رواية جديدة في غيابت الجب لنعمة حسن - الفصل 5
قراءة رواية في غيابت الجب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية في غيابت الجب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة نعمة حسن
الفصل الخامس
~ لقاء! ~
بعد مرور عامين.
كانت بسمة تجلس فوق تلك الأرجوحة التي إعتادت الجلوس فوقها يوميًا وهي شاردة؛ فشعرت بمن يهزها من الخلف فنظرت لتجده جمال وهو يقف خلفها ويقوم بهزها، ثم إقترب منها وقبل وجنتيها وقال:
_ حبيبتي سرحانة في إيه؟
إستدار وجلس بجوارها وضمها إليه؛ فنظرت هي إليه مبتسمة وأسندت رأسها فوق كتفه وقالت:
_ وهو إيه شاغل بالي غيره يا جمال!
تنهد جمال آسفًا وقال:
_ كل شيء بأوان يا بسمة، اصبري.
نظرت إليه بسمة وهتفت بإستياء:
_ أصبر أكتر من كده إيه يا جمال؟ إحنا بقالنا سنتين متجوزين ومفيش جديد، وكل الدكاترة قالوا مفيش أمل..
_ أهو كلام..
قاطعته قائلة بحنق:
_ هو إنت هتعرف أكتر من الدكاترة يا جمال!! طب هنفرض الدكاترة اللي في مصر كلهم بيقولوا مجرد كلام.. الدكاترة اللي برة مصر بتقول كلام وبس بردو؟ ما كلهم أجمعوا إن مفيش توافق في كيميا أجسامنا.. يعني أنا وإنت طول ما احنا مع بعض عمرنا ما هنخلف يا جمال!
تنهد جمال متعبًا وقال:
_ نقوم نتبنى طفل؟ أنا مش موافق بصراحة. ده حتى المثل بيقول يا مربّي في غير وِلدك يا باني في غير مِلكك!
نظرت إليه حينها بعتابٍ صامت، وأشاحت بوجهها جانبًا فاستشعر هو غضبها وطفق يمسد ذراعها ويقول بنبرة حانية:
_ يا حبيبتي إفهميني..
قاطعته محتدةً على الفور وقالت:
_إفهمني إنت يا جمال، إفهمني وحس بيا لو مرة.. أنا إتربيت وحيدة.. عشت وحيدة مليش اخوات.. مليش غير أبويا وأمي.. أمي ماتت بدري وسابتني وعشت مع بابا الله يرحمه.. طول عمري كنت حاسة بالوحدة وكنت بلوم أهلي إنهم مخلفوش غيري .. عايزني أعيش اللي باقي من عمري كمان من غير ونس؟ مستكتر عليا يبقالي سند!!
_ وإشعرفك إن الطفل اللي هنتبناه ده هيكون سند؟
_ وإشعرفك إنه مش هيكون يا جمال؟؟ لو كل واحد فكر بنفس المنطق اللي بتفكر بيه ده مفيش حد هيتقدم خطوة لقدام…
أمسكت بيديه وهي تنظر إليه باستجداء وتقول:
_ جمال أرجوك، أنا جوايا طاقة ومشاعر وحاجات كتير محتاجة تخرج.. لازم أتبنى طفل..
تمسك بخصرها وقربها منه أكثر وهو يطالعها بنظراتٍ تعرف مغزاها جيدًا وقال:
_ طب ما تتبنيني أنا وتطلعي كل طاقتك ومشاعرك عليا..
نظرت إليه بحدة وقالت:
_ إنت بتهزر يا جمال!!
_طب أعمل إيه طيب.. خلاص يا بسمة هعمللك اللي إنتي عايزاه.
نظرت إليه متوهجة الوجه وقالت بفرحة:
_ بجد والله؟
أومأ مؤكدًا وقال:
_ أيوة بجد، بكرة نشوف الدار ونروح نقدم طلب. مبسوطه كده؟
لم تُجِبهُ؛ بل عبرت عن جزيل إمتناتها بأن إحتضنته بقوة فضمها هو إليه أكثر وقال هامسًا بجوار أذنها:
_ الجو هنا برد، تعالي ندخل جوة.
