-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 45 - 2

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل الخامس والأربعون

الجزء الثاني

عودة للصفحة السابقة

❈-❈-❈




بالرغم مما انتابه من هواجس، إلا أن بعض الراحة قد تخللته، كونه استعاد في حوزته مجددًا ما يدينه، ولهذا لن يكون في مقدوره أن يطاله بأي ضربة غادرة، وكل ذلك يعود الفضل فيه بعد المولى عز وجل إلى السيد "هشام"، فبعدما قد ظن أنه رفض مساعدته، وجده لم يتخلَ عنه، وفاجأه عندما أمر رجال حراسته بمنعه من المغادرة، مخبرين إياه بأن رب عملهم يريده في الداخل، وحينما عاد أدراجه، وعلى وجهه كل معالم الحيرة، وجده واقفًا أمام باب الفيلا الحديدي، أعلى درجات السلم القليلة التي كانت تفصل فيما بينهما، ترجل "عاصم" من السيارة، في نفس الوقت الذي نزل فيه "هشام" تلك الدرجات المعدودة، وعندما أضحى قبالته، سأله "عاصم" باستغراب:


-نعم يا هشام بيه؟ رجالتك بلغوني إنك عايزني.


صمت "هشام" لهنيهة، قبل أن يقول له بصوته الرخيم:


-الورق مش معايا هنا.


تهللت أسارير "عاصم" واختفى شحوب وجهه، وسأله على الفور:


-امال فين؟


رد عليه ببسمة طيبة تحمل كل معاني الإنسانية:


-في خزنة الشركة، بكرا هيبقى عندك.


تحفز "عاصم" في وقفته، وبعجلة واضحة طلب منه:


-أنا عايزه دلوقتي يا هشام بيه بعد إذنك.


حدجه بنظرة غير راضية، معلقًا بإيحاء مقصود:


-انت طالعله في كل حاجة كده.


فطن أنه يرمي بجملته على استعجاله في نيل ما يريد، مشابهًا في تلك الصفة لوالده الراحل، آثر "عاصم" الصمت، ولم يأخذ ذلك التشبيه على محمل الجد، حينئذ أخرج "هشام" هاتفه من جيب بنطاله باستسلام، وقام بإجراء مكالمة، استنبط من كلماته التي ابتدأ بها الحديث مع الطرف الآخر، بإنه يهاتف ابنه، على الرغم من عدم ذكره اسمه، ومع انصاته لباقي ما يقوله استنتج التالي، والذي أفصح عنه له بعدما أنهى المكالمة، مرددًا:


-الورق جاي على هنا، تعالى جوا نشرب حاجة لحد ما يوصل.


أومأ برأسه بالموافقة وتبعه إلى الداخله، وشعور بالتعجب قد راوده حيال عدول الآخر عن قراره، ومع ذلك ظل ملتزمًا الصمت. أنزل كوب القهوة الذي أعتدته له الخادمة عن فمه، ناظرًا نحو الآخر بانتباه عندما تكلم بنبرة متريثة:


-عارف أنا رجعت في  رأيي ليه؟


لاح في نظراته الحيرة من موقفه الغير متوفع، بعد تلك المقابلة الجافة، ولهذا لم يعلق، بل أظهر عدم علمه الواضح، لذلك تابع "هشام" دون انتظار ردًا منه، قائلًا ببسمة محبة:


-عشان أنا لسه بحب عاصم الصغير، اللي كان بييجي مع أبوه الشركة، ويفضل مقضي اليوم كله معايا، وميتحركش من على رجلي.


انفرجت شفتاه "عاصم" ببسمة باهتة، ليس تمت للتبسم بصلة، في حين أكمل الآخر على نفس الشاكلة المشوبة بحب الأبوة الصادق الذي كان يكنه له مسبقًا:


-أنا شيلتك يا عاصم قبل ماشيل مجد ابني، حبيتك، وكان نفسي تتربى على إيدي، مكانش نفسي تاخد حاجة من طباع ابوك.


مع تلك الكلمات المشبعة بالود لم يستطع "عاصم" النبس بكلمة، بل أنه أخفض نظره في حرج من تلك المعاملة طيب رغم سابق أفعاله المؤذية معهم، وبقى منصتًا له وهو يضيف بجزع:


-ابوك فهمك ورباك على حاجات كتير غلط، ومنهم اني عدوه، والسبب في سجنه، ونسى إن هو السبب في دخوله السجن بشغله الغير مشروع اللي عمله باسمنا، يعني كان ممكن بسببه روحنا كلنا في داهية واتدمر مستقبل ولادنا.


