رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 60 - 1
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
النسخة العامية
الفصل الستون
الجزء الأول
قُبيل منتصف الليل في نفس اليوم..
أغمضت عيناها وهي تستنشق تلك المياه، هناك برودة في الجو، لولا هذه السُترة ما كانت لتتحمل، أيار لطالما كان هكذا، ليس بشتاء وليس بجو صيفي، يدفعها للتساؤل، أعليها تذكر تلك البرودة التي حبسها بها وحدها، أم عليها تذكُر ذلك الكوخ بسلوفاكيا عندما مارسا الحب لأول مرة؟ عليها التوقف عن التفكير بشأنه، ألم تترك له هو ووالدته المنزل منذ أسبوعان؟ ألا تعرف أنه لابد من نهاية لهما، ما هذا الهراء الذي تفعله؟
لطالما شابهها أيار الذي ولدت به، ليست بسيدة أعمال حقيقية ولكنها في نفس الوقت باتت تملك ثماني شركات، ليست ذكية وليست غبية، قد يبدو للجميع أنها متزوجة ولكن الحقيقة هي افتراق ضمني بينهما سيحدث شاء أم آبى، قد تكون عشقته ثم كرهته والآن هي تُعلق بمنتصف كل شيء.
فتحت عيناها، مياه البحر الداكنة، تلك الأمواج المتلاطمة التي تجلب رياح قاسية للغاية تبعث بها البرودة، وكلما زاد الصخب كلما ازدياد جلب الماضي ليرتطم بها دون هوادة، هذه الأجواء لا تدل على الاحتفال بيوم ميلادها،
- أنتِ قاعدة لواحدك كده ليه، ايه جو النكد ده؟
تنبهت وانتشلها من أفكارها صوت رجولي فرفعت رأسها نحو صوت المُتكلم الذي توجه وجلس بجانبها على الرمال لتهز كتفيها واجابته:
- هاعمل ايه يعني، بسام ورُبى مع اصحابهم في الشاليه بتاع باباها ومامتها من ساعة ما وصلنا، يارا وراشد طلعوا يناموا، وبصراحة مش جايلي نوم. أنت بقا بتعمل ايه هنا، جاي تمشي على البحر لواحدك بليل؟
أومأ لها بالنفي واجابها بنبرة ساخرة:
- انا لسه قافل مع عنود من شوية، كنت بتمشى وأنا بكلمها، مش كل الناس زي أخوكي سهرانين لوش الفجر في بيوت البنات.
انزعجت من سخريته تجاه أخيها ورمقته بزجر وهي تنبهه:
- مالكش دعوة بيه، يسهر زي ما يحب، وبعدين هو كان عمل ايه غلط يعني؟ ما جالي وقالي وأنا روحت وعرفت مامتها وحتى باباها موافق إن بعد الجامعة يتجوزوا على طول والناس كويسة.
حدق بالبحر أمامه وهو يتحدث زافرًا:
- بسام غيرنا، عامل زي يارا، عِرفوا هم عايزين ايه بدري بدري، إنما أنا وأنتِ اتجوزنا واحنا كُبار غيرهم، أو باعتبار إني هتجوز قريب يعني.
امتنت أنه تحدث في هذا الأمر من تلقاء نفسه ولكنها ستحاول حفظ ماء وجهها بألا تتجرأ أن تسأله عن أي شيء يخص "عمر" فوجدته يغير مجرى الحديث وهو يتعجب قائلًا:
- هي طنط أميمة مجتش معاكم ليه صحيح؟ وعمر كمان فين؟
قلبت عيناها وهي تجيبه:
- قالت إنها مش عايزة تيجي هنا من غير بابي وقالت اتبسطوا انتو بوقتكم وشوية الكلام ده. وعمر كالعادة عنده شغل ومش فاضي، بسام قالي نيجي نغير جو هنا وعايزين يفصلوا يومين قبل الامتحانات فقولتله ماشي.