❈-❈-❈
كانت قد إنتهت للتو من عملها، ثم دلفت إلى غرفة العاملات كي تبدل ملابسها وتغادر المشفى، وبعد أن خرجت توجهت نحو المخرج الرئيسي لتلتقي بزميلة عملها " نهى " التي سألتها:
_ على فين العزم بدري كده يا هناء؟
أجابتها دليلة قائلة بإيجاز:
_ إستأذنت بدري نص ساعة، حاسه إني تعبانة وعايزة ارتاح..
_ سلامتك ي حبيبتي ، يلا أشوفك بكرة.
_ سلام.
همّت دليلة بالالتفات لتتيبس مكانها عندما رأت آخر شخصين كانت تتوقع أن تراهما هنا ذات يوم!
على الفور أطرقت رأسها أرضًا وهي تحاول الفرار من أمام شقيقها الذي كان دالفًا وهو يحمل أمه؛ فدلفت إلى الغرفة المجاورة لها فورًا حتى لا يراها، ثم خرجت من الغرفة وراحت تتبعهما بعينيها الباكيتين المذعورتين.
كان اخيها يبحث عن طبيب كي يسعف أمه التي إشتد عليها المرض فسرعان ما أسرعت نحوه إحدى الممرضات وهي تقول:
_ حطها على السرير هنا.
كانت دليلة تراقبهم بعينين نازفتين لا تتوقفان عن البكاء بحسرة؛ لقد رأت أمها بعدما مر عامين على هروبها من المنزل، لقد أتعبها الحزن وأوقع بها أشد الآلام حتى خارت قواها تمامًا وأصبحت جسد بلا روح.
كانت ترغب في الذهاب إليها، أن تقبل قدميها ويديها وترجو منها العفو والسماح عما فعلته، كانت تود أن تعانقها بقوة حتى تشفى آلامها وتطيب جروحها، كانت تود أن تشم رائحتها حتى يهدأ قلبها ويستكين ولكن ما فعلته يبقى حائلًا بينهما مهما مر الزمان.
تقدمت بقدمين ترتجفان وهي تتحسس نِقابها تكرارًا تتأكد من أنه يحجب أخيها عن رؤيتها وتوقفت أمام باب الغرفة التي تستلقي أمها بداخلها فاستمعت إلى الطبيب الذي دلف للتو متساءلًا:
_ الحجة مالها؟
أجابه بلال بقلق وخوف:
_ عمالة تتكلم كلام مش مفهوم، وشها أصفر زي ماحضرتك شايف وإيديها بتترعش ورجليها زي ما يكون متشنجين، وبكلمها حاسس إنها مش واعية.. كأنها في عالم تاني.
أومأ الطبيب قائلًا بعملية شديدة:
_ دي غالبا غيبوبة كبد، بتنتج عن إنخفاض وظائف المخ؛ فبالتالي مبيقدرش الكبد إزالة السموم من الدم وبتتراكم السموم في مجرى الدم فبتطلع على المخ والأعصاب وتسبب الاعراض اللي ذكرتها دي من توهان وفقدان الوعي والإدراك والرعشة وكل الكلام ده.
_ طب والعمل يا دكتور؟
_ متقلقش، هنعمللها شوية تحاليل في الأول علشان نتأكد من التشخيص الصحيح وتاخد العلاج المناسب وتبقا زي الفل إن شاء الله.
أومأ بلال بقليل من الراحة، فانصرف الطبيب وظل بلال بجانبها لدقائق معدودة ثم نادى إلى الممرضة وقال:
_ معلش خلي بالك منها على ما أرجع، هجيب حاجه من البيت وراجع.
غادر بلال مسرعًا وبقت دليلة تتحين الفرصة المناسبة حتى يتسنى لها الإقتراب من أمها ورؤيتها عن قرب.
إنصرفت الممرضة عندما إستمعت إلى نداء إحدى زميلاتها فأسرعت دليلة على الفور وإقتربت من سرير والدتها ووقفت أمامها وهي تبكي وترتجف، تود أن تمسك بيديها وتقبلها، أو أن تعانقها وتتشبث بها بقوة ولا تتركها، تود كثيرًا أن تجلس بجوارها وتحكي لها كل ما حدث في العامين الماضيين وكيف أنها فقدت حياتها مراتٍ ومرات.