توقف عن التحدث، مما استرعى اهتمام "عاصم" ورفع عينيه له، وجده ينظر للفراغ أمامه، وقال بلهجة اكتسبت نوعًا من الأسى:


-نسى إن هو اللي خلاني عدوه من الأول خالص من غير ما يلاقي مني أي حاجة وحشة، وكل ده عشان مراتي حبتني واختارتني انا، ومختارتوش ورفضت حبه.


قطب جبينه من تصريحه الصادم، وعلى الفور هتف مستشفًا ما فهمه:


-بابا كان بيحب نجوى هانم!


عاد للنظر له وبعدم انشق جانب ثغره للجانب، ببسمة هاكمة، أردف بتأكد:


-طبعا متعرفش حاجة عن الكلام ده، ما اصل هيوقلك إيه، انتقملي منه ومن عيلته، عشان اتجوز الست اللي بحبها.


ازدادت صدمة "عاصم" من تأكيده على ما قال، وهذا ما لم يكن على علم به نهائيًا، ولكن على ما يبدو أن تلك هي المرأة المجهولة الذي لم يعشق والده سواها، وبينما غرق في دوامة افكاره، اطنب "هشام":


-كان لازم يعبي دماغك بكلام كله كدب وافترى، كان لازم يزرع الحقد والكره جواك ناحيتنا، عشان تنفذله كل اللي يقوله، عمياني من غير ماتعرف الحقيقة، ومايبقاش في ذرة ندم جواك ناحية الراجل اللي حبك وشافك ابنه، وناحية ابنه اللي كان صاحبك ومكانش بيفارقك.


تشوش ذهنه، وعجز عن فهم أبعاد العداوة الحقيقية التي كانت قائمة بينه وبين والده، وهل حب والده لزوجة صديقه كان هو السبب الرئيسي بها كما استنتج، أم ماذا يقصد بالتحديد؟ وراح لسانه ينطق بتخبط:


-أنا مش فاهم حاجة، يعني إيه بابا كان بيحب نجوى هانم؟ وبقيتوا أعداء ازاي؟


بالرغم من استعادة ذهنه استحضار تلك الذكريات البغيضة، أمرًا ليس يسيرًا عليه، إلا أنه أراد ان يوضع له الحقيقة المخفية عنه، بما أن الفرصة قد أتيحت له، ومع كل موقف كان يقصه عليه، كانت تعبيرات "عاصم" تتفاوت في دراجات الصدمة ما بين التفاجؤ والاستغراب والدهشة، وعندما انتهى من استرساله بداية تلك الأحداث، تنفس نفسًا مطولًا، وأخبره بصدق غير مبتذل:


-صدقني يا عاصم انا كنت هختار صحوبيتنا وانسى حبي لنجوى، حتى بعد حسيت بإن مشاعرها متحركة ناحيتي، ولاحظت ميلها ليا، وقتها قلت إن مفيش حاجة هتعوضني عن صاحب عمري، بس هو اللي خلاني ارجع عن كلامي لما حاول يعتدي على نجوى.


شعر "عاصم" بالخزي من سوء أفعال والده، التي تجلب عليه العار منذ ولادته، ولكنه في تلك اللحظة أبصر حزنًا شديد، اعتلى وجه "هشام"، كما امتزج في صوته وهو يكمل:


-شوفت في عينه كره ليا، حتى لما اتخانق معايا لما دخلت وبعدته عنها، مكانش بيخرج طاقة جواه قد ما كنت حاسس إنه عايز يخلص مني، كان بيخنقني بكل عزمه كأنه عايز يطلع روحي في إيده، لولا يحيا اللي بعد بينا، ووقتها كمال عاش في دور الضحية وساب الشغل.


تغضن وجهه من تصريحه عن أمور دائمًا ما تعيد لنفسه نفس الشعور بالخذلان، وقال ببؤس:


-ولما رجع بعد ما يحيا صالحنا على بعض، كان راجع لأهداف دنيئة في دماغه، وهي إنه كان عايز يوقعلي الشغل اللي بعمله، عشان يهدم صداقتي بيحيا لما يلاقيني بهد في اللي بانيناه في سنين، وعشان كمان يعرف يوقع بيني وبين نجوى صح، خصوصا لما عرف إن فرحنا قرب.


