-->

رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني لسماح نجيب الفصل 20

 

 رواية جديدة لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

من قصص وروايات الكاتبة سماح نجيب



الجزء الثاني من رواية لا يليق بك إلا العشق

رواية لا يليق بك إلا العشق الجزء الثاني

الكاتبة سماح نجيب


الفصل العشرون

رهن إعتقال الخوف



هتف راسل بصرامة فى إثنتان من الممرضات بأن تأخذا ميس وتعملان على إخراجها من غرفة الجراحة ، فيكفى عويلها لهذا الحد ، الذى كاد يجعل ذهنه يتشتت ، وستكون الخسارة فادحة ، لذلك كان أمره صارماً ، حتى وإن كانتا ستعملان على جرها للخارج ، وأشار للطبيب المساعد بأن ينتبه لكل أوامره حتى يمر الأمر بسلام ، فحياة زوج إبنة شقيقه على المحك ، ويعلم بأى حال من الممكن أن تكون إذا أخفق فى إنقاذ زوجها ،فاليته لم يكن يوصى بأن تأتى لغرفة الجراحة ، ولكنه لم يكن يعلم أن المصاب هو عمران إلا بعد أن رآه غارقاً بدماءه إثر تلقيه رصاصتين إحداهما بالكتف والأخرى بالصدر ، ولا يعلم من فعل به ذلك ، أو كيف تم نقله للمشفى هنا ؟


لا أحد لديه إجابات على كل تلك الأسئلة سوى ذلك الراقد أسفل يديه ، ولكنه بعالم أخر غير ذى عالم ، ويبدو أنه لن يستطيع إخراجه من عالمه إلا بجهد مضنى منه ، فتدفقت حبات العرق على جبينه مصحوبة بشعور ساحق بالخوف ، نظراً لتراجُع المؤشرات الحيوية لعمران ، مما جعلته أمام تحدى يستلزمه مجهود وطاقة كبيرين للحفاظ على حياته التى يعلم مدى أهميتها لدى ميس ، فإن كانت كلتا يداه غارقتان بدماء عمران وتعملان بكل السُبل على إخراج الرصاصة من صدره ، فلسانه لا يكف عن الدعاء والإبتهال لله بأن يوفقه فى إنقاذه 


ففى الخارج وبإحدى غرف المشفى ظلت ميس تصرخ بإسم زوجها وزاد إهتياجها أكثر بمنعها من الخروج من الغرفة ، وأسرع أحد الأطباء بحقنها بإبرة مهدئة لعلها تهدأ ، أو تغفو قليلاً لحين خروج راسل إليهم ، دارت عيناها فى الغرفة وشعرت بثقل مفاجئ فى رأسها وأطرافها ، إلا أنها ظلت تنادى بإسم زوجها بلوعة :


– عمران عمران ، أنا عايزة أشوفه خلونى أشوف جوزى ، عايزة أروحله لازم أطمن عليه  


أجهشت بالبكاء وغرق وجهها بالدموع ، إلا أنها شعرت بالعجز عن تحريك ساقيها ، كأن مفعول المهدئ بدأ يسرى أخيراً فى جسدها ، وشيئاً فشيئاً خفت صوتها وظلت تردد إسمه حتى سكنت تماماً ولم يعد الطبيب والممرضات يسمعوا لها صوتاً ، ولكن ما كادوا يخرجون من الغرفة حتى سمعوا صوتاً لجلبة وصياح قادم من أخر الرواق ولم يكن سوى صياح معتصم شقيق عمران أثناء ركضه للوصول لغرفة الجراحة ليسأل عن أحوال شقيقه 


أعترض الطبيب طريق معتصم قائلاً بهدوء ومهنية :

– إهدى حضرتك صوتك عالى وأنت فى مستشفى ميصحش كده


لا يعلم أحد بأى حال صار بعدما تلقى ذلك النبأ الصادم من أن شقيقه تعرض لمحاولة قتل ويرقد بالمشفى بين الحياة والموت ، فطار صوابه لمحاولة الطبيب أن يثنيه عن عزمه ليكمل طريقه لغرفة الجراحة ، وقام بدفع الطبيب وهو يصيح بجماع صوته :


