رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 55 - 1
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
النسخة العامية
الفصل الخامس والخمسون
الجزء الأول
تنهدت وأغمضت عيناها وملامحها غارقة في حالة من الإرهاق التام، ما الغاية
من معرفته لكل ما سأله؟ بم سيستفيد؟ والأهم من كل هذا، هل عند اجابتها على كل
اسئلته لن يدفعهما كل هذا لعناء ليس له نهاية؟!
فتحت عيناها لتتفقده بنظرات مطولة بتعابير جادة وكلما مر جزء من
الثانية كلما لانت ملامحه والتوى فمه بابتسامة مُنهكة ليحتال بآخر حيلة يملكها
انطلت عليها مرات كثيرة بالسابق ولكنه لم يقصد شرًا، كل ما تمناه هو أن تبقى معه
تتحدث عن أي شيء دون أن تتوقف أبدًا!
- خلاص، براحتك، مش لازم تردي، أنا عارف
إن فيه تفاصيل كتير مش منطقية بس مش هاجبرك إنك تجاوبيني، اسئلتي اجابتها ممكن
ترجعنا تاني لكل حاجة عيشنا فيها زمان، وأنتِ مش هتقدري تستحملي.. تصبحي على خير.
التفت وتركها وعقله لا يتوقف عن التفكير، لو كانت صادقة فيما تدعيه
بأنها أصبحت أفضل، وأنها ما زالت نفس الفتاة التي وقع في عشقها يعرف تمام المعرفة ما
الذي يعنيه التحدي بالنسبة إليها، منذ موت والدها ومرورًا بزواجهما الأول ثم
الثاني، لطالما كان تصميمها يعميها عن نتائج ما تريده وتطمح للوصول له، صوت هامس
بعقله أخبره أنه لو تحداها بأنها لو اجابته لن تستطيع التحمل ستفعل النقيض وستجيبه
مهما كانت النتيجة المترتبة على اجابتها له.. هي تعشق التحديات واثبات أنها
تستطيع، أيًا كان هذا الشيء ولكنها وببساطة تستطيع!
جلس مترقبًا أول ما ستتفوه به، أهدابه لا تلتقي، يحدق في الفراغ دون
أن يسلط تركيزه سوى على تحديه إليها، يتمنى أن تنجح حيلته، ويتمنى أن يطول حديثهما
دون انقطاع، ولكنها دفعت كل آماله للموت عندما عقبت بهدوء:
- وأنت من أهله.
ذُهل من رفضها السريع لدعوته السابقة المتخفية لتحديها وجعلته يشعر
بالتخبط والإحباط وكأنه لم يعد يعرف هذه المرأة على الإطلاق، وحين أدرك بأذنيه خطواتها
المُعلنة عن تخليها عنه وانتهاء هذا اليوم اوقفها بسرعة ملتفتًا لها وتحدث بنبرة
ضاحكة بين السخرية والاستسلام ومحاولة أخيرة منه في النجاح بتغير قرارها بتركه:
- يعني ردك عليا من شوية كان كدب لما قولتي
إن فيه بينا صراحة، كنت متأكد على فكرة!