مدت يدها بتردد وأمسكت يد أمها وأحكمت قبضتها فوقها وكأنها لا تريد تركها أبدًا، ثم مررت يدها فوق وجهها وشعراتها البيضاء كفجر ليلٍ حالك، ومسحت بإبهامها محجرها الأجوف فانتبهت أمها إثر حركتها تلك وقالت بلهفة:
_ دليلة، دليلة… إنتي هنا يا بنتي؟
أجفل قلبها وابتعدت على الفور؛ لم تكن تعلم أن والدتها ستشعر بوجودها وتنتبه على إثر تلك الحركة التي إمتازت بها دليلة منذ صغرها، بينما كانت والدتها تهتف باسمها وتقول:
_ يا دليلة، ردي عليا يا بنتي.
إنتابتها نوبةً من البكاء فلم تستطع البقاء أكثر من ذلك وابتعدت على الفور بينما بقت أمها تنادي بإسمها على أمل أن تجدها أو تعود إليها.
❈-❈-❈
في اليوم التالي..
ترجل جمال وبصحبته زوجته بسمة أمام تلك الدار حيث أتيا لكي يقوما بتقديم طلب لكفالة طفل.
دلفا وتقدما نحو مكتب مديرة الدار التي إستقبلتهما بترحاب عملي وأشارت لهما بالجلوس:
_ إتفضلوا إقعدوا.
جلس جمال تتبعه بسمة ثم بادرت مديرة الدار بالحديث فقالت:
_ حضراتكوا جايين علشان تتبنوا طفل من الدار مش كده؟
أومأ كلا من جمال وبسمة بموافقة فقالت:
_ هناخد بياناتكم علشان هيتعمل عنكوا بحث إجتماعي و ده اللي هيتحدد من خلاله إذا كان الطلب هيتقبل ولا لأ.
تمتمت بسمة قائلة بتمني:
_ بإذن الله هيتقبل، أنا واثقة.
_ إن شاء الله ، حضراتكوا إختارتوا الطفل اللي هتتبنوه؟
أومأت بسمة برأسها وأشارت نحو تلك الطفلة التي كانت تجلس جانبًا في صمت وقالت:
_ مش عارفه ليه أول ما دخلت حسيت إن روحي راحت ليها.
نظرت مديرة الدار نحو الطفلة وابتسمت وهي تقول:
_ " لينا "، لينا دي مسمينها هنا في الدار الطفلة المعجزة.
نظرت إليها بسمة وابتسمت وقالت:
_ إسمها لينا؟
أومأت الأخرى بموافقة وقالت:
_ ده الإسم اللي إختارته ليها الدار، لينا محمد.
ونظرت إليهم وهي تخبرهم بما حدث فقالت:
_ لينا جت الدار من سنتين.. وهي عمرها أيام .. دايما هادية وحركتها ولعبها أقل من بقية الأطفال الموجودين في الدار.. ويمكن ده السبب في إن أسر كتير كانوا نفسهم جدا يتبنوها لكن معرفوش لعدم توافر الشروط.
نظرت إليها بسمة في تشفّق وأسف وقالت بشفتين منقلبتين بحسرة كالأطفال:
_ يا حرام، مين يهون عليه يرمي بيبي زي دي!
زمت المديرة شفتيها وقالت:
_ معدومي الضمير بقيوا كتير جدا للأسف، كل يوم بنلاقي عشرات الأطفال قدام بوابة الدار، اللي محطوط في كرتونة واللي ملفوف في ملاية..
_ و لينا؟
تساءلت بسمة بفضول حزين فأجابتها المديرة قائلة:
_ لينا بقا غير كل دول، لينا لقيوها في بير!
إنتفضت بسمة ونظرت إلى جمال الذي كان يبادلها النظرات المندهشة ورددا بغير تصديق:
_ بير؟!
أومأت بموافقة وقالت:
_ الأهالي عثروا عليها في بير مهجورة وبلغوا الشرطة، وطبعا بعد الإجراءات والتحريات جابوها على هنا..
