-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 46

 

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل السادس والأربعون



لمتى عليه أن يتحمل كل تلك البلايا التي لا تنفك تحل على رأسه؟ وكيف يمكنه النجاة من طوفان المصائب المتوالية؟ الذي يجرفه دون هوادة للغرق في دوامته، ليضحى صريعًا للإحباط، وفقدان الأمل في حياته، ولكن أي حياة تلك؟ فهو لم يعد يرى بها أي بصيص نور، يجعله راغبًا في العيش بها، فلقد انطفأ به روح الحياة، وفقد قدرته على مقاومة الأحزان، حتى تحطم قلبه من كثرة الأشجان، وبات يجزم أن ما بداخله ما هي إلا كومة من المشاعر المهشمة. 


وجهه مشتد بصورة شديدة، وبجانبه أخوه يحاول قدر المستطاع أن يهدئ من هياجه، ويثبط من انفعاله، فمنذ أقل زوجته -التي كانت رافضة وجوده بشدة في محيطها- إلى بيتها، واطمأن على أحوالها، عاد كلاهما إلى الفيلا، ومن وقتها لم يجد "عاصم" ما يفرغ به غضبه، غير الصياح الذي استمر لما يقرب من الثلاث ساعات، منذ عودته لم يكف عن الشكوى لأخيه، بصوت تمزق من علوه، والمؤسف أنه كان هديرًا ممزوجًا بالقهر.


فما يمر به يقوده لا محالة إلى فقدان كل من أعصابه وراحته، وأكثر ما يتعرض له قسوةً بين كل ذلك، هو ظلم "داليا" المستمر، وإجحافها بإنساب اتهامات باطلة إليه، لا يد له بها نهائيًا من أي ناحية لا من قريب أو بعيد. جلس على المقعد المجاور ل"عز الدين" بعدما قد ذرع الغرفة جيئةً وذهابًا، معتصرًا رأسه بيديه من كثرة الغليل الذي يدوي بها، وهتف بانفعال ساخط:


-أنا عايز افهم البني آدمة دي ليه مش عايزه تسيبني في حالي؟


بأسلوب هادئ، وتحليل منطقي، رد عليه أخوه مرددًا:


-اللي زي دي اتعودت إنها تاخدت كل حاجة عايزاها، فطبيعي تبقى مهبولة بالشكل ده إنك رفضتها ودوست عليها واختارت مراتك.


بنفس الصوت المهتاج، عقب "عاصم" مستهجنًا:


-وداليا مالها بكل العك ده؟


أجابه من وجهة نظره ممَ هو مترائٍ له:


-عشان فضلتها عليها، كيد نسا بقى تعمل إيه؟


ازدادت أنفاسه تهدجًا، وقال بصوت تشبع بالعدائية:


-أروح اقتلها انا دلوقتي يعني عشان اخلص من كيدها وشيطانها اللي دخل حياتنا دمرهلنا.


اعتدل "عز الدين" في جلسته المرتخية، وانحنى بجسده للأمام قليلًا، حتى يقلص المسافة بينهما، وعلق على عبارته الخالية من العقلانية:


-لا تقتل إيه يا عم اعقل كده..


قبل أن يتكلم بلا تفكير مسبق فيما يقول، سارع "عز الدين" مضيفًا بهدوء يحاول من خلاله امتصاص غضبه:


-اللي زي دي التجاهل يفرسها، اتجاهلها وولا كأنك عرفت باللي عملته، هي كده هتشيط صدقني، لإنها هتبقى مستنية تكلمها، وتشوف نتايج عملتها.


لكونه خبيرًا بما يرضي الشخصية الانتقامية، اقتنع بكلامه، ولكن تجهم وجهه لم يزُل وهو يدمدم بكراهية ونفور:


-واحدة زبالة، مش فاهم ازاي كنت بحب البني آدمة المقرفة دي، ده أنا كنت واحد غبي.


