-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 16

 

  رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب



الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

الكاتبة سماح نجيب


الفصل السادس عشر

" حائرًا بين ماضٍ وآن "



تعجب عمرو من إصرار طبيبه على أن يرجئ إتمام زواجه ، وأنه لابد له أن يأخذ وقته كافياً قبل التفكير فى الخوض بتلك الحياة الزوجية ، والتى يخشى أن يخفق بها منذ البداية ، وعلى الرغم من أن الطبيب محق بكل مخاوفه إلا أن كبرياء عمرو الذى تملكه جعله رافضاً الإنصات لما يقوله ، مؤكداً له أن تلك الزيجة ستتم بشكل أو بأخر ، وأن سهى ستصير زوجته وهذا مما لاشك فيه ، وسيبذل قصارى جهده لتحقيق تلك السعادة التى ينشدها كدواء لندوبه الغائرة فى روحه البائسة، فصار كمن ظل حبيساً وقتاً طويلاً فى نفق ضيق مظلم وما أن وجد قبس من نور ركض لاهثاً خلفه دون التروى بأن ربما ذلك النور سيتسبب فى إيذاءه دون أن يدرى 

فدائما للبدايات بريق لامع يجذب النفس الظمأنة لأى بارقة أمل ، ولكن يبقى الندم والمرارة فى الأخير ، خاصة أن تم تشكيل طفولة عمرو وفق معايير خالية من الأمان والسلام النفسى ، اللذان كانا من المفترض أن ينعم بهما وهو طفل صغير لم يكن يعلم شيئاً عن عالم الكبار المحفوف ببعض المحظورات ، والتى تم جره إليها رغماً عنه ودون إرادته وهو فى سن مبكر

أرتسمت معالم الدهشة على وجه عمرو من إصرار الطبيب على رفضه الذى رآى أنه متعنتاً به ، فأشاح بوجهه عنه زافراً أنفاسه بضيق وسرعان ما قال وهو يشير له بالإنصراف :
- أظن الجلسة كده خلصت ممكن حضرتك تتفضل مع السلامة 

لم يكن الطبيب لينفعل بسبب صرفه له هكذا ، فمهنته تحتم عليه إتباع الحلم والرشد فى التعامل مع مرضاه ، وربما كان عمرو أكثرهم أهمية لديه ، ونبع ذلك الإهتمام لديه من أنه لم يواجه حالة كحالته من قبل ، وهو أن يقوم بمعالجة شاب من سلوكه الغير سوى ،حتى إن كان ذلك الأمر بدأ بالظهور فى بعض المجتمعات الشرقية ، إلا أن هناك بعض التقاليد ، التى تحكم ذلك المجتمع الذى يعيشون فيه

خلع الطبيب نظارته ووضعها فى جيب سترته ورد قائلاً بهدوء كعادته :
- عمر المشكلة ما بتتحل طول ما أنت بتحاول تهرب منها يا عمرو ، وأنا بكلمك لمصلحتك وأنا لو كنت شايف أن مصلحتك تتجوز حالياً أكيد مكنتش هقولك الكلام ده ، أنا دكتورك وأدرى واحد بحالتك وظروفك ، أنت عامل زى واحد كان قاعد بقاله سنين على كرسى متحرك ولما جتله الفرصة يقف على رجليه ، بقى عايز يجرى مش يمشى خطوة خطوة فى الأول ، وهو مش عارف أن تسرعه ده ممكن يخليه يقع تانى 

أولاه عمرو ظهره ورد قائلاً بعدم إقتناع لمحاولاته المتكررة فى إقناعه بالتروى فى التفكير بشأن زواجه :
- وأنا برضه أدرى بنفسى ومصلحتى يا دكتور 

أنحنى الطبيب ولملم أغراضه قائلاً بعتاب :
- أنت دماغك ناشفة ، بس صدقنى ممكن تندم ، أنا هسيبك دلوقتى وأتمنى الجلسة الجاية تكون أهدى من كده وياريت تفكر فى كلامى 

دون أن يكلف نفسه عناء وداع طبيبه ، كان يتجه صوب أحد أدراج مكتبه الخشبى وأخرج منه تلك الأوراق التى مفاداها أن سهى ستصبح مالكة لنصف أملاكه ما أن يتم عقد قرانهما 