– أبعد عن طريقى أنا عايز أعرف أخويا حصله إيه 


وصلت إليه ولاء وهى تأخذ أنفاسها بصعوبة وواضعة يدها على بطنها المنتفخ ، فهى لم تحسن منع زوجها من الركض ولم تستطع  أن تجاريه بهرولته منذ خروجهما من سيارته ، قبضت على ذراعه وقالت ببطئ لشعورها بالألم :


– معتصم إهدى مينفعش كده ، دلوقتى نعرف كل حاجة ، وطالما عمران هنا يبقى أبيه راسل معاه وإن شاء الله سليمة 


وضعت يدها بظهرها لتخفف من شعورها بالألم ، ولكن رآت توافد أفراد عائلة النعمانى من كبيرهم لصغيرهم ، بعدما عملت إحدى الممرضات على إخبارهم بما حدث لميس وزوجها ، فلم ينتظر أحد منهم دقيقة أخرى بل جاءوا جميعهم ، ولم يكن حال غزل يفرق عن حال ميس ومعتصم ، فصوت بكاءها صار مسموعاً للقاصى والدانى 


وما أن أقتربت من معتصم أرتمت بين ذراعيه قائلة بنحيب :

– إيه اللى سمعته عن عمران ده يا معتصم ، وده حصله إزاى ومين اللى عمل فيه كده مين ميييين 


صرخت بأخر كلمة حتى إستطاعت إفزاع زوجها الواقف خلفها ، فخشى أن يصيبها مكروه هى وطفلهما الحاملة له بأحشاءها ، لذلك عمل على تهدئتها لحين أن يأتى أحد ويطمأن قلوبهم التى صارت ترجف خوفاً 


ولجا رياض وسوزانا لتلك الغرفة الراقدة بها ميس ومازالت تحت تأثير المهدئ ، فأخذت والدتها يدها تقبلها وهى دامعة العينين ، ومن ثم رفعت رأسها ونظرت لرياض وتساءلت بخوف حقيقى :


– عمران هيبقى كويس صح يا عمى هو هيعيش إن شاء الله بنتى مش هيحصلها زيى وتبقى نسخة تانية منى مش كده؟


أشفق رياض على حالها المزرى من تدفق الذكريات المُرة بموقف شبيه بهذا عندما علموا بحادث إبنه الأكبر وجدى وأسفر عن مقتله ، ومنذ ذلك اليوم وسوزانا تعانى من الخوف كلما سمعت بوقوع حادث أو ماشابه لأحد أقاربها ، ولكن طامتها الكبرى الآن أن المصاب لا أحد سوى زوج إبنتها الوحيدة ، كأنها تخشى أن تكون ميس نسخة أخرى عن زوجة مكلومة بفقدان زوجها وحبيبها


ربت رياض على كتف سوزانا قائلاً بصوته الرصين :

– وحدى الله يا سوزانا ، إن شاء الله العواقب تبقى سليمة بلاش تفكيرك المتشائم ده ، أدعيله 


إن كانت منذ البداية لم ترحب بزواج عمران من إبنتها ، وكانت الأمور بينهما سطحية مقتصرة على أن إبنتها وقعت بغرامه ، وعندما عادت لمنزل جدها لم تجبرها بالعودة إليه ، بل رحبت بقرارها فى الانفصال عنه ، إلا أنها الآن صارت تشعر بخوف كاد يسحق قلبها من أن تفقد إبنتها زوجها ، لعلمها بمدى حب وعشق ميس له على الرغم من عنادها السابق من أنها لم توافق على العودة إليه ، ولكن بالأيام الماضية لاحظت كيف إستعادت إبنتها رونقها بعد أن أخبرتهم بشأن تفكيرها الجدى هو وعمران بإذابة الخلافات بينهما وعودتهما زوجان محبان لبعضهما البعض 