تخللته الراحة كون أخيه قد نفض تلك الفكرة المتهورة عن رأسه، وعاد إلى رشده، وتشكلت بسمة صغيرة تأثرًا بآخر ما قاله، سريعًا ما اختفت، عندما طرأ بذهنه أمر معرفة تلك المرأة عن طبيعة علاقة "عاصم" وابنة خالته قبل الزواج، مط فمه، ولسانه راح ينطق باستغراب بما جاس في رأسه، متسائلًا:


-بس غريبة، هي عرفت منين الكلام اللي قالته لداليا؟


كأن تساؤله جعله ينتبه إلى ذلك الأمر كذلك، واعتلى وجهه تعبيرات تنم على الحيرة، وسريعًا ما رد عليه بعدم علم:


-معرفش.


ضيق "عز الدين" عينيه عليه وسأله مستشفًا:


-يعني انت مكنتش قلتلها؟


ارتفع حاجبا "عاصم" مدهوشًا مما جال بتفكيره، وأردف على فوره نافيًا:


-لأ طبعا، هو أنا اتجننت عشان اعمل كده!


من رده المتعجل، تراءى له صدقه، وحتى لا يثير ثائرته ثانية، وضح له سبب ظنه، قائلًا بتوضيح:


-أنا بقول جايز تكون حكيتلها بحسن نية، أو كنت ندمان، فحكيتلها زي ماحكيتيلي.


هز وجهه بالسلب، وأخبره بجدية وصدق:


-لا يا عز انا استحالة اعمل كده، أو اقول لحد طبيعية علاقتي بداليا كانت عاملة ازاي، انا حكيتلك بس عشان انت اخويا، وعارف إنك استحالة تعرف حد باللي قلتهولك، لكن انا معقول هفضح مراتي مع واحدة زبالة زي اللي اسمها مي.


أومأ بتفهم، ثم نصحة بطريقة مشددة:


-فهمتك، بس اوعى تحكي لأي حد تاني حاجة عن تفاصيل علاقتك بمراتك خصوصا اللي كانت قبل الجواز، مهما كانت درجة قربه ليك.


اكتفى بهزة بسيطة من وجههة على نصيحته، فالتحدث في ذلك الشأن بات مقرونًا بالخزي عنده، في حين تابع "عز الدين":


-وعلى فكرة حتى أنا مكنش ينفع تحكيلي، التوبة والندم بتبقى بين العبد والمولى، متدخلش عبد تاني فيها، لإن الإشهار بالذنب حرام طالما ربنا كان ساتركم.


شاع البؤس في تقاسيم وجهه وهو يخبره:


-أنا كده كده مبتكلمش مع حد، لإني مليش حد أصلا يا عز.


لاحظ رنة الأسى التي احتلت صوته، لذلك رفع حاجبيه بحركة درامية، حتى يضفي جوًا من المرح، يزيل عن طريقه الحزن الذي خيم في عينيه، وعلق بصدمة مصطنعة:


-مليش حد أصلا يا عز، وبتقولها في وشي، طب وعز راح فين؟


لاح شبح بسمة على ثغره، ثم قال له بمحبة تمتزج بالامتنان لوجوده:


-مانا مليش حد غيره، عشان كده هو الوحيد اللي حكيتله.


ربت على ذراعه بحب أخوي متبادل، وصمت كلاهما للحظات، ولكن ما لبث "عز الدين" أن عاود لفت انتابه الآخر عن الأمر الذي تطرق له في بداية الحديث:


-بس برضه معرفناش الكلام ده عرفته منين.



❈-❈-❈



ثمة متطلبات للقلب، أحيانًا لا يمكن فهمها، على عكس متطلبات الجسد، يحتاج إلى الاحتواء، وإذا تطرق الأمر إلى الشهوة المطلقة، للتنعم بلذة المتعة الفطرية، يحتاج حينها لمن يطفئ لهيب اشتعاله، ويصل به إلى حد الارتواء. تفكيره ب"داليا" كان مقتصرًا منذ رؤيتها، على رغبة جسدية بحتة، عندما تزور صورتها فكره ينتشي ويبدأ في تخيلاته الجامحة بها، فبالنسبة له ما هي سوى جسد يهوى تذوق ملذاته.