كل تلك المصائب كان يسعى لها والده من البداية؟ أين من بين كل ذلك ما أقنعه به والده لأعوام طويلة! وظل يسمم به أذانه! ظل على حالته المشدوهة وهو يستمع لباقي قوله:


-وفعلا نجح إنه يفض الشراكة اللي بينا، بس اللي منجحش فيه هو إنه يبعد نجوى عني أو يشككها فيا، وده لإنها كانت واثقة فيها، وكانت فهمت ألاعيبه كويس أوي، عشان كده فضل حاططني في دماغه، وزاد الغل جواه ناحيتي بعد جوازنا.


ارتشف آخر رشفة من كوب قهوته، وبينما يبلعه وضعه فوق الطاولة، وعاد بظهره وهو يستطرد:


-بعد فترة وقع في إيدي ملفات لشغله المشبوه، اللي حاول يخفيه عننا بكل الطرق، واللي لما اكتشفه موظف غلبان لا حول له ولا قوة، عشان كان عايز يفتح عينينا على اللي بحصل من ورانا، مرحموش ويتم ابنه.


هنا وابتلع "عاصم" ريقه بتوتر، فذلك الموظف لم يُقتل على يد والده، وإنما على يديه هو، صم أذنيه للحظة عما يقوله الآخر، ولكنه سريعًا ما عاد يستمع إلى ما يفوه به بشرح مسهب:


-الملفات دي كانت موجودة في الأرشيف، كانت الشراكة خلاص اتفضت، وكل واحد بيجمع في أوراقه، وفي وسط اللبخة اللي كنت فيها لقيتها صدفة، كأن ربنا أمر بأنه يفضح ستره، ويعرفنا بالمصيبة اللي كان حاططنا فيها، لما قرأت الملفات دي ولقيت الصفقات عاملها باسم الشركة.


تفشى التجهم بوجه "هشام" وهو يتابع:


-ولما قررنا نواجهه باللي عرفنا مأنكرش، ساعتها من كتر غلي، وإني مقدرتش اتخيل كم الناس اللي اتأذت، وماتت بسببه هددته إني هبلغ عنه، مقدرتش أبقى شيطان أخرس، عارف إنه بيموت في أرواح بريئة وأسكت، وخصوصا إني كنت شايف في عينيه تصميم على إنه يكمل في الطريق ده، ويحيا كمان هدده معايا، مكناش عايزين نبقى شركا معاه بسكوتنا، بس كرهه ليا خلاه يتعمد أذيتي أنا لواحدي، وخطف بنتي عشان يجبرني أديله الملفات دي.


غامت عينا "هشام" خلف حزنٍ بالغ، وأخبره:


-بعد كده أكيد عارف إيه اللي حصل، مش محتاج إني اكمل.


أطرق برأسه أرضًا، وقد انتابه شعور هائل بالصدمة، لقد حقنه والده بالأكاذيب، وجعله يشن حروبًا مجحفة على أناس أبرباء من ادعاءاته، حتى خسر وجودهم الطيب في حياته، وبات شيطانًا مرئيًا في نظرهم، وليس ذلك فحسب بل أنه أضحى بالنسبة لهم قاتلًا منذ صغره للشخص الذي اكتشف كوارث أباه المشينة، وفي تلك اللحظة استرعى اهتمامه معرفة "هشام" بالقاتل الحقيقي لذلك الموظف الذي أتى على ذكره، وإن كان يعلم أنه هو من أزهق روحه؛ كيف يراه؟ أيراه بريئًا أم قاتلًا؟ دافع بداخله راح يحثه على الاستفسار، علّه يبريء نفسه من ذنب دُمغ به بدون ذنب، وقبل أن يحول أي تفكير دون ذلك، أطلق العنان لنفسه وتكلم إليه مستشفًا:


-بما إنك عارف بالموظف اللي كان هيفضح أمره قدامكم بخصوص الصفقات اللي كان بيعملها، أكيد عارف مين اللي قتله.


من الأكيد أن "مجد" قد حكى له عن ذلك الأمر، الذي سبقة وقد علمه من فمِ "عاصم" يوم وفاة والده. زم شفتيه للحظة، في تعبير ينم على الأسى على حال ذلك الطفل الصغير، الذي دفعه والده بجبروته لارتكاب مثل تلك الجريمة الشنعاء، وأخبره بجدية:


-أبوك اللي قتله يا عاصم، انت كنت طفل بريء مش فاهم حاجة، متشيلش نفسك ذنب زي ده ملكيش يد فيه.


