-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 45

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الخامس والأربعون



وفيما أُوصِدت جميع الأبواب في وجهه، لم يجد غير بابه، ليطرق عليه مستجديًا عونه. لما يقرب من الخمسة دقائق، ظل "عاصم" جالسًا على أحد المقاعد، المتواجدة في غرفة استقبال الضيوف بفيلا "الكيلاني"، باديًا على وجهه التوتر من تلك الخطوة، التي لا يعرف إن كان صائبًا في اتخاذها أم مخطئًا، يشغل تفكيره كيفية مقابلة "هشام الكيلاني" له، بعد كل ما اقترفه هو ووالده الراحل في حقهم، ومن هنا تساءل في نفسه، هل سيقبل أن يقدم يد العون له؟ 


بعد مضي تلك الدقائق القلائل ولج "هشام" بخطواته المتهادية من باب الغرفة، ليقطع تفكيره المرتبك، ويجعل حدقتيه تنصبان في تلك اللحظة على تقدمه منه، وتلقائيًا وجد نفسه قد وثب عن جلسته احترامًا له، فإلى الحين -رغم كل ما حاول والده أن يزرعه في أعماقه، من حقد وكره تجاهه- ما يزال الاحترام لشخصة الوقور كائنًا داخله له. 


كانت نظرات الآخر الموجهة نحوه غير مقروءة المعاني، ولكن لم يخفَ بها القليل من التفاجؤ من زيارته الغير متوقعة، ومع ذلك حافظ على ارتخاء تعابيره، وبعد أن أضحى قبالته، على وشك الجلوس على المقعد المقابل، قال له بنبرته الرخيمة:


-اتفضل يا عاصم.


امتثل إلى كلمته، وعاود الجلوس موضعه، وبعد صمت دام لثانيتين، رحب به "هشام" بغير ابتسام:


-ازيك يا عاصم، عامل إيه؟


لأول مرة يعجز "عاصم" عن رفع عينيه في حضرة أحدهم، فقد ظلت نظراته منكسة لأسفل وهو يرد عليه بتصقيل يشوبه الحرج:


-أنا تمام، إزي سعادتك؟


كان مترائيًا له عدم نظره صوبه، وفسر الأمر دون الحاجة إلى تفكير، وعلى نفس الشاكلة الذي يبدو من خلالها الفتور في استضافته، رد مقتضبًا:


-سعادتي بخير الحمد لله.


أومأ له بهزة بسيطة، وافترت شفتاه عن بسمة صغيرة، وثانية سحبه الصمت داخل دوامته، حتى لاح التعجب على وجه "هشام" من عدم تكلمه، وبصوت اعتلاه التحير سأله بلهجته التي ماثلت سابقتها:


-خير يا عاصم؟ إيه اللي حصل وفكرك بيا بعد العمر ده كله؟


وهو يفرك بيديه بحركة معبرة عن تلبكه المتفشب به قال له:


-الحقيقة أنا.. 


علق الكلام في حلقه لبضعة لحظات، ولكنه ما لبث أن تحكم في ربكته، وهتف بحذر:


-أنا قصدك في خدمة، واتمنى إنك تقبل تساعدني.


ضيق نظراته فور أن استمع بما فاه به، واستفسر منه متسائلًا:


-خدمة إيه؟


تلجلج قليلًا، وكاد أن يتراجع عن إخباره، ولكنه ليس أمامه من سبيل آخر سواه، لإصلاح ما أفسده بغبائه، لذا ضبط نفسه، وبث فيها الشجاعة التي ساعدته على رفع عينيه له، وهو يصرح عن مطلبه قائلًا:


-عايز الورق اللي مع حضرتك.


ازدادت حيرته من طلبه، ولم يأتِ بخلده غير تلك الملفات التي سبق وقدم بها بلاغًا رسميًا في والده، وقبل أن تستبد برأسه التساؤلات، استفسر منه باستشفاف:


-قصدك ملفات الصفقات اللي أبوك كان عاملها باسم الشركة؟


تحفز "عاصم" في جلسته، أومأ له بالإيجاب، ورد مؤكدًا:


-بالظبط هي.