ولكن الأمر مختلف كل الاختلاف عند تفكيره في خطيبته، فعندما تطفو على سطح مخيلته، يسرح في ضحكتها، يستحضر نغمة صوتها في سمعه، حتى إيماءاتها العفوية تتشكل أمام بصره، ويجد تلقائيًا بسمة تشكلت على وجهه، ولا يسعه تفسير حالته آنذاك، كما أن حضورها بات محفوفًا بأفعال من ناحيته غير مفهومة، أو حتى محسوبة، كالليلة الماضية، عندما أوصلها إلى البيت، بعد انقضاء تسوقها الذي رافقها به.


أعطت الحقائب إلى أحد العاملين بالفيلا، ليصعد بها إلى غرفتها، وبقت هي معه بالسيارة يتحدثان مزيدًا من الوقت، وكأنها لا تود تركه تلك السويعات القليلة التي ستخلد خلالهم للنوم، ولكنها عندما وجدت الساعة قد تأخرت، وبدأ يظهر عليه الإرهاق، رأت أنه ينبغي عليها أن تتركه يرحل حتى ينام لبضع ساعات، تجعل في مقدوره الاستيقاظ باكرًا لمداولة عمله، وهتفت بصوتها ذي النبرة المميزة وهي شارعة في فتح باب السيارة المجاور لها:


-متتأخرش عليا بكرا.


قطب جبينه واستوقفها عن المغادرة، بتساؤله المستفسر:


-طب مش تقوليلي رايحين فين بكرا الاول؟


انفرجت شفتاها ببسمة رقيقة، وقالت له بمشاكسة:


-مفاجأة.


انتبه إلى أخذها دوره تلك المرة في ترتيب مفاجأة له، كما فعل لها أكثر من مرة طوال الفترة الماضية، ابتسم وجهه، ولكن احتل قسماته في ذات الوقت الاستنكار وهو يسألها:


-مفاجأة إيه؟ وبعدين أنا اللي بسوق.


فهمت قصده من عبارته المراوغة، التي يحاول بها استدراجها للإفصاح عن نوع المفاجأة، وحتى تغلق عليه الطريق أخبرته بنظرات ماكرة:


-هبقى اسوق انا.


لاحظ تحفزها للخروج من السيارة، لذلك سارع في إمساك يدها، هاتفًا:


-استني هنا كده.


تألمت قليلًا من قبضه على يدها بتلك الطريقة المفاجئة، وأردفت بصوت خرج ناعمًا:


-إيدي يا كرم.


كان لنبرة صوتها الرقيقة تأثير بالغ على كينونته الذكورية، ولكنه حاول تجاهل ما شعر به لتوه، وبإلحاح متزايد أخبرها:


-مش هتنزلي إلا لما اعرف.


عبست بوجهها وهي تجذب بمحاولة فاشلة يدها من بين قبضته، ورفضت الإجابة عليه بقولها المتبرم:


-مش هقولك، واوعى بقى.


مع ذلك القرب المغوي، ونبرتها التي اتخذت منحدرًا متدللًا نادرًا ما تأخذه في حديثها معه، بدأ دبيب الإثارة في النبض بداخله، مما جعل أنفاسه تتلاحق بسرعة أكبر عن ذي قبل، ورغمًا عنه استسلم لشيطان نفسه، الذي حثه على الاقتراب أكثر منها وهو يهمس لها:


-اسمعي بس.


هامت نظراتها في وجهه البهي، حتى ثبتت على حدقتيه اللامعة، بدت ذائبة من ذلك القرب المهلك، وتهدجت أنفاسها من شعورها بخر أنفاسه التي تلطم وجهها، حتى تخدرت، وتسمرت، مما جعله على مقربة شديدة من التقامه لشفتيها، ولكن قبل أن تدمغ الشفاه، بقلبه لم يرتب أي منهما للحصول عليها، ضرب ناقوس الخطر في رأسها، يحذرها من عواقب تلك الفعلة المتهورة، وكيفية رؤيته هو لها إن انسجمت معه ولم توقفه عند حده، لذا في لحظة ارتد جسدها للخلف، تناظره بنظر مشدوهة مما كانا على شفا من حدوثه، وقبل أن يهتف هو بكلمة ملطفة، فرت من السيارة على فورها، وبقت عيناه مثبتة على أثرها، بنظرات خاملة مما تحفز في عروقه، ولكنها في ذات الوقت كانت مشدوهة مما كاد في لحظة طيش اقترافه.


