-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 62 - 1

   رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل الثاني والستون 

الجزء الأول


يُقال إن الوسطية في كل شيء تبدو مثالية، ولكنه حاول، استغرق الكثير في محاولة أن يرتدي زي الوسطية، معها لا تُفيد، لم تكن مفيدة على الإطلاق، إمّا أن يتنازل هو، وإمّا أن تتنازل هي، لا يوجد حل وسطي معها أبدًا منذ أن رآها وحتى هذه اللحظة.

 

شتاتها يؤلمه، وملامحها التي لم يرها عليها من قبل كانت مؤذية له قبل أن تضرها هي، ربما رآها مرة هكذا بخصلات مبعثرة ومظهر يبتعد كل البعد عن الأناقة، المرة الوحيدة التي عذبها بها هنا خلفه تمامًا على بُعد خطوات، لو كان هو يتألم فما بال ما تشعر به هي؟!

 

كان عليه أن يتراجع بعدما أدرك بداخل عقله أنها لن تستطيع حسم امرها واتخاذ قرار وهي تكتشف كل هذا دُفعة واحدة، يعرف أنه يستسلم من جديد ليه استسلم منذ عامان، لكان أفضل له ولها.

-       روان، انسي كلامي اللي أنا قولته، خدي كل الوقت اللي أنتِ عايزاه، أنا هاروح اجيبلك الموبايل وشنطتك من العربية عشان تكلمي بسام.

 

تركها وغادر فتابعته بعينيها إلى أن غاب عن مرمى بصرها فتفقدت ملامح هذا المنزل من مكانها، لم تره من هنا أبدًا، يبدو وكأنه مجرد منزل صيفي يملكه واحد من الأثرياء، حديقة وأثاث جيد، يطل على البحر مباشرة من زاوية رائعة وكأنه امتلك كل هذه المياه له خصيصًا، مجرد مكان، من يراه سيقول يا لحظ من يمكث به، ولكن الحقيقة القابعة خلف المظهر ومجرد التفكير بهذه الحقيقة ومعرفة ما فعله يومًا بها بداخل هذا المنزل، سيجعل من كان يتمنى أن يحظى بمثله يفر هاربًا للأبد.. منزله الصيفي مثله تمامًا، بل هو نفسه، حقيقته وما فعله معها تجعلها تريد الفرار للأبد!

 

جذبت تلك الزجاجة الكحولية ثم ابتعدت وهي تتألم من مثل هذه الفكرة وأخذت خطوات حتى تترك كل ما يشابهه خلفها، ليت الأمر كان بهذه السهولة، مجرد خطوات وينقضي الماضي الذي جمعها به وتختفي صورة الرجل الرائع الذي أصبح عليه.

جلست أرضًا عندما شعرت بأن هذه المسافة تبتعد بالقدر الكافي ثم التفتت لتحاول التمعن في ملامح المنزل فلم تستطع تفسيرها ليُلهمها هذا البعض من الراحة المؤقتة، هي لا تريد الذهاب إلى هناك، ولا رؤية هذه الملامح، ولا التواجد بأولى ساعات يوم ميلادها الثلاثون، أهكذا فكر؟ أهذا كل ما استطاع أن يفعله؟ أن يُحضرها لنفس المكان الذي قارب أن يقتلها بداخله؟

تناولت مقدار ليس بقليل من هذه الزجاجة وهي تحدق بتلك الأمواج الليلية المُظلمة كظلام وجهه وقتها، كان يبدو كريهًا، يبدو كالقتلة والمجرمين وهو يفعل بها كل ذلك، واكتئابه وقتها لن يجعلها لتشفق عليه! وجرعة أخرى لم تترك لها سوى المزيد للوقوع في كراهية ما حدث!