التفت من جديد لينظر أمامه وتضرع بداخله أن تعود مرة ثانية لتنفي تهمة
الكذب التي قذفها بها فهي لم ولن تقبل أن يتهمها أحد بما لا تستسيغه وتقبله كصفة
بها وادعى الهدوء وشرع بتدخين واحدة من سجائره ليبتسم بعذوبه عندما استمع لخطواتها
التي أعلنت عن عودتها الحميدة وشعر بالسعادة تسيطر عليه وبالرغم من كل ما كان يدور
بداخله نجح في رسم ملامح اللامبالاة ببراعة بينما كانت عسليتاها تشتعل غضبًا وهي
تواجهه سائلة:
- هيفرق معاك في ايه لما اجاوبك على كل
ده؟
ارفع كتفاه ثم اخفضهما وطالعها بمقلتين تلقائيتين زيفهما بمنتهى
السهولة واجابها بنبرة معتدلة:
- مش هيفرق، بس افتكر إنك اعتبرتيني كداب
لما مقولتلكيش على الشبه بينك وبين يُمنى، مع إني كنت بخبي الحقيقة مش اكتر، زي ما
أنتِ في يوم كان نِفسك تعرفي كل حاجة ولما اكتشفتي ابتديتي تحاولي تبعدي ومن يومها
كل حاجة اتغيرت بالنسبالك وكنتِ شايفة إن ده حقك، أظن من حقي أعرف تفاصيل كتيرة اتبنى
عليها قرارات مصيرية في حياتي وعلاقتي بيكيز
امتعض وجهها بالسخرية من
اجابته تلك التي يقصد بها تمامًا تطابق تصرفات كل منهما وتشبيهه الخفي لأفعاله
بالماضي بما تفعله الآن وقبل أن يصيبها بالمزيد من الغضب تنفست بعمق وهي تحاول
الحصول على القليل من الهدوء وردت بصوت به هدوء مستفز:
- متشبهش اللي بعمله دلوقتي باللي أنت
عملته زمان، وأنت عارف ومتأكد إن لو كنت قولتلي زمان على كل حاجة مكونتش أبدًا
هاعمل حاجة ولا هاخد رد فعل غير إني بس كنت هاحترم صراحتك وأقدرها ولا كان هيفرق
معايا إني شبهها، إنما أنا لو صارحتك إيه اللي يضمن إنك متاخدش ردود أفعال لناس
مالهاش ذنب في أي حاجة!
سؤالها الاستنكاري الأخير لم يود أن يجيب عليه لأن في الحقيقة لا طائل
ولا غاية من كل حديثهما سوى أن تمكث معه لأطول وقت ممكن فتناول المزيد من ادخنته في
سكوت تام من كلاهما لتضيف في النهاية:
- تمام، مفيش رد منك كالعادة، والكلمتين
الجايين هيبقوا حاجة بعيدة خالص عن اللي بنتكلم فيه.. صدقني حركاتك ولفك ودورانك وإنك
فجأة بعد ما تبقا أنت الظالم تكون مظلوم مبقاش ينفع معايا، لو كنت بتعرف تلعب
بالكلام فأنا اتعلمت كويس امتى بتلعب وامتى بتتكلم جد.
كادت أن تتركه ليوقفها بصوت هادئ دون أن يتحرك من مكانه:
- أنا مردتش عشان كنت عارف إنك مش
هتسكتي وخليتك تكملي كلامك، وبالنسبة للي قولتيه فهو كله كدب!
القليل من الشعور بالذنب لاستغلاله ما رفضته عندما اتهمها بالكذب وتدليس
اقوالها السابقة بعدم كونها صريحة معه، والقليل من الاستمتاع بمجادلتها، والكثير
من الصمت بالغ به إلى أن تلم شتات عقلها الغاضب من كلماته وتجد المزيد من الكلمات
حتى يُحقق هدفه بمماطلتها في الحصول على هدفه وهو البقاء بصحبتها لأطول فترة
ممكنة!
ابتسم بداخله عندما لمحها بطرف عينيه عادت لتقف أمامه من جديد مما
يؤكد له نجاحه الوشيك في أن تتحدث له على الأقل لعشرة دقائق قادمة واستمر في نظره
لسيجارة أخرى يشعلها من بقايا المنتهية التي القاها بالمنفضة ليستمع لصوتها
المنزعج وهي تقول:
- كدب! أنا بقيت كدابة كده فجأة واتنسى
أنت عملت إيه بعد ما كنا اتصارحنا إن مفيش ما بيني وبينك غير الصراحة وغصبت على
نفسي أنسى كل حاجة عملتها معايا وفجأة الاقي إني نسخة من حبيبتك..
أطلقت زفرة ساخرة بابتسامة وسيطرت على انزعاجها لتتابع بهدوء:
- مهما حصل فعلًا فيه حاجات مبتتغيرش،
بتكدب الكدبة وتصدقها لغاية ما تعيش نفسك في خيالاتك بإن هي دي الحقيقة، زي إن
باباك هو أحسن واحد في الدنيا، وإن مامتك عمرها ما كانت أم، وإن عُدي وِحش وإن
يمنى خانتك، وإنك أنت المظلوم وكل اللي حواليك وحشين وأنت الوحيد اللي صح والناس
كلها غلط.. تمام.. أنا كدابة فعلًا.
رمقته باحتقار وقررت أن تتركه وتمضي فلا طائل من الحديث معه في أشياء لن
تفيد أيًا منهما ليوقفها بكلمات يثق تمام الثقة أنها ستجعلها تعود له من جديد:
- شاوريلي على أي حد في الدنيا وقف
جانبي وخاف عليا غير بابا، قوليلي موقف واحد لعدي أو ماما يبين أنهم فعلًا أهلي
ويستحقوا اعاملهم كويس، وبما إنك وصلتي لكل حاجة كانت في الخزنة اعتقد شوفتي كل
اللي جواها وفيه اللي بيثبت إن يمنى خاينة.
بمجرد التقاط أذناه لتوقفها المفاجئ نهض واتجه نحوها لينظر بعينيها
وتحدث بنبرة استفهامية قائلًا:
- لما اكتشفتي فجأة صورة يمنى، ملقتيش
الجوابات بتاعتي في نفس اللحظة كان فيها كل الحقيقة؟! مفكرتيش مثلًا إني كنت خايف
نخسر السعادة اللي كنا فيها وقتها واللي كنت أول مرة اعيشها مع حد لو عرفتي عشان
كده أجلت آخر جوابين؟ ملقتيش كل حاجة في الخزنة تثبتلك إني مكونتش بكدب عليكي في
حاجة في كل الجوابات؟
حدقها لوهلة وهو يبتلع ليقول في النهاية بسخرية ولكن ليست موجهة لها
شخصيًا بل موجهة لما آلت له علاقتهما:
- أكيد نسيتي، ومش هتلاقي اللي يثبت ده،
أصل كل حاجة اتحرقت لما قررتي فجأة تحرقي البيت.. بس أنا عارف وأنتِ عارفة إني كنت
بحاول أقولك كل حاجة من غير كدب، وحتى من غير ما أخبي عليكي.
بمجرد تذكره لهذا شعر بالاضطراب فوجد نفسه يفر هاربًا نحو مقعده ليشعل
سيجارته الثالثة من بقايا الثانية ومشت هي بخطوات متحفزة تتبعه وقد فشلت بالفعل في
التحدث بالمزيد من الهدوء الذي لم تجد له ذرة واحدة متبقية بداخلها ونجح هو فيما أراده
منذ البداية بطوال فترة بقائها معه وتحمل بأعجوبة كل ما اندفع بعقله من موجة
ذكريات ظن أنه تخطاها بالفعل بينما لاقته هي بموجة أخرى من الغضب الشديد التي ضربتها
به بغتة وهي تعقب على كلماته بنبرة حادة:
- أنت فعلًا بتدافع عن نفسك بشوية
جوابات، مجرد حبر على ورق عايز تنجي نفسك بيه قدامي عشان تطلع كمان أنت المظلوم
وأنا اللي ظالماك؟ أنت مش هتبطل كلامك وأسلوبك الخبيث ده أبدًا؟ جوابات ايه بجد اللي
كنت بتعرف تستعطفني بيها وتخبي الحقيقة وسط كلامك الحلو اللي من أول كام مرة تقراه
يبين قد إيه إنك مظلوم إنما اللي يركز شوية فيه ويقارنه بالواقع يعرف إنك أسوأ
إنسان في الدنيا بكل اللي عملته في حياتك..
التقطت أنفاسها بين كلماتها ثم تابعتها بقسوة غير عابئة بما سيترتب
عليها وهي تعقد ذراعيها بتحفز:
- على ما افتكر قولتلي إني هوايتي أصلح
واكتر حاجة أنا شاطرة فيها وده كان صح على فكرة، اللي عرفته بقا عنك إنك هوايتك
واكتر حاجة شاطر فيها هي الكلام، أنا وأنت عارفين إني قدام الكلام ده زمان يستحيل
يبقالي رد فعل غير إني اتعاطف معاك وبسذاجة واحدة عمرها ما جربت تتعامل مع واحد
خبيث زيك كنت هتصعب عليا وهاحبك أكتر، يمكن لو شوفت الكلام ده دلوقتي وبعد كل اللي
وصلتله ابقا عايزة اموتك مش اتعاطف معاك على كل حاجة بشعة أنت عملتها.
لم يترك لها الفرصة لمتابعة المزيد وأرغم نفسه على الصمود بين تلك
الأمواج المُهلكة بين كلماتها وعقله الذي صمم فجأة تذكر وقت تمنى لو دام للأبد ليسألها
بجدية دون لمحة واحدة من الغضب:
- اديني سبب وحيد يخليني اعترفلك بكل
اللي عملته في حياتي غير إني فعلًا كنت عايز اقرب منك ويبقا فيه ما بيني وبينك
صراحة؟
رفعت حاجباها باندهاش لتجيبه بتلقائية حيث اندفعت الكلمات من فمها دفعة
واحدة:
- معرفش، السؤال ده تسأله لنفسك مش ليا،
اللي اعرفه إنك إنسان خبيث وبتخبي الحقيقة جوا الكدب، فاكر إن الخيالات اللي في دماغك
لما بتنقلها بشوية كلام هتعرف توصل نفس الإحساس اللي أنت حاسس بيه ونفس وجهة
النظر، آه أنت شاطر في ده، بس اللي أنت مش قادر تفهمه إن الكلام ده ينفع مع حد
قاعد قدامك شوية في المحكمة وماشي وعايز يخلص شغله، أو موكل عايز يطمن بكلمتين،
وقاضي بيحكم بأدلة ممكن يبقا أغلبها متفبرك ويسمع بودانه كام شاهد زور. إنما لو حد
عارفك فعلًا هيعرف أسلوبك الخبيث، هيعرف إنك مقتنع بشوية خيالات مش أكتر، لو صدقك
مرة واتنين يستحيل يصدقك التالتة..
اضطربت مشاعرها بداخلها ودون قصد منه ولا منها سيطر الحزن الممزوج
بالغضب على ملامحها بعدما تذكرت ذاك الوقت الذي بدا فجأة بعيدًا للغاية، وكأنه كان
في حياة أخرى عاشتها منذ آلاف السنوات وليس مجرد من عامين وعدة أشهر قليلة.
- أنتِ صح، أنتِ مش مجبرة تجاوبي عليا،
مش لازم تكلميني أو تجاوبيني، ولا حتى لازم تعامليني كويس.. اعملي اللي أنتِ
عايزاه.
كلماته كانت بمثابة استسلامه، لو سيذهبان إلى هناك بمثل هذه القسوة
فالأفضل العودة من جديد لافتراقهما المحتوم عاجلًا أم آجلًا وسيفيد كلاهما
الابتعاد لا محالة!
اتجه ليجلس أسفل عيناها المنزعجتان ووجدته يشرع في تدخين سيجارته
الرابعة وكلماته أصابتها بمزيد من الإرهاق ووجدت نفسها في نفس الدوامة من جديد
معه، من جديد يُذكرها أن بعض الأشياء لا تتغير أبدًا.. كمحادثة معه طويلة تنتهي
بلا نتيجة ولا هدف.
جذبت منه سيجارته لتلقيها بعيدًا في المنفضة وتحدثت بنبرة مستسلمة
قائلة:
- أنا مكونتش عايزة نتكلم بالأسلوب ده،
ولا نوصل لهنا، مبقاش فيه حاجة هتفيد اننا نتكلم في القديم.. اللي فات خلاص مش
هايفيد في أي حاجة.
تنهدت وهي ترمقه بمشاعر متضاربة لم يستطع كلاهما تحديد ما هي لتضيف في
النهاية:
- كفاية سجاير كده وادخل نام.
استطاعت كلماتها تغير مزاجه مائة وثمانين درجة ليضحك بخفوت وتعجب
متهكمًا:
- مش عايزاني اغسل سناني ورجلي قبل ما
أنام بالمرة؟
ضيقت عيناها حاقدة على ردة فعله السخيفة لتلقي عليه لفافة التبغ
المشتعلة ليلقيها أرضًا فور رؤيته فعلتها بينما حدثته قائلة:
- اشرب مليون واحدة كمان ونام ولا
متنامش أنت حر، بس متبقاش تيجي تعرفني حاجة عنك وتقولي أنا هاخد جلسات وخليكي
جنبي!
اتجهت لتغادره ليقول دون أن يلتفت لها:
- أنا مقولتلكيش خليكي جنبي، أنتِ اللي
جيتي لواحدك!
اتسعت عسليتاها بغضب عارم واتجهت لتقف أمامه وبحثت عن كلمات حتى
تقولها بينما استمتع هو بمعانتها وهي تحاول أن تجد ما تقوله فتابعها بهدوء وهو
مبتسم لها ابتسامة استفزتها للغاية وهدوئه كان من المفترض أن يصيبها بمزيد من
الغضب ولكن بمرور لحظات متتالية تغيرت نظرتها وكأنها وجدت كنز ثمين لتوها ووقفت بمنتهى الثقة لتخبره بثبات متسائلة:
- أنت عارف دي المرة الكام اللي كل ما
أحاول امشي ترجعني وانت بتقول كلام مُستفز عشان تخليني ممشيش واسيبك! أنت عايز إيه
بالظبط؟
ابتسم بداخله ولم يعرف أعليه الشعور بالفخر والامتنان لأنها أصبحت أكثر
من يعرفه على الإطلاق وهذا كان كل ما يتمناه أن يحظى بامرأة تفهمه وتعرفه بدون أن
ينطق ولو حرف واحد، أم عليه الشعور بالتوتر والارتباك لأنها كادت أن تقترب من
حقيقة أنه يماطلها فقط ليحصل على المزيد من الوقت معها؟!
قلب شفتاه ورفع كتفاه ثم اخفضهما وتصنع البراءة وأجابها:
- ما قولتلك بصراحة، لو كنتي جاوبتي
عليا مكنش زماننا في الجدال والمناقشة الطويلة اوي دي.
ابتسمت بتحفز وعيناها تطلقان نظرات لا نهائية تفيد بأنها لا تصدق ذرة
دماء واحدة مما اندفعت لعقله وجعلته يجيب بتلك الإجابة الواهية التافهة لتتحدث
بهدوء ونبرة استفهامية ساخرة:
- ويا ترى اجابتك دي هتنفع مع واحدة فهماك
وعرفاك كويس؟
تنهد ثم رفع يداه باستسلام وقال بمصداقية:
- خلاص، أنا كده اتزنقت، أنا مش عايزك
تمشي فعلًا!
رفعت احدى حاجبيها وسألته باختصار شديد وقررت إن لم يُجب بسرعة
وبإجابة يستطيع عقلها المُهلك من خبثه ومماطلته أن يُصدقها، ستغادر ومهما تفوه بترهات
لن تتوقف وتستمع له:
- والسبب؟
زم شفتاه وفاوضها متسائلًا:
- لو قولتلك هتجاوبي على اسئلتي؟
قلبت عيناها وزفرت بتعب وغمغمت وهي تتجه صوب منزلها:
- مفيش فايدة أبدًا.
نهض من مقعده واستدار نحوها لكي يوقفها وتكلم بنبرة عالية نوعًا ما
حتى تستمع لكل ما يقوله جيدًا:
- أنا كنت عايزك تفضلي قاعدة معايا بأي
طريقة وخلاص.
أدارت رأسها وهي ترمقه من على مسافة باستعلاء شديد ليتابع بنبرة
معتدلة:
- عشان كده كنت بحاول أتكلم في أي حاجة
هتخليكي تقضي وقت أطول معايا، لإني عارف ومتأكد إن مش من حقي أطلب ده منك بطريقة
مباشرة ولا أنتِ مُلزمة تعملي اللي أنا عايزه.
أدرك بشاعة ما آلت إليه أحوالهما وأعاد أدراجه لمقعده خاوي الوفاض وسخر
من خيباته المتتالية، حتى رغبته في الجلوس معها بائت بالفشل، وبالرغم من أنه
يستطيع أن يتفوه بالمزيد مما سيجعلها تعود له وتتحدث معه لأيام وليس لدقائق قرر أ
يتركها وشأنها، يكفي الخوض في المزيد مما سيسبب لهما آلام لن تنتهي.
ترددت قبل أن تطأ قدمها داخل المنزل، سألت
نفسها سؤال واحد، هل تريد لهذا الهدوء بينهما أن يستمر أم تريد صُنع نسخة أخرى من
"يزيد الجندي" لتواجه مصير قد يقارب مصير والدته؟ تبًا، هو مستعد بالفعل
لأن يُصبح نسخة طبق الأصل منه، والإجابة ستكون واحدة ليس لها ثان، هي ليست مستعدة
لمواجهة نسخة أخرى من والده وخصوصًا عندما يحدث وتحصل على طلاقها منه، لا تريد
وجوده من جديد في حياتها تحت أي مسمى في حياتها ولا لأي سبب مهما كان.
التفتت وعاودت أدراجها ليتعجب من وجودها حتى
الآن واستعدادها أن تجيبه حتى بعدما كان صادقًا معها عندما استمع لكلماتها:
-
لو هنكمل الهدوء والأسلوب المتحضر ده بيني
وبينك على الأقل تكون صريح وتقول عايز إيه من الأول.
أخذت خطوات قليلة وجلست بجانبه على المقعد
الوثير الذي يقع بمنتصف الحديقة التي تتوسط منزلها وأمامه استراحته الصغيرة ومنزل
"عنود" وعندما وجدت أن المسافة التي تفصل بينهما مقبولة التفتت نحوه
وحدثته بجدية قائلة بتوضيح:
-
اسمع، أنا مبحبش اتخانق واعادي الناس وخلاص،
اديك شوفت بعد قضية عمي أنا مكانش ليا أي تعامل معاهم، وباباك اهو مفكرتش انتقم
منه، وأنت فضلنا حوالي سنة ملناش علاقة ببعض ولا قربت منك، ده مش طبعي إن بعد ما
يحصلي مشاكل مع حد اتعامل معاه بأسلوب مش كويس أو حتى كويس..
تريثت بين كلماتها وهي تشعر بالقليل من اللوم
على نفسها لكذبها، فهي تتمنى قتل والده لو تستطيع أن تفعلها ثم تابعت:
-
بس عشان أنت بقيت كويس معايا أنا بحاول
اتعامل معاك بأسلوب كويس، على الأقل لغاية ما نبعد عن بعض.
تفحصت ملامحه التي بالكاد تتضح في هذا الظلام
وأكملت:
-
أنا عارفة إن أي حد بيرتاح لما بيعرف تفاصيل
كل اللي حصله والأسباب اللي وراها، عشان كده كنت بحاول أعرف عنك كل حاجة في أول
جوازنا.
أجلت حلقها وسلطت كامل تركيزها على عينيه
لتعلم مدى جديته في الأمر ولو أنها شبه متأكدة أنه سيكذب أو قد يتصرف تصرف خبيث
كعادته وسألته:
-
إيه اللي يضمنلي إني لما اجاوبك واقولك حقيقة
كل اللي سألت عليه مش هتتصرف وتعمل حركة من حركاتك سواء معايا أو مع غيري؟
تغلفت ملامحه بالسخرية وأجابها قائلًا
باختصار:
-
جربي.
