجوز اكتفى الحزن منها، واكتفت من حياتها حزنا. هيئتها كهيئة الأموات في شحوبهم، والدمع لم يجف من عينيها رغم عدم شعورها.


جالسة أغلب الوقت منزوية على نفسها، كما حالها الآن، محتضنة ساقيها، ودافنة رأسها فوق ركبتيها، أهملت طعامها حتى نحفت، وانقطعت عن أخذ دوائها حتى ضعفت، حتى طفليها باتت تقبل على إرضاعهما مكرهة، وتشعر بالتكدر من صوت بكائهما، كما الحال الحين، مشهد يتكرر منذ أتت بهما إلى ذلك البيت -الذي ورثته عن والدها، والذي لا يعلم "عاصم" عن وجوده شيء، لعدم معرفته بما يخص ورثها من ناحية والدها- يصرخ أحد الرضيع صراخا شديدا، لترك والدته له، ولجوعه الذي تتغافل عنه، وهي تضع يدها على أذنيها، تحاول أن تصمهما عن صوته، كأنما أصبحت ناقمة على حياتها، وحياة كلا وليديها، ولم يعد في مقدورها المعافرة لتخطي الفترة العصيبة التي تمر بها، لأجل نفسها، ولا لأجل أي منهما. 


عندما ازداد صوت بكائه عن الحد الطبيعي، والمحتمل، شعرت بأنها لم تعد تطيق الصوت، ضغطت على أسنانها، فقد كان يتآكل بأعصابها، وبعد لحظة، واثنين، رفعت رأسها بحركة انفعالية، موجهة عينيها الحمراء الباكية نحو موضع مهده، وصرخت به بعلو صوتها المنتحب:


-بطل عياط، معدتش قادرة اتحمل صوتك.


صمت الرضيع لجزء من الثانية، وقد كان صمته مصحوبا بانتفاضة قوية في جسده، من فزعه الناجم عن صراخها، وخلال لحظة أخرى كان يبكي بكاءً حادا، ضاعف من اهتياج أعصابها، ضربت بيديها رأسها وهي تهتف ثانيةً بصوت هادر بنفس الانفعال الجنوني:


-أعصابي تعبت، اسكت بقى.


لم يستجب الرضيع لها، بل كان بكائه يزداد مع صياحها، مما جعلها تبكي بصوت اختلط مع صوت بكائه، وحاوطت وجهها بيديها وهي تتوسله بنشيج كأنما يفهم ما تردده:


-اسكت عشان خاطري، مبقتش متحملة والله، كفاية.


خلال بكائها الهستيري، شعرت بوخزات تعصف بقلبها من صوت بكائه، أبعدت يديها عن وجهها، ونظرت له بعينين منكسرتين، لم تتحمل هيئته الباكية، ولا انهياره أكثر من ذلك، مما جعلها تنهض على الفور وتتوجه إليه، فعاطفة الأمومة لديها، تغلبت على سوء حالتها النفسية. حملته بيديها، وقربته من صدرها، شهق الرضيع حينما اشتم عبقها، وأمسك بثيابها كأنما يخشى تركها له، حينئذ ازداد بكائها، فهي من أوصلته بانجرافها في دوامة حزنها إلى ذلك الحد، وهي أيضا من أوصلت نفسها لتلك الدرجة من الدمار النفسي، وبينما ترضع الولد، الذي التهم نهدها بتلهف نهم، تساقطت دموعها وهي تغمغم بصوت ممزق، ومتقطع بفعل الشهقات المصحوبة لبكائها:


-أنا اللي عملت في نفسي كده، أنا السبب في كل اللي أنا فيه دلوقتي.


يُتبع ...