 

ماضيهما معًا بكل ما عايشاه لم يجد به شيء ليُحي ذكراه من جديد؟ ألم يجد سوى الأسوأ على الإطلاق؟ أثينا، سلوفاكيا، ايطاليا، التشيك، السويد.. خمس بلاد عاشا بها أفضل الأيام، ألم يُفكر بأن يصحبها بأي طريقة من الطُرق إلى هناك بدلًا من هذا السجن القاسي القابع على مسافة قريبة منها؟ أهي فجأة تود التقيؤ من الخمر؟ أم أن الفكرة تثير غثيانها؟ مذاقها مقبول ومعدتها ما زالت تستطيع التحمل بعد أن تناولت البعض من جديد، إذن ما تشعر به هو نتيجة لعقله اللعين الذي يُصمم أن يُدمرها ويُدمر عقلها!

 

عانقت ركبتاها وهي تحكم ذراعاها حولهما، تبدو كالشريدة، تعاقر الخمر، حافية القدمان، خصلاتها تنطلق هنا وهناك، ورياح البحر العاتية بهذا الوقت من الليل ليست بكافية أن تخمد نيرانها، ولا يبدو أنها ستفعل، يأتي الآن ليلعب دور المُضحي الشجاع في كامل استعداده لكي يُصبح أسيرًا لسنوات من أجلها، هذا بالطبع لو كان صادقًا فيما قاله، تبًا، لماذا كل شيء معه هكذا؟ منذ اجباره لها على الزواج به وحتى اليوم، لماذا كل هذه الصعوبة وكأن عليها أن تُزيح جبل شاهق لكي يتسنى لها أن تُملك حياة مثلها مثل أي امرأة في عمرها؟!

 

أغمضت عيناها ومن كثرة تلك الأفكار التي تواترت على عقلها تواتر على إثرها دموعها في صمت، تسأل نفسها ما الذي فعلته بنفسها؟ هل هي تستحق كل هذا العناء؟ من أجل ماذا؟ رجل جذاب وحفنة وعود وكيمياء جسدية لا تنتهي فيما بينهما! لماذا كانت غبية؟ هي السبب في كل ما يحدث أم هو؟

 

كل مرة كان يعدها، يعاهدها ألا يفعل إلا ما يحلو لها، رحلة إلى الجنة بالسماء السابعة وبعدها تجد نفسها بأعماق المحيط فاقدة القدرة على التنفس حتى كادت أن تموت غرقًا واختناقًا بكل ما يحدث، لم صدقت تلك الوعود؟ هي تعرف جيدًا، تعرف متى كان هذا الوقت تحديدًا، كاذب! بارع بالكذب! يمتلك ملايين من الأوجه أوقعتها في براثن عشقه كالفريسة المُغفلة، ليتها لم تفعل!

 

--

منذ عامان وستة أشهر والقليل من الأيام..

نوفمبر، يوكاسييرفي، السويد..

نظرت لتك الحقائب وهي تتنهد بإرهاق، لا تدري هل عليها أن تُفرغ ما بها أم لا، لا تدري إلى أين سيذهب كلاهما غدًا أو بعد غد، ولكن يبدو أن هذا المنزل الصغير هو مجرد استراحة قصيرة في منتصف الطريق بعد أن قطعا رحلة بالقطار ظنت أنها لا تنتهي منذ أن غادرا براغ وحتى وصولهما إلى ستوكهولم، من حقًا الذي يختار ستوكهولم كمدينة للزيارة بعد الزواج ومنها إلى هذه العُزلة بهذه البلدة التي تقع في آخر بقاع الأرض، بالطبع هذا الكلاسيكي غريب الأطوار سيفعل!

 

الأجواء تزداد برودة كلما طالت هذه الرحلة، والليل قارب موعده، ما الذي سيفعلانه هُنا؟ هل نوى أن يذهبان للقارة المتجمدة الشمالية أم ما الذي يريده بهذا المكان المنعزل عن جميع أمم الأرض؟

 

ابتعدت وهي تقترب من هذه المدفأة وهي تستمتع بهذا الدفء وأخذت تُفكر بتلك الأيام القليلة الماضية، لا تدري أكانت مُحقة بإعطائه فرصة أم أنه يخفي لها أمر ما جديد، مما تراه وما تُعايشه معه تشعر بالسعادة، سلطان مغرور متغطرس لعين ولكن يروقها، لا تفهم ما الذي يحدث لها كلما التقت أعينهما!