مرت بضعة ساعات والقلق ينهش قلوبهم كالوحش الجائع وتغذى على الافكار السوداوية التى ملأت رؤوسهم ، على الرغم من محاولاتهم البائسة فى نفض تلك الأفكار عنهم ، فراح معتصم يذرع رواق المشفى ذهاباً وإياباً مانعاً ذاته من أن يصرخ ليخرج إليه أحد ويخبره بما سيؤل إليه أمر شقيقه ،


وجدوا باب الغرفة الراقدة بها ميس يفتح وخرجت وهى مستندة على ذراعىّ والدتها ، فتساءلت بغصة :

– لسه راسل مخرجش من أوضة العمليات ؟ 


تحولوا برؤوسهم إليها ولا أحد منهم تكفل بالرد سوى حياء ، التى تركت مكانها بجوار والد زوجها ، وأقتربت منها فى محاولة يائسة منها بأن تطمئنها :

– إن شاء الله خير يا ميس ، خليكى أنتى مرتاحة جوا وهخلى راسل يجيلك بنفسه يطمنك على عمران بس إرتاحى أنتى


– أنا مش هرتاح إلا لما أعرف جوزى عامل إيه دلوقتى


نطقت ميس بعبارتها وهى تهز رأسها بعنف رافضة العودة للغرفة ، فأرتمت على المقعد بجوار جدها ووضعت رأسها على صدره وأجهشت بالبكاء ، رفع رياض ذراعه وأحاط كتفيها وقبل رأسها بحنو يبثها الأمان بصوته الذى طالما وجدت به السلوى ، فتجول بعينيه على وجوه الحاضرين ، لا يعلم من يواسى أو يجعل من يكف عن بكاءه ونحيبه الصامت ، وكأن فتيل حرب ضارية من البكاء والصراخ والعويل تم إشعاله تحت تلك الدمعات التى أغرقت الوجوه كالسيل 


وما أن تم فتح باب غرفة الجراحة شعر رياض بأن ربما هناك عاصفة قوية جاءت محمولة بين ثنايا شفتىّ ولده ، الذى خرج إليهما ووجهه لا ينم على أنه يحمل إليهم نبأ ساراً يستطع به أن يطمأن تلك النفوس الحائرة ، بل أن تعبيرات وجهه ونظراته الزائغة كمن يبحث عن مخرج ، جعلته يتيقن من أن الأسوء قادم ، فشد بذراعه حول كتف ميس التى يبدو عليها أنها لم تنتبه لخروج راسل بعدما أغمضت عينيها وهى مستكينة بين ذراعيه 


ولكنها هبت واقفة ما أن سمعت معتصم يسأل راسل بلهفة :

– عمران عامل إيه دلوقتى بقى كويس مش كده ؟ طمنى قولى أخويا عامل ايه 


أزدرد راسل لعابه ورد قائلاً بتوتر :

–أه أه الحمد لله هو بقى كويس 


هبت ميس واقفة وأقتربت منه وقبضت على ذراعيه وهى جاحظة العينين أثناء تفوهها بسؤالها الذى كادت تشعر بأن نبضات قلبها ستتوقف قبل سماع إجابة ترضيها :

– راسل قولى عمران حصله إيه ؟ ومتكدبش عليا 


أدناها راسل منه وشدد من إحتضانه لها قائلاً بأمل :

– إن شاء الله هيبقى كويس أدعيله يا ميس أدعيله 


بتكراره طلبه لها بأن تدعو لزوجها جعلها تتملص من بين ذراعيه وتمعن النظر فى وجهه ، لعلها تستخلص إجابة شافية لسؤالها وأن يكف عن مراوغته لهم فى الإجابة عن الأحوال الصحية لعمران ، فعادت وطرحت سؤالها ثانية مصحوباً ببعض الإحتمالات :

– أنا بسألك هو عامل ايه دلوقتى ؟ وليه مش عايز تجاوبنا بصراحة ،  هو عمران دخل فى غيبوبة ؟