ابتسمت له بحزن بينما لمحة من التأثر علت وجهه وسألها:
- بجد؟ هي لسه طنط برضو الموضوع مأثر فيها كده؟
هزت رأسها بالموافقة وعادت من جديد لتتذكر ما قاله عن تحدثه عن زواجه ولكنها حاولت استخدام عقلها المرهق بالفعل من شدة التفكير لمحاولة تبين ما آخر اخباره فهي لم تتحدث له قط طيلة الأيام الماضية:
- يونس هو أنتو حددتوا معاد الفرح؟
اجابها وهو يومأ بالموافقة وتنهد ليقول:
- اخيرًا اتفقنا إنه هيكون نص شهر سبعة، طلعت عيني هي وأهلها لغاية ما أخدت منهم رد، عيلة غريبة!
ابتسمت وكلمته الساخرة في النهاية جعلتها تسترجع الكثير مما حدث لها بسبب هذه العائلة، فعقبت زافرة بحرقة:
- غريبة اوي، بجد أنت معندكش فكرة!
صمت كلاهما لوهلة فنظرت تجاه البحر لتُفكر، شهرين والقليل من الأيام تبعدها عن الانفصال عنه للأبد إذن، حسنًا، لقد مر الأكثر وتبقى القليل، تبًا لقد ابتُليت بأسوأ ابن خالة على الإطلاق لا يتوقف عن الثرثرة والإلحاح فنظرت له وهو يعقد حاجباه سائلًا:
- هو بجد أنا مش فاهمهم، باباها دايمًا عاملها بعبع، وعدي افتكره جدع كده وفجأة بيختفي، وعمر اللي كانت مبتكلمهوش دلوقتي بقا صاحبها، ومامتها دي مش موجودة في الوجود، هو مالها الناس دي؟ أنا بفضل أسأل نفسي أسئلة لغاية ما بزهق من التفكير!
تنهدت وهي تتخيل ذلك الشتات الذي يرهق عقله فلقد كانت في مكانه يومًا ما واجابته بعد أن ابتسمت بسخرية:
- أنا هقولك مالها العيلة دي، باباها تحسه راجل شرقي كده جاي من زمان اوي وعايز الكل يمشي على مزاجه، وعدي بحالات، في الأول تحسه صاحبك ولذيذ وبعدين بيزهق بسرعة وميكلمكش بالأيام، ومامتهم بقا دي في حتة تانية، عايشة للمسلسلات ولدلع عدي وبس.
- طب وعمر؟
سألها بحسن نية وملامحه يتضح عليها عدم الفهم والتشتت وهي لا تدري بما عليها أن تجيبه لأنها حقًا لا تستطيع استخلاص وصف عنه ليضيف متعجبًا:
- وبعدين أنا مش فاهم ليه اتطلقتو وانتِ كنتي متضايقة اوي وبعدين رجعتو لبعض؟ ايه اللعبكة دي كلها؟
ليس هذا السؤال، على الجميع أن يتوقفوا عن التعجب، وعليه ألا يؤلمها بهذا، ليس لديها القدرة على خوض الأمر من جديد كلما تناست أو حاولت التظاهر بأن هذا الفصل قد انتهى بكل ما فيه، فضلًا عن أنها لا تدري حقًا هل هو أصبح جيد أم هو رجل سيء، أم كان يوم ما رجل حنون وأغرقه الجنون في هاوية احترقت بفعلها حياتها حتى أصبح الأمر واقعي لدرجة أنه لم يعد لهما نجاة منها!