 

خلعت السترة الخفيفة التي كانت ترتديها ليتبقى تلك الكنزة الممسكة على جذعها وامتدت لتخفي رقبتها وحتى الأسفل بداخل هذا السروال الضيق أسود اللون الذي اختفت نهايته بداخل حذاء شتوي طويل حتى ركبتيها، وبمجرد أن حدقت بيديها وجدت نفسها تبتسم في حالة من البلاهة غير مسبوقة وهي تتذكر ما حدث بأثينا، تلك الطريقة التي كان يُدلك بها أناملها بداخل السيارة، ها هي اقشعرت من جديد لمجرد تذكرها ما حدث. أمّا عن ذاك اللهيب الذي غادر شفتاه وهو يلعق المثلجات من فوق أصا بعها الذي يماثل هذه النيران بالمدفأة أمام عيناها لا يتركها سوى في حالة من الذهول، كيف يستطيع فعل ذلك؟!

-       لسه مغيرتيش؟

 

انتشلها بسؤاله من أحلام يقظتها التي بات هو بطلها لتحمحم بتوتر وتملكها الحرج من افكارها السابقة وكأنه يرى ما تُفكر به، تبًا، لماذا عليه أن يبدو بهذه الجاذبية بفعل عدة قطرات من المياه والقليل من البخار يحاوطه، ولماذا هي تشعر معه هكذا بعد أن أوشك على اغتصا بها منذ أيام؟ هل هذا بسبب سفرهما إلى هنا؟

 

همهمت وهي تحاول أن تسيطر على نفسها وتتوقف عن التفكير بهذه الأفكار المنحرفة واجابته:

-       بصراحة كسلت أفضى الشنط، وكنت مستنياك، عايزة اسألك احنا هنقعد هنا كام يوم؟

 

تمعن بملامحها وهو يجيبها باقتضاب:

-       يومين..

 

أومأت له وهي تحاول أن ترسم ابتسامة على وجهها بدلًا من هذا التوتر الذي ينتابها كلما اقترب منها وخصوصًا وهو يتجرد من أغلب ملابسه بهذه الطريقة وقالت باقتضاب مثلما اجابها:

-       أوك!

التفتت بأعين متوسعة تنظر بارتياب وعقلها يتمزق بفعل ما يحدث لها معه، هي الوحيدة التي تتحدث بينما هو عليه أن يبقي كل التفاصيل في طي الكتمان، كما عليه أن يتوقف، كلما أصبحا بمفرديهما وأحدهما لا يرتدي ملابسه بالكامل لطالما كانت النتيجة هي انعدام الهواء بصد رها!

-       استني..

 

أغمضت عيناها وهي تبتلع بارتباك وسبت نفسها بسُباب لا يتوقف، لقد لاحظ نظراتها إليه وارادتها به التي تشتد كل يوم عن سابقه، تقسم أنها مجرد غبية، نعم تتأثر بوجوده بجانبها ولكنها ما زالت لم تنس ما فعله بالسابق معها وهو يجبرها على علاقة جـ ـسدية، ولكن هو يحاول وما زال يتغير بكل شيء لذا عليها أن تفعل هي الأخرى!

 

التفتت له وحاولت التظاهر بالتلقائية ليقابلها بنظراته الموترة التي تفحصتها باستفهام ماثل الذي نطق به:

-       وشك احمر اوي كده ليه؟ قطتي مصممة متبطلش كسوف؟

 

ارتبكت لوهلة وهي لا تفهم كيف بنظرة واحدة إلى ملامحها ينجح في الولوج لعقلها وكأنها كتاب مفتوح ثم ينطق ببساطة بما تشعر به، عليها أن تثبت له أنه مخطئ وعليه أن يتوقف عن اتباع هذه الطريقة معها وإلا لا تدري إلي أين سينتهي بها هذا العذاب المهلك كلما رأته بهذه الهيئة أو غرق عقلها بتذكر تلك التفاصيل الحميمة بينهما وابتلعت وهي تجيبه:

-       عشان بس كنت واقفة قدام الدفاية!

 

ضيق عيناه وهو يتجه نحوها ومقلتاه المتفحصتان لا تغادرا عسليتيها ليزداد ارتباكها أكثر ليقوم بإحباط محاولتها السابقة:

-       كمان بتبلعي ريقك ومتوترة اوي عشان الدفاية يا قطتي؟

 

أومأت بالرفض واجابت بتلعثم مع الحفاظ على محاولتها البائسة في تحقيق النجاح أمام صده عن تشتيتها والدخول لعقلها:

-       أنا عطشانة بس مش اكتر

 

همهم لها واقترب نحوها أكثر فادعت التلقائية ومزيج من تلك النيران تتأجج بداخلها وفي نفس الوقت لم تستطع بعد نسيان ما بدر منه بشكل كامل فابتعدت ظنًا منها أن الفرار منه الآن سيُثنيه عن أفكاره ولكنه أوقفها جاذبًا إياها برفق لتلاقي أعينهما مرة ثانية لتستنتج أنها لن تقوى أبدًا على الفرار من رغباته بكل ما فيها من أطوار غريبة، لماذا يجعلها تشعر بهذا؟

 

كادت أن تصده ولكنها لا تريد فعلها بطريقة حادة فهي لا تريد أن تخسر ما وصلا له بالأيام الماضية ولكن تفحصه بها وبعينيها يجعل الهواء يحتبس برئتيها وكأنها توشك على الاختناق فسألته بابتسامة فشلت برسمها:

-       فيه ايه يا عمر؟

 

تبًا، ليس مزاج اخر من امزجته، عليه التوقف عن مرجحة عقلها هنا وهناك:

-       مبتعرفيش تكدبي على فكرة

 

ابتسامة ماكرة تلاعبت على شفتيه وانعكست على بريق عينيه ليترك لها لا مفر وهو يحكم قبضته فوق معصمها ولكن دون مبالغة هي تعترف بذلك ولكن اقترابه يجعلها في حالة غريبة لم تعهدها قط عن نفسها!

-       انا مكدبتش، انا فعلا كنت واقفة قدام الدفاية ومن ساعة ما جينا هنا وانا عايزة اشرب..

 

يده الأخرى وهي تحاوط خصـ ــرها بلمـ ـساته التي لا تبشر بالخير وهي لا تريد للأمر أن يحدث بعد، عليه التوقف عن التصرف بهذا الاسلوب، وخصوصًا هي لا تعرف كيف ستثبت أمامه بعد هذه الايام القليلة الماضية التي حصل خلالها على اعجابها ببراعة..

انكمشت على نفسها وهي تضع يدها الحرة على الجدار خلفها لتستمد منه بعض الثبات بعد اقترابه منها وهو يهمس بأذنها:

-       عارفة، عمرك ما هتعرفي تكدبي عليا، عشان انتي من جواكي مش كدابة، انتي احلى بنت في الدنيا، مفيش فيكي غلطة، كاملة في كل حاجة، لما بشوفك بحس اني مش قادر افضل بعيد عنك حتى لو ثانية واحدة.. بطلي كسوف وخوف، قلبك اللي بيدق بسرعة اوي ده عشان متوترة

 

تريث لوهلة وهو يحكم يـ ــده فوق خـ ـصرها ثم تابع:

- بكرة هيدق ليا أنا لما تحبيني وتشيلي من دماغك اي حاجة مخليكي خايفة.

 

لانت يـ ــده لتبتلع هي بارتباك وسكنت بمكانها غامضة الأعين لتجده يربت على وجنتها بقبلة دافئة اقشعرت لها، ليس بفعل الرغبة ولا بفعل الخوف ولكن بفعل أملها الذي لم يخب بعد فهي لتوها ظنت أنه سيقترب منها لإرادته في تشتيتها ولكن أن يقبل وجنتها ثم جبهتها وهي تفتح عيناها لتنظر له وترى ملامحه تجذبها له أكثر بفعل تلك الابتسامة الصافية جعلتها لا تتمنى أكثر من أن يكون هكذا للأبد.

 

جالت عيناها بملامحه لتقول بتلقائية انتقلت على لسانها دون إرادة منها:

- مش يمكن لما احـ ــس إنك بتحبني انسى كل خوفي وكل اللي حصل!

 

هي تريد هذا، أن يعشقها وتغرم هي به، ستكون هذه النهاية السعيدة التي تمنتها، لا تفهم أهذا انزعاج طفيف يحاول هدم ابتسامته أم هذه النظرة توضح أن كلماتها تجعله بمأزق، هذا الرفق وهذه القبلة الدافئة المتأنية فوق أناملها التي سبقتها اثنتان مثلها كانت أكثر مما تقدر على احتماله، هو حقًا ينوي أن تعشقه أم ماذا؟

 

ملامح مبتسمة وأعين تجعلها تشعر أنه أفضل فتاة خُلقت ومشاعر لا تستطيع تفسيرها وبالطبع لحق كل هذا كلمات بموضوع آخر تمامًا:

- البسي حاجة تقيلة على ما البس واجيلك.

 

هذا هو الاحباط الذي ينتابها بعد شتات مدمر من قِبله، بعد أن تظن أن أحدهما أو كلاهما اقتربا من الاعتراف بالمشاعر شيء ما يحدث، إمّا يذهب وإمّا يتحدث بشيء آخر، لماذا تشعر وكأنها تقوم بجذب جبل ثقيل لا يتحرك لكي تحصل على اقترابهما في النهاية؟!

 

اتجهت لترتدي ملابس ثقيلة مثلما أخبرها، لا تعرف أعليها الاستمتاع بكل ما تعايشه معه أم عليها أن تتحدث صراحةً بما تريده أم ربما عليها الانتظار فقط ليس إلا، الأمر كاد أن يهلك عقلها، هل هذا هو الزواج؟ لو كان هذا هو مع الجميع لابد أنه مُرهق للغاية، ليتها لم تتزوج، ولكن بقرارة نفسها لقد باتت تعلم أنها تُريده.

 

لم تكن تُلاحظ أنه قد ارتدى ملابسه بالفعل وينتظر خلفها أو ربما استغرقت هي وقت لتطنب بشتات عقلها دون توقف فحاولت أن تبتسم له ولكنها فشلت تمامًا، هذا المنزل الصغير مُريب لا يوجد به أي باب، في البداية يبدو ودود ومناسب لعاشقان ولكن معه ليس بمناسب على الإطلاق وهي بالفعل تشعر بالتردد والتوتر تجاه كل ما يتعلق به.

 

اقترب نحوها فنظرت له في صمت فلم ينطق بحرف واكتفى بأن يُقدم كفه لها فقدمت يدها هي الأخرى وتبعته فلم تدرِ إلى أين سيذهبان وهما لا يحيط بهما أي ما يدل على الحياة في هذه المنطقة التي تبتعد عن كل شيء سوى الجليد والثلوج والقليل من البيوت الصغيرة المتفرقة ولكن بمجرد أن خرجا كلاهما ونظرت لكل ما حولها شعرت أنها ترى منظر حصريًا لها، هذا أفضل مكان ذهبا إليه، ليس أثينا، أو إيطاليا أو حتى براغ، بل هنا، ما هذا الذي تراه بالسماء؟ لماذا لم تره قط في حياتها..

 

-       اسمها الشفق القطبي، أو يعني northern lights.

 

التفتت نحوه بلمحة سريعة وهي تبتسم له وأخبرته:

-       حلوة اوي، أنا عمري ما شوفت حاجة زي دي في حياتي

 

رفع عيناه نحو السماء ليرى تلك الألوان الرائعة المختلطة بدرجات عِدة من الأخضر والأزرق ومن ثم نظر إليها وكل انظارها تتابع هذا المنظر الخلاب، شعرت به يكترث بجانبها لما تظنه ولما تُعجب به وبداخلها شعرت بالذنب بعد أن كان كل ما بها ينزعج من مجرد القدوم إلى هُنا!

-       أنا هادخل احضرلنا هدوم لأن هنبات الليلادي في مكان تاني، مكنش فيه أي حجوزات غير النهاردة بس!

 

نظرت له باستفهام وهي لا تفهم شيئًا مما يقوله وسألته:

-       ليه؟! ما المكان هنا كويس.

 

ضيق عيناه نحوها وهو يتفحصها ولم تفهم ما سبب نظراته تلك لها ليجيب بكلام لم يُجب سؤالها بخبث وهو يقترب منها:

-       مش لازم هدوم، ننام النهاردة من غيرها!

 

منعته وتحولت نظراتها وأخبرته بجدية:

-       احنا اتفقنا مفيش حاجة هتحصل بسرعة على فكرة، ولا نسيت كلامنا.

 

لم تفهم عيناه ولم تفهم تصرفاته المبهمة ولماذا يعاملها وكأنها غبية أو لا تفهم ما يحدث لطالما تركها مشتتة هكذا لتجده يقول في النهاية أمر عجيب عليها أن تتبعه:

-       يبقا منسألش على حاجة من الأول، بطلي تسألي على كل حاجة، بطلي فضول.

--

عودة للوقت الحالي..

-       روان، بسام كلمك خمس مرات، ردي عليه..

 

رفعت رأسها تنظر نحوه بعد أن انتشلها صوته من ذكرى بعيدة وكأنها كانت منذ آلاف السنوات وليس مجرد عامان ونصف العام لتقتله مرارًا بأعينها الباكية وبقايا دموعها تختلط بوجهها بملامح تمنى لو لم يرها أبدًا ليتذكر العديد مما فعله بها، هي تبدو كمثل هذا اليوم اللعين عندما ظن أنها فقدت المقدرة على الكلام للأبد!

 

جذبت الهاتف من يـ ـده وسرعان ما أجابت المكالمة وتحدثت بعصبية شديدة:

-       عايز ايه؟ أنت مش رايح تتفق معاه من ورايا، بتكلمني أنا ليه؟ ما تكلمه هو!

-       روري عشان خاطري ممكن بس تهدي وتطـ

-       مش هاهدى ومالكش كلام معايا خالص، محدش يقولي اهدي، مالكش دعوة بيا أصلًا لا أنت ولا هو!

 

لم تُعطه الفُرصة لقول شيء وأنهت المكالمة ثم أطفأت هاتفها تمامًا وألقته بوجهه فأمسك به قبل أن يضر وجهه وشعر بالأسى عل كل ما حدث ويحدث، كيف له أن يعيد لها عقلها الذي أفقدها إياه؟!

أخرج هاتفه وتحدث لأخيها بنبرة خافتة:

-       معلش، هاخليها تكلمك لما تهدى، هي كويسة متقلقش عليها!

 

فترة من الصمت دامت إلى أن استمع لصوته المتحدث:

-       هي وافقت أو سمعت منك أصلًا؟

 

تنهد وهو حقًا لا يفهم من تصرفها سوى الانهيار الشديد وعدة مشاعر لا يريد أن يعلم بها أحد فيكفي أنها وهو بمفرديهما أن يعترفا بحقيقة الأمر:

-       لا هي مش قابلة تتكلم في حاجة، شوية وهبقا اقولك حصل إيه.. أنا هحاول أتكلم معاها تاني.

 

أنهى مكالمته معه وتبعها بعد أن رآها تتجرع بشراهة من الكحول دون أن تكترث بما قد يحدث لها بصحبته ليحمل الهاتفان بجيب سترته وتوجه نحوها وجذب الزجاجة من يـ ـدها فما يراه منها أنها لا تكترث بكونها مدمنة كحوليات بل هي لا تفعل أي شيء ولا تُريد أن تتلقى المساعدة وكأن الأدوار تبدلت فلقد أصبح هو من يسعى للعلاج أمّا هي فلقد تقهقرت وأصبحت نسخة أسوأ مما كان هو عليه!

 

-       مالكش دعوة بيا، سيبها..

-       انتِ داخله على نص ازازة، بالراحة شوية، ابقي اشربي زي ما أنتي عايزة مش دلوقتي.

 

تنازعت معه لمحاولة استعادتها بينما ثبت أمامها ولم تر بوجهه سوى الخيانة المُطلقة لكل ما تعاهدا عليه، كاذب وحقير ولا تتمنى أكثر من قتله واقتلاع قلبه من جـ ـسده هذا إن كان يملك واحدًا من الأساس.  

 

يقف كالبريء، يُمثل دور المُضحي، هي من فعلت هذا، بل هي من علمته كيف يُضحي المرء من أجل من يعشقه، قبلها لم يجد من يبوح له وعلى يديها تعلم هذا، الآن يأتي لتنقلب الأدوار أو يدعي بانقلابها فيما بينهما وهو يحاول منعها عن تناول الشراب، تبًا له!

 

التفتت لتتوجه لركن المشروبات مرة ثانية فتبعها وهو يناديها:

-       روان، اسمعيني، احنا لازم نتكلم، وأنتِ لازم تبطلي تصرفاتك دي وردي عليا، انا من يوم ما رجعتلك حاسة او شايفة ان فيه اي حاجة زي زمان او اي تصرف ليا من اللي مكونتيش بتقبليه زمان؟

 

عجت ملامحها بالسخرية التي لا تجد سواها ردًا له على ما يقوله وتكلمت غير عابئة بما سيقوله، أو ربما هي تفعل، أو هناك احتمال آخر، هي في طريقها للثمالة الشديدة لكي يذهب عقلها كما ذهب كل ما تعاهدا عليه يومًا ما، ولم لا؟ أليست هذه هي النهاية بينهما؟ كل شيء يتعلق به يذهب دون رجعة ويتبدل حاله كل ثانية والأخرى، اللعنة!! لم تعد تستطيع التفكير!

-       اه اليوم اللي رجعنا فيه من دبي، فضلت تضغط عليا في الكلام وتتلكك وتقرب مني، ولما كنا في بيت أهلك زعقتلي، ولما سافرنا بلدكم، ورايح تتفق مع بسام من ورايا وبتدخله في حاجة أصلًا متخصهوش، أنت مبتتغيرش، أنت زي ما أنت..

 

زفر بإرهاق من تصرفاتها الطفولية ولكنه لم يستسلم فحاول مجددًا بنبرة متوسلة هادئة:

-       طيب هقولك على كل حاجة بس تعالي نكون مرة واحدة بس فيه ما بينا صراحة، يمكن نفتكرها بعدين وتهون عليا وعليكي ووعد اللي انتي عايزاه هعمله..

 

ضحكت بخفوت ولاحظ أثر الثمالة بدأ في الظهور على ملامحها وهي تعقب باستهزاء:

-       عشان تعرف مني حاجات وتستغلها؟! تصدق جربت الموضوع ده ألف مرة قبل كده.. نتكلم ويبقى فيه هدوء ونعمل اتنين قهوة.. جربت كتير وأنت اديت وعود كتير وماخدتش حاجة في الآخر غير إنك استغليت كل نقط ضعفي!

 

اثارت استفزازه ليقول بصوت نافذ الصبر:

-       يا روان ارحميني انتي اكتر واحدة في الدنيا تعرف عني تفاصيل محدش يعرفها، اصلا هستغل ايه تاني واحنا كده كده هنتطلق، تعالي بس نتكلم شوية

 

اتجه ليمنعها وهو يدفعها برفق لكي لا تحتسي المزيد وفجأة اعتراها الهدوء وهي تتابعه بعينيها لتقف أمامه وابتسمت بثمالة ما زالت تحمل جزء من غضبها وهي تقول بغير وعي:

-       هنتكلم عن بابايا؟ عن بحب ايه وبكره ايه؟ عن الأسباب اللي بتخليني أحاول معاك؟ عن ايه اللي عاجبني فيك؟ فاكر؟ نسيت شكلك، الـ ect نستك.. أنا بقا منستش! فاكر لما كنا في السويد عملت ايه؟ اتكلمت معايا بهدوء.. وعملت ايه باللي عرفته؟ استغليت كل كلمة قولتهالك!

 

حدق بملامحها ولا يصدق أن عقلها ذهب لهناك، هل تفعل به ذلك حقًا؟ لماذا؟ لم عليها أن تطالبه بتذكر هذا الآن، هي تجبر عقله أن يستقبل كل ما مر بينهما دُفعة واحدة لتسبب له ولها آلام لن تنتهي!


تابع قراءة الفصل