انفرج ثغره ببسمة بائسة، تخلو من الحياة ثم قال له بشجن:


-تعرف إنه كان يومها قاصد ياخدني معاه عشان يوريني الراجل وهو بيموته.


تأثر وجه "هشام" من عبارته، فهو رغم معرفته بدنائة "كمال" إلا إنه لم يتخيل تعمده تلويث نقائه بتلك الطريقة الشنيعة، بينما تابع "عاصم" بنبرة كسيرة:


-قال لامي كده بعد مانا اللي موته، قالها إنه كان عايز يموت قلبي، عشان لما اكبر ابقى دراعه اليمين، كنت عيل صغير وسمعته وهو بيقول الكلام ده، وأمي قدامه منهارة، وبتعيط على منظري اللي كنت راجعلها بيه.


سحب نفسًا طويلًا ليثبط الاختناق الذي داهمه، ثم أكمل:


-نسى إني كان ممكن اموت من منظر الدم وإن واحد روحه بتطلع قدام عيني، وعلى إيدي.


حز في قلب "هشام" وصفه، وظل منصتًا إلى تكملة حديثه الشجي:


-يعني هو كان ناوي يموته هو، بس غير رأيه وقتها، لما شافني بلعب في المسدس ومبهور بيه، أصل كان اول مرة اشوف مسدس حقيقي.


انفلتت ضحكة خالية من كل معاني التبسم، بل على النقيض؛ كانت تملأها الأسى، وأكمل بعد لحظات معدودة:


-بس وقتها مكنتش اعرف انه حقيقي، كان بالنسبالي مسدس زي أي مسدس من اللي عندي، بس شكله مميز شوية، واتقل، وهو لما لاحظ إعجابي بيه، ابتذني، ابتذ طفل بحاجة بيحبها.. عشان يدهوني أضرب منه على الراجل، خلاني اقتل.


قال آخر عبارة بصوت ارتفعت نبرته، كأنه يذكر نفسه بمساويء أبيه في حقه، وتأثرًا لذلك ترقرق الدمع بعينيه رغمًا عنه، وتابع:


-هو على فكرة ساعتها فعلا نجح في إنه يموت قلبي، بس هو موته من الخوف، اللي فضل سنين جوايا، وشبح البني آدم اللي قتلته بيطاردني في أحلامي، رغم إني مكنتش عايز أذيه، ولا قاصد اقتله.


ضعف صوته في آخر قوله، وبصعوبة ابتلع الغصة المريرة التي تكونت في حلقه، وراح يخبر باطناب:


-نظرات ماما المقهورة عليا وانا نايم على السرير برتعش قدام عيني لسه، ودموعها اللي منشفتش طول الليل، صوتها لسه سامعه في وداني وهي بتقولي أنا مش هسيبه يضيعك.


انشق ثغره بشبح ابتسامة ساخرة، فعلى ما يبدو أن كل ما يقصه يثير الهزو وليس الشفقة، التي لا يود أن يراها في عيني أحد، وبعدما توقف عن الحديث، توقفًا طبيعيًا حتى يضبط نفسه، استطرد:


-من وقتها وماما كانت بتحارب بكل جهدها في إنها تبعدني عن الطريق اللي بابا كان ماشي فيه، وزادت مشاكلهم بسببي، حتى إنها أصرت إني ادخل هندسة، عشان ابقى بعيد عن شغل الأدوية اللي بيتاجر فيها.


مط شفتيه كحركة تلقائية تفاعلًا مع حديثه البائس، ثم قال:


-يمكن بابا مقدرش يقف قصادها في كل ده، بس قدر إنه يتحكم في دماغي، ويشكلها بالطريقة اللي هو عايزها، لحد مابقيت زي ماقلت، طالعله في كل حاجة.


زفر نفسًا ساخنًا، نابعًا من صدره الذي اختنق مع كل ما استرسله، حتى بات يشعر بحجر يجثم عليه، وحتي يخفف من ذلك الإحساس، ظل يزفر أنفاسً متتالية، إلى إن شعر بتحسن طفيف، وقتها عاد ببصره نحو "هشام"، الذي لم يبعد ناظريه عنه منذ بداية الحديث، وسأله لسه ببسمة مفتعلة:


-صدعتك مش كده؟


رغمًا عنه رق قلبه له، فكل ما حكاه بذلك الوجع، جعله يبرر له أفعاله ومساوئه، فقد كان تأثير والده عليه كبيرًا، جعله معميًا عن الصواب لسنوات، وبكن على ما يبدو أنه قد فاق بعد وفاته، وبما أنه الآن يصلح ما افسده والده في نفسه، فهو لن يكون سببًا في التقليل من عزمه، لذا ارتسمت بسمة ودودة على فمه، وقال له برفق:


-أبدا يا عاصم، بالعكس، أنا فرحت إنك فتحتلي قلبك، واعتبرتني زي ابوك.