هز راسل رأسه نافياً ، فعمران ما أن يزول عنه مفعول التخدير سيكون واعياً ، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم بأن أموره ستؤول للأفضل ، فتلك الجراحة التى خضع لها لإخراج الرصاصتان من جسده أدت لحدوث مضاعفات صحية خطيرة ، جعلته عاجزاً عن الحكم على حالته ، وأمله الوحيد أن الله وحده قادراً على تغيير الحال إلى أفضل حال وأن يتعافى عمران بعد تلقيه العلاج اللازم والذى سيشرف عليه هو بذاته


رغم دهشة الجميع من إجابات راسل المبهمة ، وأنهم لم يفقهوا شيئاً سوى أن يدعوا الله من أجل نجاته ، إلا أن لا أحد منهم عاد يسأله عن معنى حديثه لخشية سماعهم ما يجعلهم يشعرون بالحيرة والخوف أكثر 


تركهم وولج غرفة مكتبه ، فتبعته حياء وأغلقت الباب خلفها وسألته بإهتمام وجدية :

– راسل فى إيه بجد ؟ أنا مفهمتش منك حاجة ، يعنى ايه هيبقى كويس بس ادعوله ولاء هو مدخلش فى غيبوبة ، فهمنى فى إيه بالظبط 


ألقى برأسه على كتفها قائلاً بخوف ورنة صوته ترتجف من أثر ذلك الخوف الذى ملأه ، فأجابها :

– للأسف عمران حالته خطيرة جدا يا حياء ورغم أن خرجتله الرصاصتين ، بس حالته الصحية بتتراجع ، وممكن تحصله مضاعفات أكتر ، أول مرة أحس إن عاجز بالشكل ده 


– أنا عارفة أنك أكيد عملت كل اللى تقدر عليه ، وربنا قادر على كل شيء وإن شاء الله عمران هيكون كويس 


رفعت راحتيها وربتت على ظهره ليهون عن ذاته الشعور بالإخفاق والفشل ، فهى متيقنة من أنه بذل قصارى جهده فى إنقاذ عمران ، ولكن فى النهاية الأمر بيد الله وحده ، تشبث بها كمن وجد طوق نجاة وسط أمواج عاتية تتقاذفه دون رحمة أو شفقة ، فلم تمانع عندما أتخذ من كتفها ملجأ لرأسه ، بل حاولت أن تتقاسم معه محنته ، فتلك ليست محنة له هو فقط بل لأفراد العائلة جميعهم ، وهذا ليس وقت التعنت بمشاعرها تجاهه وأن تظل تتظاهر بالبرود وأن تحاول الوصول به لأقصى درجات الغضب ، فحسب تفكيرها بأن لكل شئ وقته ، ودائماً ما تكون الغلبة لمشاعرها الرقيقة والعطوفة سواء تجاهه أو تجاه أى أحد أخر يمر بظروف مشابه أو مماثلة لتلك الظروف التى يتقاسمونها 


– شكراً أنك لسه معايا يا حياء بالرغم من اللى عملته فى حقك ، بجد متعرفيش أنا محتاجلك قد إيه 


شكرها على ما تحاول تقديمه له من دعم معنوى ، مثلما كانت تفعل معه بأوقاته الحالكة ، وبأفعالها تلك جعلته يشعر بمدى تقصيره فى حقها ، وبأنه أرتضى لها بوقت من الأوقات أن تعانى الحزن والكأبة دون محاولة منه فى التخفيف عنها ، بل ترك الشعور بتأنيب الضمير يجلده ليلاً ونهاراً على أنه جعلها تبات ليلها ودمعاتها تغرق وسادتها ، دون أن يحاول الذهاب إليها وطرد الحزن عنها ، ولكن الشئ الوحيد الذى يراه شافعاً له هو عشقه لها حد النخاع ، حتى وإن لم يحسن التعبير عن هذا العشق ، سوى بضمة وعناق وتوسلات بأن تغفر له ما كان من أمره بحق عشقهما الفريد ، فظلا واقفان وقتاً لا بأس به وهى تربت عليه وتواسيه بكلماتها الرقيقة ، وهو يحتضنها بقوة ربما ستتسبب فى إيلام عظامها المسكينة إلا أنها واجهت معه مواقف شبيه بهذا الموقف وتعلم أنه يحاول بذلك صرف يأسه وشعوره بالانزعاج من أن يقربها منه ويشدد من إحتضانه لها ، إلا أنه تلك المرة لم يفرط بالأمر حد أن تطلب منه إطلاق سراحها قبل أن يحطم عظامها ، بل كان مراعياً لها ، فيكفى ما سببه لها من إيذاء نفسى ، سيستلزمه وقتاً طويلاً فى أن يجعلها تبرأ منه  