لم يختفِ التعجب من فوق محياه، ومط فمه ثم علق باستغراب:


-غريبة يعني، عايزهم في إيه؟


إزاحة الستار عن السبب وراء حاجته لتلك الأوراق، يتطلب مجهودًا كبيرًا، وهو مستنزف القوى بالأساس، لذلك اكتفى بقوله الموجز:


-محتاجهم وخلاص.


عدم توضيح سبب وجيه لطلبه المفاجئ والمحير، جعلت التساؤلات تنبجس في رأسه، ولكنه ليس من طباعه الإلحاح على أحدٍ حتى يعطي له الأحوبة المنشودة، ولكنه مع ذلك لا يأكن مكره، ولهذا أراد أن يستدرجه، وجاراه في الحديث مرددًا بمراوغة:


-مانا قدمت بلاغ بيهم، تقدر تروح تستخرجهم من..


قاطع كلماته، هاتفًا بوجه معقود، ولكن نبرته بقت علة هدوئها المشوب بالاحترام:


-يا هشام بيه، الكلام ده عدا عليه سنين، وزمان البلاغ اتحط في الأرشيف، وعشان اروح دلوقتي واخلي حد يطلعه، الموضوع هياخد وقت، ده غير إن ممكن يكون المحضر ضاع اصلا.


رده كان مقنعًا، ولكنه مع ذلك لم يوضح الأمر الخفي وراء حاجته المبهمة لتلك الأوراق، وعلى نفس المنوال المثير للضيق سأله بجفاء فاتر:


-المطلوب دلوقتي إيه؟


حافظ على اتزانه أمام ما يراه منه من صد واضح عن تلبية حاجته، ولكنه سيحاول حتى الرمق الأخير، علّه يستجيب له، وبرزانة لم يكن عليها يومًا استطرد قائلًا:


-بابا كان قايلي إنك أي ملفات للشركة كنت بتحتفظ بنسخ منها، يعني أكيد حضرتك معاك نسخ من ورق مهم زي ده، وأنا مش بطلب منك إنك تديني كل النسخ، أنا عايز نسخة واحدة بس، ولو عايز تفضل محتفظ بالباقي مفيش عندي مشكلة.


استرعى اهتمامه بشكل بالغ معرفة السبب وراء كل ذلك التصميم، وفي ذلك الوقت بالتحديد، وكرر سؤاله السابق بصياغة أخرى مستفسرة:


-اقدر اعرف السبب اللي مخليك عايز الورق ده دلوقتي بالذات.


مع ذلك الإصرار  لم يجد "عاصم" بدًا من إخفاء الأمر عنه، فلربما إن حكى له عن خبايا الأمور، للبى له مطلبه، وبدأ بعد تنهيدة متعبة في قص ما دار البارحة، بدايةً من مهاتفة "توفيق" له، ونهاية بأخذ رجاله للأوراق التي كانت بحوزته، ولم يغفل عن سرد محاولات "توفيق" المستميتة في أخذ تلك الأوراق، وكل ما بدر منه معه من مفاوضات، وتهديدات لا حصر لها، منذ توقف والده عن مداولة تلك الأعمال الخارجة عن القانون، وكذلك تسببه في إزهاق حياته في الأخير. بعدما انتهى سحب نفسًا آخرًا مطولًا، ثم أضاف بجدية شديدة:


-توفيق العاصي مش سهل، ومضمنش ألاعيبه لو حس إني بقيت ضعيف قدامه، مفيش حاجة تحمي ضهري منه غدره، الورق اللي كان معايا كان مقويني، ومخليني متأكد إنه عمره ماهيغدر بيا زي ماغدر ببابا، أو يفكر يقتلني، خوفًا من إني أكون معرف حد بمكان الورق ده، ويخرجه بعد موتي.