أخذ الأوراق وخرج من المكتب ووصل لسيارته وهو بنيته الذهاب لزيارتها كما تم الإتفاق بينهما ، وصل لمنزل عروسه يحمل الهدايا والورود ، ويحمل فى قلبه أيضاً شعوران متغايران يتنازع كل منهما فى السيطرة عليه ، إلا أنه نفض ذلك عن عقله ما أن رآى زوجة والد خطيبته تفتح له الباب وهى باسمة تدعوه للدخول ، فناولها ما يحمله بين يديه وولج لغرفة المعيشة ، ينتظر مجئ والد سهى ومجيئها هى أيضاً ، ولم يكد يمر خمس دقائق حتى وجد سهى تلج الغرفة بإستحياء وخجل لم يرى منهما سوى لمحة خاطفة اليوم وهو من دام معرفته لها أكثر من عامين 

- منور

هتفت بها سهى وهى تجلس على أحد المقاعد البعيدة عن تلك الأريكة الجالس عليها وفتحت ذراعيها لشقيقها الصغير الذى أقتحم الغرفة صائحاً بسعادة يناديها قبل أن يهم عمرو بالرد على تحيتها ، التى أقتصرت على كلمة واحدة 

أجلست شقيقها على ساقيها ولفت ذراعيها حوله ، فيما كان ظهر الصغير يستند إليها بوداعة ، إبتسم لهما عمرو قائلاً بمداعبة للصغير :
- مفيش أزيك يا عمو عمرو ولا أنت بخيل زى أختك 

شهقت سهى بصوت منخفض بينما ضيقت عينيها ورمقته بنظرة محذرة من أن يسهب فى طرائفه ، والتى ستنهال نتائجها عليه بما لا يريده ، فرفع يديه بإستسلام مستطرداً :
- أنا بهزر بس ، بلاش نظرة ريا وسكينة دى ، كأنك هتقومى تكتمى نفسى كمان شوية 

وضعت يدها على فمها لتقمع صوت ضحكتها وهى تتخيل نفسها تعمل على سلبه أنفاسه ، كسفاحة تهوى القتل من أجل المال ، إلا أنها عادت لرزانتها وملامحها الجادة والصارمة ما أن رآت أبيها على وشك الدخول لغرفة المعيشة 

فبعد أن تبادل معه عمرو المصافحة وعبارات التحية والترحيب ، نظر والدها إليها قائلاً بأمر لطيف :
- سهى قولى لماما تحضر العشا علشان عمرو يتعشى معانا النهاردة 

إلا أن عمرو رد قائلاً برفض لطيف:
- معلش يا عمى متتعبوش نفسكم 

وضعت سهى شقيقها أرضاً وهبت واقفة وهى تقول دون أن تنظر إليه ، ولكن فضح صوتها ما تشعر به من خجل :
- دا أنا اللى عاملة الأكل بإيدى النهاردة ، علشان تقولى بعرف أطبخ ولا لاء 

حاجبيه المرتفعين بدهشة لم يكونا كافيين للتعبير عن دهشته مما سمعه من لطف حديثها ، والذى لم يرى منه إلا اليسير بمحادثات هاتفية قصيرة ، لم تكن تغنى ولا تسمن من جوع ، ولكنها كانت كافية بالنسبة له فى أن يبدأ فى ترسيخ أولى دعائم التفاهم المتبادل بينهما 

فما كان من أمره من رفض لقبول دعوة العشاء ، صار بطى النسيان ، بعد أن أعاد والدها إلحاحه بأن يتناول معهم الطعام ، فكانت تلك هى المرة الأولى فى حياته تقريباً يجلس وسط دفء عائلى ، تدور الأحاديث بينهما بين الجدية والتفكه والتندر والسؤال عن خطط المستقبل ، ورغم عدم شعوره بالجوع ، إلا أنه لم يترك طعاماً مما قامت زوجة والد سهى بوضعه له فى طبقه ، ولكن قبل إنتهاء العشاء سمعوا صوت الجرس ، فقام أحد الصغيران بفتح الباب 

ضيق عمرو عينيه ما أن أبصر ذلك الزائر ، والذى لم يكن أحد سوى إبن عم سهى المدعو " حاتم " ، ملأه شعور بالضيق العارم لرؤيته ، فهما لم ينشأ بينهما سوى عدم قبول احدهما للأخر ، وبدأ الأمر منذ يوم الخطبة 