إزداد تعلق بسمة بها؛ فنظرت إلى جمال تستجديه بنظراتها الحزينة وقالت:
_ علشان خاطري يا جمال اعمل أي حاجه، أنا اتعلقت بيها ونِفسي أخدها تعيش معايا.
_ أنا بإيدي إيه بس يا حبيبتي! إن شاء الله الطلب يتقبل.
تحدثت مديرة الدار وقالت::
_ إن شاء الله في خلال أسبوع هكون بلغتكم بالرد، واللي فيه الخير يقدمه ربنا.
أومأا بإقتناع ونهضا مصافحين المديرة، ثم انصرفا ليستقلا سيارتهما وعادا إلى المنزل.
❈-❈-❈
كانت قد أنهت عملها للتو؛ فبدلت ملابسها وغادرت المشفى، وسارت في طريقها عائدةً نحو مسكنها فجذب إنتباهها ذلك الصراخ المكتوم الذي إنبعث من مكانٍ ما، فتوقفت وهي تبحث بعينيها لتجد طفلين في عمر العاشرة يكيلون اللكمات القاسية إلى طفل آخر لم تَرَهُ لأنهما كانا قد أوقعاهُ أرضًا.
فورًا هرولت نحوهما وهي تنهرهما بقوة فأسرعا بالفرار فور رؤيتهما لها وظهر ذلك الطفل المسكين يجلس أرضًا متكومًا حول نفسهُ وهو يحمي وجهه بيديه ويبكي.
إنحنت لمستواه وربتت عليه وهي تقول:
_ ليه سايبهم يضربوك؟ قوم معايا متزعلش.
أزاح يديه من حول عينيه ونظر إليها بسوداويتيه الباكيتين في صمت فقالت:
_ إسمك إيه؟
طالعها بصمت مذعورًا فتبسمت قليلًا وقالت:
_ إنت خايف مني؟
أومأ أن لا فسألته:
_ جعان؟
هز رأسه بإيجاب فابتسمت قائلة:
_ طب تعالى معايا.
نهض مستجيبًا ليداها الممدوتين وأمسك بها، ثم سار بجوارها صامتًا فقالت:
_ مقولتليش إسمك إيه؟
_ رزق.
أجابها بصوتٍ متحشرج من أثر البكاء فقالت:
_ طب إيه رأيك يا رزق تيجي معايا بيتي ونتغدا سوا؟ إعتبر إني عازماك على الغدا النهارده.
نظر إليها في شك ولكنهُ صمت ومثُلَ لدعوتها أمام جوعه الشديد.
لحظات بسيطة وكانت قد دلفت إحدى العمارات وصعدت فصعد خلفها حتى توقفت في آخر طابق أمام باب الغرفة التي تعيش بها.
دلفت ودعتهُ للدخول ففعل وهو ينظر حوله متفحصًا الغرفة في تعجب وقال:
_ هو ده بيتِك؟
_ أيوة.
ردد كلمته قاطبًا جبينه وقال:
_ ده بيتِك؟!
نظرت إليه في تعجب وقالت:
_ مالك مستغرب كده!
نظر إليها بحاجب مرتفع وقال:
_ دي حتة أوضة!!
نظرت إليه بجمود للحظة ثم ضحكت وقالت وهي تستدير كي تفتح النافذة:
_ معاك حق، هي حتة أوضة فعلا بس بالنسبالي بيت، أهي لمّاني يا ….
ونظرت إليه متسائلةً:
_ قولتلي إسمك إيه؟
_ إنتي لحقتي تنسي؟!! إسمي رزق.
تنهدت وهي تضحك ثم قالت:
_ باين عليك كده لمض وهتغلبني معاك.
جلس على كرسي المنضدة وهو ينظر بطرف عينه بداخل ذلك الكيس الأسود المتموضع فوق المنضدة وقال:
_ إنتي عايشة لوحدك؟ فين أهلك؟ مفيش عندك أهل؟!