❈-❈-❈


بعد إنقضاء تلك الأيام القلائل التى تلت ذلك اليوم الذى أنتهت فيه ياسمين من الخضوع لجراحة العيون ، جلس أبيها برواق المشفى يفكر فى تلك الأحداث التى لم يتمعن فى التفكير بها بعدما غمرته السعادة من فرضية عودة بصر إبنته ، ولكن بعد أن منح ذاته وقتاً للتفكير ، وجد أنه من غير المقنع للعقل ما أخبره به طبيب إبنته ، فلما فى هذا الوقت بالذات جاء ذلك الطبيب الأجنبى للإسكندرية ، حتى وإن كان ما قاله الطبيب المصرى من أنه جاء من أجل تحقيق بعض إنتصاراته الطبية ، فلما وقع الإختيار على إبنته ، على الرغم من وجود العديد من المرضى ممن يستحقون مثل تلك الفرصة ، بل أنهم يعانون من حالات فقدان البصر أشد تعقيداً من ياسمين ، ولكن ربما تذكر الآن إخبار الطبيب له ذات مرة أنه من المحتمل أن يعود لإبنته بصرها ، إذا خضعت للجراحة على يد جراح عيون ماهر مقيم فى إحدى الدول الغربية ، ولكن نظراً لضيق اليد ، تأخر فى جمع المال اللازم لسفرها ، على الرغم من أن عمرو عرض عليه أن يساهم بعلاجها ولكن نفسه العفوفة أبت أن يثقل كاهله بدين سيأتيه من باب الإمتنان على نصيحة منحه إياها ، فكان يعمل على إدخار المال منذ عدة أشهر ، وهو من أوصى طبيبها بأن يخبر ياسمين ووالدتها أنها بحاجة إلى العلاج حتى يأتى ميعاد خضوعها للجراحة ، حتى أنه إستخدم تلك الكذبة ليجعل عمرو يكف عن إلحاحه فى مساعدته  


– يارب أجبر بخاطر بنتى وخاطرنا كلنا يارب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 


قالها ودقق النظر فى حبات مسبحته التى تم النقش على حباتها لفظ الجلالة " الله " فتنهد بصوت خافت ، لعلمه أن كل شئ يتم تدبيره بيد الواحد الأحد ، حتى وإن أختلفت وجهات النظر فى تدبير الأشياء ، ولكن يظل التدبير الإلهى هو المتحكم فى المصائر 


سمع صوت حركة فى الغرفة التى تمكث بها إبنته وتلاها صوت زوجته تناديه ليدخل إليهما ، بعد إنتهاءها من مساعدتها فى تبديل ثيابها ، كون أن ياسمين أصرت على أن تساعدها والدتها ولا أحد غيرها ، رغم أن تم توصية الممرضات على ضرورة الإعتناء بها حتى يحين موعد خروجها من المشفى 


ولج أبيها باسماً ونظر لياسمين التى عادت ورقدت على الفراش بعدما ألبستها والدتها ثيابها ، فقال بنبرة صوته الحانية :

– الله أكبر إيه البدر المنور ده ماشاء الله إيه الحلاوة دى


ملأت الإبتسامة وجه ياسمين ، وعادت شفتيها لرونقهما الزاهى بعدما ملأها التفاؤل من أنها ربما بعد بضعة ساعات ستعود وتبصر من جديد ، ولكنها لم تستطع منع تلك الدماء التى قفزت لوجنتيها وخضبتهما بدماء الخجل ، فردت قائلة بصوتها الرقيق ويدها تتحسس عصبة عينيها البيضاء :