حسنًا، ستتبع القليل من خبثه الذي عايشته لسنوات، وستتبع الإيجاز والتلخيص في الإجابة عن سؤاله بنهاية ستجعل كل الأمور مُفسرة من وجهة نظره ولكن بإطناب يوضح له بعض الغموض:
- عمر بيحاول يتغير في كل حاجة، وحصل ما بينا مشاكل ومفيش اتفاق، بس صعب إنك تكون الإبن البكري اللي باباه معتمد عليه في كل حاجة وعايزه يبقى زيه سواء عمر نفسه راضي عن ده أو لأ.. بص يا يونس عنود بتحبك، وأنا عارفة إنك بتحبها، كلمتني كتير اوي إنها نفسها تسعدك وميبقاش فيه ما بينكم مشاكل، بس هم حياتهم صعبة، الميزة اللي عندك ومش عندي إنك عرفت عنود وهي لسه صُغيرة، إنما أنا مُشكلتي إني عرفت عمر وهو كبير وكانت طباعه كلها ثابتة وشخصيته بقى ليها طريقة واحدة مش قابلة للتغيير بسهولة.. فأنت لسه قدامك وقت لتتفاهم مع عنود عكس ما كنت أنا معاه، هتقدر بسهولة تفهمها وتعرف اللي بتحبه واللي مش بتحبه، وهي كمان ذكية وعرفت تلاقي لنفسها شخصية وكيان وسط ضغوط كتيرة، أهم حاجة بس حط حدود لأهلها إنهم ميتدخلوش ما بينكم. متغلطش غلطتي اللي أنا غلطتها، أنا لو كنت فاهمة إن عمر وباباه علاقتهم قريبة اوي كده من بعض وإن باباه بالفِكر السخيف ده يمكن مكونتش رضيت أكمل معاه من الأول.
نهضت وهي تتخلص من بقايا الرمال المتعلقة بملابسها بعد أن كانت جالسة وابتسمت له وهي تُعلن نهاية الحديث بالرغم من تلك الملامح المستفهمة على ملامحه:
- الوقت أتأخر، أنا هاروح أنام، تصبح على خير.
تركته خلفها وتوجهت لكي تعود لداخل المنزل فمرت من الممشى بين تلك الحديقة الصغيرة ومنها للباب الذي يطل على الشاطئ مباشرةً وكل ما تتمناه أن تستطيع النوم دون تفكير فلقد بات عقلها ملبد بأفكار لا تستطيع أن تصمد أمامها بالآونة الأخيرة.
❈-❈-❈
توضيح
بوسيدن: إله البحر شرس شديد المراس وصعب التعامل معه. لا يثبت على حال ودائم الشجار. يحمل الضغينة، لكن يمكن إسعاده، وعندئذ تملأ ضحكاته الفضاء، كما انه يحب الفكاهة والنكت ويخلق وحوش البحر.
ثتيس: إحدى حوريات الماء الخمسين، المعروفين بالنيريدات، واللاتي يقمن بمساعدة البحارة أثناء العواصف
ديميتير: إلهة القمر، كان بوسيدن مغرم بها ودائم التحرش بها ويتبعها كلما خطرت على باله. قابلها أخيرا في ممر بين جبلين في عصر يوم حار، وطلب منها الود ولم تدر ديميتير ماذا تفعل، فقد كان ضخم الجسم، عنيدا لحوحا، فطلبت منه ديميتير أن يعطيها هدية.
قالت: "أنت تخلق حيوانات البحر... الآن، اعطني حيوانا أرضيا. حيوانا جميلا، لم تره قط عين" ظنت ديميتير أنها بهذا الطلب أصبحت في مأمن من غراميات بوسيدون، لأنها كانت تعتقد أنه يخلق فقط وحوش البحر، لكنها فوجئت عندما صنع لها حصانا ودهشت أكثر بجمال الحصان ورشاقته.
❈-❈-❈
مسكين بوسيدن، لو كان انتظر قليلًا لوقع في غرامكِ بدلًا من حوريته ثتيس، لكنتِ أنجبتِ له ابن أفضل من آخيل.. ولكانت آلاف السنوات من أجلك كساعات قليلة في أيامه..
أدرك وقتها أن ما أضاعه على ديميتير وتسرعه في إهداء الخيل لها كان خطئًا فادحًا.. أنتِ من تستحقين هذا وليست ديميتير..
هذا ما حدث عندما رآكِ جالسة وحيدة على الشاطئ، راقبكِ، قرر أن يطويكِ في أعماقه بعناق لن تُنجي منه، تحدث للإلهة وتفاوض معهم أن يُعطيك هدية لم تُعط لأحد قط..