أقترب حاتم من عمه وهو يقول مازحاً:
– شكل حماتى هتحبنى أوى 

رمقه عمه بنظرة عطوفة ، ورفع يده داعياً إياه للجلوس وهو يقول بحنان :
– أكيد هتحبك ، يلا بسم الله معانا 

جلس حاتم ونظر لعمرو قائلاً بجفاء :
– أزيك يا أستاذ عمرو 

إبتلع عمرو ما فى جوفه من الطعام ورد قائلاً بإبتسامة صفراء:
– الحمد لله تمام ، أخبارك إيه أنت يا استاذ حاتم ، منور إسكندرية ، أنت لسه واصل من بلدكم ولا ايه

وضع حاتم ملعقة من الأرز فى فمه وأجابه برنة صوت متشفية :
– هو أنت متعرفش أن خلاص استقريت هنا فى إسكندرية من حوالى أسبوعين كده ، حتى إشتريت شقة فى عمارة فى نفس الشارع هنا علشان أكون جمب عمى ما هو من ريحة والدى الله يرحمه 

بُهت عمرو مما سمعه منه ، فسهى لم تأتى له على ذكر ذلك ، وما أن نظر إليها وجدها تأكل بهدوء ، كأن الأمر لا يعنيها ، وظل حاتم يتحدث طوال الوقت ويضحك حتى وإن لم يكن هناك ما يستدعى الضحك ، ولكن شعر عمرو بأنه لن يحتمل الجلوس معه دقيقة أخرى

فبعد إنتهاءهم من تناول العشاء أنتقل عمرو وسهى لغرفة المعيشة مرة أخرى وتُرك الباب مفتوحاً ، حدق بها ملياً ومن ثم سألها بإلحاح وصوته يفضح شعوره بالغيرة :

– أنتى ليه مقولتليش على موضوع إبن عمك ده ؟

تجعد جبينها من شعورها بالدهشة لسؤاله اللحوح ، فردت قائلة بعفوية :
– وأنت إيه اللى يهمك فى موضوع حاتم ، يعيش هنا يعيش فى البلد ولا حتى فى المريخ ، هو يخصك فى إيه ، ثم أنا مالى ما يقعد مكان ما هو عايز 

ما أن رآت تغير ملامح وجهه من ردها ، زفرت بخفوت وعادت مستطردة بهدوء قدر المستطاع :
–أنت عارف أن عمى الله يرحمه اتوفى بعد خطوبتنا بمدة بسيطة ومراته ماتت بعد منه بشهرين تقريباً ، وفضل حاتم هناك لحد اخته ما اتجوزت وبعدين قسم الأرض بينه وبين بابا وكل واحد خد نصيبه ، وهو قال حابب يعيش هنا لأن البلد من بعد موت باباه ومامته وجواز اخته مبقاش طايق يقعد فيها لوحده ، فجه على اسكندرية علشان يبقى جمب عمه وكده يعنى ، بس هى دى كل الحكاية ، وانا مقولتكش لأن مش شايفة إن الموضوع مهم أوى يعنى 

حاول تغيير دفة الحديث ، خاصة أنه بدأ يشعر بالاستياء من أنها لا تبالى بالأمر ، فى حين أنه شعر بأن مجئ حاتم للسكن قريباً منهم ينطوى على شئ ، من المؤكد أنه سيكون غير سار بالنسبة له 

وضع يده فى جيب سترته وأخرج منها ورقتان مطويتان بعناية ، فبعد تأكده من أن بإمكانها أن تأخذ الورق منه ، مد يده لها بهما وهو يقول بجدية :
- سهى ده ورق التنازل عن نص ثروتى ليكى زى ما قولتلك قبل كده ، خديه واقريه وشوفيه 

بللت سهى شفتيها بطرف لسانها بعدما عملت على ضمهما بقوة ، كأنها تمنح نفسها الوقت الكافى بصياغة حديثها والذى تخشى أنه يترك فى نفسه أثرًا سيئاً ، لكونها ترى أن ذلك المال ربما حصل عليه بطرق غير مشروعة 

نظرت للباب لتأكدها أن لا أحد يتلصص على جلستهما ومن ثم قالت بحذر :
- عمرو الفلوس دى مقدرش أخدها وخصوصاً إن يعنى متأخذنيش أكيد هى فيها فلوس حرام ، متنساش أن أول ما عرفتك كنت شغال فى عصابة 