كانت تعبيرات "هشام" متراخية، لم يظهر بها أي تفاجؤ، أو حتى تعاطف، فهذه هي النهاية المتوقعة لشخصٍ تاجر بالأرواح، أن يلقي حتفه بنفس الطريقة التي أنهى بها حياة الكثيرين، وآخر اتبع خطاه في إيذاء من حوله، وتنغيص حياتهم بأفعاله الشيطانية، ومكائدة الغير متناهية، فمن الطبيعي أن يدور الزمان عليه ويأتي اليوم الذي يجني فيه نتاج أفعاله، ويحيا هو الآخر حياة مُهدَدة، فرضها على الكثير من قبل بمنتهى السطوة والاستبداد. ولكنه حتى بعدما اتضحت له الصورة كاملة، شعر بإنه لن يقدر بتلك السهولة أن يقدم له يد العون في محنته، وهو نفس الشخص الذي كان يحاول بضراوة أن يدمر حياتهم، ويلحق بهم الحزن والبلاء، فكيف يساعده في مصابه بعد كل ما اقترفه في حقهم؟ ناظره بنظرة فاترة، توضح موقفه الذي لن يكون داعمًا بالتأكيد، ثم سأله بنبرته الوقورة:


-تفتكر إني هقبل أساعدك بعد كل اللي عملته فينا؟


صدمه سؤاله وابتلع ريقه بارتباك بدا جليًا عليه للغاية، إلا أنه سريعًا ما سيطر على أعصابه، ورد عليه بتبرة واثقة:


-أيوا افتكر..


ضم "هشام" ما بين خاجبيه من رنة الثقة في صوته، حينها أضاف "عاصم" بصوت يحمل الخزي:


-لإنك مش زي بابا ولا زيي، وطول عمرك بتمد إيدك لأي حد محتاج مساعدتك.


ناظره بنظرة جمعت ما بين الحزن والجمود وهو يعلق:


-ده حقيقي، بس اللي انت ارتكبته في حقنا مكانش سهل، أذيتك لابني طول السنين اللي فاتك، وختمت بمحاولتك قتل ابنه الرضيع وإنك كنت عايز كمان تحرمه هو ومراته من الخلفة..

 

زفر نفسًا مطولًا تبعه بقوله المشوب بالشجن:


-ده غير رفيف اللي لسه بتتعالج لغاية دلوقتي، وأسيف اللي ابوك خطفها وكان سبب في ضياعها مني وانها تتربى بعيد عن عيني وبرا حضني ستاشر سنة.


حل ضيق عظيم على محياه من ذكر الآخر لسابق أفعاله المشينة، ولم يكد يستقبل من كبوة كلماته المؤنبة، حتى أكمل بنبرة مالت للصرامة:


-كل ده مش سهل يا عاصم، ولا أفعالك معانا كانت أفعال تُغتفر، تفتكر بقى ازاي هقدر اساعدك؟ أو انت ازاي مستني مني إني أمدلك إيديا بعد كل ده؟


كلماته كانت كدلو ماء بارد، انهال به على رأسه، ازدادت أنفاسه، وشعر بالاختناق يداهم صدره، وإلى ذلك الحد لم يقدر أن يتوسله أن يعدل عن قراره المرأي، وفي لحظة نهض عن جلسته، وقال له بصوت مختنق:


-أنت عندك حق، الظاهر إني طلعت بجح أوي في طلبي، مكانش لازم استني من حضرتك مساعدة بعد كل اللي عملته.


انحنى بعد ذلك بجذعه قليلًا ملتقطًا متعلقاته من فوق الطاولة الصغيرة، وأطنب بغير أن ينظر لعينيه:


-عن إذنك.


بخطوات كانت متسارعة غادر الغرفة، بكبرياء جريح، وروح كسيرة، بينما ظلت أنظار "هشام" تتطلع في أثره، بأسى شديد، وضيق عارم، فلا هو من ذوي القلوب الصلبة القاسية ليتحمل نظرة ذليلة، ولا هو أيضًا سيقدر على مساعدة من كان يسعى بكل جهده لتحطيم حياتهم جميعًا.



❈-❈-❈



كعادة "رفيف" التي لم تنقطع عنها مؤخرًا، لا تدخر وسعها قدر المستطاع في زيارة صديقتها بشكل يومي، للاطمئنان على حالها، أو لتخفف عنها أي بلاء يحيق بها، وكذلك إن تطلب الأمر ترافقها حيث المكان الذي ترغب في التوجه إليه. واليوم لكونه موعد المتابعة الروتينيه عند دكتور النسا خاصتها، قررت الذهاب معها، حتى تتوجهان بعد تلك الزيارة السريعة، إلى مكان هادئ، وتتبادلان حديث حدي بشأن زواج "داليا" المضطرب، حيث إنها ما تزال على تصميمها في المكوث في بيت والدها، حتى بعد لحظات التودد الحميمي التي دارت بينها وبين زوجها ليلة البارحة، ولكنها لا زالت خائفة، من اتخاذ قرارًا متسرعًا في تلك العلاقة الغير مستقرة. 


سارتا جانبًا إلى جنب إلى حيث موضع اصطفاف السيارة، وفور أن خرجتا من البوابة الحديدة الصغيرة، المتصلة بالسور الذي يحيط فيلتها، حتى رأتا تلك الماكرة المسماه ب"مي"، تترجل من سيارتها، التي توقفت بجوار سيارة "داليا". أخذت خطواتها المتعجرفة نحوهما، وعلى وجهها بسمة لئينة غير مريحة نهائيًا، فقد واتتها فرصة على طبق من ذهب، لإهانتها مثلما أهانها "عاصم" من قبل، وكانت تلك الإهانة المتعمدة بشكل أو بآخر لأجلها، ولأجل الحفاظ على علاقتهما، التي كانت مبهمة التفاصيل.


واليوم، بعد عدة محاولات لحوحة، استطاعت استدراج "كرم"، خاصة بعد معرفتها بأنه يعلم كثير من المعلومات الدقيقة الخاصة بحياة "عاصم"، واستخرجت منه ما في جعبته بخصوص ما يعلمه عن كل منهما. عندما أبصرتا تقدمها منهما توقفتا في موضعهما، وكل منهما يعتلي وجهيهما نفور مخالط بالتفاجؤ من رؤيتها، إلى أن أضحت قبالتهما، توسعت بسمتها البغيضة، وهتفت بسماجة متغطرسة:


-هاي.


توحشت نظرات "داليا"، وامتلأت بالازدراء وهي تسألها بحدة:


-عايزه إيه؟


ثبتت "مي" نظراتها المنبعث منها الشر عليها، وقالت بنبرة باردة مشوبة بالغموض:


-مصدقتش بصراحة لما عرفت، قلت معقولة، عاصم يعمل كده.


عقدت كلتا الصديقتان حاجبيهما باستغراب، وكانت الأسبق من بينهما "رفيف" في التعليق، وهتفت مستفسرة:


-انتي بتتكلمي عن إيه بالظبط؟


لم تزح نظراتها عن "داليا"، وازدادت بسمتها شرًا وهي تقول بنفس الغموض المريب:


-فعلا عاصم مبيبقاش على حد، ولا حتى مراته..


أنزلت عينيها نحو بطن "داليا" المنتفخ من أسفل ثيابها، وتابعت بهزو ملموس في نبرتها:


-أم ولاده.


لم تتفهم "داليا" المضمون المبهم من كلماتها الغير مفهومة، إلا أنها استشعرت وجود ما يستدعي للريبة في باطن في ما تقول، وظلت تناظرها بوجهها ذي الملامح المعقودة، منصتة إلى تتمة عبارتها بلهجة كانت أقرب للتشفي:


-بس هرجع وأقولك انتي الغلطانة.


اتسعت بسمتها بصورة شيطانية وهي تضيف مع نظرة شملتها من رأسها إلى أخمص قدميها:


-ماهو مفيش واحدة جوزها هيتمسك بجوازه منها، وهي مسلماه نفسها من قبل الجواز.