وكاد أن يفعلها حقًا ولكن نما لعلمه أنكِ متزوجة وبالفعل قد ظفرت بكِ قبله، فغضب علي!!
ألحق بي الغرق الأبدي طالما حييت في بحور عشقك ليُنكل بنا مُعلنًا هذه النهاية القاسية لي ولكِ..
ليته تركني للموت، عليه أن يكف عن عذابي برؤيتي لملامحك كلما استسلمت للتخلي عن أنفاسي وأدع غرامك يهلكني يشتد بأسه ليصور لمخيلتي صور لكِ كحورية آتت لتقبلني فتعيد لي أنفاسي المختنقة بالماء..
كان علي أن أبرم اتفاق أبدي بيني وبينه، بعد حرب ضارية فيما بيننا!
سمح لي برؤيتكِ مرة كل عام ليومٍ واحد على أن اتعذب طيلة أيامي الباقية بجريمة العشق.
وبعد مكرٍ مني اخترت يوم ميلادك..
غضب بوسيدن مُهلك صغيرتي، وإياكِ والعصيان..
هو يعرف أنكِ تعشقيني وشاهد كل ما حدث بيننا والغيرة تُهلكه، فليس عليكِ سوى الإذعان بقبول الهدية..
رفض عقلي التفكير في أي شيء آخر وأنا أراكِ منذ قليل جالسة أمام البحر..
الأيام الماضية دونك كانت أقسى من آلاف السنوات..
يوم ميلاد سعيد صغيرتي..
زوجك السابق،
عمر يزيد أكمل الجندي!
تبًا لعشقه الإغريقي الذي لا تفهم منه شيء، ولماذا يُشير لنفسه بزوجها السابق، هل كان يراها وهي كالمغفلة لا تراه ولا تدري ما الذي يفعله؟! أين هو؟!
تركت تلك الورقة وحاولت البحث عنه فلم تجده، ورقة، وصندوق صغير مخملي، وفراغ مُشبع بصمتٍ مهُلك لا يتناسب مع هذا الشتات بداخل عقلها، ولكن لابد من أنه كان هنا في مكان ما وإلا لما كان رآها جالسة بمفردها منذ قليل!
لماذا يُشتتها أكثر ويتلاعب بعقلها؟ هل يراقبها بكاميرات ما؟ هل هو يتخفى لكي لا تراه؟ ما لعنته معها؟ ألم يتفق كلاهما أن تلك الأمور ستتوقف للأبد فيما بينهما؟ حسنًا لقد ابتعدت وتوقفت عن التحدث له وتحفيز نوباته، نعم هي تعرف ما تُسببه له، ولكن لماذا آتى اليوم تحديدًا ليُفسده عليها، ألا يكفي أنها لم تحتفل بيوم مولدها منذ أن تزوجته، لا بل هذا المغرور قرر بتسلطه اللعين وتحكمه الذي لا ينتهي بأن يُفسد عليها اللحظات الأولى من اليوم، لقد عبرت الساعة الثانية عشر بقليل من الدقائق للتو وها هو يبالغ بإفساده كل شيء!
قامت بفتح هذا الصندوق لتجد عقدًا ماسيًا رائعًا ولكنها أغلقته متنهدة، ما الذي يحاول فعله؟ وما الذي سيفعله؟ لقد قاربت على فقد عقلها من شدة التفكير بما مر وبما سيحدث، أليس هناك نهاية لكل مراوغته معها؟!
فليذهب للجحيم لو شاء، ستخلد للنوم، وستتركه وشأنه، لو كان عليه الظهور بدلًا من تلك الطلاسم والتعاويذ الإغريقية عليه أن يقف أمامها ويخبرها بما يُريده دون تلاعب بكلمات غرامية زائفة لا نهاية لها، لن تنبهر بتلك الكلمات مثل السابق.
اتجهت للحمام لكي تفرش أسنانها وبمجرد أن قامت بإضاءة النور وجدت وردة حمراء ورسالة بجانب الحوض وصندوق آخر وكنه كبير الحجم على النقيض من ذلك الصغير المخملي فأغمضت عيناها وهي تقضم شفتاها غير مُصدقة لكل ما يحدث حولها من شتات، هل يظن أن كل شيء سيتغير بفعل كلمات وحفنة من الهدايا؟ ما الذي عليها فعله معه الآن؟!
امتدت يدها إلى تلك الورقة وقرأت ما بها وهي متحفزة بالفعل لإضرام حريق به لو رأته أمامها:
"بهاواي، منذ عامان وسبعة شهور لقد غالبك الظن بأنكِ تريدين التعرف على رجل ما لاكتشاف تصرفاته الغريبة.. وأجبرتِ على لقاءِ كريه ربما لا تريدين تذكره بيوم ميلادك..
ومنذ عام وسبعة شهور دمر لكِ نفس الرجل كل ما عملتِ على تبين ما يحتوي عليه عقله المختل في مكان ربما لا تريدين تذكر هويته ولا تشتمي لرائحته.. ألم يكن قريبًا من هنا؟!
ومنذ سبعة شهور أجبرتِ على الزواج منه مجددًا.. أما آن لتلك الزوبعة أن تنتهِ صغيرتي؟!
أليس لديكِ الرغبة للتخلص من أسر قاسٍ..
ألم تشتاقِ لرياح الحرية..
ربما بلقاءٍ أخير قد تشرق شمسٍ جديدة!
فلتستعدي إن كنتِ ترغبين برؤيتها..
لن اتنازل عن رؤية نفس الفتاة بنفس كل ما كانت عليه وقتها.. علينا أن نعود للبداية لكي نصحح كل اخطائنا!
ولو كنتِ تعلمتي القليل من فنون المفاوضة ستفعلين في النهاية أمر أو اثنان حتى تُنهي هذا العذاب!
والآن، عليّ الاعتراف لكِ صغيرتي بكل شيء.. قائمتي طويلة للغاية..
مثلًا، حياتك بكل ما فيها حازت على حقدي الشديد..
لا أدري هل تمنيت أن أكون جزءًا منها أم أردت أن أملكها.. ولكن لتتركي ما تبقى من قائمتي جانبًا..
تحدثي مع أخيكِ، هو يعرف كل شيء!"
نفخت بضيق وتوجهت لترى ما الذي يحتوي عليه هذا الصندوق وهي مستسلمة تمامًا أمام تعاويذه وخياله الذي لا ينتهي بوصف أسوأ ما مرت به بكلماتٍ لا تعبر عن مدى فداحة ما حدث لها، عدة أسطر فجأة تحول أكثر من عامين ونصف العام لأمر هين وكأنها لم تتدمر خلالها، هل حقًا يُذكرها أنها آتت إلى هُنا بعد أن فرت من عذابه وموته بأعجوبة؟!
صُدمت عندما وقعت عيناها على هذه الملابس، لم يغفل حتى عن إحضار نفس الحُلي التي ارتدتها وقتها؟ هل يتذكر كل هذه التفاصيل بمنتهى الدقة هذه؟! ليس عليه أن يُذكرها بهذا الآن، لماذا يفعل بها ذلك؟!
لماذا عاد لهناك؟ ولماذا يصمم على هذا؟ ولماذا تستجيب لكلماته اللعينة التي تمتلئ بالمراوغة؟ هل تشتاق لمجرد رؤيته أو تحتاج أن تفهم المزيد مما يفعله؟ منذ أن تزوجته حتى اليوم لا تستطيع أن توقف عقلها عن الشتات، تجاهه وتجاه نفسها وتجاه كل ما حدث ويحدث بينهما!
بارع لعين في مفاجأتها، لديه القدرة في أن يثير عقلها بآلاف الأسئلة والتخمينات دون أن يترك له الراحة ولو لوقت قليل! ما شأن "بسام" بكل ما يفعله؟!
ورغمًا عنها لم تحتمل سوى التذكر، تبًا للوقوع بعشق رجل يعرف كيف يعمل عقلها!