وكأنهُ دعس على جراحها التي لم تندمل يومًا فاقتربت منه وهي تشعر بالقهر، ثم جلست على الكرسي المجاور له وقالت:
_ عايز واحدة؟
نظر إليها بحرج، ثم أشاح بعينه وأومأ رافضًا فأخرجت تفاحةً من الكيس وأعطتها له وقالت:
_ كُلها على ما أحضر الغدا.
تناولها من يدها وبدأ بأكلها بنهم فظلت هي تراقبه بشفقة ورقّ قلبها لحالتهُ البائسة، ثم نهضت وبدأت بإعداد الطعام وما إن إنتهت حتى وضعتهُ فوق المنضدة وقالت:
_ يلا الغدا جاهز.
أسرع نحو الطعام وأمسك بالملعقة سريعًا فقالت بلطف:
_ إيه رأيك لو تغسل إيديك الأول؟
نظر إلى يديه المتسختين وعاد بنظره إليها ثم أومأ موافقًا ونهض متجهًا نحو دورة المياه وغسل يديه وعاد إلى مكانه فابتسمت قائلة:
_ براڤو عليك، يلا كُل بألف هنا.
شرَعَ في تناول طعامه مسرعًا وأكل حتى امتلأت معدته الصغيرة بالطعام فنظر إليها في رضا فقالت:
_ شبعت؟
أومأ أن نعم فقالت:
_ الحمد لله، يلا إغسل إيديك على ما أعمل الشاي.
_ مش عايز شاي، عايز أمشي.
نظرت إليه بإحباط وقالت بضيق:
_ هترجع الشارع تاني؟
رفع كتفيه لامبالايًا وقال:
_ أومال هروح فين؟
_ خليك هنا.
أجابته وهي تتمنى بداخلها أن يقبل عرضها ويبقى برفقتها ولكنه قال:
_ هنا؟! معاكي هنا؟
أومأت بإيجاب وقالت:
_ أيوة، أنا قاعدة لوحدي زي ما إنت شايف. أهو تونسني.
مط شفتيه بتفكير ثم أردف:
_ بس أنا متعود على القعدة في الشارع مع صحابي.
أردفت بضيق وعصبية حادة:
_ صحابك اللي كانوا بيضربوك؟!
أطرق رأسه أرضًا بحزن؛ فأدركت فجاجة أسلوبها و حدته، فاقتربت منه وربتت فوق رأسه وقالت:
_ متزعلش، أنا بس مش عايزاك ترجع تعيش في الشارع تاني.
لم يُجِبها فعلمت برغبته المُلِحّه في المغادرة فقالت:
_ طيب على راحتك، لو عايز تمشي إمشي.
أومأ برأسه ثم إتجه نحو الباب وفتحهُ وخطى للخارج ثم تراجع وقال:
_ ينفع آخد تفاحة لصاصا صاحبي؟
أومأت بإبتسامة وقالت:
_ خد الكيس كله.
أسرع يلتقط الكيس من فوق المنضدة وخطى للخارج ثم تراجع مجددًا وقال مبتسمًا:
_ شكرًا.
لم يسعها سوى الابتسام ورددت:
_ مع السلامة.
غادر وأغلق الباب خلفه، فتوجهت هي وأعدت لها كوبًا من الشاي وجلست أمام النافذة تراقب الفضاء من حولها بحيرة وشرود.
كم كانت الأيام قاسية تجاهها!
أرغمتها على فراق أحبتها قَسرًا وقهرتها بفراقهم، أجبرتها على الإقدام على أفعال لم تكن لها أهلًا وجعلتها تتصرف بلا رحمة وهي من كان قلبها يومًا كقلب الطير.
كيّلت لها من الصدمات ما يكفي كي تتبدل وتصبح أخرى لا تعرفها؛ بقايا إمرأة. لا تملك سوى القليل من مشاعر نجت معها بعد أن ألقت بقلبها في غيابة الچُــب.
❈-❈-❈
تقلّب جمال في مضجعه فوقعت عيناه على زوجته التي ترقد بجواره شاخصةً ببصرها في سقف الغرفة حتى أنها لم تشعر بحركته جوارها.
_ بسمة، إيه اللي مصحيكي دلوقتي؟
نظرت إليه بسمة وتحركت لتلتصق به تمامًا فأحاطها بذراعه وقال:
_ بتفكري في إيه؟
تنهدت وأجابتهُ:
_ تفتكر هيقبلوا الطلب ولا لأ؟
تنهد يائسًا وقال:
_ إن شاء الله يقبلوه.
_ ياارب، من ساعة ما شُفت لينا وهي مش بتروح من بالي، لدرجة إني حلمت بيها.
إبتسم وهو يفرق القبلات فوق ذراعها الملتصق به وقال:
_ والله! وحلمتي بإيه بقا؟
_ حلمت إني شيلاها وقاعدة على المرجيحة اللي….
تململت بين ذراعيه وقد قطعت كلامها وقالت:
_ يا جمال بطّل حركاتك دي، مش معقول كده.
_ أعمل إيه بس يا حبيبتي مانتي وحشاني..
نظرت إليه بسمة بتذمر وقالت:
_ هو إحنا في إيه ولا إيه دلوقتي يا جمال؟
نظر إليها متذمرًا بدوره وقال:
_ ما إنتي اللي شاغلة بالك أكتر من اللازم يا بسمة، عملتلك اللي إنتي عايزاه وقدمنا الطلب وفي إنتظار الرد، هنعمل إيه تاني؟
طالعتهُ بإحباط وأشاحت بوجهها بعيدًا ليشعر هو بالضيق وراح يمسح على شعرها بلطف وقال:
_ طيب متزعليش.. مانا مش عارف أقوللك إيه يا بوسي!
_ قوللي أي حاجه تطمني يا جمال. قوللي إن شاء الله الطلب هيتقبل وهنقدر نتبناها وتيجي تعيش معانا. قوللي إن حلمي هيتحقق وهبقى أم! نفسي أوي أبقا أم يا جمال.
أصابته كلماتها الأخيرة بالضيق الشديد ووجم وجهه وقال:
_ قولتلك يا بسمة إني مستعد أطلقك عشان تتجوزي وتخلفي..
قاطعتهُ عندما وضعت يدها فوق شفتيه تمنعه عن الكلام وقالت:
_ متكملش يا جمال من فضلك، وأنا قولتلك إني مش عايزة غيرك حتى لو هعيش العمر كله من غير طفل. وبعدين هل إنت عندك إستعداد تتجوز غيري عشان تخلف؟
أومأ نافيًا بجدية وقال:
_ مقدرش أعمل كده. إنتي حبيبة روحي وقلبي. مقدرش ألمس واحدة غيرك حتى لو على موتي.
تشبثت به وبكت. دائمًا ما تثير كلماته بكائها وتجعلها تقسم أنها لو عاشت طيلة حياتها تبحث عن حب كحبه لها لن تجد.
كان هو قد أهدى عنقها قبلةً دافئة فاض منها الحب و الوله، ثم ربت فوق ظهرها يُنهي ذلك الحوار وقال:
_ سيبيها لله واللي عايزه ربنا هيكون.
تنهدت براحة وقد تخللت كلماته قلبها ووجدانها وأقرت بصدقها؛ مما أشعرها بالراحة وجعلها تولّي أمرها إلى خالقها الذي يحسن التدبير.
❈-❈-❈
نهضت باكرًا، قبل ميعاد كل يوم واستعدت سريعًا ثم توجهت نحو المشفى بشوق لرؤية والدتها.
دلفت وقبل أن تباشر عملها ذهبت أولا إلى الغرفة الموجودة بها والدتها، وقفت أمام الباب و ظلت تراقبها وهي ترقد لا حول لها ولا قوة وقد أصابها من المرض ما يكفي.
حثتها قدماها على الإقتراب ولكنها تراجعت فورًا عندما رأت شقيقها وهو يقترب فجمدت مكانها وراحت يداها تلقائيًا تتلمس نقابها بتوتر وتراجعت للخارج ببطء.
_ يلا شوفي شغلك يا هناء..
إستمعت إلى صوت رئيسة العاملات فنظرت خلفها وأومأت بموافقة ثم أسرعت كي تبدل ملابسها وتبدأ في التنظيف.
حاولت أن تنهي عملها سريعًا حتى يتسنى لها أن تحظى بالقرب من والدتها أطول وقت ممكن؛ فهي تعرف بميعاد مغادرة أخيها إلى عمله، وعندما أنهت ما تفعله ذهبت وجلست أمام باب الغرفة الموجود بها حتى رأتهُ وهو يغادر فأسرعت حينها إلى الداخل ووقفت أمام سرير والدتها تود أن تمسك بيداها أو تحتضنها ولكنها تخشى أن تتعرف إليها والدتها كما حدث بالأمس.
أجفلت واهتز قلبها بين أضلعها عندما إستمعت إلى والدتها وهي تقول:
_ دليلة، إنتي هنا يا بنتي؟
تجمدت كلوح الثلج ولم تنطق، لم تتحرك، حتى أنها حبست أنفاسها كذلك فكانت كالموتى وهي تستمع إلى ما تقوله والدتها:
_ أنا عارفة إنك هنا، حاسة بيكي حواليا، شامة ريحتك في المكان.
كتمت نحيبها قدر إستطاعتها ولم تنطق بينما أردفت والدتها وقالت:
_ أنا عارفة إنك واقفة دلوقتي وبتسمعيني. ليه عملتي كده؟ سيبتيني ومشيتي ليه؟ صارحيني باللي حصل. إرجعي وأنا هسامحك. ده أنا وبلال هنتجنن عليكي.
أغمضت دليلة عينيها بألم وهي تبكي بحسرة وندم. ودت لو عانقتها الآن وطلبت منها الغفران عما فعلت ولكنها لم تجرؤ على فعل ذلك.
_ دليلة إنتي سامعاني مش كدة؟ ردي عليا يا بنتي والنبي.
_ أنا آسفة يا أمي.
خرجت كلماتها مخلوطةٍ بشهقات وأنين ولكنها كانت واضحة للحد الكافي الذي سمح لأمها بتمييزها فأسرعت تحرك وجهها يمينًا ويسارًا وهي تبحث عنها وكأنها ستراها وقالت بلهفة:
_ دليلة، دليلة إنتي هنا؟ إنتي جمبي هنا؟ الحمد لله. الحمدلله شفتك قبل ما أموت.
إنهارت دليلة تمامًا؛ فألقت بنفسها المتعبة داخل أحضان أمها التي تاقت كثيرًا إليها وأجهشتا بالبكاء سويًا مما أثار تعجب وحيرة الجميع.
_ كان قلبي حاسس، والله يا بنتي كنت عارفة إني مش هموت غير لما أشوفك وأطمن عليكي، الحمدلله شفتك قبل ما أموت.
إحتضنتها دليلة بقوة وراحت تقبل كل إنش بها. جبينها، يداها، رأسها ووجنتيها وهي تبكي بمرارة وتقول:
_ سامحيني يا أمي، أنا عملت كده غصب عني، مكانش قدامي غير إني أعمل كده. عشان خاطري تسامحيني.. عشان خاطري تسامحيني.
أحست بجمودها وتيبس حركتها، بكاءها الذي توقف ونشيجها الذي هدأ، حتى… حتى نبضات قلبها التي سكنت… تمامًا!
إنسلتت من أحضانها بغتةً وكأنها صُعِقت، ونظرت إليها بصدمة لا تضاهيها صدمة!
لقد توقف قلبها! ماتت أمها بين يداها!!
هزتها بقوة وهي تقول بلا وعي:
_ ياما، ياما فوقي، فوقي وكلميني عشان خاطري.. والنبي ياما ما تموتي. متموتيش ياما حقك عليا، أنا غلطانة وأستاهل كل اللي هتعمليه فيا بس متموتيش.
كانت الممرضات قد أسرعن نحوها وهن يحاولن فحصها قبل أن يأتي الطبيب ويقوم بفحصها وقال:
_ لا حول ولا قوة الا بالله، المريضة ماتت.
هُنالك صرخت بكل ما أوتيت من آلام وظلم، صرخت حتى تحركت تلك الجراح الساكنة بأعماق قلبها، صرخت حتى نزف قلبها وأحست بالكون كله يدور بها وسقطت فاقدةً الوعـي.
يُتبع..