على فور تلفظة بكلمته الأخيرة، حتى هب "عاصم" قائلًا بنفي شديد:


-انت مش زي ابويا يا هشام بيه.


لم يكن من الصعب عليه فهم المضمون، الذي يحمل تعظيمًا لشأنه، وليس تقليلًا بالطبع، وبينما كاد يتكلم إليه، حتى استمعا كليهما إلى صوت طرقتين على باب الغرفة، الذي هو مفتوحًا بالأساس، واتبع ذلك دخول أحد رجال حراسته، وبيديه ملف، استنتج "عاصم" أنه الملف المنتظر، وعندما أصبح في مقابلة "هشام" أكد له حدسه عندما ردد للآخر:


-الورق ده مجد بيه باعته لسعادتك مع موظف من الشركة.


أومأ له بهزة بسيكة من رأسه، ثم أشار على الطاولة وهو يقول له:


-تمام، سيبه هنا.


وضعه عند الموضع المشار عليه، ثم استقام بجسده، وسأله باحترام وتوقير:


-تؤمرني بحاجة تانية سعادتك؟


رد عليه بلهحتة الطيبة نافيًا:


-لا يا محمد، ارجع انت لشغلك.


انصاع الحارس لأمره، وغادر الغرفة على فوره، في حين نهض "هشام" عن جلسته، والتقط الملف، ومد يده به ل"عاصم"، الذي نهض بدوره في تلك اللحظة، وأخذه من يده، ثم قال له بامتنان:


-شكرًا يا هشام بيه.


تبسم في وجهه، ورد عليه بنبرته الأبوية الحانية:


-مش محتاج تشكرني يا عاصم، انت زي ابني وكان لازم اقف جنبك في محنتك، واحط أي خلافات او مشاكل بينا على جنب.


ارتجف قلبه من تلك المعاملة الحانية، التي تضعه تحت وطأة تأنيب الضمير، بلل شفتيه وقال له بحرج:


-بس أنا عايز اشكرك.. مش على الورق.


ثبت "هشام" نظره عليه، وهو يكمل بصوت معبأ بالندم:


-أنا بشكرك إن معاملتك ليا بعد كل اللي عملته فيكم لسه متغيرتش..


التمعت عيناه بالدموع مجددًا وهو يكمل بصوت اهتز:


-بشكرك عشان حسستني إني رجعت تاني لعاصم الصغير اللي كان بيحب أونكل هشام وبيسيب ابوه عشان يفضل قاعد معاه في مكتبه.


عادت البسمة الحانية لوجهه، وهو يناظره بنظراته الدافئة، وقال له برفق:


-وأنا نفسي عاصم ده يرجع تاني أوي، ويعتبرني أب ليه، وييجي يزورني علطول.


انسابت دمعة من أحد عينيه، مسحها على الفور وهو يخبره:


-هاجيلك.. أخلص بس من المشاكل اللي واقع فيها وهتلاقيني عندك علطول.


ربت "هشام" على ذراعه، ورد عليه: 


-وأنا مستنيك.


ثم ما لبث أن أضاف حينما وجد "عاصم" متحفزًا في وقفته:


-مع السلامة يابني.


نفذت عبارته عبر شغاف قلبه، لتجعله يهتز داخليًا، ورد عليه بتؤثر وهو يشرع في السير:


-الله يسلمك يا عمي.


نفس الدموع المتأثرة بذلك الحنان الذي افتقده طوال حياته، حتى أنه لم يسبق أن نداه والده ببني ليظهر له عاطفة أبوته، ترقرقت بها عينيه الحين إثرًا لاستعاده كل ما قاله برأسه، ولكنه نفضها سريعًا عن طرفيه، حتى لا تؤثر على رؤيته للطريق خلال قيادته، وأثناء ذلك طرأ بذهنه أمر زوجته، وشعوره بالاسترابة ما يزال متمكنًا منه من طربقة تحدثها عبر الهاتف منذ برهة، وسؤالها المباغت، الذي ما إن حصلت على إجباته أنهت المكالمة سريعًا، مد يده نحو الهاتف الذي ألقاه فوق المقعد جواره، حتى يهاتفها ثانية، ليطمئن عليها، إلا أنه منع نفسه، وأرجأ الأمر إلى حين الذهاب لها مساء اليوم، حتى تكون عادت من المتابعة، ويستطيع حينها يهدوء إقناعها بالعودة معه إلى الفيلا، فهو يشعر بإنه إن ازداد في إلحاحه تلك المرة ستخنع له، وما عزز من ذلك الشعور، الحميمية التي كانت سائدة بينهما الليلة الماضية، وكذلك حنينها الذي كان ظاهرًا بشدة عليها، مما جعله متيقنًا من اقتراب إذعانها له إن ضاعف جرعة الأشواق بينهما.