وضعت اللمسات الأخيرة على مظهرها الأنيق المُكون من ثوب أسود اللون وتصفيفة شعر اعتادت أن تصففها بسهولة عاقدة كل شعرها للخلف بعد سنوات من رسمية وعملية من التحلي بمظهر أنيق رسمي!
توجهت للخارج بعد أن اتفقا على أن يذهب كلًا منهما بمفرده وهذا ما آثار تعجبها، فهي لا تدري منذ متى وقد أصبح لينًا سهل المراس، منذ ليلة أمس بعد أن تحدثا بغرفتها وجدته يتغير.. يتغير بطريقة حديثه وتصرفه وموافقته على هذا العشاء بل والتحدث أيضًا.. يا له من كرم أخلاق من قِبَلك أيها السلطان الملعون!
السلطان الملعون.. حسنًا ستُلقبه بهذا اللقب، يبدو ملائمًا له كثيرًا، خاصة وأنه أحيانًا يبدو كأحدى الحكام ويتصرف في كل من حوله كالعبيد تمامًا.. السلطان الملعون لقب يناسبه بحرفية..
تذكرت كلماته بالأمس قدر استطاعتها وهي تتوجه بخطوات رشيقة بحذائها الأنثوي نحو المائدة التي عرفت أنه ينتظر عندها بعد سؤالها عنه لتجد أنها بجزء ناءٍ عن الجميع.. وذهب من جديد عقلها ليُفكر، لو أن السلطان الملعون يريد أن يعاقبها، هل سيعاقبها الآن أم متى؟ أمام الجميع أم بمفرديهما؟ هل ستشعر بالألم؟ ماذا لو آذاها أو سبب لها شيئاً مبالغ فيه؟! وكيف سيكون العقاب؟
عفوًا لماذا تُفكر وكأن هذا سيحدث حتمًا؟ ما الذي يحدث لعقلها حتى تتقبل هذا الأمر بسهولة؟ كما تذكرت ما فعله معها أمس وكم أخجلها ذلك، ولكن ما دفعها للجرأة أن ذلك طبيعي بين الأزواج، أن يقترب رجل من زوجته ليس مُخجلًا في شيء.. هل لم تكذب عندما أخبرته بأنها تريد المزيد؟ ولكن لماذا وافقت على مجرد المبدأ بالعقاب وكل تلك الترهات بكل هذه السهولة؟
تشتت أفكارها بين كل ما حدث وأرادت أن تعرف الكثير والكثير عن ذلك العقل الغريب الذي بداخل رأس هذا الرجل، زوجها، السلطان الملعون، وهي تجلس أمامه محافظة على ابتسامة لبقة تعودت أن ترتديها!
تنظر له وعقلها يتمزق، هل هو سادي؟ هل ما قرأته كان صحيحًا؟ وما يظن السادية عمومًا؟ كيف ينظر للأمر؟ هل هو معترف أن ما هو عليه عبارة عن مرض أم من هؤلاء الذين يقولون أن الأمر نمط حياة؟
وهل هذا مستمر دائمًا أم مجرد أثناء اللحظات الحميمية بين الرجل والمرأة؟ مثل ما اقترب منها ليلة أمس متسائلًا عن عقابه لها!! وحيرتها الأكبر كانت ما إذا ستتحمل أن تعيش معه بهذا الشكل أم لا!
قاما بطلب الطعام وبالرغم من أنها حاضرة تمامًا ومتواجدة على بعد مترًا ونصف منه إلا أن عقلها غاب بما فتشت عنه طوال اليوم عن طريق حاسوبها ولكنها لم تجد اجابة وافية.
عليهما إذن أن يبدأ أحدهما بالكلام، ولأن هي من طالبت بهذا العشاء سيكون عليها هي أن تبدأ! هكذا تنص الآداب العامة على كل حال.. أو هذا ما تعلمته بعد سنوات من إدارة شركات والدها..
حدقته للحظات، لا تدري هل شكله مخيف أم شكله هذا يروقها، خاصةً بعد تلك اللحية والشعر الطويل الفاحم، مظهره مزيج من الجاذبية والإرباك!!
نظفت حلقها وهي تحافظ على نظرتها التي إلى الآن لا تزال تتحلى بالكبرياء بعينيها ثم بدأت في الحديث بثبات:
- كنت عايزة أسألك شوية أسئلة، بصراحة حاسة بحيرة وإني تايهة بين افكار كتيرة، وعلشان اكون honest معاك أنا معرفتش أنام كويس امبارح.. بسبب كل اللي قولته عن إنك تحاسبني وكلمة عقاب دي، بيخلوني اسأل وأفكر إيه اللي يمنع راجل عن مراته إنه يقرب منها..
تنهدت وهي تحاول اختيار سؤالها جيدًا وسألته في النهاية:
- كل الناس شخصيات مختلفة، ومفيش شخصية زي التانية، يعني، أنت على سبيل المثال ممكن تعمل حاجات مش عجباني وأنا مش موافقة عليها، هعترض واعرفك إني مش قابلة ده، ولكن سؤالي هو، ليه أصلًا تحاسبني ولا تعاقبني يا عمر؟
ضيق عينيه نحوها وبداخله يسخر بشدة من مجرد أن تعترض هي أو غيرها على أحد تصرفاته ولكنه اجابها بهدوء دافئ لا يُعد برودًا مُطلقًا:
- لأني كده.. دي طبيعتي.. فيه ثواب وعقاب.. لو التزم اللي بيتعامل معايا باللي بقوله بكافئه، واللي بيغلط ومبيسمعش الكلام بيتعاقب باللي أشوفه مناسب كعقاب هيحسن من سلوكه ويخليه يلتزم معايا وميكسرش كلامي في التعامل ما بيننا بعد كده!
رفعت حاجباها بملامح أدرك أنها لا يُعجبها ما أخبرها به لتنظف حلقها وسألته بمُقدمة لم تنل إعجابه:
- وبإفتراض أن الكل لازم يتحاسبوا أو يتعاقبوا زي ما قولت لما يغلطوا، لو أنا مثلًا رفضت عقابك، ده معناه إن جوازنا هيفشل؟
حدقته بنظرات متسائلة وهي تتمعن بتلك الأعين ثاقبة النظرات بينما من جديد أدهشها بملامح هادئة، ليست باردة مثل ما اعتادت منه بالأيام السابقة وكأنها تجالس رجل غريب لم تلقاه سوى اليوم لتزداد حيرتها بشأنه ولكنها انتظرته حتى يُجيبها ففعل:
- وبإفتراض إنك business woman شاطرة اوي زي ما بيتقال عنك، لو حد من موظفينك غِلط، هتسبيه من غير ما تحاسبيه؟
السلطان الملعون يُجيب تساؤلًا بآخر، من يفعل ما يكرهه الآن؟ حسنًا يقلب الأدوار، لترى إذن ما خلفه! تناولت نفسًا وزفرته في تفكير ثم اجابته قائلة:
- مفيش مقارنة بين سؤالك وبين اللي قولتهولك، أنت بتتكلم عن موظفين شغالين معايا في الشركة، بس أنا هجاوبك.. على حسب الموقف والوضع والغلط، فيه أخطاء لازم ليها عقاب رادع وشديد وفيه أخطاء واردة بتبقى غصب عن اللي بيعملها، زي مثلًا يعني موظف اتأخر الصبح بسبب حادثة في الطريق، هاعمل ايه ساعتها؟ امنع كارثة وحادثة حصلت علشان ميتأخرش مثلًا!
ابتسمت له بزهو واعجبتها اجابتها كثيرًا ليبتسم هو لها وكاد أن يتحدث ولكنها سبقته:
- وأظن أنني سألتك عن فشل جوازنا ونجاحه لو موافقتش على كلامك.. فاكر ولا مش بتفتكر كويس وبتنسى بسرعة؟
ها هي تقتبس من كلماته ليلة أمس لتتسع ابتسامته وبدت لها حقيقية للغاية، هل هذه أول مرة يبتسم بصدق أمامها؟ يبدو ذلك.. ما الذي غيره كثيرًا اليوم؟ منفتحًا للمناقشة، يبتسم، يتحول فجأة لرجل تود أن تتعرف عليه.. حسنًا.. ستغير اللقب من السلطان الملعون إلي السلطان الصارم المغرور! همهمت بعقلها لتقول لنفسها، وقد نُزيد السلطان الصارم المغرور ذو الابتسامة الجذابة!! جيد.. لقب طويل ولكنه جيد!
تنهد وهو يتفقدها محافظًا على ابتسامته بينما تلاعب جيدًا بالكلمات فهذه هي مهنته وشغفه منذ أن كان شابًا في مقتبل عمره:
- لا.. انا تقدري تقولي ذاكرتي ذاكرة فولاذية Honey.. ومين قال إن الجواز هيفشل.. هيفضل زي ما هو! وعلى فكرة بخصوص الموظف اللي بيتأخر على ميعاده بسبب حادثة، لو كل الناس مشيت على قوانين المرور والسواقة عمر ما هيحصل حوادث.. وعمر ما حد هيتأخر.. ده مثلًا يعني.. لو الناس سمعت الكلام لا هتتعاقب ولا تتحاسب!
حلوتي!!! هي تحلم بالتأكيد.. ما كل هذا المزاج الرائق الذي يتمتع به اليوم؟ ما الذي حدث؟ هل أشرقت الشمس من مغربها أم ماذا؟! ولكن لا، لن تسلط تركيزها سوى على ما آتت للتحدث به فقالت مستفسرة:
- عمر! لو جوازنا استمر زي ما هو بالطريقة دي، إنك تحاوط نفسك بـ bubble (فقاعة) من السكوت والغموض وطريقتك الجامدة اوي وتفضل تدي في اوامر وتستنى إني اسمعها، خليني اقولك إن ده مش هيكون جواز أصلًا.. بس خليني اكرر سؤالي بطريقة توضحلك الأمور أكتر وأظن أنت أكتر راجل في الدنيا بيكره يكرر سؤاله تقريبًا على ما افتكر يعني، لو أنا متحاسبتش زي ما قولتلي قبل كده، هل ده معناه إن مش هيكون فيه ما بيننا علاقة؟ هل ده معناه انفصالنا أو طلاقنا ونهاية جوازنا؟
اتسعت ابتسامته من جديد ليزداد يقينها بأن إمّا حدث شيئًا دفع مزاجه للتغير وإمّا أن هناك أمرًا لا تعلمه قد حدث وهذا ما يُسعده للغاية هكذا ليجيبها مرة أخرى في النهاية بصوتٍ دافئ ونبرة مميزة لا تعكس سوى الابتهاج الخفي الذي لا تعلم ما سببه:
- لا، هيستمر الجواز اكيد بس مش هاقرب منك.. إني أقرب من واحدة ده يعني إن الواحدة دي موافقة وقبول منها على شكل العلاقة اللي هتكون بيننا، وأنا مش بسمي أي علاقة تربطني بواحدة غير العلاقة اللي شريكتي فيها فاهماني وبتسمع كلامي وبتنفذ اللي أقول عليه، وتنفذه، ومتكسرش كلمتي ولا اللي بقول عليه.. ده الموضوع كله ببساطة!
حدقت بملامحه متعجبة، الكلمات تبدو هادئة، لائقة، لبقة، ولكن لا يزال يوجد بها تعجرف وغطرسة وتحكم ولم يغب تسلطه بالكامل مما آثار حنقها أن تواجه كل هذا بمصاحبة ملامح جذابة وملابس رسمية وابتسامة لم تعهدها.. حسنًا.. هي لا تزال تتحلى ببعض العقل لذا لن تحيد عن هدفها الأساسي فقالت مستهجنة:
- وهو لما الراجل ميقربش من مراته ويتكلم معاها ويشاركها كل حاجة في حياته، هل ده يتسمى أصلًا جواز؟