لفحه جوابها على ما قاله كلفحة هواء ساخن ألهب وجهه حتى كاد يشعر بإحتراقه الوشيك ، فرغم عدوله عن سلوكياته السيئة ، إلا أنه لم يفكر بشأن ذلك الثراء الذى ينعم به ، وأن أبيه الراحل جمع ماله من الإتجار فى المخدرات والأعمال المشبوهة تحت إمرة أدريانو ، وعلل الأمر أنه لم يكن مذنب بذلك ، بل حصل على النقود كإرث طبيعى من والده

حدق بالورقتان ومن ثم حملق فى وجهها فاغرًا فاه دلالة على شعوره الطفيف بالدهشة والتعجب من رفضها وصراحتها ، فأخفض وجهه قليلاً عنها متسائلاً:
- يعنى أنتى مش موافقة ؟

هزت سهى رأسها رافضة قبول ذلك المال ، وفركت يديها قائلة بإعتذار لبق :
- لاء مش موافقة وياريت تحاول تخلص من أى شبهة فى فلوسك لأن الحرام مبيجبش لصاحبه إلا الخراب والدمار ، وإن كنا هنتجور ونعيش مع بعض فأنا مش حابة أعيش من مال حرام يا عمرو وأنت فاهمنى ، عايزة جوزى يصرف عليا بفلوسه اللى كسبها بالحلال ، وأنت بإمكانك تعمل كدا طالما قولت أنك خلاص بقيت إنسان تانى وتبدأ صفحة جديدة يبقى تحاول تتخلص من أى حاجة أرتبطت بالماضى 

أنصت لكل حرف منها بعناية ودقة ، حتى أنه لم يحاول مقاطعتها آثناء حديثها بل تركها تقول كل ما لديها ، لعله يشعر بصدق إهتمامها بأن يبدأن حياتهما الزوجية من منطلق التفاهم فيما بينهما  ،وأن كل منهما يبدى حسن نواياه تجاه الأخر ، ولم يحاول الإنكار أن حديثها بعث فى نفسه الطمأنينة والسكينة ، من أن سهى ستساهم بإجتيازه إختباراته ، التى لن تقف عند كونه برأ من سلوكه السئ أو أنه صار رجلاً مسئولاً ، فالحياة لن تنفك عن وضعه بإختبارات عدة وسيكون عليه إجتيازها ، لذلك وعدها بأنه سيعمل جاهداً على العمل بنصيحتها والتخلص مما يراه يحمل شبهة المال الحرام ، حتى وإن كان بذلك لن يحتفظ إلا بذلك المال الذى أكتسبه بالأونة الأخيرة من عمله المشروع ، وبعد إنتهاءهما من حديثهما ،أكتسب وجهها ملامح الخجل الشديد عندما سمعته يستأذن أبيها فى أن يخرجوا جميعهم من أجل شراء ثوب الزفاف وإختيار الفندق الذى ترغب فى أن يقام به حفل عرسهما ، على أن يفعلوا ذلك فى أخر يوم من إختباراتها الجامعية ، والتى أوشكت على الإنتهاء ، وكأن الوقت أصبح حليفه فى أنه ينتهى سريعاً ، من أجل مجئ ذلك اليوم ، الذى ستصبح فيه سهى زوجته ، ويأمل أن تمنحه الراحة النفسية ، التى ظل يبحث عنها منذ نعومة أظافره 

❈-❈-❈

تلك هى المرة العاشرة ، التى تسمع بها تلك القصة من فم إبنة عمها ، ومع ذلك تظل تضحك وتقهقه بصوت عالى حتى تدمع عيناها ، وربما رغبتها بأن تبتهج نفسها اليائسة من إنغماسها بذلك التوتر الذى يشوب علاقتها بزوجها هو ما يجعلها تضحك هكذا ، رغم أنها لم تسمع شئ جديد سوى تلك التفاصيل التى قصتها عليها بيرى فى المرة الأولى ، حتى أن تلك الفتاة التى تعمل على تصفيف شعرها فى أحد صالونات التجميل ، تعجبت من كونها تضحك هكذا ، وهى من إعتادت أن تراها هادئة وصامتة بكل مرة كانت تأتى بها برفقة إبنة عمها  ،والتى كانت لا تختلف طباعها كثيراً عنها من حيث الهدوء ، ولكن أن تراهما الآن لا تكفان عن الضحك والتندر والدعابات ، لشئ يثير الدهشة حقاً ، وربما لم تأخذان حريتهما فى الضحك هكذا إلا لتأكدهما من أن لا أحد غيرهما بصالون التجميل ، فبيرى إستأجرته اليوم كاملاً من أجلها وأجل حياء ، لتنعمان بإهتمام العاملات فى المكان ، خاصة أن مالكة صالون التجميل  ،تعلم أن حياء زوجة إبن رياض النعمانى والتى ما أن يعلم أحد بهويتها يتنافسون على تقديم الأفضل لها حتى دون أن تكلف نفسها عناء أن تطلبه 