❈-❈-❈


كان من الصعب عليها أن تواري حزنها أمام صديقتها، خاصة وأنها مجاورة لها في المقعد الخلفي من السيارة، ترى تكشيرة وجهها، والدموع التي تنهمر بين الفنية والأخرى على وجنتها، ولكنها لم تحاول النبس بكلمة، أو منعها من التعبير عن حزنها، وإخراج ما يجيش بها صدرها، فما فاهت به الأخرى كان قاسيًا، وجارحًا لكبريائها، لذلك تركتها تنفس عن مكنوناتها. لم يجف الدمع من عينيها طوال الطريق، تنظر بنظرات شاردة عبر النافذة المجاورة لها، ولا يسعها التصديق، بأنه هان كرامتها أمام تلك الساقطة، وأفشى لها عن أسرار علاقتهما الحساسة، فهي لأول مرة ترى نظرة غريب لها بتلك الطريقة الوضيعة، لأول مرة تُهان على يد امرأة، وكل ذلك بسببه. رفعت يدها لتجفف دمعة نافرة، فهي لا تود أن تظهر ضعفها، يكفي إلى ذلك الحد، تلك المرة لن تتراجع عن قرارها، ولن سكون هناك أي سبيل للعودة في تلك العلاقة السامة، والمهينة، وخلال ذلك ارتج جسدها في السيارة بقوة، ومن جوارها "رفيف" شهقت شهقة عالية، حينها شخصت أبصارها بهلع، ونظرت من النافذة، لترى ما الذي حل في لحظة ليهز السيارة بشدة بصورة فجائية هكذا، وجدت سيارة تتعمد الاقتراب من خاصتهم، وبغتة كررت فعلتها باصطدامها بسيارتهم، وقتئذ من قوة الارتطام المقصود من ناحية السيارة الأخرى، هتفت "رفيف" بخوف:


-إيه ده في إيه؟ 


وضعت "داليا" يديها بشكل غريزي فوق بطنها، لتحمي جنينها، وسألت السائق بخوف:


-إيه اللي بيحصل يا عم محمود؟


أجابها العم "محمود" بتوتر وهس يحاول أن يتفادى حركات السيارة المتهورة:


-مش عارف يابنتي في إيه.


مرة ثانية اهتزت سيارتهم بفعل الأخرى، صرختا الاثنتين، فقد كان الاصطدام تلك المرة أشد من السابقتين، تمسكت "رفيف" بإحدى يديها بالباب وبالأخرى ثبتتها فوق المقعد وصاحت بصراخ متخوف:


-مين الناس دول؟ عايزين مننا إيه؟


بارتجاف شديد مدت "داليا" يدها بداخل حقيبتها، ودقات قلبها متزايدة، تحاول الثبات مع الهزات المتتالية للسيارة، وحركتها الهوجاء الغير آمنة، وأثناء بحثها عن الهاتف، هتفت بضيق مشبع بالارتعاد:


-فين تليوفني؟


عندما ازداد سائق السيارة الأخرى في حركاته الخطيرة، هدرت "رفيف" بريبة، وعيناها توسعتا رهبةً:


-دول هيقلبوا العربية.


ابتلعت "داليا" ريقها بخوف، وبعد بحث دام لعدة لحظات أخيرًا وجدت هاتف في أحذ زوايا الحقيبة، أمسكته بيد ترتعش، وهتفت وهي تأتي برقم زوجها:


-انا هتصل بعاصم.


لحظة قليلة وأتاها رده، حينها صرخت باستجداء وجسدها يتمايل في السيارة:


-عاصم.. الحقني يا عاصم.


رد عليها بصوت ظاهرًا به الارتعاب والقلق:


-في إيه؟


أخبرته على الفور بصوت قارب على البكاء من شدة ارتياعها:


-في ناس بيخبطوا في عربيتي.. هيقلبوها يا عاصم.. آاه.