صوت رنة من هاتفه، تعلن عن تلقية رسالة إلكترونية من أحدهم، أعادته لأرض الواقع، ولكن رأسه ما يزال مكدسًا بعشرات التساؤلات، والسؤال المهم من بينهم، الذي لا يجد له نهائيًا جواب، ما الذي أجج جذوة الرغبة بداخله ناحيتها حينها، فبرغم كثرة ما يغفل عنه ممَ هو واضح من الأسباب، التي تجذبه كالمغيب لها، أقنع نفسه أنها ليست سوى غنيمة مربحة، خطبة إن اكتملت كما هو مخطط لتصبح زيجةً رسمية، تقتصر في نوايا الدفينة، على هدف دنيء ستتحقق من خلاله الأطماع.



❈-❈-❈



كان يعلم منذ البداية، أن قرار والده في إنهاء أعماله مع هؤلاء الجماعة، ستكون له عواقبه الوخيمة، فقد كان متوقعًا أن يغدروا به، ويقبلوا على إزهاق حياته، لما يعلمه عن معلوماتهم الخفية، وأنظمتهم السرية، في تنفيذ عملياتهم، وتلك هي قوانيهم، حينها يود أحدهم الانفصال عنهم، ولهذا استبقى "كمال" معه بعض الملفات الخطيرة، التي إن وصلت إلى الشرطة، وتحولت إلى قضية دولية، ستودي بهم إلى هلاك حتمي.


ولهذا كان يمتنع "توفيق" عن تنفيذ الحكم بقتله، ريثما يحصل على أحد الشيئين، إما الملفات مع تأكيد تام؛ غير مشكك به من عدم وجود أي نسخ لها مع أحدهم، أو عودة "كمال" لمداولة أعمالهم النكراء، ولكن عندما أتته الأوامر العليا، بإضمام "عاصم" لهم، بدلًا من والده، اختصه بمحاولات الاستدراج طوال السنوات الماضية. وعندما طال عناده، وتصميمه على عدم الانضمام لهم، أتى القرار النهائي من زعيم المافيا، الذي يرأس جماعتهم، بالتخلص من "كمال"، حتى تصبح حينها التفاوضات مرتكزة على شخص واحد بدلا من اثنين.


بلا أدني تفكير كان يعلم "عاصم" أنه إذا أصبح خالي اليدين في تلك الحرب الدائرة في الخفاء، لأُلحِق بإبيه في قبره، ولهذا سارع في الحصول على ما يؤمن ظهره، ولكن أن يشركوا زوجته في ذلك العداء، ويطالها ما طال والده من قبل من شر الجزاء، هذا ما لن يسمح بحدوثه، حتى وإن كلفه الأمر حياته. بدون أن يخبر أخيه -حتى لا يمنعه- توجه إلى فيلا "توفيق"، كان الوقت باكرًا، لهذا كان متأكدًا من وجوده في بيته. وكأنما كان مجيئة متوقعًا، لم يتفاجأ أي من أفراد حراسته به، بل أن أحدهم اصطجبه إلى الداخل، بعدما اصطف "عاصم" سيارته، وأخبر الحارس على مسمع منه رب عمله بوجوده.


كانت خطوات "عاصم" تطئ الأرض بقوة، ظاهرًا بها الغضب الذي يتآكل بسائر أعصابه، وجهه مشدود للغاية، يود بشدة أن يرديه قتيلًا، ولكنه في قرارة نفسه، يعلم أنه إذا ألحق به أي نوع من الأذى، خاصة في عقر بيته، لن يتوانى "توفيق" عن قتله، ولن يكون له دية عنده، فقانونًا هو من اعتدى عليه بداخل داره، وحينها سينتقل ذلك العداء إلى عائلته، الذي أذى أحد أفرادها وهو ما يزال على قد الحياة، فماذا إذن هو بفاعل بها إن مات؟ بأعصاب ثائرة دلف إلى غرفة مكتبه، وما إن رأى وجه ذلك البغيض، الذي يجلس باسترخاء على مقعده الجلدي خلف مكتبه، حتى فارت الدماء في عروقه، وكل محاولاته في كبح جماح غضب ذهبت ادراج الرياح، هج عليه، وأمسك إياه من تلابيبه، حتى أوقفه قبالته، وهدر به بقوة شديدة:


-اللي حصل لمراتي ده أنا مش هعديه بالساهل يا توفيق.


كاد الحارس أن ينقض على "عاصم" لببرحه ضربًا على تعديه الواضح على رئيسه، ولكن "توفيق" أشار له بعينيه ليوقفه عن التقدم، ثم أحلق تلك الإشترة بأخرى يأمره بها للخروج من الغرفة، وفور أن نفذ أمره، التفت بنظراته ل"عاصم"، وأنزل يديه عن عنقه بهدوء، تبعه قوله المرحب باصطناع:


-أهلا يا عاصم، اول مرة تزورني في بيتي.


اشتدت عضلات وجهه أكثر من ذي قبل وهو يرد عليه بكراهية بينةً:


-مفيش بيني وبين واحد زيك سلام..


ارتسم على وجهه بسمة صغيرة، كأنها مستمتعة بنتاج فعلته، في إثارة أعصابه، مما ضاعف من غليل "عاصم"، وأطنب بنفس النبرة المشتاطة:


-ولو فاكر إنك كده بتلوي دراعي تبقى غلطان، مفيش حاجة هتطولها مني غصب عني وانا هعرف احمي مراتي كويس اوي، بس اعرف انك كده حسابك تقل معايا، ولما ابقى اعمل حركة تضايقك متبقاش تزعل.


ظل محافظًا على طور هدوئه وهو يخبره:


-طب ما إيه رأيك نصفي الحسابات بينا؟ وكل واحد يبقى في حاله، ولا أنا ازعلك ولا انت تزعلني.


انفرج أحد جانبي فمه بحركة متهكمة، تبعها قوله الساخر والمكذب لادعائه:


-نصفي اللي بينا؟ وانت فاكرني اهبل عشان اصدق إنها بالسهولة دي؟


تخطاه "توفيق" حتى الأريكة المقابلة للمكتب، جلس عليها باسترخاء، ثم بدأ في التكلم بعدما وجه بصره له:


-خليني دوغري معاك يا عاصم ومش هلف ولا ادور عليك، انت عارف إني مش هطلعك من دماغي طول مانت معاك الورق، وانت عارف برضه إني مش لواحدي، واللي أعلى مني لو سيبتهم يتعاملوا، صدقني ساعتها بس هتقول على نفسك وعلى كل واحد في عيلتك يا رحمن يا رحيم.


تحفز في وقفته، وهتف بانفعال:


-قلتلك التهديدات دي مش بتفرق معايا.


بنبرته المشبعة بالتغطرس، قال له:


-بلاش يا سيدي تعتبره تهديد، اعتبرني بوعيك..


كظم غيظه مع طريقته المستفزة لأعصابه، وأبقى فقط عيناه تطالعه وهو يتابع بلهجة تحمل في باطنها التحذير:


-وبعدين إيه اللي يفرق معاك اكتر من سلامة ولادك ومراتك؟


كز على أسنانه وقبل أن يزأر في وجهه، أضاف "توفيق" بتحذير صريح:


-خاف عليهم يا عاصم وبلاش تعند معانا، عشان متخسرهمش.


حينئذ برزت عروقه، وهدر بصوت اخشوشن على الأخير، غير متساهل:


-فكر بس تقرب من مراتي تاني أو ولادي انت ولا حد من اتباعك وانا اكون نافي وجودك من على وش الدنيا.


مط شفتاه بحركة تنم على عدم المبالاة، وهتف بثقة:


-خلينا نقول قدرت تنفي وجودي، هتقدر تنفي وجودهم؟


عجز عن الرد على سؤاله، الذي يثبت انعدام قدرته في التصدي لتلك الجماعة، وعندما لاحظ "توفيق" سكوته الذي يوحي بضعفه مقارنة بهم، أخبره بجمود:


-هات الورق يا عاصم، كلم حد دلوقتي وانت قدامي يجيبه من المكان اللي مخبيه فيه، وأنا اضمنلك وقتها إن محدش يقرب منك ولا من حد من عيلتك.


تصميمه على الحصول على تلك الأوراق استرعة غرابته، خاصة أن الملفات التي أخذها عنوة عنه، هي التي تحوى معلومات خطيرة تخص جماعتهم، في حين أن تلك الأوراق تحتوي فقط على بعض الصفقات الغير مشروعة، لعدة اسماء من بينهم اسمه هو ووالده، ولن يُستدل منها نهائيًا عن أي أعمال أخرى مخفية، لهذا لم يمنع نفسه من سؤاله:


-إيه اللي مخليك متجنن على الورق ده بالذات؟ لدرجة إنه وصلك إنك تفكر تلوي دراعي بمراتي وانت عمرك ما فكرت تعملها السنين اللي فاتت، عشان تاخد اللفات اللي كانت فعلا هتجيب رقبة الكل، رغم إنك بعضمة لسانك قلت إنه كان متبلغ بالورق اللي معايا دلوقتي زمان عنكم، يعني بالنسبالك كارت محروق.


تلبك قليلًا من مباغتته بذلك الاستفسار، الذي سيعري حقيقة -إن انتبه لها ستجعل حياته على المحك، ولكنه مع ذلك كان قادرًا على إخفاء ما طرأ على محياه، والقدر العالي من الفطنة عنده جعله يحاذر في انتقاء رده، وعلق بتجهم واضح:


-انت عايز تهددني إنك هتقدمه للنيابة، ويتفتح من تاني قضية اتقفلت من ستاشر سنة ومش عايزني اتجنن.


ارتسمت بسمة متشفية على وجهه، ثم عقب بشيء من الهزو:


-إيه توفيق بيه ميقدرش يقف قصادي في المحاكم ولا إيه؟


بدأ الغضب يعلو وجهه، مع توتره من كشف أمره، في حين تابع "عاصم" بحنكته، ونظراته الثاقبة، التي تحاول اشتفاف خفايا الأمور:


-انا متأكد إن فيه سبب تاني، بس خلينا نرجع لكلامك.


وارى ارتباكه خلف وجهه الساكن، وانصت بانتباه إلى تتابعه المتعمد من خلاله التلاعب معه:


-إيه اللي يضمنلك إني لو بعت حد يجيبه من المكان اللي موجود فيه، مش هيبقى فيه منه نسخ عندي في مكان تاني، او نسخ مع حد؟


 لم يكن ليغفل عن تلك النقطة بالطبع، وأخبره بتعبيرات جادة:


-مانا عشان كده بقولك تكلم حد يجيبه وانت هنا، عشان متعرفش تلعب بديلك.


استند "عاصم" على جانب المكتب بخلفيته، وكتف ساعديه أمام صدره، وأخبره بزهوٍ:


-أنا محدش يضمني، واقدر اعمل مليون حاجة وانا واقف مكاني.


بدأت علامات نفاذ الصبر في الظهور على وجه "توفيق"، وكان "عاصم" جيدًا في قراءة تعبيرات الوجه، لهذا قال له حتى ينهي ذلك النقاش الباعث على السأم:


-توفيق مفيش حل قصادك غير إنك تسيبني في حالي، وأنا بدوري مش هدخل الحكومة بينا، لكن انسى الورق، وصدقني هو في الحفظ والصون، ومفيش جنس مخلوق يعرف مكانه فين.


لعب الأخير من قوله برأسه، ولاح في عيناه في لحظة وميض ماكر، وراح يسأله بتأكد ممَ صرح عنه نزقًا:


-وإيه اللي يأكدلي إنك مش معرف حد على مكانه، بحيث لو جرالك حاجة يبقى ده وسيلة حماية لعيلتك.


فك كَتْف يديه، واعتدل في وقفته، ورد عليه بغير احتساب لمَ يفوه به:


-عيلتي ميعرفوش حاجة عن شغلك، يعني لو مت سركوا هيموت معايا، فمش هتحتاجوا وقتها تئذوا حد منهم.


ازدادت نظرته لؤمًا، ولكنه كان غير مرئيًا ل"عاصم"، الذي ظن من نظرته التي طالت عليه، أن يستعرض رده في رأسه، ولكنه إن كان يستعرضه حقًا، فمن نواحٍ أخرى لم تخطر على باله، فهو بغير احتراز أعترف له بعدم معرفة أحدٍ نهائيًا للموضع السري، الذي وارة به ملفات القضية القديمة، واختتم اعترافه النزق بأنه إذا مات فسيموت معه سرهم، وربما من ناحية أخرى يموت بموته! أرجأ أي تفكير في خططه القادمة، التي ستترتب على ما قاله، وهتف يستدرجه أكثر بعدما نهض عن جلسته، حتى يضمن سير مخططاته القادمة بدون أي عراقيل:


-ولو اكتشفت إنك بتلعب بديلك من ورايا..


قاطع باقي كلماته التي تحمل تهديدًا على وشك أن يفوه به، وأكد له صدق نواياه:


-مش محتاج تهدد، أنا ميلزمنيش أذية حد فيكم، أنا مش عايز أكتر من سلامة عيلتي وسلامتي.


بقى صامتًا لبرهة، يفكر في أبعاد كثيرة، غافلًا عنها الآخر، بعد ذلك هز رأسه بإيماءات بسيطة، ثم قال له:


-ماشي يا عاصم، اعتبر بدايةً من دلوقتي بقى فيه هدنة بينا.


انتابه الاستغراب لكونه لم يعطه مدة للتفكير، بل وأتته موافقته بتلك السرعة على عقد هدنة فيما بينهما، حتى يتأكد كل منهما من نوايا الآخر، ولكنه في نفس الآن رغب في استغلال تلك الفرصة، لحل مشاكله الشخصية ببال صافٍ، بعيدًا عن فخاخه التي لا ينفك ينصبها له، وحتى يستطيع كذلك أن يفكر فيما بعد في طريقة نهائية للتخلص من وجودهم المهدد لحياته، لذلك لم يطِل معه في الحديث، وأنهاه بعد عدة كلمات مقتضبة، ثم غادر بيته المقيت.


في حين عاد "توفيق" للجلوس في وضعية مسترخية، وباله ما يزال مشغولين بأمرين، الاول؛ هل تدارك "عاصم" الكارثة التي ستحل عليه وحده إذا فُتحت قضيته القديمة، فحينها سيكون مصدر للمخاوف من الأعلى منه في تلك الجماعة الإجرامية، وحتى يتخلصوا من أي دليل قد ينتهي للوصول لهم في نهاية المطاف، لن يتوانوا في التضحية بحياته، حفاظًا على أرواحهم.


والأمر الثاني؛ هل حقًا "عاصم" صادقًا في ادعائه، بشأن عدم معرفة أحد لمكمن الملفات السري؟ ففي حالة إن صدق حقًا، لن يوجد أي خطر يحيط به غير حياته، ولن يكون أمامه حينها غير إزهاق روحه حتى يحمي روحه هو، ويبعد عنه أي شكوك حيال الزج به في السجن، واحتمالية افشائه عن أسرار أعمالهم، مما سيودي به إلى هلاك حتمي في الأخير، وهو لن يسمح بوضعه له في ذلك المأذق مهما كلف الأمر.


بعد حصول الآخرين ممن هم أعلى منهم سلطة، على الملفات المهددة لاكتشاف أمرهم، وتركهم له دون أن يمسوه بأذى، أو يلحقوا به نفس عقاب والده، كونه لم يكن من البداية شريكًا لهم، أو حتى على علم بأي من خفايا أعمالهم، غير المكتوب في الأوراق التي قد باتت في حوزتهم، ولا يوجد أي دليل ملموس معه يدينهم، وجوده الحين لم يعد مهددًا لسلامة أي أحدٍ سواه.

تابع قراءة الفصل