وضعت حياء حبة فراولة طازجة فى فمها وهى تقول باسمة :
- دا أنتى طلعتى مصيبة يا بيرى أنا بس كل ما أتخيل اللى أنتى عملتيه مقدرش أمسك نفسى من الضحك ، معقولة أنتى يطلع منك كل ده 

تمطت بيرى بذراعيها وردت قائلة وهى مغمضة العينين :
- يعنى أفضل متعذبة بحبه السنين دى كلها والأخر رايح يخطب ويتجوز ، قولت مبدهاش بقى يا يكون ليا يا إما مفيش واحدة تانية تاخده منى ، مش المثل بيقولك قبر يلمه ولا غيرى تضمه باين ، أنا مش عارفة بجيب الكلام ده منين 

ألح عليها الضحك أثناء تناولها الفراولة ، فظلت حياء تسعل بشدة حتى دمعت عيناها  ، وكأنها ستلقى حتفها بعد أن علقت قطع الفاكهة فى حلقها ، ولكن إسراع إحدى العاملات بإعطاءها كوب من الماء ، ساعدها بأن تتخلص من تلك الحالة التى بدت عليها وكأنها تنازع للموت 

تركت بيرى مقعدها الجلدى الكبير ، وأقتربت منها بخوف لتطمئن بأنها صارت بخير بعد زوال تلك الحالة ، التى آلمت بها ، فربتت على كتفها لتسترعى إنتباهها قائلة بإهتمام بالغ:
- حياء أنتى كويسة 

هزت حياء رأسها ولكن لا تعلم لم واتتها رغبة فى أن تبكى ، ولم تستطع مقاومة رغبتها تلك وحدقت فى وجه بيرى وقالت وعيناها تتهيأ لذرف الدموع :

- يعنى ترضى أنك تعيشى مع واحد كان بيفكر يرتبط بغيرك وأنه مكنش عايزك يا بيرى 

فهمت بيرى ما ترمى إليه حياء ، فنظرت حولها وأشارت للفتيات بتركهما بمفردهما ، على أن يعودوا بعد قليل ، وبعد إطمئنانها لذهابهن ، سحبت مقعد وجلست قبالتها وأخذت كفىّ حياء بين راحتيها وقالت بتروى :

- لو ركزتى فى الموضوع يا حياء هتعرفى أن الذنب مش واقع على عبد الرحمن وراسل فى أن كل واحد فيهم بالرغم من حبه إلا أنه أختار طريق تانى يكمل بيه حياته علشان يبعد عن أى حاجة وجعاه وأتسببتله فى أذى نفسى ، يعنى أنا يمكن ذنبى الوحيد إن أنا بنت الراجل اللى أذاه ، حتى لو عبد الرحمن عامل نفسه أنه خلاص مبيحبنيش وعايز ينسانى ، إلا إن عارفة ومتأكدة إن أنا لسه جوا قلبه ، بس محتاج وقت ينسى فيه اللى حصل ومش هقولك إن هلاقيه مرحب بجوازنا ، وأن إحنا هنعيش حياتنا فى تبات ونبات ، لاء عارفة أن ممكن أتعب معاه على ما أقدر أرجعه للصورة الأولى اللى خلتنى أحبه وأعشقه ، حبنا يستاهل علشان نعافر علشانه يا حياء

ينقصها الكثير من شجاعة وإقدام بيرى، التى عزمت على خوض تلك المغامرة التى لا تأمن الفوز بها أو الخروج ظافرة بذلك العشق ، الذى وضعها على أول طريق الخروج من لحدها المغلف بالبرود ، ورغم التشابه بينهما من حيث معاناتهما بهذا العشق ، والذى يبدو أنه كما وصفته مارجريت ذات مرة بأنه عشق ملعون ولا تأتى ثماره إلا بالندم والحسرة ، إلا أن كل منهما تتبع نهجاً مختلفاً عن الأخرى فى إسترداد عشقها ، فبيرى فضلت المواجهة والمصارحة وفرض حبها ، وحياء فضلت أن تلقن زوجها درساً لن ينساه طوال عمره قبل أن تفكر فى العودة إليه أو الإنفصال عنه بصورة نهائية 

تنهدت حياء بصوت مسموع إذ قالت بتفكير وهى تمرر يدها بين خصيلات شعرها الطويل :
- حتى لو اللى إنتى بتقوليه ده صح ، بس ده ميدهوش الحق فى أنه يعملنى لعبة فى إيده ، لازم يعرف أنه زى ما هو اتوجع أنا موجوعة أنا كمان ومش هتنازل عن أن أعرفه أن اللى عمله ده مش هيعدى بالساهل كده ، مع إن عارفة راسل جوزى بسلامته مفيش حد فى بروده وتصرفاته المستفزة و .....

رفعت طرف إحدى خصيلات شعرها ، وضيقت عينيها تفكر لما تركته حتى الآن طويلاً هكذا وظلت تحافظ على تلك الصورة التى أعتاد أن يراها بها زوجها ؟ فهى تعلم أنه مغرم بدفن وجهه بين طيات شعرها الحريرى الطويل ، لذلك وبدون أن تتروى بتفكيرها نادت لإحدى العاملات التى جاءتها على وجه السرعة 

غرزت حياء يداها بين طيات شعرها وقالت ببرود :
- عيزاكى تقصيلى شعرى ده عايزة قصة جديدة ، خليه بس يادوب واصل لحد كتفى مش أكتر من كده ، علشان مبقتش حباه يبقى طويل 

شهقت بيرى متأسفة لتضحيتها بقص شعرها ، والذى يضفى عليها مظهراً خلاباً ، ولكنها لم تستطع مجادلتها ، إذ أنها ما أن أصدرت أمرها للفتاة بدأت تباشر عملها ، لتتساقط شعيراتها المقصوصة على الأرض ، وبعد وقت ليس بالطويل كانت حياء حصلت على تصفيفة شعر جديدة لخصيلاتها الفحمية القصيرة ، وباتت كأنها فتاة أخرى عنفوانية المزاج ، كأن شعيراتها الطويلة التى تساقطت على الأرض ، لم تنسى أن تأخذ معها ملامح وجهها ، التى كانت تنضح بالبراءة والطفولة دائماً ، إذ أن مظهرها الجديد كلياً ، صار يوحى بأنها ستتخلى عن سذاجتها ، ولن تكون أداة من أجل إرضاء الأخرين 

مطت حياء شفتيها بإعجاب وهى تمرر يدها بين خصيلاتها القصيرة وما لبثت أن قالت باسمة :
- كده بقى شكله أحلى كإن شلت هم تقيل من على دماغى 

حاولت إضفاء طابع المرح على حديثها ، لعلها تخفف من ذلك الشعور بالندم الذى عاودها من أنها فعلت ذلك بشعرها ، فباتت كمن يقدم على فعل شئ ويدركه الندم بوقت لاحق ، ولكنها أبت الإعتراف بذلك ، مبررة لذاتها أنها رغبت فى المقام الأول أن تمحى تلك الآثار ، التى إعتاد زوجها أن يراها بها ، ولعلمها أيضاً إفتتانه بشعرها الطويل ، فأرادت أن تجعله يشعر بالسوء مثلما صار هو يتفنن بجعلها تشعر به ، كلما تطلعت لوجه الوسيم واللعين 

بإتيانها على تذكر وجهه ، نفخت بضيق وكأنها ستظل هكذا تتخبط فى حياتها ولن تنال راحتها أبدًا ، فحركت بيرى رأسها بيأس وقالت وهى تتصفح إحدى مجلات الأزياء :
- شيلتى هم من على دماغك ولا جبتى الهم لدماغك ، من شعورك أنك ندمانة دلوقتى إنك عملتى كده 

أبت حياء الإقرار بصحة قول إبنة عمها فحاولت تغيير دفة الحديث ، فنظرت إليها قائلة وهى تقرصها من وجنتها :
- متحاوليش تخلينى أحس بالندم ماشى ، وخلينا فيكى أنتى ، هو عبد الرحمن هييجى فعلاً النهاردة يخطبك ولا هيهرب علشان أبقى عاملة حسابى ، لو كده أروح أنام 

صفعتها بيرى على ظاهر يدها وردت قائلة بإمتعاض:
- عايزة تسبينى فى وقت زى ده يا جبانة وأنا اللى بقول إن لما ييجوا ويشفوكى أنك محجبة ويعرفوا إنك بنت عمى يطمنوا شوية ، لأن شكل أخته كده مقلقة منى وخصوصاً لما عرفت إن مش مسلمة 

لم تستطع حياء الجزم كلياً أن بيرى وديفيد فى المستقبل ربما يعتنقون الإسلام بسهولة ، رغم أن بيرى لا تمارس طقوس ولا شعائر الديانة اليهودية ، بل تحيا يومها دون محاولة منها للتفكير بشأن عقيدتها ، فهذا ما يجعل حياء تأمل أن ذلك ربما سيساهم بجعلها سهلة الإنقياد لزوجها إذ رغب فى أن يجعلها تعتنق ديانته ، ولكن الأمر لم يكن بتلك البساطة بالنسبة لشقيقها ديفيد ، نظراً لإنغماسه بتلك الأشياء التى يراها مباحة له ، بينما الدين الإسلامى ينظر لها على أنها من المحظورات والمحرمات 

بعد خروجهما من صالون التجميل ، وصعدت حياء لسيارة بيرى ، سمعت رنين هاتفها ، ولكنها ظلت تنظر للهاتف بخواء ، كون أن من يهاتفها هو زوجها ، ولم ترغب فى أن تتحدث معه وأن يساهم بتعكير صفو مزاجها ، الذى تحاول أن تحافظ عليه رائقاً من أجل إبنة عمها 

فبعد مرور ساعتين تقريباً ، أعلنت إحدى الخادمات عن مجئ عبد الرحمن وأسرته المألفة من عمه وشقيقته وزوجها ، وأصرت حياء على أن تخرج هى وديفيد لمقابلتهم أولاً لحين إستدعائهم لبيرى

وصلت حياء وهى تتأبط ذراع شقيقها ديفيد ، الذى لم يجد مانعاً من الموافقة على زواج بيرى ممن إختارته ، فمن يكون هو حتى يفرق بينهما ، وهو من ذاق لوعة ذلك العشق ، ومثلما تمنى أن تنتهى زيجة بيرى على خير ، تمنى لو أن يصيبه ذلك الحظ الحسن فى أن تصبح معشوقته زوجته يوماً ما 

ألقت حياء عليهم التحية وسرعان ما أعلنت عن صلة قرابتها بالعروس ، وهذا ما إستدعى دهشتهم جميعاً ، إلا أن حياء تبسمت وهى تقول برصانة :
- أنا عارفة أن الموضوع غريب شوية بس فعلاً أنا بنت عمها وده أخويا وأنا زى ما أنتوا شايفين مسلمة وحتى متجوزة إبن رياض النعمانى لو تعرفوه

رد العم قائلاً بإبتسامة هادئة:
- ومين ميعرفهوش ، فرصة سعيدة يا بنتى ، وصدقينى إحنا برضه جينا علشان خاطر مرات عبد الرحمن ، سواء كانت مسلمة أو لاء 

عقد ديفيد حاجبيه من قول الرجل الوقور ، فما معنى قوله " مرات عبد الرحمن " ، ونظر لحياء لعلها تكون فهمت شيئاً ، ولكنه رآها جاحظة العينين ، وقبل أن يسألها عما أصابها ، إبتسمت وقالت بإرتباك :
- اه وهى بيرى مش هتلاقى أحسن من الأستاذ عبد الرحمن وخصوصاً أنهم بيحبوا بعض من زمان

حاولت بقولها هذا أن توهم شقيقها بأن ما قاله عم العريس ، ماهو إلا تقديم نواياه الحسنة ، فى أن تصير بيرى زوجة لعبد الرحمن ، فلا أحد يعلم بما فعلته بيرى غيرها هى ولم ترغبان فى إخبار ديفيد بشأن تلك الفضيحة ، التى تسببت فيها من أجل أن تصبح له زوجة 

ضم ديفيد كفيه وإبتسم لعبد الرحمن قائلاً بتهذيب :
- منور يا أستاذ عبد الرحمن 

بادله عبد الرحمن إبتسامته بإبتسامة خفيفة ، فرغم أنه تمنى أن تصبح بيرى زوجته ، إلا أنه لم يكن يريد أن يأتى رغماً عنه ، فعروسه الجميلة بعد ذلك اليوم الذى أدعت به كونها زوجته وتحمل فى أحشاءها طفله ، وذهابه إلى مكتبها ، ورغم أخذها عهداً بأن يتزوجها شرعاً ، إلا أنها لم تكف عن زيارة عمه فى منزلهم ، ترجوه بأن يسرع فى إتمام زواجهما ، قبل أن تبدأ علامات ودلائل حملها  فى الظهور ، وتصبح منبوذة وسط عائلتها والمجتمع بأكمله ، فلا يعلم أى دهاء هذا الذى تملكه ويجعلها تفعل كل ذلك دون خوف أو وجل من إنكشاف أمرها

رمق عبد الرحمن شقيقته بنظرة مفاداها أن تحاول تبتهج قليلاً ، ومن ثم نظر لديفيد قائلاً بنبرة صوت هادئة خلاف لما يعتمل فى صدره من غيظ وضيق :
- هو إحنا جينا النهاردة نطلب إيد الأنسة بيرى يا أستاذ ديفيد وزى ما حضرتك شايف إحنا مسلمين ، فمش عارف إذا كنتوا توافقوا أو عندكم تحفظات بالنسبة لإختلاف الديانات ، بس فى الأول والآخر القرار ليكم ، ولو أنتوا رافضين تبقى فرصة سعيدة وهنقوم نمشى

زاد القلق بقلب ديفيد أكثر ، فما يراه على وجه عبد الرحمن لا ينبأ بأنه جاء بمحض إرادته ، كأنه تم فرض الأمر عليه وجاء رغماً عنه ، ولكن لم يفه بكلمة إذ وجدوا بيرى تلج لغرفة المعيشة بثوبها المحتشم ، وعيناها منصبة النظرات على وجه عبد الرحمن ، فجلست بجوار حياء بعدما رحبت بقدومهم 

مالت حياء على أذنها هامسة بصوت منخفض :
- بيرى دا شكل العريس جاى ومش طايق نفسه ، دا أنا حاسة أن شوية ويقوم يجرى

وضعت بيرى يدها تغطى فمها وردت قائلة بهمس :
- سيبك منه ، يعمل اللى يعمله ، المهم عمه فى جيبه ومش هيمشى من هنا إلا لما يتفقوا على الجواز ، أطمنى أنا مظبطة كل حاجة

قطع ديفيد حديثهما الهامس وهو يقول بهدوء كأنه يقوم بدور ولى أمر إبنة عمه :
- طالما هى موافقة ومش شايفة إن ده مانع فتمام أنا موافق المهم بيرى تكون مبسوطة 

- خلاص إحنا نقرأ الفاتحة ونتفق على ميعاد الفرح بقى وألف مبروك مقدماً 

قالتها حياء وسرعان ما رفعت يداها هى وأسرة عبد الرحمن وشرعوا بقراءة الفاتحة ، ولكنها أدركت ما قالته عندما وجدت بيرى وديفيد يحدقان بها بحاجبين معقودين ، ورغم ذلك لم يحاول أحد منهما أن يبدى إعتراضه لما يحدث ، فبيرى تذكرت إمتناع مارجريت عن حضور تلك الجلسة ورغم أنها لم تظهر لها رفضها لزواجها من شاب مسلم ، إلا أنها أحست بمدى إنزعاجها من الأمر ، لذلك ما أن أعلنت مارجريت عن أنها مصابة بوعكة صحية ستمنعها من الخروج من غرفتها ، لم تتشدد بيرى فى أن تجعلها تقابل عائلة عريسها المنتظر ، لكونها تخشى إفساد تلك السعادة ، التى جاءتها بعد عناء وطول إنتظار ، فبعد إنتهاء قراءة الفاتحة التى اقتصرت على أسرة العريس وعلى إبنة عم العروس ، تم الإتفاق على إقامة الزفاف فى غضون إسبوع واحد ، ولم تنسى بيرى أن تغمز بعينيها لعبد الرحمن ، الذى راح يحملق بها بدهشة ، وأطرق برأسه أرضاً هرباً منها ومن عينيها ، وكم بدا راغباً فى أن ينهض من مكانه ويدق عنقها ، ولكن تلك الوخزات المؤلمة التى راحت توخز قلبه بعد تفكيره بأن يقدم على إيذاءها ، جعلته يدرك أنه لن يستطيع مسها بسوء ، حتى وإن كان إستياءه منها ومن أفعالها بلغ ذروته ولن يستطيع إلجامه وقتاً طويلاّ