أطلقت صرخة شديدة جعلت "رفيف" تجفل في موضعها، وعلى ما يبدو أنها أوقعت قلب "عاصم" الذي هدر بتساؤل مرتاع:


-داليا، داليا إيه اللي حصل؟


لم ترد عليه بسبب الألم الذي عصف برأسها، فقد ارتطم جانب رأسها بحد زجاج النافذة، الذي كان مفتوحًا لمنتصفه، رفعت يدها وخللت أصابع بداخل خصلاتها، متفقدة ذلك الموضع، وعبر الهاتف "عاصم" يكرر ندائه بصوت مرتعد:


-داليا ردي عليا، إيه اللي حصل؟


عندما انزلت يدها وجدتها لُطخت بالدماء، حينها صرخت "رفيف" بهلع، ورددت بنفس النبرة الصارخة بشدة:


-دااليا!


❈-❈-❈


بقلب يقرع كالطبول يقف في الردهة الطويلة، بالمشفى التي توجهت إليها "داليا"، بعدما فرت السيارة هاربة، وذلك عندما لمح أحد المتواجدين بها، الدماء التي غرقت جانب وجه "داليا"، كانت أعصابه ترتجف، وكلما تجسد أمام نظره صورتها والدماء تسيل من رأسها يزيد قلبه خفقانًا. لم يكن بحاجة للتفكير في ماهية الفاعل، فبعدما قص عليه السائق تفاصيل ما حدث، تأكد من أنه "توفيق" هو من دفع تلك السيارة لفعل ذلك، ولكن ماذا كان يريد؟ هل يريد قتل زوجته لأنه أبقى في حوزته ثانية مستندات تدينه؟ وأثناء وقوفه متلبكًا، لم يدلف بالطبع لخوفه المرضي من الدماء، ولكن كامل تفكيره وتركيزه مع على زوجته المتواجدة بداخل الغرفة يخيط لها الطبيب جرحها، بصحبتها صديقتها، اهتز الهاتف في يده، متبوعًا بصوت رنين يعبر عن تلقيه رسالة، في بادئ الأمر تجاهل الرسالة المبعوثة، ولكنه بغتة -بعد مضي بعض اللحظات- رفع الهاتف لوجهه بعدما ضغط بإصبعه إلى موضع البصمة، وفتح الرسالة سريعًا، وقد صدق حدسه عندما رأى فحواها، فقد كان تهديدًا من ذلك المجرم، يثبت شكه نحوه، وكان مضمون ذلك التهديد، أنه بقدرته فعل المزيد إن لم يحصل على الملفات التي معه، ضغط على أسنانه بغل شديد، وما كاد يرفع وجهه، حتى جفلت عيناه من هجوم أحدهم عليه، شخص بصره عليه ليجده "جاسم"، اندفع نحوه وأمسكه من تلابيه، ودمدم بصوت هادر:


-عملت إيه في مراتي يا عاصم؟


ازداد غضب "عاصم" من مسكته، وصاح به بعصبية لا تقل عنه:


-نزل إيدك يا جاسم.


عقب على صياحه، بكلمات تتشبع بالكراهية:


-انزل ايدي! ده انا هقتلك النهارده.


اتبع آخر قوله بلكمة قاسية في فكه، مال بوجهه وهو يسحق أسنانه، فقد ضاعفت ضربته من ثورة أعصابه، ولم يلبث أن رد له اللحة بانفعال أشد، وقتئذ هاج "جاسم" بصورة شديدة، ودفعه من صدره نحو الحائط، وضغط بساعده فوق عنقه، وزعق به بشدة، وعروق نافرة:


-مراتي حصلها إيه؟ انطق.


حتى يزيحه عنه قام بضربه بركبته في بطنه، وما كاد يبتعد عنه "جاسم" بتأوه مكتوم، حتى باغته بلكمة أخرى، أتى في تلك الأثناء أخوه مهرولًا، الذي قد هاتفه "عاصم" بعد مكالمة "داليا"، حال بينهما بجسده وقال مهدئًا من ثورتهما الهوجاء، وهو يفرق نظراته فيما بينهما:


-اهدى يا جاسم، خلاص يا عاصم، مش كده يا جماعة احنا في مستشفى.


نجح "عز الدين" في الفثل بينهما، ولكنه لم ينجح في كبح جماح الآخر، الذب هتف من ورائه بتهديد صريح:


-هقتلك يا عاصم المرادي لو رفيف حصلها حاجة، والله لقتلك.