– دى عينيك أنت اللى حلوة يا بابا تسلملى يارب 


جلست والدتها بجوارها على الفراش وربتت على يدها وقالت مازحة :

– أه يا أختى أنتى وأبوكى ، شوفى أنا متجوزاه بقالى قد إيه مقليش الكلام الحلو ده


سمعت ياسمين صوت خطوات أبيها تقترب من فراشها ، وربما صار يقف بجوارهما ، فرد قائلاً على حديث زوجته ببشاشة ولطف :

– أنتى هتأكلى وتنكرى بقى يا أم بلال ، بقى أنا مش بقولك كلام حلو ، طب مين اللى بقولها يا فرحة قلبى وهنا أيامى 


وضعت زوجته يدها على وجهها لعلها تخفى عنه ما أعتراها بعد ذكره لألفاظه التحببية لها والتى دائماً ما يناديها بها منذ أن تم عقد قرانه عليها منذ سنوات طوال ، فسمعت صوت ضحكة إبنتها والتى تعلم أنها على دراية بحنان وحب أبيها لها ، فهى لم تأتى على ذكر قول عبارتها المازحة إلا من أجل أن تشاكسها ياسمين كعادتها عندما كانت تخبرها بأنها هى من جاءت لتأخذ مكانها بقلب أبيها وصارت فتاته المدللة 


قبل أن ينبس أحد منهم بكلمة طرق بلال الباب وولج حاملاً حقائب بلاستيكية بها طعام من أجل والديه ، وقال باسماً:

– السلام عليكم ، أنا جبتلكم الأكل أهو بالهنا والشفا ، عاملة إيه يا حبيبة أخوكى 


ردوا السلام وأجابته ياسمين :

– الحمد لله يا أبيه نحمد ربنا أدعيلى بقى أن تكون العملية نجحت وارجع أشوفكم تانى وأحضر فرحك كفاية أن أنا السبب فى أنك لحد دلوقتى معطل جوازك علشانى 


غصت ياسمين بكلماتها الأخيرة ، بعدما تذكرت إصرار شقيقها على ألا يقيم عرسه إلا بعدما يطمئن من أنها عادت كما كانت ، فبعد فقدانها بصرها وفسخ خطبتها ، لم يشأ أن يتسبب لها فى مزيد من الحزن والحسرة ، بأن يأتى يوم زفافه ولاتراه وتبتهج نفسها بحفل زفاف شقيقها الأكبر 


أدنى بلال برأسه منها وقبل رأسها ملطفاً لإنفعالها العاطفى :

– حبيبة قلب أخوكى ، إن شاء الله هتبقى أحسن من الأول وأنتى اللى هتربطيلى الجرافيت بتاعة بدلة الفرح كمان

     

الطرقات المتتالية للطبيب على باب الغرفة ساهمت فى عودتهم لواقعهم المترقب لفك الضماد الأبيض من حول عينىّ ياسمين ، فولج الطبيب الأجنبى بأثر الطبيب المصرى وبعدما ألقى التحية  ، أقترب من الفراش محاولاً تشجيعها وبث الثقة بها قبل رفع الضماد


غرزت ياسمين أظافرها بملأة السرير من شعورها المفاجئ بتقلصات مؤلمة فى معدتها نتجت عن تكتل الخوف بعروقها وكلما شعرت بإقتراب الطبيب من فك أخر طبقات الضماد عن عينيها وأنه على وشك مطالبتها بفتح عينيها ، تعود وتزدرد لعابها لعلها تزيح تلك الغصة التى تجمعت بحلقها وسدت مجرى التنفس فى رئتيها 


ولكن دنت تلك اللحظة التى أنتظرها الجميع وتمنت ياسمين بأن تأخذ وقتها كافياً قبل أن يأمرها الطبيب بلطف أن تحاول فتح عينيها رويداً رويداً ، كأنه يطالبها بأن تحاول أن تعتاد الضوء بالغرفة إذا عادت وأبصرته من جديد 


أمتثلت ياسمين لأمر الطبيب وبحذر بدأت تزيح جفنيها عن بعضهما لتظهر من خلالهما عينيها التى تلألأت بالدمعات ما أن أبصرت أبويها وشقيقها وهم واقفون بجوار بعضهم البعض وكل منهم يحدق فى وجهها بحماس لا يخلو من الترقب 


تدفقت العبرات من عينيها فرحاً وهى ترى وجوه كل من حولها ، وصاحت قائلة بصوتها المتحشرج :

– أنا دلوقتى شيفاكم كلكم 


أنهالت عليها القبلات من والدتها التى راحت تحتضنها بسعادة وهى تردد عبارات الشكر والحمد بينما سجد والدها وشقيقها شكراً لله على ما أنعم به عليها من عودة بصرها 


وهناك أيضاً من طار صوابه فرحاً بعدما علم بعودة بصر معشوقته ، فتلصصه على ذلك الحدث ، الذى أصر على حضوره دون أن ينتبه عليه أحد ، جاء بالنتائج المرجوة ، وها هو يشهد على عودة ذلك النور لعينيها التى خلبت لبه منذ أن وقع بصره عليها 


– ياسمين 


أندفع ديفيد للغرفة هاتفاً بإسمها بعدما كان واقفاً على الباب بعدما أوصى الطبيب بأن يترك الباب موارباً ليتمكن من رؤية ما يحدث فى الداخل ، فأرتعدت ياسمين من إقتحام ذلك الشاب لغرفتها دون إستئذان 


رفع والدها حاجبه من إندفاعه المفاجئ معرباً عن دهشته فى وجوده هنا بتلك اللحظة بالذات ، ولكن كأن ديفيد أدرك خطأه فى وقت متأخر ، عندما وجد الطبيب الأجنبى يقترب منه يتبادل معه الحديث على أنه أنهى عمله على أكمل وجه ومثلما تم الاتفاق بينهما 


حملق بلال بوجه شقيقته التى لم تخلو نظراتها من الدهشة والتعجب بعدما علمت مدلول حديث الطبيب معه ، ولكن تكفل أبوهما بسؤاله عما يحدث وهم لا يعلمون :

– هو أنت برضه ، هو إيه اللى بيحصل بالظبط ، والدكتور ده يعرفك منين ، أوعى يكون اللى بفكر فيه صح


لم يجد ديفيد ما يقوله ، فأطرق بوجهه أرضاً لعله يستطع إتقان كذبة تنقذه من فعلته الرعناء بإندفاعه للغرفة ، ولكن لم يعد لديه مهرب أو مخرج ، إذ صرح الطبيب المصرى عن حقيقة جلبه للطبيب الأجنبى من أجل إجراء الجراحة لياسمين ، فقال بهدوء ظناً منه أنه سيقدم له خدمة جليلة بأن يعلموا بحقيقة الأمر :


– الصراحة الأستاذ هو اللى طلب من الجراح ييجى مصر واتفق معانا بخصوص أنها تعمل العملية وهو اللى اتكفل بالموضوع كله


تمنى ديفيد لو أن يسحب سلاحه النارى من غمده ويطلق رصاصة منه بجبهة الطبيب ، لكونه سيساهم بتعقيد الأمور عوضاً عن إصلاحها ، خاصة أنه رآى نظرات والد ياسمين المتفحصة له ولا تخلو من ضيقه من تدخله الغير مرغوب به فى حياة إبنته 


حدق بوجه ياسمين ليرى مردود كلام الطبيب علي وجهها ، فإندهش من إصطباغ وجهها بحمرة قانية وأنها تحاول الهرب من النظر إليه كأنها شعرت بخجل مفاجئ ، فنسى كل شئ فجأة وإبتسم لها إبتسامة لا تخلو من الإعجاب كأنه لم يعد يرى غيرها ، بل خطى خطوتين تجاه الفراش قائلاً بإبتسامة بلهاء :


– مبروك على نجاح العملية


أنتظر أباها خروج الطبيبان ، ومن ثم قبض على ذراع ديفيد متسائلاً بدهشة:

– أنت إيه حكايتك يا بنى بالظبط ، أنا مشوفتش فى حياتى حد زيك كده 


رماه ديفيد بنظرة عابرة و عاد ينظر لياسمين قائلاً وهو مازال مبتسماً تلك الابتسامة التى جعلت والدها راغباً فى لكمه ليكف عنها :

– بحب بنتك يا عم الشيخ وأنت قولت طول ماهى كانت بحالتها هى رافضة الجواز ، بس هى دلوقتى بقت كويسة ورجعت زى الأول فأظن أنت ملكش حجة أنك ترفض ولا إيه يا عروسة مش أنتى موافقة


ربما جميعهم صاروا يشكون بقواه العقلية ، فهو يجيب على سؤال أبيها ويتصرف على النحو الذى يجعله متيقناً من أنها ستوافق على الزواج منه دون إعتراض ، حتى وإن كان ذلك سيتم من باب العرفان بالجميل والإمتنان على تكبده تلك النفقات التى كانت لازمة من أجل الجراحة 


اجابته ياسمين بإرتياب :

– إيه الثقة اللى عندك دى ، هو أنا أعرفك كويس علشان أوافق أتجوزك 


– عايزة تعرفى عنى إيه أكتر من إن بحبك وبعشقك


نطق بها ديفيد بصوت متهدج ، جعل الواقفين يشهقون بصوت واحد ، فالموقف بأكمله لا يُحتمل 


أشار والدها لبلال بأن يساعده فى إخراج ذلك الشاب المعتوه ، لعلهم يتفاهمون بالخارج ، رآفة بتلك الفتاة التى لم تكد تنعم بسعادة عودة بصرها ، ليأتى ذلك الشاب مصرحاً لها عن حبه وعشقه ورغبته فى أن يتزوجها فى الحال ، وضعت يداها على وجنتيها تتحسس تلك الحرارة التى ألهبت وجهها وهى تسمع ذلك التصريح بالحب الذى لم يحالفها الحظ بأن تسمعه من أحد غير ذلك الشاب الأشقر المجنون ، نظرت لوالدتها التى لم تمنع إبتسامتها على رؤية ما أعترى وجه إبنتها وتراه للمرة الأولى ، فجلست بجوارها على طرف الفراش وقدمت لها دعمها بأن ربتت عليها بحنان لعلها تخفف عنها وطأة الشعور بالخجل 


ولكن لم تكد تمر خمسة عشر دقيقة أخرى إضافية ، حتى عاد والدها وبلال ويتبعهما ديفيد ولكن تلك المرة وجوههم مسترخية ويرتسم على وجه كل منهم إبتسامة ذات مغزى ولكن إبتسامة ديفيد كانت أكثرهم إشراقاً ولكن كانت مقلقة لها ، إذ أن لا شئ يفسرها سوى أنه ربما حصل على مبتغاه من موافقة أبيها على أن يزوجها منه وهذا ما كان إذ أخبرها أبيها بأن ذلك الشاب والذى أعتقدوا جميعهم إن إسمه " تميم " مثلما قدم نفسه لهم ، طلب يدها للزواج وتوسله من أجل موافقته ولكنه سيترك لها مطلق الحرية فى الموافقة أو الرفض ، ولكن بدا للجميع أنها لن تسلك مسلك الرفض ، إذ أن خجلها فضح خباياها ، وكم ود ديفيد بذلك الوقت أن يعانقها إعراباً عن سعادته ، ولكنه ألجم نفسه حتى لا يتسبب فى إفساد الأمر ، فهى ولا أسرتها سيسمحون له بالاقتراب إلا إذا أقترنت به بعقد زواج شرعى سيمكنه حينها من أن ينهل من نهر عشقها دون خوف أو إعراض منها