أشاحت بعسليتيها بعيدًا عن وجهه وابتسمت
باستخفاف لأنها لا تصدقه ولا تثق به ولكنها فكرت جيدًا في كل ما تريده وحسمت
أمرها، ما الذي سيحدث أسوأ مما حدث بالفعل وزفرت بعمق ثم بدأت تجيب أسئلته لتجرب
الأمر حقًا، لو علم جزء من الحقيقة على الأقل ستكون له ردة فعل لن تقبلها وبهذا
ستعلم بل ستتيقن من أنه لم ولن يتغير أبدًا.
-
أنت سألتني مين اللي ساعدني في موضوع
المحامين، بمنتهى البساطة عملت سيرش طويل شوية اونلاين على جوجل، عرفت مين اللي
ممكن يقف قصادك في قضية وخليت علا ترتب معاهم، والأدوية اضطريت اخد موبايل محمود السواق
بتاعك، وكلمت مريم، بعته جاب الأدوية وحطيتهالك في الأكل في أي وقت أنت كنت بعيد
عني فيه، وعرفت إنك مريض من تاني او تالت يوم ابتديت انزل واروح فيه الشغل بعد الـ
honeymoon لما يارا قالتلي تعالي نروح نستلم شقة يونس من المهندس لقيت اسم مريم
وان عيادتها موجودة فقولت مش هاخسر حاجة لما اعرف إن الانسان اللي المفروض اقضي
معاه حياتي طبيعي ولا لأ!
هو بالفعل يذهب إلى "مريم" منذ مدة
ولن ينتقم من "يارا" التي ستكون عما قريب أخت زوج أخته، وبالنسبة للسائق
فهي تستطيع أن تجد له عملًا آخر إن قام بإيذائه في عمله، هي تعلم أنه يعمل معه منذ
سنوات كثيرة، وهو يثق به وإلا لما كان استمر معه في العمل لكل تلك السنوات. أما عن
أمر "يُمنى" فهي لن تغامر قط بذكره إليه.
تابعت كلماتها بعد أن ابتلعت وملامحها تعج
بالاشمئزاز عندما تذكرت كيف هربت من هذا المنزل الذ عذبها به لأيام ظنت أنها لن
تنتهي:
-
لما ضربت نفسك بالنار وجيت افتح الباب لقيت
باباك في وشي، بيبصلي كأني أنا اللي قتلتك، قبل حتى ما يفهم كان فيه ايه، جيت اجرب
أخرج من الباب ممنعنيش، كنت بجري ولقيت دكتور فقولتله يلحقك، منعوني أخرج طبعًا،
استخبيت شوية لغاية ما سمعت فيه عربية وشوفتها بتخرج وروحت الجراج اخدت عربية
وطلعت بسرعة من الباب ومفرقش بقا معايا فيه حد هيتخبط او البوابة هتتكسر.. بس كان
لازم امشي بأي طريقة يا إما حسيت إني..
سيطر على ملامحها الآلام لتقول بتنهيدة:
-
إني هموت!
دام الصمت لفترة أو لحظات متتالية، لا يدري
أي منهما كيف مر الوقت وكم كان مقداره، فكل منهما غرق بعيدًا فيما يتذكره فهذه
كانت محاولته الأولى في إنهاء حياته بنفسه، بينما هي ظنت أنه لن يتوقف إلا بموتها
أو جنونها، لقد أخطأ هو فيما فعله وأخطأت هي فيي اختياراتها، هل لو كان تركها دون
أن يفعل شيء، هل سيكون كلاهما في مكان أفضل الآن؟ لو كانت أخذت الأوراق ولم تواجهه
هل كان سيؤذي هو والدتها وأخيها؟ لو كان استمع لها منذ البداية وكان صريح في كل
شيء هل كانت لتغفر له؟ يا له من غبي، لطالما كانت وستكون أفضل من يمكنه التحدث لها
بأريحية!
هل لو كانت اتبعت أي طريقة أخرى معه وانتظرت
قليلًا كان في النهاية سيفعل كل ما أرادته؟ هي حقًا غبية لو تُفكر الآن أنها لم
تُعطي له فُرصة واثنتان ومائة! لطالما خذلها فيما بينهما وأمام نفسها!
حاسبت نفسها أنها تشعر بالندم بينما لم يكن
أمامه سوى الندم ليشعر به، وبعد مُدة دام صمتهما خلالها آتى صوته الهادئ سائلًا:
-
وبعدين؟
التفتت نحوه واكتفت بالاستفهام عن طريق
عسليتيها فوضح سؤاله:
-
ازاي وانتي معاكيش غير عربية البنزين فيها مش
هيكمل ومش معاكي أي ورق وصلتي لبيت مامتك؟
رفعت حاجبيها واخفضتهما باستخفاف واضح وغمغمت
وهي تعاود حركة وجهها ليصبح أمامها:
-
يمكن ماليش خبرة في حاجات كتيرة بس مش غبية
يعني.
كم كرهت أن تُدلي بهذا من جديد، كم كان الأمر
مزعج، مؤلم، ومهلك لذلك الكبرياء الذي بداخلها أن تتذكر كيف بدت حافية القدمين
تتصرف بهيسترية واضحة وهي تحاول النجاة بنفسها، آلاف من الأفكار كانت تمر على
عقلها وقتها، ظنت أنه مات حقًا، أو أن والده أرسل خلفها أحد ما، ما الذي كانت
ستفعله لو لم يكن والدها يملك هذا المنزل ما الذي كانت ستفعله؟!
-
بابي كان عنده شاليه قريب، وأنا دايمًا بشيل
نسخة من أوراقي على icloud
فلما وريت للـ security كل حاجة دخلني، ومن موبايل
الجنايني كلمت هدى وبعتتلي السواق يجي ياخدني.
مقتت تحدثها عن الأمر ونطقه بصوت مسموع،
تذكرت كل شيء من جديد، لا تبكي ولا يتضح عليها سوى الحُزن، ولكن مرارة أن تتوسل
مجرد رجل يعمل مئات مثله لديها كان أكثر مما يمكنها تحمله وهي تمشي أمام الجميع
كالمشردة في غاية الرعب لو أن هناك من يتبعها ويعيدها لكل ما كانت تواجهه مرة أخرى.
-
أنا فاهم إن صعب اوي عليكي تحكي كل ده بصوت
مسموع، بس أنا عايز اعرف تفاصيل كل حاجة.
آتاها صوته الهادئ ولن تُنكر أنه نقل بعض
المشاعر به، ولكن بم سيفيده كل هذا؟ هل يريد مجرد التحدث معها؟ أم أن أسئلته لها
غاية أخرى؟ هل فشلت من جديد في فهمه وادراك غاياته وأهدافه خلف كل ما يثرثر به؟
التفتت نحوه بملامح مُنزعجة وسألته بنبرة
حادة نوعًا ما:
-
أنا قعدت معاك ورديت عليك، لازمة كل اسئلتك
دي إيه؟
أجاب دون أن يأخذ ولو جزء من الثانية ليفكر
خلاله وهو ينظر إليها بمصداقية:
-
قولتلك عايز أتكلم معاكي، وعايز اقعد معاكي،
ومعتقدش حد هيقدر اللي مرينا بيه غيرنا احنا، أظن إن ده هيساعدنا احنا الاتنين.
لم تقتنع بكلمة واحدة مما قاله ليبدأ الغضب
في السيطرة عليها بفعل ما سببته كلماتها من ألم لتذكرها ذلك الوقت الذي ظنت أنه لن
يمر على الإطلاق وردت معقبة بحزم:
-
بلاش الأسلوب ده معايا يا عمر، احنا الاتنين
عارفين إن الكلام في المواضيع دي بالذات هيتعبني وهيضايقك، إلا بقا لو فيه سبب
تاني مخبيه عليا ورا كل اسئلتك دي.
ابتسم بسخرية وتوقف عن النظر لها والتفت
لينظر أمامه وهو يقول بامتنان حقيقي:
-
لا مفيش أسباب، عمومًا شكرًا إنك قولتي كل ده!
أومأت باقتضاب ولم يجد المزيد من الكلام
لقوله وتمعن في كلماتها ليسألها باقتضاب:
-
والخزنة؟