فارت دماء "عاصم"، ولم يستطع الإمساك به، حينها ثار وهتف موجهًا كلماته لأخيه:


-ابعد البني آدم ده عن وشي السعادي، أنا أعصابي مشدودة ومش عايز أطلع نرفزتي عليه.


هجم عليه "جاسم" ثانيةً، ولكن "عز الدين" وقف قبالته، مما خال دون وصوله إلى الآخر، ولكنه تشدق بوقاحة مستفزة:


-تعالي وريني نفسك، متتحاماش في أخوك.


من شدة نرفزته، وعدم قدرته في الوصول إليه بسبب أخيه ضرب بيده الحائط جواره بانفعال جم، بينما صاح "عز الدين" في الآخر يعاتبه بجدية:


-مينفعش كده يا جاسم بيه، احنا في مستشفى والناس بتتفرج علينا.


التفت له "جاسم"، وعلق بنفس اللهجة الثائرة:


-واللي ينفع إن مراتي تتعرض للموت كل شوية من تحت راسه.


أخبره "عز الدين" على الفور:


-مراتك محصلهاش حاجة.


صاح مجددًا بعلو صوته، متسائلًا:


-وهي فين؟


استمع لصوت زوجته -التي لتوها انتبهت إلى صوت الشجار الدائر خارح الغرفة، والذي كان صوت زوجها ظاهرًا بقوة- تهتف باسمه:


-جاسم.


ركض نحوها وتفقدها بنظراته وهو يضم ذراعيه بكفيه، سائلًا إياها بخوف:


-انتي كويسة؟ مفكيش حاجة؟


أومأت له برأسه عدة مرات، وأجابته بلهجة مطنئنة:


-أنا كويسة متخافش، محصليش حاجة، داليا اللي دماغها اتفتحت وبتتخيط جوا.


في تلك اللحظة خرج الطبيب من الغرفة، هرول نحوه "عاصم" وسأله بارتياع، وقلب ازداد نبضه من جديد:


-خير يا دكتور؟



❈-❈-❈



اندفع بداخل الغرفة، بخطوات متلهفة، بعدما اطمئن من الطبيب قليلًا حيال توقف الدماء، وخياطة الجرح النازف، وجدها جالسة على طرف الفراش، متصلًا بيدها إبرة المحلول المغذي، ليعوض ما فقدته من الدماء، كانت مطرقة الرأس، ما جعلها ترفع عينيها له، هو ندائه المتلهف:


-داليا.


دنا منها وأمسك بجانب رأسها، وهو يسألها بقلق:


-حبيبتي انتي كويسة؟ أنا كنت هتجنن عليكي.


حدجته بعينين تعيستين، ينزان ألما، ظن أن ذلك الألم راجعًا إلى تألم موضع الجرح، ذهبت بؤبؤا عيناه تلقائيًا نحو جانب رأسها، وسألها مجددًا بتلهف:


-دماغك وجعاكي؟ حاسة الجرح واجعك؟ 


تغرغرت عينيها بالدموع، حينها سألها على الفور بنفس النبرة:


-طب حصل حاجة للحمل؟ مفيش نزيف حصل؟


انسابت دموعها على وجنتيها، ولكن نظرتها جعلته يستريب تجاه حدوث شيء، مما جعله يتساءل بتوجس:


-مالك يا داليا بتبصيلي كده ليه؟


رطبت شفتيها، ونهضت عن جلستها، ولكنها لم تتحرك لاتصال يدها بأنبوبة المحلول، وبكل عزمها، وخيبة أملها، هوت بيدها فوق وجنته، لم يتحرك وجهه، أو يهتز له جفن، ولكن صدمته ألجمته عن التفوه بكلمة، في حين هي قالت له بقهرة شديدة:


-أنا بكرهك يا عاصم.


نفذت عبارته كالنصل الحاد عبر قلبه، ولم ترحمه هي وتتوقف عند تلك الجملة القاسية، بل إنها طلبت منه بتصميم:


-المرادي انت لازم تطلقني..


لم يكد يستفيق من صدمات عباراتها المتوالية، حتى أكملت بصراخ منتحب، جعل عيناه تتوسع على بصدمة مضاعفة:


-أنا مش هقبل ابقى على ذمة راجل واطي معندوش أمانة بيتكلم في شرف مراته مع واحدة زبالة زيه متسواش.


يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة شيماء مجدي من رواية مشاعر مهشمة الجزءالثاني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية