رواية نابغة بعصر الأغبياء - للكاتبة أسماء المصري - الفصل 3
قراءة رواية نابغة بعصر الأغبياء كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية نابغة بعصر الأغبياء
للكاتبة أسماء المصري
الفصل الثالث
فتحت عينيها باتساع فوجدت نفسها بمكان واسع والأعمدة العالية تحيطه من جميع الجهات والشمس تنتصفه وذلك العرش الذهبي مثبت بأعلى حافة بالمكان والفرعون ذاته جالساً بزيه الذهبي المرصح بالأحجار الكريمة والتاج يعلو رأسه واثقاً من نفسه فخورا بإنجازاته؛ فاقتربت منه وانحنت باحترام هاتفة:
-مولاي .
ترك عرشه وانحني يرفع جسدها ونظر لها بحب خالص ومشاعر فياضة وابتسم بسعادة هاتفاً:
-وأخيراً.
نظرت له بحيرة وعدم فهم فأومأ بتفهم لحالتها وسحبها ليجلسها بين أحضانه وعلى فخذة ولكنها خجلت عندما وجدت أناس معهم مشغولون بأفعال غريبة وأمامهم مومياء يقومون بتحنيطها، يفرغون أحشائها ويضعونها بأواني خزفية ويلفون ذلك الجسد بالشاش الأبيض المصنوع من الكتان.
ابتلعت ريقها بتباطئ عندما وجدت التشابه الغريب بين تلك المومياء وبينها وهي قد علمت شكلها فقط عندما رأت انعكاس لصورتها على تاجه اللامع فوق رأسه فسألته بخوف:
-أنا لا أفهم شيئا، أرجوك أخبرني ماذا يحدث وأين أنا؟
ربت على كتفها وهدئها برقة وقال :
-لا تخافي حبيبتي بنترشيت، لقد انتظرتك آﻻف الأعوام والآن أنتِ أمامي حقيقة وليس حلماً و لارؤى من صنع السحرة.
حركت رأسها بتوتر وسألته:
-أنا مشوشة وأشعر بأنني لا انتمي لهذا العالم........
رد مقاطعا ومعقبا:
-بعد ، لا تنتمي لهذا العالم بعد و هذا صحيح نسبيا.
نظرت له بتدقيق محاولة منها فهم ما يدور فأكمل توضيحه:
-عندما ينتهي هؤلاء من تحنيط جثتك حبيبتي سأنقل روحك كاملة لجسد تلك الفتاة التي تسكني جسدها مؤقتاً بالوقت الحالي.
توترت أكثر من حديثه وسألته بذعر:
-تحنيط جثتي؟ ماذا تقول مولاي أناااا.
ابتسم وعاد لهدوءه وأوضح هامساً:
-لا تخافي عشيقتي واصبري وستفهمين كل شيئ.
أنزلها من على قدمه وتحرك بها لتلك الساحرة ذات الشعر الأشعث والجالسة أرضاً وأمامها ما يشبه البلورة السحرية وتنظر خلالها وكأنها تشاهد شيئا ما فهتف سيتي موضحاً:
-عندما علمت ما حدث لكِ أثناء غيابى بالحرب أخبرت أكفأ قوادي بالعودة للتحفظ على جسدك حتى انتهي من الحرب وأعود وبمساعدة تلك الساحرة أبقت جسدك على حالته تلك حتى عدت.
أشار للمومياء وهو يتحدث فنظرت لها و كأنها تستمع للغة غريبة لا تفهمها ولكنها انصتت له أكثر وهو يطنب:
-معروف أن التحنيط فقط للفراعين والعائلة الحاكمة ولكنني كسرت تلك القاعدة كما كسرت كل قواعدي قبلا فقط لأجلكِ أنتِ بنترشيت وستعودين لحضني وسنربي ابننا سويا بعيداً عن أعين الناس والكهنة والعالم أجمع، فقط اصبري حتى تنتهي المراسم وستفهمين كل شيئ.
