-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 59 - 1

  رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل التاسع والخمسون 

الجزء الأول

كل ما به سكن فجأة بعد أن قال ما قاله، مما يعرفه عن نفسه أنه لو أمام أي شخص في هذا الكون بأكمله كان سيغادره فورًا، ولكن هي بكل ما بها بتلك النظرة الغاضبة وهي تبدو كالهرة الصغيرة المُستاءة أجبرته على الوقوف والمشاهدة رغمًا عن أنفه وعن كل ما هو عليه!


‎-مش هاتدخل، تمام.. متدخلش للآخر وخليك بتتفرج من بعيد!

 

توجهت لتغادر الغرفة ولكن تخالج في صدره القليل من القلق مما قد يحدث بين كلتاهما فأمه ليست بامرأة حسنة المعشر والأخرى كالقنبلة الموقوتة التي لو حاول أحد أن يُوقفها سيحدث انفجار مدوي لن ينجو منه أحد، وهو بالفعل مرهق اليوم!

 

وجد نفسه قد ارتدى قميصه واتبعها في صمت وشك أن لا أحد يلاحظه وجلس على مقربة ليستمع لما سيحدث فوجد أن "روان" من بدأت بالكلام وهي تسألها:

-       تحبي يا طنط أساعد حضرتك في حاجة؟

 

لوت شـ ـفتاها دون أن تلاحظ "روان" واكتفت بالتحدث بنبرة لم تنل إعجاب "عمر" نفسه ولا هي بالطبع:

-       لا وعلى إيه أنا لسه فيا صحة اعمل أكل يتاكل!

 

شعرت بالنيران تلتهم دمائها، ليس عليها أن تقع في عشقها ولكن في نفس الوقت ليس عليها أن تكون وقحة لمثل هذه الدرجة معها وهي لم تفعل لها شيء..

 

حاولت السيطرة على غضبها بألا تقول وتنطق بما قد تندم عليه لاحقًا بينما فاجأتها "مها" وهي تقول:

-       ولا اقولك، ارمي الأكل اللي مش هيتاكل ده!

 

اشارت تجاه ما صنعته "روان" منذ قليل لتنظر تجاه الطعام وتشعر بأنها لم تعد لديها شهية في تناول ولو مقدار قليل من هذا الطعام بينما وصل غضبها إلى مرحلة لن تتمكن من الرجوع عنها وقبل أن تنطق بما لا يحمد عقباه تدخل صوته هو:

-       أنا هاكل الأكل.

 

اتجه ليبدأ في نقل الطعام في طبقين أعدهما لنفسه ووضعهما بجهاز التسخين الكهربائي بينما نظرت له "روان" بامتنان لم تستطع أن تخفيه وقرأه هو بعينيها فابتسمت وهي تعقد حاجباها بنظرة استفهامية فاكتفى بالرد بلمحة نحو والدته ومن جديد نظر لها ولم تقرأ سوى أنه سوف يتراجع دائمًا وأبدًا من أجلها!

 

ما فعله جعلها تستكين وتتناسى نوعًا ما ولكن تلك التمتمة منها أفسدت عليها من جديد تلك اللحظة التي كادت أن تُنسيها كم هي سخيفة معها:

-       ربنا يهني سعيد بسعيدة.

 

لوهلة لم تفهم ما قالته وقلب "عمر" عيناه ثم أخرج الأطباق وجلس ليتناول طعامه في صمت ولكن لن تتركها "روان" لتفر بما فعلته بعيدًا وسألتها مباشرةً:

-       هو حضرتك يا طنط دخلتي الأوضة بتاعتي أنا وعمر النهاردة؟

 

سيطر الوجوم على وجهها واجابت بقليل من الارتباك:

-       اوضتك، لا مدخلتهاش، ولا يمكن دخلتها، مش فاكرة بصراحة.

 

ابتلع ما بفمه دفعة واحدة وتدخل بنبرة هادئة:

-       البيت في كاميرات يا ماما.

 

التفتت نحوه بغضب وهي تحاكي نبرته:

-       البيت فيه كاميرات يا ماما، هو ده اللي ربنا قدرك عليه، صحيح ما أنت ابنه، ده بدل ما تعرف مراتك الأصول، بقا حماتها جاية بيتها لأول مرة والهانم قال ايه عندها شغل وجاية الساعة مية تقولي اعملك أكل، ده بدل ما تحترمني وتفرجني على بيتكم وتقولي محتاجة ايه جاي تقولي البيت فيه كاميرات!

 

رفعت حاجباها وهي حقًا مندهشة مما تستمع له، يتناول الطعام الذي لتوها كانت تريد التخلص منه في النفايات، يأتي ولا تُفكر في تبادل كلمة معه، والآن تُلقي باللوم عليه وتُشبهه بوالده الذي خلصها "عمر" منه!! يبدو أن "عنود" كانت مُحقة بشأن ما يجري في منزلهم، هو يأكل النفايات أما "عُدي" فيُصنع له كل ما يبتغيه، هذه المرأة لابد أنها لا تنتسب للبشرية تحت أي بند من البنود فضلًا عن كونها أم لثلاثة أبناء!

 

حاولت الاستفاقة من حالة الصدمة التي انتابتها وقررت أن ترد لها الصاع بعد أن تناولت نفسًا عميقًا وقالت بنبرة جعلتها تحترق:

-       سوري يا طنط، أصلي مش واخدة على شغل الناس البلدي اللي بيوروا حماوتهم البيت واوضة نومهم واللانجيري بتاعهم، ابقي عرفيني العادات دي بما إنك تفهمي فيها كويس وبتعمليها وطبعًا البيت تحت أمر حضرتك، اتفرجي على كل اللي فيه بس يا ريت الاقي حاجتي مترتبة تاني زي ما هي عشان أنا وجوزي بنكره الفركشة والصوت العالي!

 

قلب شفـ ـتاه وهو يتناول الطعام بإعجاب فلقد ظن منذ قليل أنها لن تستطيع أن تتعامل مع "مها الجندي" لقد نجحت في هذا، يبدو وأن تدخله لن تحتاج له على الإطلاق:

-       بعد اذن حضرتك عشان ورايا شغل أخلصه واوعدك لما ابقا فاضية ابقا اعمل الأكل من بدري واجي اتفرج مع حضرتك على المسلسل..

 

أخذت خطوة لتبتعد قبل أن تنفجر رأسها بفعل ضغط الدماء الذي يرتفع كلما لمحتها ثم توقفت وكأنها تتذكر أمر ما بنفس اسلوبها السابق وهي تخبرها أن تُلقي بالطعام:

-       ولا مش مهم، كده كده عدي بيجي متأخر، ابقا اخد يوم إجازة ونعمله الغدا بعد المسلسلات وعنود وعمر يبقوا يشوفولهم بيت تاني!

 

تركته بصحبتها واتجهت لتغادر فابتسم "عمر" ولأول مرة يرى "مها الجندي" تتعرض لهذا النوع من الشجار الهادئ ولم يستطع أن يدع الأمر ليمر بسلام وناداها سائلًا:

-       مش هتتغدي؟

 

التفتت وأخبرته بابتسامة:

-       لا يا حبيبي، كل أنت بألف هنا!

 

كادت الأخرى تنفجر من شدة الغضب لتلقي إناء كانت ممسكة به في الحوض أمامها وشعرت بغليان دمائها وهو يتحدث بمثل هذا البرود وكأنهما اتفقا عليها ولم يكترث بأن يتبادل معها ولو كلمة ود وحيدة وشعر أنها تفقدته عدة مرات ولكنه لم يهتم وعندما أنهى طعامه نهض وأعاد كل شيء لموضعه بعد أن نظف أطباقه وجففها لتستفزه وهي تقول بشماتة:

-       يجي يزيد يتفرج على ابنه الراجل حبيبه، بيأكل نفسه وبيغسل المواعين، لما كنت بسمعه بيقول إنها ممشياك كان معاه حق، مدلعها يا اخويا كل الدلع ده ليه! على ايه يعني.

 

توجه ليغسل يده ثم جففها ببرود شديد ثم عقب على كلماتها بصوت هادئ جعل دمائها تغلي:

-       ما أنا كنت بأكل نفسي وبغسل كل حاجة لنفسي سنين، قبل ما اتجوز، أنتِ كنتِ فين؟!

 

نظر لها وهو لا ينتظر إجابة حقيقية على سؤاله وابتسم بزفرة متهكمة وهو يجيب:

-       أكيد كان عندك الأهم مني، أنا مقدر وفاهم، متجاوبيش أصلًا.

 

كاد لسانها أن ينطلق بأمرٍ ما ولكن ملامحه اختلفت للجدية وحدثها بلهجة محذرة:

-       بصي يا ماما، البيت ده بيتي أنا ومراتي وبنعيش فيه بطريقة معينة، احنا مبسوطين على كده وعاجبنا كده، فلو عندك مجرد خيال إنك تغيري كل حاجة فده مش هايحصل، وشغل الحموات اللي أنتِ عملاه عليها ده ملوش لازمة، هي السبب في إنك عرفتي تخرجي من بيتك بعد أربعين سنة، ويكون في علمك..

 

حك لحيته وهو يستدعي انتباهها ثم تابع:

-       لو روحتي عند اخواتك مش هيقدروا على زعل بابا وهترجعي بيته، ولو روحتي مع عدي في أي حتة هو اللي مش هيقدر على زعل بابا وهترجعو بيته برضو بخناقة اكبر من الخناقة اللي اخواتك هيتخانقوها ولا كان زمانك عايشة انتي وعدي بعيد عنه من زمان، ولو رجعتي بيتك من تاني يوم يبقا أنتِ كده معملتيش حاجة، فعلشان تبقا فترة كويسة لينا وليكي افتكري إن ده بيتي وكلامي فيه اللي يمشي، ولو هريحك إنك تقولي مراتي ممشياني مفيش مشكلة، إيه يعني المشكلة لما الست تمشي واحد بتحبه، هو يا ماما مش انتِ ممشية عدي بقالك سنين برضو؟!

 

تركها وغادر وهو يزفر بمشقة فهو لم يُرد رؤية وجهها وخاصة بعدما خاضه مع "مريم" صباح اليوم ولكن هذا التحذير أو الكلمات أو الشجار أو أيًا ما كان جعله يشعر بأنه أفضل، لديه أخيرًا أمر ما تريده والدته ويستطيع التحكم به، لقد كان لديها ما احتاجه يومًا ما وقامت بحرمانه منه تمامًا، على الأقل هو ليس مثلها ولا يُريد أن يكون!

--

اقترب حيث جلست هي وكأنها اختارت أكثر المقاعد بُعدًا عن المنزل بأكمله ووجدها تطرق بأصابعها على حاسوبها وكأنها نوت أن تهشمه اليوم فأخبرها وهو يجلس في مقابلتها:

-       بالراحة طيب، لما يتكسر ده هتنزلي تجيبي غيره حالًا يعني، لسه فيكي طاقة أصلًا بعد كل اللي حصل ده!

 

رفعت عيناها له وكأنه لم يتحدث وأكملت ما تفعله بل زادت من عصبيتها على تلك الأزرار إلى أن وجدت يـ ـده تمنعها فنظرت له بغضب شديد ليُخبرها مستفهمًا:

-       ما قولتلك خلاص، هتعملي عقلك بعقلها ولا ايه؟

 

وجدها تلهث من شدة الغضب لتسأله بنبرة منزعجة:

-       بقا أنا معرفش في الأصول والمفروض اعمل اوضتي shopping center عشان أعجبها ولا ايه؟ وبقا أنا اكلي مايص زي ما هي ما بتقول؟ هي بجد عايزة إيه مني؟!

 

وجد نفسه يضحك مقهقهًا وتركها واسترخى بمقعده إلى أن تساقطت الدموع من عينيه وهو لا يستطيع تجاوز كيف بدت وهي تنطق بتلك الكلمات لتصيح به منزعجة:

-       أنت بتضحك على ايه يا بارد؟

 

لم يستطع الانتهاء بسهولة لتنهض هي بعد أن أغلقت شاشة حاسوبها بقوة لدرجة أنه ظن أن شاشته قد كُسرت ولكنه أوقفها وهو يُمسك بيـ ـدها وسألها بنبرة ما زالت متعلقة بأصوات ضحكته:

-       هي قالتلك الأكل بتاعك إيه؟

 

عقدت حاجباها وهي تحاول أن تتذكر ما قالته لتجيبه بحسن نية وهي ما زالت غاضبة:

-       قالت مايص باين ولا كلمة زي دي..

 

ضحك من جديد فهي ما زالت مصممة أن ما قالته هو الصواب لتشعر بأنها بأكملها عائلة مستفزة ولن ينتهِ الأمر إلا بجلطة دماغية ستوقف حياتها للأبد فتناولت هاتفها بيدها الحرة وحاولت انتزاع يـ ـدها الأخرى من قبضته لتغادر ولكنه منعها قبل أن تذهب وعقب قائلًا:

-       أكيد مقالتش مايص، تعالي بس قبل ما تمشي هقولك حاجة.

 

جذبها لكي تجلس فزفرت ولم تفعل ما يُريده وسألته بانزعاج:

-       عايز ايه؟

 

بمجرد توقفها عن المقاومة ترك يدها وكلمها بابتسامة بعد ضحكه الذي أحيانًا تستطيع النجاح في تسبيبه له وأخبرها:

-       روان سيبك من حركات ماما بتاعت الستات دي، اللي تسمعيه منها طنشيه، خليكي انتِ أحسن منها وكلها شهرين ونص أول ما عنود تتجوز مش هتقعدي معاها في مكان تاني!

 

رفعت حاجباها وقالت بسخرية:

-       وانا هافضل قاعدة شهرين ونص معاها، أنا ممكن يجيلي نوبات تاني من اسلوبها لوحده، أنا آخري هنا أسبوعين وهروح اقعد عند مامي شوية بدل بجد ما راسي تنفجر.

 

أومأ لها بالموافقة وعقب بابتسامة:

-       ماشي اتفقنا، روحي عند مامتك واقعدي زي ما تحبي!

 

رفعت حاجباها وجلست أمامه بإرادتها وأخبرته:

-       أنا بعرفك على فكرة مش باخد الاذن منك.

 

هز رأسه مرة ثانية بالموافقة وأخبرها:

-       اللي أنتِ عايزاه!

 

ضيقت ما بين حاجباها وتفحصته مليًا وسألته:

-       وأنا بقا بعد ما قعدت معاك كل ده مش هتيجي تقعد يومين معايا عند مامي؟

 

تنهد واجابها بنفاذ صبر:

-       حاضر، هاجي اقعد معاكي يومين عند مامي!

 

هل انتهى الأمر معه بهذه السهولة؟ لابد من أنه يعد لشيء ما في عقله الثعباني، ما الذي يُريد الوصول له؟ لتستفزه قليلًا لترى ماذا هناك!

-       وأنا هسيبلها كده البيت والأوضة بتاعتي عشان اجي الاقيها منزلة حاجتي على امازون مش كده؟

 

أراح رأسه للخلف وزفر بإرهاق ثم قال:

-       هنقفل الأوضة بالمفتاح كل يوم بعد ما ننزل، حاجة تانية؟!

 

تفحصته باستفهام وهي تشعر بالريبة من موافقته على كل شيء وإيجاد حل لكل شيء ثم اكتفت بهز رأسها بالنفي ليدوم الصمت قليلًا وتركت هي حاسوبها أمامها وعقدت ذراعيها بينما أشعل هو لفافة تبغ في هدوء ليستمع كلاهما لصوت التلفاز ذو الصوت المرتفع لتشمئز ملامحهما في نفس الوقت لتتنهد وهي تسأله:

- هو الاكل بتاعي وحش فعلًا؟

 

هز رأسه بالنفي وبمنتهى الهدوء أخبرها:

- كان حلو اوي، كل حاجة بتعمليها حلوة.

 

تفحصته وهي لم تعد تفهم لماذا كلما مر الوقت اصبح معه كل شيء اسهل وما زال يتبع أسلوب المدح والغزل الخفي بكل الطرق الممكنة ولكنها قررت أن تتوقف عن التفكير في الأمر وأخبرته:

-       على فكرة أنا جعانة اوي وكان نفسي آكل.

 

تفقدها وهو يشير بيده نحو المنزل ثم نفث دخانه وهو يخبرها:

-       أنا شلت الأكل في التلاجة، قومي سخني الأكل وكُلي.

-       لأ، خلاص مليش نِفس آكل الأكل ده!

 

بدا عليها الحُزن بينما ضحك بخفوت وهو يُكرر كلمتها:

-       عشان أكل مايص مش كده!

 

حدجته بغضب بينما تناولت هاتفها وهي تتمتم:

-       أنا هاجيب أكل delivery

 

تابعها باستمتاع وهي تقوم بالتحدث بهاتفها بينما شعر وكأنه يُشاهد منظر خلاب أمامه سيجعله يستيقظ لساعات رغمًا عن أنفه غير عابئًا بكل ذلك النظام القاسي الذي عليه أن يتبعه لكي يحارب تلك النوبات ويمنعها من الحدوث.

 

لم يُعكر صفو استمتاعه سوى غضبها الذي كان محبب لقلبه هو الآخر عندما تختلف ملامحها بهذه الطريقة ووجدها تصيح بالهاتف:

-       يعني إيه مفيش أم علي، ما أنا دايمًا بجيب من عندكم!

 

هل تريد الغضب من أجل الغضب أم ما بالها اليوم؟! قلب شفتاه بتعجب بينما أكمل مشاهدته لها ليسمعها تقول:

-       طب الغي الـ order كله بقا ومش عايزة حاجة منكم!

 

أنهت المكالمة بعصبية بينما قامت بإرسال رسالة صوتية لـ "علا" على تطبيق تواصل بلهجة آمرة بحتة:

-       أول ما تسمعي الرسالة كلمي هدى ورتبي معاها عايزة chef في البيت هنا تعمل الأكل كل يوم ويبقا جاهز من الساعة خمسة، تكون واحدة ست أو بنت، وشوفي مع الـ HR المرتبات بتكون كام ودخليه في مصاريفي مع الحسابات، ومن بكرة تشوفي كام حد كويس من الـ housekeeping ويجوا كل يوم الصبح ينضفوا البيت!

 

زفرت بضيق ثم نهضت لتغادر بينما أخذ يتابع كيف أصبحت وكل ما تحولت له ليجدها تنهض وهي تخبره:

-       أنا رايحة أنام!

 

هز رأسه لها بالموافقة فقلبت هي ملامحها بوجهه بينما التفتت صوب المنزل لتعود له وهي تغمغم:

-       بارد!

-       على فكرة أنتِ اتغيرتي اوي!

 

التفتت نحوه دون أن تعود له وسألته:

-       أكيد طبعًا اتغيرت، ما أنت كمان اتغيرت وكل الناس بتتغير..

 

اكتفى بمشاهدتها واكتفى بإيماءة تصديقًا وتأكيدًا على اتفاقه معها بالرأي فسألته دون أن تُفكر في الاقتراب منه أو العودة له من جديد:

-       ومن وجهة نظر المحامي العظيم شايف إني اتغيرت في إيه؟

 

اجابها برفق ونبرة مُنهكة دون أن ينوي سوى الخير والمصداقية:

-       عملتي كل اللي عملتيه وبابا مخدش باله، بقيتي بتعرفي تخططي شوية، عرفتي تردي على ماما، عارفة تعملي بيني وبينك حدود، اه لسه بترمي كل حاجة على علا بس بقيتي بتاخدي قرارات بسرعة، وطبعًا القطة اللي جواكي زي ما هي مبتتغيرش!

 

قلبت عيناها باستخفاف بكلماته وقررت أن تتوقف عن انجذابها لأي لعنة يتفوه بها ليوقفها سائلًا:

-       طب وأنا اتغيرت في ايه؟

 

توقفت وهي تُفكر بكلماته السابقة فالتفتت لتجيبه:

-       بقيت حلو في كل حاجة، بس لسه بارد زي ما أنت ورغاي!

 

قلب شفتاه بإعجاب وتفقدها بخبث لتبتعد هي آخذة خطوات نحو المنزل ليخبرها بنبرة مرتفعة قليلًا:

-       تصبحي على خير!

 

لم تجبه وتركته خلفها وتعلقت عيناه بها إلى أن غابت عن انظاره تمامًا فأخرج هاتفه ثم اتصل بسائقه ليخبره:

-       عايزك تروح تشتريلي شوية حاجات هبعتهالك بس بسرعة!

 

 

انهى مكالمته ثم أرسل رسالة صوتية لذلك الحقير الذي يدفع له الكثير لكي ينبش له فيما لا يستطيع أن يجده بصورة رسمية:

- كان فيه بلاغ متقدم من واحدة اسمها علا عاصم السيد في شهر ١٠ السنة قبل اللي فاتت، راحت قسم …. ، عايزك توصلي للي عملها المحضر وابعتلي بياناته!

--

بعد مرور ساعة..

لا معدى لك عن أن تتلطف إلى الفتاة الغليظة القلب،

وتضرع إلى الباب المُوصَد وإليها معًا،

وانزع إكليل الورد من على رأسك وضعه على عتبة الباب.

فإذا ما أَذِنت عشيقتك فأسرع إليها، وإذا ما نأت بجانبها عنك فَول

ولا تدعها تقل "أف له، ما عدت قادرة على الفكاك منه"

فالعاشق الأبي ينأى بنفسه عن أن يكون مُلحًا.

صغيرتي، الآن كلمات أوفيد تبدو منطقية، ولكن أما لملتاعٍ من بردٍ يُسكن لظاه؟

أما لعاشقٍ صام لعام ونصف العام شربة ود ترويه؟ هل لكِ أن تتظاهري ولو لساعة، بل دقيقة واحدة بأن هناك بكِ ما عهدته منكِ؟

أشتاق لكِ، بل أشتاق لنا، أشتاق لشجار تلحِ به أن أخبركِ هذا وذاك، يُخيل لي كلما أغمضت عيناي بوحي لكِ بالكثير، بالرغم من يقيني بأنه لا يحق لي أن أفعل بعد كل ما فعلت.

دقيقة وساعة وآلاف السنوات لن تكفيني، لكِ الآن أن تذكريني كم أنا كاذب لعين، آلف عمر من اعمار المخلدين ومثلهم ضعفين بالكاد استطيع القول بأن هذا سيكون كافيًا لي معكِ، سأتظاهر أن دوائي هو الوقت معكِ ولكِ ومنكِ يا دائي!

متعب بكل ما في، أرى خيالات مُزعجة تُذكرني بالأسوأ، لوهلة أريد الاختفاء كذرة في ريح تداعب ما تسرب من نسيم بين خصلاتك لأكون معكِ ولا تلاحظيني، وأقسم أنني مستعد للموت لو حصلت على ساعة واحدة من تلك المرأة التي كانت تعشق كل ما بي وما زلت ادعوها زوجتي..

 

اغفري لي، أنا كالممزق، بل أنا هو، في المنتصف بينكِ وبينكِ، لو اقتربت منكِ سأحترق ولو ابتعدت فهو موتي المحتوم..

لا أدري ماذا عساي أن أفعل، روحي نصفان، نصف يحوم حولك يصرخ بأن تتذكري له لحظة عشق عابرة، والنصف الآخر حُكم عليه بالموت، سيبتعد شاء أم آبى..

كيف لروح مثل روحي أن تجد ملاذها بجثماني الذي فنى بفناء عشقك المعهود؟

لا روحي ولا بوحي ولا عشقي ولا كلماتي ستكون كافية لكِ، لا اتذمر كطفل صغير، إنما هي مجرد زوبعة رأس مختل احترقت في ساعة متأخرة من الليل..

لا بأس صغيرتي..

سيمر هذا الكابوس وأوشكتِ على شم رياح الحرية!

 

-       ايه الريحة الحلوة دي، الجميل مدلعني النهاردة ولا إيه؟

 

بمجرد سماع صوته الذي لا يطيقه أغلق دفتره ووضع القلم فوقه بينما مس بأصابعه هذا الوعاء الفخاري إلى أن شعر أن دفئه مناسب فآتى بصينية ووضع عليها كوب من المياه والوعاء وملعقة صغيرة وبجانبهم دفتره وقلمه ثم اتجه للأعلى ليستمع لصوت والدته:

-       ده أن محضرالك العشا يا حبيبي، واستنيتك عشان ناكل سوا

 

التوى فم "عمر" بسخرية لاذعة بينما أوقفه صوت "عدي" وهو ينازعه بسخافة بعد أن أدرك أنه يحمل تلك الحلوى ويصعد بها متجهًا للأعلى بينما لم يعد هناك المزيد منها:

-       اللي ياكل لواحده يزور على فكرة.

 

التفت لكلاهما بلمحة كارهة ثم قال بنفس نبرته:

-       هي مش ماما مدلعاك، خليها تعملك.

 

ربتت على كتفه بينما أكمل الآخر طريقه للأعلى وهي تخبره:

-       اعملك أنا يا حبيبي قولي بس نفسك في ايه؟

 

قلب عيناه وهو بالكاد يستمع لما قالته وأكمل طريقه وهو يتنفس بعمق لكيلا يفقد اعصابه بفعل استفزازهما المتواصل له بينما وجد نفسه يعود للخلف مرة ثانية ليتنصت على تلك المحادثة بينهما:

-       لا خلاص يا ماما متتعبيش نفسك، انا اول ما اتعشى هشبع وماليش نِفس احلي النهاردة

-       ليه يا حبيبي بس على ما تتعشى هكون عملتلك اللي انت عايزه.

-       هو عمر كان بيعمل ايه؟

-       باين بيعمل أم علي، أعملك؟ دي مبتاخدش وقت!

-       ماشي اعملي.

 

ابتسم "عمر" بشماتة وهو يدرك أنه قد احضر ما احتاجه فقط وانتظر إلى أن استمع لصوت والدته مرة ثانية وهي تُعلن بكامل حُزنها وأسفها:

-       ده مفيش حاجة اعمل بيها، بس لو روحت جبت الحاجة هعملهالك في ثواني.

-       خلاص يا ماما مش مهم بقا، ابقا اجبهالك بكرة وأنا جاي.

-       منه لله اللي حاوجنا كده، بقا أنا مش عارفة اجيب شوية حاجات من السوبر ماركت ولا جانبي سواق ولا حد ابعته، منك لله يا يزيد على اللي بتعمله فينا! بس من بكرة الصبح أنا هاشوف اخوك ده يجبلي كل اللي أنا عايزاه!

 

اتسعت ابتسامة "عمر" وأكمل طريقه للأعلى وهو يكرر بداخل رأسه أنها تحلم بالتأكيد، ها هو "عدي" الذي يريد كل شيء دون أدنى مجهود، مجرد دقائق لأقرب متجر لإحضار بعض أشياء قليلة من أجل نفسه لا يريد أن يفعلها، حقًا بارع في كونه نُسخة طبق الأصل منها!

--

شعرت بحركة غريبة ورائحة أغرب ولكنها طيبة للغاية وللحظة ظنت هذا لأنها ودت أن تتناول بعض الحلوى قبل خلودها للنوم بينما ازدادت الحركة ففتحت عيناها لتجده أمامها فنظرت له باستغراب ثم تثاءبت وتابعته فوجدت النور الجانبي لفراشها يُضاء واسفل منه تلك الحلوى التي أرادتها قبل نومها..

-       ايه ده، أنت جبتها امتى دي؟

 

تفقدها بملامح متعبة ثم اجابها بما لا يجيب حقًا على تساؤلها:

-       كليها وهي دافية وكملي نوم.

 

استندت على يديها لتنهض جالسة على الفراش وتفقدته بنظرة ناعسة ومنها إلى تلك الحلوى لتمسك بها وشرعت في التناول منها دون مقدمات.

ابتسم بلين وتابعها لبرهة ولكنه تركها وذهب للحمام فمنذ عدة ساعات كل ما أراده هو الاغتسال وبعض الهدوء ومحاولة منه ليُخرس عقله الثرثار، يفكر بآلاف الأمور، لو نمى لعلم والده ما فعلته، هل سيفعل أسوأ من اختطاف أخيها؟ ما الذي ستفعله والدته معها؟ وهذا الغبي "عدي" لا يصمت، كتلة من الاستفزاز خُلقَ لها قدمان ولسان ناطق!

 

ماذا عن ذاك البلاغ؟ هل سيُفيده؟ متى سينتهي من كل ما يدور في رأسه؟ هل يستحق أن يتحمل بمفرده كل ذلك؟ يشعر أن عقله سيتوقف عن العمل في أي وقت الآن!

متى سينتهي من تلك القضايا، متى سيصل لبيعه لعمله بأكمله، متى سيصارحها بكل شيء؟ يتألم ويحاول الصمود في تلك المعركة ولكن كل ما به يحرضه للاستسلام، يقسم أنه لم يعد به طاقة لفعل كل هذا!

 

لقد تبقى القليل، ينتهِ من ضوضاء أمه وأخيه، تتزوج "عنود" ويطمئن أن والده لن يبالغ بسبب أي لعنة، يقوم ببيع شركته، يقدم ما عمل عليه من اثباتات، يطلقها، يُسجن، وانتهى الأمر، عليه أن يبذل القليل من المجهود فقط لكي ينأى بنفسه عن وحش النوبات الأسطوري الذي لو حاربه ولو من بعيد، سينهزم وكل شيء سيتعقد أكثر، لقد أجبر نفسه على الخضوع لتلك الجلسات لينتهي وحسب، ويعاهد نفسه، بمجرد أن يُسجن لسنوات لا يمانع الانتحار على الاطلاق، فلتمر هذه العاصفة أولًا وبعدها سيكون أسوأ المرضى العقليين على وجه الأرض!

تبًا، لو أن هذا البلاغ حقيقي عليه أن يزور المزيد من الأوراق بأن المنزل الذي ابتاعه عند زواجهما تعود ملكيته إليها هي وليس هو، متى ستنتهي تلك الإجراءات اللعينة؟!

 

--

فرغت من تناول الحلوى بأكملها وتلك الكوب من المياه فنهضت وذهبت للأسفل لتتخلص من تلك الأدوات حتى لا تتركها بجانبها في الغرفة فوجدت والدته بالمطبخ فتحاشت النظر نحوها ووضعت الإناء بالحوض واتجهت لكي تعود للأعلى بينما استمعت لتمتمتها:

-       وانتِ مستنية اللي يغسل وراكي.

 

كل هذا الاسترخاء وارادتها في العودة إلى النوم تلاشت بالكامل ثم التفتت وتناولت كل ما استخدمته وآتت بحقيبة بلاستيكية ووضعت بها الوعاء الفخاري والملعقة والصينية وكوب المياه وردت بنبرة هادئة:

-       مع إنه بيتي وفيه ناس هتيجي تنضف من الصبح بس كله الا زعلك يا طنط.

 

قامت بعقد الحقيبة البلاستيكية لترد الأخرى بنبرة متحفزة للشجار:

-       ده بيت ابني وأنا أمه واللي عايزاه هيمشي!

 

التفتت له بابتسامة شامتة بينما قررت أن هذا آخر ما سيغادر لسانها:

-       متأكدة إنه بيته؟!

 

اتسعت ابتسامتها بخبث وشعرت بالانتصار ثم غادرتها لتعود لغرفتها فوجدت "عمر" يخرج من باب الحمام بملابس منزلية وشعره ما زال مبتلًا فتفحصته وعقلها مُعلق بما حدث منذ قليل وانتقت كلماتها فسألته:

-       أنت جبت أم علي دي منين؟

 

ضيق عيناه وهو يقلب شفتاه واجابها سائلًا:

-       اشمعنى؟

 

اتجه نحو الأريكة بعد أن جذب وسادة وتركها فوقها ثم اتجه لغرفة الملابس ليحصل على غطاء فتابعته وهي تجيبه:

-       لأن مكنش فيه تحت وعمري ما جبت من نفس المكان اللي أنت جبته ده، مشوفتش أي براند خالص مكتوبة!

 

هز رأسه بالموافقة واتجه ليعود للأريكة وقام ببسط الغطاء فوقها ليقوم بالجلوس وخلع حذائه المنزلي ثم تدثر أسفل الغطاء ونظر لها وهو يشعر بالسعادة لأن وجهها هو سيكون آخر ما سيراه بيومه مثل ليلة أمس ولم يغفل عن تلك الابتسامة التي ترسم عيناها فرد بنبرة مسترخية على استعداد تام للذهاب للنوم ويتمنى أن تكون رحلة اتجاه واحد دون أن يعود أبدًا:

-       أنا اللي عملتها، تصبحي على خير.

 

اتسعت ابتسامتها قليلًا وتبع شـ ـفتاها سائر وجهها بمجرد أن أغمض عيناه، هي لم تعد تفهم ما لعنة ما يفعله ولا ما يحدث بينهما ولكنها حاولت استدعاء الجدية وسألته بتهكم:

-       هو مش كفاية بقى ولا ايه؟

 

اكتفى بفتح عين واحدة فكتمت ضحكتها الخافتة على ملامحه التي اضحكتها وهو يبدو هكذا وسألها بجدية:

-       وهو أنا عملتلك حاجة دلوقتي؟ كفاية ايه بالظبط؟

 

اتجهت لفراشها وهي تتنهد بعمق ليتكئ وهو ينظر لها من على مسافة واجابته وهي تعود من جديد للنوم أو هذا ما ظنته:

-       بتحاول تكون كويس في كل حاجة، بتعتذر بتعملي حاجات حلوة مش بتعترض على أي حاجة بعملها، وحتى مامتك بتيجي عليها معايا عشان ترضيني..

 

تريثت لبرهة وهي تطفأ النور الجانبي لفراشها ثم واصلت:

-       أنت عايز توصل لإيه بالظبط؟ 


تابع قراءة الفصل