هنا اتسعت نظرات "رفيف"، وبعصبية اندفعت داخلها صاخت بها تزجرها بغير تساهل وهي تلوح بيدها في وجهها:


-انتي بتقولي إيه؟ انتي اتجننتي.


حولت نظرها آنذاك لها، ورفعت أحد حاجبيها بطريقة تنم على ما تحملها في نفسها من ضغينة بالغة، وعقبت على نفس الشاكلة الباردة:


-هي مش دي الحقيقة ولا إيه؟


اشتعلت عينها "رفيف" بغضب جم، وردت عليها بأسلوبها المهاجم:


-حقيقة إيه؟ وبعدين انتي مين أصلا سمحلك تدخلي بين اتنين متجوزين.


تأتأت بأسلوب باعث على الاستفزاز، ثم نفت ببسمة شامتة بعد أن انتقلت ببصرها نحو "داليا":


-تؤتؤتؤ، قصدك اتنين متطلقين.


خلال تلك المشادة الكلامية التي دارت بين الاثنتين، كانت "داليا" تناظرها بنظرة فاترة، وكأنها غير متأثرة بما أفصحت عنه بكل حقد، ويوحي بضربة غادرة، من سيف مسموم، طال جنبات قلبها، من حبيب ظنت لوهلة أنه سيكون لها ما تمنت يومًا، ولكن على ما يبدو أن قلبها كلما رق له، يحدث ما يفيقها، ويجعلها تعدل عن أي نية في العودة إليه، والاستمرار في ذلك الزواج المحتوم عليه بالانتهاء. لم تهتز رغم الوجع الذي استوطن قلبها، وسألتها بهدوء لا يعكس الثورة الهائجة من المشاعر المحطمة بداخلها:


-خلصتي؟


تظاهرت "مي" بالنظر في ساعة معصمها، وردت عليها:


-تقريبًا، كفاية أوي الوقت اللي ضيعته في الكلمتين دول.


ثم رفعت يدها لهما، وودعتهما بعنجهية وهي تشرع في العودة إلى سيارتها:


-تشاوو.


لم تكد تلتفت حتى هتفت "داليا" بصوت قوي ارتفعت نبرته قليلًا:


-استني عندك.


استدارت لها، تطالعها من علياها، لارتدائها حذاء ذي بكعب عالٍ، وبلهجة امتلأت ثبات أخبرتها "داليا":


-أنا اللي طلبت الطلاق من عاصم، هو مطلقنيش.


انشقت شفتيها ببسمة ساخرة وقلبت عينيها بطريقة توحي بتكذيبها، ظنًا منها أنها تحاول إنكار الأمر لحفظ ماء وجهها، وكأنما فطنت "داليا" ما يدور في رأسها، فاضأفت بتأكيد على ما قالته للتو:


-أنا وهو لسه متجوزين.


اختفت البسمة تدريجيًا من فوق وجهها، واعتلى وجهها تعبير متوجس، في حين زين وجه "داليا" بسمة هادئة، ورفعت الهاتف الذي قد أُضيأ باسم "عاصم"، قائلة لها بثقة:


-شوفتي الصدفة، بيرن أهو، وفر عليا كلام كتير.


ضغطت على موضع الإيجاب، وفعلت وضعبة مكبر الصوت، ثم ردت على زوجها بهدوء استحثته من داخلها بصعوبة:


-أيوه يا عاصم.


أتاهن على الفور صوت "عاصم" المتلهف قائلًا:


-حبيبتي إنتي مردتيش من شوية ليه؟ قلقت عليكي.


رفعت حدقتيها لها وتوسعت بسمتها المغترة، وأجابته وهي لم تزح نظراتها عنها:


-كنت بلبس عشان رايحة المتابعة بتاعتي ومسمعتوش.


استمعن إلى زفرة سريعة منه، تبعها قوله بصوت متفاهم قد خبا منه القلق:


-طيب محصلش حاجة يا حبيبتي، أهم حاجة تخلي بالك من نفسك، وطمنيني لما ترجعي.


تراءى لها العبوس الذي ملأ قسماتها، ولكي ترد لها الصاع صاعين، تقصدت سؤاله قبل أن تنهي المكالمة، مرددة:


-عاصم انت بتحبني؟


سألها باسترابة محسوسة في صوته:


-ليه بتسألي السؤال ده دلوقتي؟ في حاجة حصلت؟


ردت عليه بنبرة ثابتة، وما تزال عينيها تتبارى بالنظرات مع عيني الأخرى:


-لأ مفيش، بسأل عادي، بتحبني؟


أجابها بعاطفة قوية، وصادقة غير مشكك بها:


-طبعا بحبك، بحبك أوي كمان، انتي أغلى حاجة في حياتي يا داليا، ونفسي ترجعي عن عنادك وترضي إننا نرجع لبعض، أنا بجد ضايع من غيرك.


بهت وجه "مي"، وامتلأت عينيها بحقد عارم، في حين غمر الأخرى نشوة الانتصار، وبعد أن حرزت الهدف المنشود، قررت إنهاء المكالمة، قائلة له بفتور:


-أنا هقفل دلوقتي، هكلمك تاني، باي.


أنزلت يدها الممسكة بالهاتف، ورفعت رأسها في أنفة، وأخبرتها ببرود بابتسامة مستفزة:


-تعبتي نفسك على الفاضي، وضيعتي وقتك فعلا.


ضمت شفتيها في حركة معبرة عن غيظها المكبوت، بينما تابعت "داليا" بعد أن اشتدت ملامحها، واعتلاها الازدراء:


-شرفتي يا مي، وياريت متورنيش وشك تاني.


لم تعلق على ما قالته، بل كظمت غضبها، حتى لا تضيف ما يفتعل شجارًا، ستكون عواقبه وخيمة مع "عاصم"، بما إنهما ما يزالا متزوجين، وشيعتها بنظرة مشبعة بالغل، قبل أن تضع نظارة الشمس خاصتها على عينيها، واستدارت متوجهة نحو سيارتها، أدارتها على الفور وغادرت سريعًا من أمامهما. في تلك اللحظة سبتها "رفيف" بما كُتم في حلقها طوال تلك الدقائق المنصرمة:


-حيوانة.


رسمت "داليا" على وجهها تعبير هادئ وهي تحث صديقتها على التحرك مرددة:


-يلا.


قبل أن تتحرك، وضعت "رفيف" يدها على ذراعها، وسألتها في تفقد:


-انتي كويسة؟


هزت رأسها بدون أن تنظر لها، حتى لا تلاحظ الدموع التي تجمعت في عينيها، وردت عليها بعد أن بدأت في السير نحو السيارة:


-أيوه يلا.



❈-❈-❈


بمجرد خروجه من فيلا "هشام الكيلاني"، وأثناء قيادته، وقد اختلج صدره اختناق شديد، ناجمًا عن شعور الندم، الذي لا ينفك يداهمه، وينغص عليه راحته، كلما يتصادم مع أفعاله السابقة، من الذنوب المشينة، والأخطاء الفادحة، فهذا ما جناه من حصيدة الماضي، المهانة، الخزي، والندم. ولكن على الرغم من ذلك لا ينكر أنه قد استعاد بتلك المقابلة شعور قد انمحق داخله، وهو الاحترام لشخص يكبره عمرًا، فقد كان ولى من قاموص حياته، كل المعايير الأخلاقية، والدينية، ولرحمة ربه به، أن أراد له تغيير مسار حياته، لآخر يرضيه ويرفع من شأنه، فبعد كل تلك السنوات تغير نهج أفكاره، وأيقن أن ذو المكانة المرفوعة بين الناس، بسماته الطيبة، وأخلاقه الحميدة، وليس بسلاطته وقسوته المنفرة. فاق من شرده على صوت رنين هاتفه، معلنًا عن تلقيه اتصالًا، قبل أن يتفقد هوية المتصل كان متأكدًا من أنه الاتصال المنتظر، وعندما نظر بشاشة الهاتف، وصدق حدسه، انفرج ثغره ببسمة متهكمة، ثم استقبل المكالمة، وفعل وضعية المكبر الصوت، كسابق المرات التي هاتفه بها، ولكن الاحتلاف الوحيد الآن، هو الابتسامة المستمتعة التي تعلو وجهه، والتي زادت حينما آتاه صوته الغاضب مدمدمًا:


-الورق اللي معاك ده تبله وتشرب مايته، أنا وابوك اتبرأنا منه زمان، يعني لو فكرت تقدمه للنيابة، مش هتوصل لحاجة.


توسعت بسمته من ظفره بمبتغاه في تعكير سعادته، بنجاح لعبته الدنيئة، وبصوت هادئ باعث على الاستفزاز رد عليه:


-أيوه، بس لو فتحوا القضية من تاني وحصل تحقيق، سهل جدا يثبتوا عليك التهمة، خصوصا إن شغلك لسه مستمر لحد دلوقتي، وأكيد هتبقى سايب وراك اللي لو دعبسوا عليه هيودوك ورا عين الشمس.


صمت للحظة وتابع بنفس ابنبرة المغيظة:


-ده غير كمان إني انا اللي هبقى مقدم البلاغ بنفسي وانا ابن واحد من اللي اسمهم موجود، تفتكر هسوأ اسم ابويا وهثبت عليه تهمة قديمة زي دي وهيشككوا في كلامي وصحة الورق؟


قبل أن يدع له مجال للرد، أضاف بلهجة باردة:


-موقفك هيبقى وحش أوي يا توفيق ساعتها صدقني.


صوت أنفاسه المتلاحقة نفذت عبر الهاتف حتى أذنه، وباحتدام اعتلى نبرته هتف فيه:


-عااصم..


استنبط تهديدًا آخرًا سيلقيه على سمعه، لذلك حال دون تكلمه، هادرًا بحدة:


-ابعد عن طريقي يا توفيق بالتي هي أحسن، لو مش عايزني أجبها عليها وطيها فوق دماغك.


عج صوت "توفيق" بالشر وهو يخبره:


-لو انت اللي مش عايزني أحطك في دماغي الورق ده يبقى عندي.


انشق ثغره للجانب ببسمة ساخرة، ثم علق باستهزاء:


-وانا عشان متحطنيش في دماغك، احط أنا رقبتي تحت رجيلك، إزاي يا جدع؟


على ما يبدو أن أسلوبه استفزه، وصاح محذرًا إياه بخشونة:


-عاصم، اللعب معايا أخرته وحشة، ومش هتعجبك.


عقب باستخفاف متقصد منه لإثارة غضبه بشكل مضاعف:


-وانت عارف ان التهديد مش هيجيب نتيجة معايا.


ثبط من عصبيته لكيلا يظهر غضبه أكثر من ذلك حتى لا يحقق له غايته في رؤيته على ذلك الطور، وسأله بأنفاس متهدجة:


-يعني إيه يا عاصم؟


لفظ نفسًا مطولًا، وهو ينظر إلى الطريق أمامه، متعمدًا إطالة مدة صمته ليزيد من ثورته، ثم أخبره بجمود:


-يعني من الآخر لو مش عايزني افتح العين عليك واخلي الحكومة تنخرب وراك، ويبدأوا بقى يشوفوا الغنى الفاحش ده إيه مصدره، ويسألوك من أين لك هذا، ابعد عن طريقي.


رد عليه "توفيق" بعد صمت دام للحظات، وهدده بصوت غير مريح نهائيًا:


-ماشي يابن كمال، أنا نصحتك، في الآخر مترجعش تقول يارتني.


ألقى الهاتف -بعدما تأكد من إنهائه للمكالمة- على المقعد بجانبه، وزادت تعبيرات وجهه جمودًا، جزء بداخله مستريب مما قد تقوده إليه أفكار الآخر الشيطانية، الخالية من أي شعور بالذنب أو الندم، ولكن فأي ندم ذلك قد يراود شخص يفني حياة الأبرياء بسموم على هيئة دواء؟