سحبت شهيقا بعمق وأخرجته بتمهل وابتلعت لعابها بوجل عندما رأت اشخاص داخل تلك البلورة يقيدون فتاة أخرى تشبهها فتوترت وتلعثمت و هتفت بتسائل:
-ما هذا مولاي؟ كيف نرى هؤلاء بتلك الكرة الزجاجية؟
ابتسم لها بسعادة وأجلسها أرضاً بجوار الساحرة وجلس هو الآخر وأخذ يشرح لها الأمر بسلاسة:
-هذه أنتِ بالعالم الآخر حبيبتي، عندما سخيُت بنفسك اسودت الدنيا بعيناي و عدت إلى هنا لأجدكِ قد فارقت الحياة ففقدت معكِ الرغبة بالعيش حتى جائني أقرب قوادي القائد توت وأخبرني بأن هناك حل وطريقة لإعادتك للحياة ولأنني لم أكن من دماء ملكية لم أكن أعلم بها ولكن كما ترين ها قد أفلحت.
زادت حيرتها فتنهدت وسالته:
-ومن هؤلاء؟
أشارت للكرة الزجاجية فأجاب:
-هؤلاء السبب بوجودك هنا واﻵن ، معي وبحضني.
لم تفهم فبكت وقالت:
-أنا لا أفهم شيئ، إن كنت تحبني حقا فأخبرني ماذا يحدث بتوضيح أكثر.
حضنها وربت على كتفها وأطنب مفسراً:
-بعد أن فقدتكِ أخبرتني تلك الساحرة بأن لكل منا قرين بالعالم الآخر وجعلتني أرى قرينتك وأنتِ لا تزالين رضيعة، رأيتك بعين أحد أقارب الطفلة والعجيب انكِ ابتسمتِ لى وكأنك تعرفينني يا عشيقتي، وحاولت منذ ذلك اليوم أن ازوركِ مراراً وتكراراً ولكن حضوري لم يكن قوياً إﻻ بأحلامك، حتى تلك اللحظة.
نظرت له باهتمام وترقب فاستطرد موضحاً:
-يبدو أنهم يحاولون معرفة ما بها تلك الفتاة التي تسكنين جسدها، لذا لقد لجئوا للسحر وخيراً ما فعله فها أنتِ هنا معي بفضلهم.
ابتلعت وقالت بتعجب:
-اتعني أن جسدي لا زال هناك معهم؟
أومأ ببسمة فرحة واستمع لها تكمل سؤالها:
-وأنني هنا اﻵن بروحي فقط؟
اأومأ لها مجددا فأكملت أسئلتها:
-وما كنت أراه بنومي هي زيارات حقيقة منك مولاي وليست أحلام؟
أكد لها بنفس الإيماءة الخفيفة الصامتة فاكملت:
-وكيف سنعيش سوياً وأنا جثة بهذا العالم ومجرد فتاة صغيرة بالعالم اﻵخر؟
رد مقبلاً إياها موضحاً:
-لقد انتظرتك لآلاف الأعوام وسأنتظر لبضع أعوام بعد حتى تكملين عامك العشرين، نفس العام الذي فقدتك به حتى نجتمع سويا من جديد.
سألته بتخوف:
-كيف؟
رد بحب:
-لا تتعجلي الأمور حتى لا يدور رأسك الجميل هذا وينشغل عقلك، فقط أعلمي أنه بدءاً من هذا اليوم ستكون زياراتي لكِ أقل وعلى فترات متباعدة فقط للضرورة حتى لا أستنفذ كل طاقتي بها وأحفظها لاستدعائك هنا من جديد حبيبتي وعشيقتي الجميلة.
❈-❈-❈
ظل الجميع ينظرون أمامهم بترقب حتى تحرك المعالج وبدأ بفك الحبال عن جسدها وأجلسها باعتدال على المقعد بعد أن اضطر لإنهاء الجلسة من بعد فشله بالتواصل مع من يحتل جسدها فنظر بعمق عينيها ليتأكد بأنها من عادت وليست تلك الروح القوية، ولكنه تعجب بعد ان رأي تغير لون حدقتيها من الأخضر للعسلي فصفق بيده خفيفا وقال:
-دورثي اتسمعينني يا صغيرة؟
ردت الأولى بصوت هادئ:
-نعم أسمعك.
سألها بتخوف:
-هل تعلمين أين أنتِ؟
أجابته بتلقائية:
-بمنزل عمتي مارسيل.
ابتسم بفرحة وسألها :
-ومن أنتِ بالتحديد؟
ردت فوراً:
-أنا دروثي لويز إيدي، ومن أنتِ؟
أجابها بفرحة:
-تشرفت بمعرفتك دورثي، أنا دان وايت المعالج الروحاني.
ابتسمت له وعقبت:
-تشرفت بمعرفتك أستاذ وايت.
اعتدل بجسده ونظر لوالدتها التي تريد تفسيراً لما رأته وعاصرته فسحبها بعيداً عن الجميع وبدأ بشرح حالة ابنتها لها من وجهه نظره فقال:
-ابنتك ممسوسة من روح قوية ولكنني استطعت أن أخرجها منها بنجاح و...
قاطعته بعدم تصديق:
-أتسمي ما حدث بالداخل نجاح! لقد كاد جسد ابنتي أن ينقسم لإثنين من قوة تقوسة وكادت أيضاً أن تزهق روحك من قوة دفعها لك أنت ورجالك.
صمت وأطرق رأسه لأسفل فقالت بقوة وصرامة:
-لا تحدثني بهراء والآن أخبرني الحقيقة كاملة واللعنة.
ابتلع وبلل شفتيه وتحدث موضحاً:
كما قلت لك أنها روح عاتية وقوية لم يسبق أن رأيت مثلها وعلى ما يبدو أنها لن تترك جسد ابنتك بسهولة وأخاف من أن اقول إن فعلت وتركتها فستموت دورثي لا محال فإما أن تقبلي بوجودها داخل جسدها وإما.
صمت لتفهم هي ما يعنيه فصرت على أسنانها وزمت شفتيها معا واضطرت أن تصمت عندما اقتربت دورثي ومعها عمتها التي قالت بمرح:
-أظن أننا جميعا بحاجة لمشروب بارد فالأجواء حارة والشمس ساطعة بشكل كبير.
وافقت هانده بمضض وأومات برأسها فنظرت مارسيل لابنة أخيها وقالت بمداعبة:
-ما رأيك دورثي بمساعدتي لتحضير عصير الليمون الحامض مع بعض قطع الثلج! أظن أنه سيكون مشروب ممتع أليس كذلك؟
ابتسمت دورثي بتصنع وهتفت:
-نعم عمتي معكِ حق، هيا بنا.
نظرت هانده في إثرها وسألت المعالج بحيره:
-هي الآن تتصرف وكأنها طبيعية وذلك غريب، فما تفسيرك؟
رد موضحاً:
-بعد جلسة الطرد تضعف الأرواح الساكنة بالأجساد وتاخذ فترة استراحة ويبدو أن هذا ما حدث لابنتك.
تنهدت بحزن وتحركت للجلوس على الأريكة بانتظار أخت زوجها وابنتها واللتان وقفتا بالمطبخ لتحضير المشروب؛ فنظرت دورثي للإناء المثلج وقالت بامتنان:
-أشكرك عمتي.
ابتسمت لها الأخرى وداعبت شعرها بيدها وردت:
-لا شكر على واجب دورثي.
اتسعت بسمة دورثي ورددت تشكرها:
-اشكرك حقا فقد ساعدتني كثيرا منذ أن ولدت وحتى تلك اللحظة التي علمت أخيراً فيها من أنا.
نظرت لها مارسيل بحيرة فلمعت عينيها وهي تسمعها تقول:
-ولولا بصيرتك لما رآني الفرعون يوم مولدي، ولولا تحضيرك لتلك الجلسة اليوم لما اجتمعت به وأصبحت أقوى وأعلم من ذي قبل؛ لذا أشكرك حقا سيدة مارسيل على مساعدتي.
❈-❈-❈
منذ ذلك اليوم وتغيرت دورثي تماماً فأصبحت أهدأ وأرسى وكأنها نضجت فجأة ولم تتحدث عن كونها تلك الكاهنة، ولكن لم تخل أيامها من الكوابيس والسير اثناء النوم، فقط نستطيع القول بأنها أصبحت نادرة الحدوث ولكنها تعود لتكون الأبشع على الإطلاق إن حدثت؛ فحتى وإن حاول والديها ايقاظها لا يفلحا بذلك وتظل هي داخل حلمها أو سيرها أثناء النوم حتى تستيقظ لحالها.
وبأحد أحلامها والذي يبدو لها واقعيا بشكل مؤلم وجدت نفسها محاطة بأُناس غريبة يصفعونها ويضربونها بشدة وهي جاثية أمامهم على ركبتيها تحاول المناص منهم ولكن دون جدوي، حتى صاح ذلك الكاهن حليق الرأس الذي يبدو عليه الهيبة هاتفا:
-انطقي وقولي من هو؟
ردت ببكاء وهي حقا لا تعلم عمَ يتحدث:
-لا أعلم.
نطق أحد الكهنة بجواره بتوقير:
-أيها الكاهن الأعظم، أظن أنها عادت للمراوغة من جديد ولن تخبرنا.
رد الكاهن الأعظم بحدة وشراسة: ستظل بمحبسها وتُحرم من الطعام حتى تخبرنا من فعل تلك الفعلة حتى تكون عبرة لأمثالها ممن يدننثن حرمة المعبد ولم تحترمن نذورهن.
عادوا لضربها ضرباً مبرحاً وهي تحاول بكل نفس ذاقتها الموت الخلاص منهم حتى انتفضت صارخة من نومها ووالديها بجوارها فارتمت بحضن أمها وقالت باكية:
-لقد أبرحوني ضرباً.
سألتها هانده بحزن:
-من يا بنيتي؟
ردت بانهيار:
-كهنة المعبد، لا تجعليهم يضربونني مجدداً.
ربتت هانده على ظهرها باكية بصمت وقالت:
-لا تقلقي يا صغيرتي، أنتِ هنا اﻵن معنا أنا ووالدك.
نظرت لهما بعد أن ضيقت حدقتيها وقالت بصوت حزين:
-لولا موت أمي لما أرسلني أبي للمعبد ولما حدث لي كل هذا!
نظرت هانده على إثر حديثها لزوجها بحزن وترقرقت عينيها بالعبرات فسألها إيدي:
-ماذا تقصدين دورثي؟
نظرت له تقص عليه ما علمته عن نفسها من خلال أحلامها فقالت موضحة:
-لقد توفت أمي وأنا بالثالثة من عمري وكانت مجرد امرأه عادية بائعة خضار وأبي كان بالجيش تحت إمرة القائد سيتي مرنبتاح اﻻبن الوحيد للفرعون رعمسيس والملكة سات رع.
أومأ لها والدها واستمر يستمع لها وهي تقص عليه ما تظن أنه قصة حياتها:
-كان أبي عسكريا وعندما ماتت أمي وانا بسن الثالثة وهبني للمعبد حتى يتفرغ لخدمة الجيش وظللت أنا هناك أخدم الكهنه حتى أصبحت امرأة ناضجة بسن الرابعة عشر وهنا كان لا بد لي من الإختيار بين أن أترك المعبد أو أن القي نذوري وأتعهد بنفسي لخدمة المعبود رع، فاخترت ما أعرفه و هو خدمة المعبد والكهنة ويا ليتني ما فعلت!
ابتسم لها إيدي بهدوء وسألها:
-ألم تكن تلك رغبتك؟
أومأت معقبهة بإطناب:
-نعم كانت رغبتي، ولكنني لم أكن أعلم شيئا ولم يكن لدي عائلة حتى أعود لها، فقد ظل والدي يتنقل بين المعارك التي قادها برفقة ولي عهد الفرعون، فاخترت العيش ككهانة لباقي عمري وألقيت نذوري ولكن بنفس ذلك الوقت عاد مولاي سيتي منتصرا فقلده والده مراسم الحكم وهو لا زال على قيد الحياة وجاء للمعبد لمراسم تتويجه وهناك تقابلنا لأول مره وبدأت حياتي تتغير ولم أكن أعلم أنها ستنتهي لهذا الحال.
صمتا والديها وتركاها تخرج كل ما بجوفها فأكملت:
-وكأنه شعاع سار بجسدي لمجرد أن نظر لي من بين مئات الكاهنات، فقط لمحني أنا ورمقني بتلك النظرة التي زلزلت كياني.
تعجبا بداخلهما من حديثها الذي يتنافى مع عمرها الحالي فهي لم تتم العاشرة بعد وتتحدث كامرأة بالغة وقعت بالعشق، ولكن نظراتهما لها لم تجعلها تكُف عن استكمال حديثها فاستطردت:
-ومنذ ذلك اليوم وبدأنا نتقابل بالسر ولكنني حقا لا أعلم كيف اتيت لهنا! انا فقط أريد العودة لدياري وموطني.
اقترب منها إيدي ورد عليها بهدوء وروية:
-اعتبرى نفسك بموطنك دورثي إلى أن تعودي، حاولي اﻻختلاط بالناس والمجتمع الذي تعيشين فيه حتى يأتي وقت العودة، فقط كفي بنيتي عن ايلامي بهذا الشكل وناديني بأبي.
ابتسمت ببكاء ومسحت على وجهه برقة هاتفة بحب:
-أنت أطيب وأحن رجل عرفته بحياتي ولن أكف عن مناداتك بأبي ما حييت.
ضحكت هانده بسخرية وقالت مازحة:
-وماذا عني؟ ألن تدعوني بأمي؟
أومأت باقتضاب وقالت:
-نعم أمي.
لم تستطع هانده فهم حالتها ولم لا تشعر ناحيتها بعاطفة الأمومة كما تفعل مع والدها ولكنها آثرتها داخل نفسها ومنت حالها أن ابنتها قريبا ستكبر وتنسى كل تلك الأمور ولن يحدث معها ذلك الأمر مجدداً.
❈-❈-❈
جالسة بالمقعد الخلفي لسيارة نقل التلاميذ تنأى بمفردها عن الجميع فكل زملائها يتحاشونها ولا يتحدثون معها خوفاً أو رهبة ولكنها حقا لا تهتم، دلفت داخل الصف الدراسي وجلست بمقعدها فبدأت المعلمة شرح الدروس الخاصة بالدين المسيحي فقد ألحقها والدها بمدرسة كاثوليكية وليست مجرد مدرسة عادية للتعلم وذلك لتدينهما الشديد.
استمعت دورثي لشرح المعلمة عن الدين المسيحي وكيف أنه لا يوجد سوى اله واحد مثمثل بذاته العليا فتعجبت ورفعت حاجبها واستمعت بإنصات حتى تدخلت بالنهاية مقاطعة معلمتها:
-ولكن هناك أكثر من معبود بالحياة، كيف يتواجد معبود واحد يفعل كل هذا؟
ردت المعلمة بتفسير منطقي ظنت أنه ردا على سؤال معتاد من الطلبه بالوجود الإلهي:
-اذا تواجد أكثر من إله لما كانت الحياة بسيطة هكذا دورثي، ألن يتحاربوا جميعا لفرض سيطرتهم كما يفعل البشر؟
ردت دورثي بجواب فاجئ معلمتها:
-لن يحدث بوجود المعبود رع القوي الذي استطاع أن يفرض سيطرته على الجميع ولا يتعداه أحد.
رمقتها المعلمة بدهشة وسألتها بحيرة:
-من هو المعبود رع؟
أجابت بتلقائية:
-إله الشمس عند المصريين.
ابتسمت المعلمة وردت مجيبة:
-تقصدين المصريين القدماء؟!
اأومأت دورثي فأضافت الأولي موضحة:
-تلك ديانة وثنية، أنا هنا أتحدث عن ديانة سماوية عزيزتي وليست ديانه قد اندثرت منذ آلاف السنين.
لم يعجبها الحديث فظلت تناقشها وتخرج بمقارنات بين الديانة المصرية القديمة وبين الديانات السماوية واستمر الوضع هكذا لأكثر من مرة حتى وصل بها الأمر أن صرخت بإحدى المرات بوجه المعلمة:
-أنا لا أعترف بتلك الديانة فديانة أبي وأمي وفرعوني هي تلك ولن تحاولي إثنائي عنها.
لم تتقبل المعلمة طريقتها فأرسلت بطلب ولي أمرها وعندما حضر إيدي ابلغته الملعمة بما يحدث من ابنته وطلبت منه نقلها من الصف.
لم تهدأ دورثي بعد ذلك بل ازداد الأمر أكثر وأكثر عندما التحقت بالجوقة الغنائة الخاصة بالمدرسة والتي دائما يتغنى فيها التلاميذ بالترنيمات الدينية، ولكنها أثارت جلبه عندما طلبوا منها غناء ترنيمة تتحدث عن لعنة الفراعنة فلم ترفض و حسب بل وهدرت بالجميع بصورة فجة وشرسة فانتهى الأمر بفصلها من المدرسة.
بعد ما حدث اضطر إيدي أن يضعها بالمصحة النفسية من جديد منعاً للشوشرة والقيل والقال عن إهانة ابنته للدين بعد أن استمر بها الحال و لم يقف هنا فقد فعلت المثل من إهانة وتحدي للكنيسة ذاتها عندما حضرت قداس الأحد بصحبة والديها وظلت تناقش القس بتعالم الدين الفرعوني وتقارن بينه و بين المسيحية حتى اضطرت الكنيسة أن ترسل لها العديد من القساوسة حتى باب منزلها فقط لتعليمها أصول الدين وحتى يحاولوا إقناعها بأن الديانة الفرعونية ما هي إﻻ ديانة وثنية، ولكن باء الأمر بفشل ذريع وانتهى أمرها بإيداعها المصحة النفسية من جديد.
لم يستطع والديها التحمل أكثر بسبب نظرات الناس والمجتمع والزيارت المتكررة من الكنيسه فالمعروف عن والديها التدين، وأيضاً توسلها لهما بإخراجها من المصحة النفسية فانتهى بها الأمر أن أرسلها إيدي للعيش مع جدتها في منطقة نائية تدعى ساكس.
❈-❈-❈
عندما يحتار المرء بين عقله وقلبه يشعر بالتشتت حتى ينتصر الجزء الأقوى منه وهنا إما أن ينجح الجسد بحل تلك المعادلة الصعبة ويتناسق مع المنتصر أم أن ينخذل فيسقط مريضا أو صريعا، ولكن ماذا إن كان الشقاق بين روح المرء بعضها البعض إن انتصر جزء خسر الآخر فبالنهاية تكون الخسارة نصف روحك فلا يوجد منتصر بتلك المعادلة.
هذا ما حدث معها فقد ظلت بصراع مع نصفي روحها، نصفها الأول والمعاصر لحياتها تشعر معه بالرفض الدائم ولا يتناسق معها أبدا ونصفها الثاني المعذب والذي لا يظهر إﻻ بأحلامها أو أثناء سيرها وهي نائمة والذي تشعر فيه بالكمال والإكتمال ولكنه ليس واقعا ملموسا تعيشه، فظلت بتلك الصراعات مع نصفي روحها حتى تمت عامها الرابع عشر لتكثر بتلك الفترة زياراته لها الملك (سيتي) والذي أخذ بكل زيارة يخبرها أكثر عن حياتها السابقة معه فتستيقظ من أحلامها بفزع وصراخ وهي تنطق بإسمه.
التحقت دورثي بمدرسة بلايموث للفنون وبدأت بجمع الكثير من الآثار المصرية من المزادات العامة بجميع أنحاء بريطانيا وساعدها على ذلك والدها الذي كان يعمل بصناعة السينما.
واصلت دراستها للحضارة المصرية القديمة من خلال زياراتها المتكررة للمكتبة العامة بايستوبرون لتلفت نظر خبير الآثار إي واليس بادج الذي تبناها علميا وعلمها الهيروغليفية بطلاقة وأشبع شغفها بالحياة القديمة للقدماء المصريين.
لم تتوقف أحلامها وسيرها أثناء النوم مطلقا بل ازدادت أكثر وأكثر بمرور الوقت حتى تمت عامها السابع عشر والتحقت بأداء مسرحية غنائية لإيزيس وأوزوريس وغنت بها ترنيمة الرثاء لوفاة أوزوريس فكان لعشيقها وقتها رأي آخر.
كان ذلك الحضور الأقوى على الإطلاق الذي استخدم فية الفرعون كامل طاقته للمثول أمامها بروحه وجسده ليمنعها من رثاء من ظن أنه محبوبها أوزوريس فتمثل بجسد أحد الحراس أو بالأحرى الممثل المساعد الذي يقوم بذلك الدور واقترب منها وهي تشدو بصوتها فسحبها بقوة من ذراعها وهدر بها بغضب جحيمي:
-ترثين أوزوريس وقد نسيتني بنترشيت!
ردت مدافعه عن نفسها وهى ترى حمرة الغضب والشراسة بعينيه:
-أنا فقط أؤدي دورا لا أكثر مولاي وحبيبي.
زمجر بحدة صارا على أسنانه وقال بضيق:
-أنا أمنعك من رثاءه، وأمنعك من نسياني وأمنعك من الوقوع بالعشق وحتى أنني أمنعك من الحياة بدوني فقريبا ستعودين لي بنترشيت.
رمقها بنظرة حزينة وأضاف:
-لقد انتظرتك آلاف السنوات فقط لأجتمع بكِ ولن أتركك بعد أن وجدتك جميلتي، لا تنسي من أنتِ.
هدأته ببكاء وانحنت أمامة بخضوع هاتفة:
-أنا لك مولاي ولن أكون لغيرك ما حييت.
عقب عليها بغضب وحدة:
-وحتى بعد مماتك بنترشيت.
أومأت موافقة ومرددة:
-وحتى بعد مماتي مولاي.
تركت المسرح وغادرت على الفور وما كان من المشاهدين والحضور إلا أن رأوها تحدث نفسها وهي تنظر لذلك الحارس المتعجب من أفعالها وانحنائها أمامه وكأنها تتحدث معه، فهاتف مخرج العرض المصحة العقلية على الفور فجاءت سيارتهم لإصطحابها للمشفى وسط صراخها ورفضها الذهاب معهم وهى تقول بصياح:
-اتركوني، أريد العودة لدياري.
ظلت تنتفض بين يديهم وهي تطلب المساعدة منه هو حبيبها:
-مولااااي، أنقذني من بين يديهم أتوسل إليك.
ولكنها لم تجد مساعدة أو ظهور حتى أودعت المصحة العقلية من جديد وهناك زارتها والدتها التي جلست تبكي بجوارها هاتفة بحزن:
-ألم يحن الوقت بعد للتوقف دورثي؟
نظرت لها بوجوم وقالت:
-أنتِ تعلمين من أنا لذا توقفي عن نعتي بذلك اﻻسم وأخرجيني من هنا.
بكت هانده وتوسلت لها:
-أتركي ابنتي أتوسل إليكِ، أتركيها وشأنها وكفى كل تلك السنوات وهذا العذاب الذي لا ينتهي.
ابتسمت بمكر وأجابتها:
-أنتِ تعلمين أن ابنتك ماتت عندما كانت بالثالثة من عمرها، أنا فقط احتل جسدها لذا كُفي عن الهراء ومحاولة استعطافي وأخرجيني من هنا.
هدرت هانده بحدة وتحذير:
-إن لم تتركي ابنتي ساتركك هنا ما حييت حتى تتعفني بذلك المكان ولن تستفادي شيئاً.
اتسعت بسمتها ونظرت لها بشر وقالت:
-ألا تعلمين إن خرجت ما سيحدث لذلك الجسد؟ هل أنتِ ساذجة إلى هذا الحد؟ لتعلمي إن خرجت أنا ستجدينها مجرد جثة لا روح ولا حياة فيها.
رمقتها هانده بنظرات متفحصة لتتأكد أنها لا تكذب أو تماطل فبكت وبكت وقالت بتوسل:
-إن أخرجتك هل ستتدعين أنكِ ابنتي على الأقل أمام المجتمع والناس؟ فقط لأعيش حياة طبيعية وأوهم حالي أنكِ ابنتي وأن كل شيئ على ما يرام!
صمتت و رفعت حاجبها هاتفة:
-شرط أن تتركيني أعود لموطني بأقرب وقت.
حركت رأسها بحيرة وسألت:
-ماذا؟ كيف؟
أجابتها موضحة:
-بمعني أن أعود لمصر.
ضحكت هانده بحزن ساخرة وقالت:
-وما استفادتي من ذلك؟ أنا أريد ابنتي معي وبحضني وأنتِ تريدين المغادرة.
ردت بلامبالاة:
-هذا عرضي لكِ، أقبليه أو أرفضيه كما تشائين ولكن اعلمي فأنا لن أبقى هنا طويلا بمساعدتك أو بدونها.
يتبع..
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة أسماء المصري من رواية نابغة بعصر الأغبياء ، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية