-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 60 - 2

    

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل الستون 

الجزء الثاني


العودة للصفحة السابقة

حدقت بملامحه متعجبة، الكلمات تبدو هادئة، لائقة، لبقة، ولكن لا يزال يوجد بها تعجرف وغطرسة وتحكم ولم يغب تسلطه بالكامل مما آثار حنقها أن تواجه كل هذا بمصاحبة ملامح جذابة وملابس رسمية وابتسامة لم تعهدها.. حسنًا.. هي لا تزال تتحلى ببعض العقل لذا لن تحيد عن هدفها الأساسي فقالت مستهجنة:

-       وهو لما الراجل ميقربش من مراته ويتكلم معاها ويشاركها كل حاجة في حياته، هل ده يتسمى أصلًا جواز؟

ابتسمت بهدوء وقد أُرهقت من تلك الطريقة التي عندما يتحدث بها تُقنعها كلماته ولكن شيئًا بداخلها يُخبرها أن تلك الكلمات ما هي إلا عبارة عن جنون محض في أوج صوره فأضافت بقلة حيلة ونبرة حزينة بالرغم من محافظتها على ابتسامتها:

-       عُمر.. أنا مشوفتش في حياتي غير جواز ناجح بين بابي ومامي.. بيتنا كان دايمًا مليان سعادة وحب ودفا.. الحب اللي كان بينهم كان بيحسدهم عليه الكل، ومن كتر شدة حُزن مامي لما بابي مات جالها الشلل اللي لسه عندها ويمكن متخفش منه أبدًا! أنا مش عارفة ليه مش لاقية في كلامك الحاجات اللي اتربيت عليها في بيتنا، مش عارفة ليه كلامك دايمًا بيوترني وبيخوفني ودايمًا بحسه فيه عنف غريب وتحكم كده مالوش داعي!

أطلقت زفرة ساخرة تجاه ما تنطقه وما تتحدث به وهي لا تُصدق أنها تقول ذلك ولكن على كُلٍ هو يبدو اليوم متقبلًا للحديث فاستغلت فرصتها بحصافة قدر المستطاع لتقول:

-       أنا مش عدوتك، أنا مراتك.. أنا عايزة انجح الجواز ده، علشان تبقى حياتنا سعيدة ومبنية على الإحترام والحب والتقدير زي ما شوفت بين بابي ومامي.. مش عايزة جوزي، الإنسان اللي المفروض أكمل معاه حياتي يشد شعري ويخنقني بإيده، دي حاجة في منتهى الهمجية، وأنا صدقتك مرة لما سألتك ليه عايز تتجوزني وقلتلي إني مناسبة، أنا كمان فكرت إنك مناسب ليا.. بس من ساعة ما اتجوزنا وفي حاجات غريبة جدًا فيك أنا مش فاهماها ولا فاهمة سببها وأنا مش فاهمة انت بتعمل ايه ولا ليه بتقول كلامك ده!

أطلقت بعض الأنفاس بعد حديثها الطويل لتجده يستمر في النظر إليها بنفس الابتسامة ثم نهض وهو يُقدم لها يده متسائلًا:

-       ترقصي؟

بالأمس كان يستفزها بطريقة فظة لاذعة، واليوم هو يُقدم لها الاستفزاز على صحن من مزاج رائق وابتسامة جذابة، يُشتت عقلها أكثر بتغيره المُفاجئ فما كان منها إلا أنها رفعت رأسها كي تنظر له ووضعت يدها بيده لتقترب منه هذه المرة وبدأ كلاهما في الرقص، ليفاجئها أكثر بأنه رجل آخر غير الذي راقصته يوم زواجهما! مع من تتعامل حقًا؟ ومن هو زوجها؟ هل هو المحامي الصارم؟ أم الرجل الذي اجبرها على الزواج؟ هل يكون الرجل الصامت الذي لا يتحدث عكر المزاج؟ أم هو من يراقصها الآن ويبتسم لها؟

هل هو السلطان الملعون أم السلطان الصارم المغرور ذو الابتسامة الجذابة؟! لقد فاق تحملها محاولة التعرف على هذا الرجل!!

لم تكن تلك الأسئلة وحدها هي ما يُشغل بالها، بل هي تود أن تسأل الكثير بعد، الثوب والابتسامة والحُلة الرسمية والعشاء والهدوء لن يفقدوها هدفها الرئيسي، ولا حتى تلك الرقصة الشاعرية التي اكتشفت خلالها أنها تتعامل مع رجل جديد لم تعرفه من قبل..

لا يده حول خصرها ستمنعها من التحدث ولا اقترابهما الحميمي ولا هذا الدفء والمشاعر الجديدة ومزاجه الرائق سيوقفانها عن سؤالها له الذي همست به أخيرًا:

-       عمر.. هو أنت سادي؟

 

دلكت رأسها وهي تحاول عدم التذكر واتجهت لتهاتف أخيها وبمجرد رده على مكالمتها سألته:

-       بسام هو فيه ايه أنا مش فاهمة حاجة!

 

آتاها رده بنبرة جادة:

-       أنا عمر قالي على كل حاجة، البسي وروحيله، متخافيش!

 

صدمت من مجرد هذه الكلمات القليلة التي لا توضح لها شيء، ما الذي يحدث وهي لا تعلمه؟ هل أخبره كل شيء حقًا؟ هذا المُحتال!! لقد صممت ألا تُخبر أحد عنهما، ما الذي فعله؟ كيف سينظر لها أخيها بعد الآن؟!

 

ترددت وهي لا تدري ماذا عليها القول ثم سألته بصوتٍ مهتز:

-       عمر قالك إيه بالظبط؟

 

استمعت لتنهيدته الطويلة ثم اجابها:

-       عرفت إنكم اتخانقتوا لأنه شك فيكي وده كان سبب طلاقكم، وعرفت إن باباه فرض عليكم إنكم ترجعوا لبعض، وعرفت إنه خلاكي في بيت تاني قريب من هنا وكان مانعك تمشي منه، عرفت هو ليه حاول ينتحر، وكمان فهمت أنتِ ليه معرفتيش تطلقي منه بسبب باباه وإنه خلى حد يحطلي منوم وخلاكي تخافي عليا، أنا عرفت كل حاجة يا روان!

 

دُهشت مما تستمع له ولم تر سوى وجهه أمامها وهي تقوم بقتله بعد كل ما فعله، لأي مدى أخبره؟ هل أخبره بكل شيء حقًا؟ ولماذا يتحدث لها أخيها بمثل هذا الهدوء؟!

-       روان أنا عارف إنك هتسبيه، هو قالي على كل حاجة واداني فرصة أسأل محامي غيره بابا رُبى يعرفه، روحي واتكلمي معاه، هو اصلًا كان متفق معايا من بدري إنه هيعملك عيد ميلادك هنا وعايزنا كلنا نكون جانبك بس معرفتش اقنع ماما تيجي وخوفت اقولها كل اللي عمر قالهولي لا تتعب تاني بس أنا عرفت كل حاجة وحتى قعدني مع مريم.. روحي وشوفي هتتفقوا على ايه عشان انا مش المفروض اخد القرار ده بدالك وده حقك أنتي مش حقي أنا!

 

حسنًا، هي لا تفهم أي شيء مما يحدث، ما هذه الترهات؟ ما الذي يقوله؟ وما الذي يقصده؟ أي محامٍ هذا الذي سأله؟ ولماذا تركه ليجلس مع "مريم" دون علمها؟

 

لما يستطع عقلها استقبال كل هذا دُفعة واحدة وكأنها كانت تعيش بعالم آخر غير الذي تعيش به بالفعل ولم تجد سوى السؤال لعلها تفهم كيف يُمكنه التحدث بمثل هذا الهدوء:

-       بسام ممكن تفهمني ازاي كل ده حصل وأنا معرفش حاجة عنه؟!

 

لحظة من صمت دامت لدرجة أنها حدقت بشاشة هاتفها لتتأكد من استمرار المكالمة بينما استمعت لصوته وهو يُجيبها بحيرة:

-       بصي، الموضوع بقاله فترة من بعد ما عمر خلص جلساته، حاولي بس تكسبي أنتِ وهو وقت الفترة الجاية عشان تشوفي عايزة تتصرفي معاه ازاي، ولو مش عايزة تروحي خلاص أنتِ حُرة، عرفيني وأنا ممكن أكلمه لو ده اختيارك، عمر باعتلي اللوكيشن من بدري هتكونوا فين، وهو كان مصمم إن كلامكم لازم يكون لواحدكم! فشوفي كده فكري عايزة إيه وأنا معاكي فيه! هو هيفضل طول اليوم مستنيكي لغاية ما تاخدي القرار بس حاولي ترجعي على الساعة تمانية بليل عشان تبقي معانا ساعة عيد ميلادك!

 

هل حقًا يفعلها معها ذاك الحقير وفجأة جعل "بسام" ركن أساسي في علاقتهما؟ لن ترحمه، تقسم أنها لن تفعل، فليتضرر بآلاف من النوبات التي لن تشفق عليه عندما تراه يُعاني، لربما عليه أن تحضر لها مشفى بأكملها لكي يتلقى العلاج كلما سببت له نوبة من نوباته التي تنتهي بالجنون المحض أو حتى الانتحار، لقد حاولت أن تتعامل معه بأسلوب متحضر قليلًا بالأيام الماضية، أمّا عن كل ما يُطالبها به الآن فهو بمثابة إذعان صريح لتقبله جنونها المحض كما تقبلته هي كل ما به منذ فرضه عليها زواجهما ونهايةً بهذه اللحظة تحديدًا!

--

دخلت تلك السيارة التي كانت تنتظرها في الجهة المقابلة التي لا تطل على البحر بعد أن ارتدت كل شيء، أيريد أن يقابل نفس الفتاة مرة ثانية؟ حسنًا ليراها وهي تقتله حيًا!

 

تناولت ذلك الظرف المُغلق الذي قام بوضعه في هذه الحاوية بظهر المقعد المقابل للسائق فتناولته بضحكة ساخرة لترى ما الذي تبقى من ترهاته، يا تُرى ماذا؟ أنه يعشقها؟ أنه يهيم بها عشقًا؟ أنه قد أخبر كل البشر بما حدث بينهما، فربما قد أخبر أخته مثلما أخبر أخيها وهي كالغبية لا تُلاحظ أي من هذا!!

 

"أنت بالسيارة الآن، في طريقك إلى الحرية أخيرًا، أو هذا ما أظنه وأود أن يحدث بأي طريقة ممكنة.. تقرأين هذه الكلمات، وإلا لما استطعتِ أن تقرأين كلماتي..

أود أن يكون هذا الخطاب مختلف..

ربما تكونين غاضبة، قد تكونين مشتتة من جديد، ولكن لقد اقتربت النهاية..

هل هذا خطاب وداع بيني وبينك؟ هذا ستجيبين عليه بنفسك بعد قليل!

تنفسي صغيرتي واهدأي، لن يحدث شيئًا لا تريدين حدوثه، وفي أي وقت اطمئني يُمكنك المغادرة للأبد لو شئتِ، هذا سيحدث عاجلًا أم آجلًا على كل حال.

عودي لأول رسالة مني إليكِ، هل تتذكرين ما فيها أم احترقت التفاصيل بداخل رأسك كما احترقت رسالاتي؟

لقد طالبتك بالصبر، ولقد فعلتِ، وحنثت أنا بكل وعودي، أتتذكرين؟!

ما ضير القليل من الصبر بعد؟ مجرد عدة أيام قليلة بالمقارنة بكل ما مر عليكِ بسببي!

لقد أخبرتك برسائلي يومًا ما أن العشق هو من يدفع المرء لفعل كل ما لا يؤمن به.. أتتذكرين؟!

لقد غيرني عشقك روان، جعلني أرى الحياة من زاوية أخرى، أدركت كل الجوانب التي لم أحط بها قبلًا.. كنت أثق أنني أعشقكِ بجنون، وكنت أثق أن كل ما بي تغير منذ أن اعترفت أمام عيناكِ بعشقي لكِ..

لقد أصبحت رجل مستعد أن أصدق كل ما كفرت به وأنكرته بشدة.. لا يمكنكِ التخيل، حسنًا أنا أطنب بكثير من الكلمات التي لا تعني لكِ شيئًا.. أتدركين الفرق بين العتمة ونور الصباح؟

هكذا كانت رأسي الفاسدة وهكذا أشرقت بنور عشقك..

كل ما أردته يومًا، أن أكون رجل آخر بتفكير آخر، قد فعلت وتكبدت أنتِ الثمن، لقد كان ثمينًا للغاية أنا على دراية بهذا..

ولكن لكِ مني كل الامتنان بما لا أستطيع أن أرده ولو امتلكت كنوز الكون منذ أن خُلق..

لقد أخبرتك يومًا ما بأنكِ فتاة أحلامي، أتتذكرين تلك الرسالة؟

ها أنا أصحح مفهومًا مغلوطًا جديد كنت امتلكه، أنتِ فتاة واقعي وأحلامي وخيالاتي..

روان، أكتب إليكِ رسالتي التي قد تكون الأخيرة بامتنان لكل ما فعلتِه من أجلي، من أجل ذاك الصبر الذي لن أستطيع أن اتكفل بثمنه الباهظ..

أكتب لأخبركِ أنكِ المرأة الوحيدة التي تمنيت أن تكون زوجتي ولن تأتي امرأة أخرى لأتمناها بعدك إلى أن ألفظ آخر أنفاسي في الحياة..

لم أؤمن قط بأن هناك علاج حقيقي ولكنني قد وجدته.. وأنتِ السبب..

لدي أخيرًا قراري بأنني أملك القليل من عائلتي أستطيع أن اتحدث معهما وكأننا نتشارك نفس الدماء حقًا وليس اسم عائلة الجندي فقط.. أنس وعنود.. هل تتذكرين من حاول جاهدًا في أن أكون رجل يرى الناس والمواقف بشكل آخر؟! أنتِ صغيرتي..

هناك الكثير من التفاصيل الأخرى ولكن أعرف مليًا أنكِ تكرهين ثرثرتي، تكرهين تلك التخيلات كما ترين أن كلماتي وهي منمقة تبتعد كل البُعد عن الحقيقة الواقعية، ولكن دعيني أخبرك بشيء..

لقد تحدثت إلى والدتي كما أردت دائمًا، دعيني أخبرك أمرًا سيجعلكِ تسخرين أو تبتسمين، لا أدري كيف ستتلقين هذا..

والدتي كانت مُصابة باكتئاب حاد بعد ولادتي، أو هذا ما قالته مريم.. حاولت قتلي يومًا ما وقتل نفسها عندما كنت رضيعًا.. يبدو أن إرث عائلتي هو الجنون!

روان، صغيرتي.. لقد عرفت ما الذي تعنيه المرأة التي كنت امتلك عنها صورة خاطئة شديدة الظُلم بفعل عشقك..

عرفت ما معنى الحياة من وجهة نظر أخرى..

بعد ثلاثة وثلاثون عامًا امتلكت حياة أخرى بعقل آخر، حتى أنني أصبحت أكتب من أجلك.. ولكنني أنوي الآن أن أفعل الكثير، تمني لي الحظ بألا تعصف بي نوبة اكتئاب، وأتمنى أنا ألا أكون تعيس الحظ وبدأت الكتابة في نوبة هوس وقراري مجرد هلوسة في لحظة جنون وعقل نصف واع..

روان.. هل تعلمين أنني منذ سفري لأمريكا وأنا أسرق بضع نظرات إليكِ بدأت الكتابة عن كل ما حدث وكل ما يحدث لي وأنا أخاطبك؟

لذا صغيرتي عليكِ أن تعلمين، لا اكتب اليوم كما بات يحلو لي مؤخرًا، ولا لأنقل بكلماتي ما يحلو لي.. ولا اكتب مخاطبًا حبيبتي بعبارات الغرام والشوق الجارف بالرغم مما يعانيه قلبي دونها..

اكتب من أجل كل امرأة لا تعلم بعد أنها لابد من أن تفعل كل ما يحلو لها دون يأس أو استسلام..

ولكِ، على هامش السيرة اذكر أنكِ من جعلتني اكتب فلكِ كل الامتنان..

 

ولكل امرأة تستطيع تغير رجال، وحياة بأكملها بمجرد مشاعر صادقة منها..

للزوجة والأم والأخت والطفلة والحبيبة..

عليهن أن يكن مثلك، ربما وقتها سيمتلك الكون أمم أفضل مما امتلك بالفعل..

ليت كل النساء أنتِ..

ليتك تعملين ما حدث لي، لك كل الفضل صغيرتي..

أسبوعان مقدار ما ابتعدتِ وماتي عام مما وصلت له أخيرًا.. أنتِ من وضعت حجر الأساس في كل ما أنا عليه اليوم وأنا أكتب لكِ..

في هذه اللحظة لا يسعني سوى أن افخر بكِ، بكل ما غيرتِ بي وبحياتي وبحياة بعض المحيطين بي بفعل عشقك..

هذه الليلة وهذا اليوم لن يكون سوى نهاية لنا وبداية لحياة أخرى جديدة بعيدة كل البُعد عن كل ما مضى..

لقد كانت حرب مُهلكة، ولقد أنهكتنا، لذا اليوم علينا أن نحتفل بالانتصار..

كوني على ثقة بأن كل الممنوعات مباحة اليوم، كل اسئلتك ستُجاب دون ثرثرة أو مراوغات احتيالية، لكِ مُطلق الحرية في وضع اللمسات الأخيرة لقصتنا كما يحلو لكِ ولكن علينا العودة والتطرق لأمور كثيرة لو كان لها نهاية منذ البداية لما تشتتِ هكذا..

يوم ميلاد سعيد صغيرتي الفاتنة..

عمر يزيد أكمل الجندي.."

حدقت برسالته التي لا تدري إن كانت الأخيرة كما قال؟ لا تعرف إن كانت هذه هي النهاية حقًا، لا تستطيع تفسير كلمات "بسام" ولا حتى ألغازه، عقلها قارب على التوقف عن العمل والإدراك والفهم بل والتركيز..

 

وجدت الزجاج الجانبي لمقعدها ينخفض لتراه يقف واضعًا يداه بجيبي حُلته التي ارتداها يومًا ما، هي هي نفسها، لا شيء يتغير، والأقسى الآن أنها عليها الدخول معه لهذا المنزل الذي لا تريد أن تتذكر أي تفاصيل عنه، لماذا فعلت بنفسها هذا؟

 

هل كانت غبية أم مُغيبة أم غرر بها واحتال على عقلها للاستجابة لمراوغته التي لن يكف عنها سوى بذهاب روحه للأبد؟! تبًا، يبدو جذاب للغاية، كل ما به كما عهدته، والمنزل الذي يبدو كالجحيم يقع على مسافة أمتار قليلة، لماذا أتت إلى هنا؟

 

-       متفكريش كتير وانزلي!

 

بالطبع، يُريد لشيء ما الحدوث فسيجعله يحدث، لأنه وببساطة يُريده، لن يحدث ذلك!

 

-       لف وارجع، أنا مش هنزل!

 

تحدثت إلى السائق وهذه الرسالة بيدها، ثم أضافت وهي تعلم أنه يستمع لها جيدًا:

-       مظنش فيه حاجة نتكلم فيها تاني، أنا مش عايزة تفاسير لأي حاجة حصلت، أنا عايزة ابعد عنك.

 

ابتلعت ثم رفعت الزجاج في صمت دون المبالغة بكلماتٍ أكثر وحاولت ألا تترك لنفسها الفرصة بالبكاء بعد أن قاطع صدمتها من كل شيء يحدث حولها عدة دموع تكومت على عسليتيها تلح عليها بقسوة دافعة إياها لرغبة بكاء شديدة لأعوام مُقبلة كلما تذكرت أن بنفس المكان الذي تقف به السيارة هو نفسه الذي أجبرت من أمامها أن يبتعد وفرت بسيارة من السيارات التي وجدتها..

 

وجدته يدلف بجانبها فحاولت النظر للأسفل وشعرت ببرودة ابتعثت بسائر جـ ـسدها وهي تستمع لصوته المتسائل:

-       فيه حد يعيط يوم عيد ميلاده؟

 

تفقدته بعتاب عندما التفتت وتطايرت اهدابها التي أحدثت عدة لقاءات متسارعة ليتملكه حريق بسائر كيانه عندما رآها تبدو هكذا وكأنها تصوب تجاهه آلافٍ من خناجر مسمومة تطعنه دون هوادة وقلة حيلة لتسأله ودموعها تنهمر:

-       أنت عايز ايه مني بقى؟ مزهقتش؟ متعبتش من كل اللي حصل؟ عايز ايه؟

 

قبضة احتلت منتصف صدره وهو يراها بهذا الحُزن وواصلت وكأنه لأول مرة يرى ويشعر بكم هي ضعيفة عكس كل ما تحاول التظاهر به:

-       بعدت وسكت ومكلمتكش ومعملتش أي حاجة، زي ما أنت ما قولت، وزي ما أنت عايز، سمعت كلامك زي ما اتفقنا آخر مرة، جاي ليه؟ وليه هنا بالذات؟ هو ناقص إيه بيني وبينك أصلًا عشان نتكلم فيه؟

 

دموعها ترفض التوقف، وألمها لم يندثر ولو مثقال ذرة، لم يتغير شيء، ما أفسده لن يرمم أبدًا، لا بكلمات ولا بإعادة ذكريات ولا حتى بفعل كل شيء ما تريده كما يحلو لها، لقد بات الجرح غائر وليس هناك سبيل لإصلاحه!

 

-       أنا عايزة ارتاح بقى من كل ده، كل ما ابعد وافتكر إني كويسة تطلعلي تاني في حياتي كأني هفضل مربوطة بيك لغاية ما أموت، أنا كان ايه ذنبي معاك أو غلطتي، بتفتح ليه في حاجات قديمة ووقت عدا بكل اللي فيه، ليه يا عمر بتعمل كل ده؟

 

انهيارها الشديد لم يترك له سوى هذه الصورة التي تُجسد بها ملامح الألم أبلغ مما ذُكر وقيل في كل ما قرأه طيلة حياته، إلى أي حد تضررت؟ وإلى متى ستظل بنفس الجروح التي لا تداوى؟ وكيف له أن ينسى ملامحها هذه؟

عند موتهما، هذه هي الإجابة على كل ما سبق!

 

-       كل مُشكلتي اني حبيت؟ كل مُصيبتي إني إنسانة مكنش ليا في اللف والدوران والخباثة وحكمت حكم سطحي؟ أنا غلطت غلط رهيب عشان بس افتكرتك إنسان ناجح وشكلك كويس ومستواك كويس وافتكرت إني هنجح معاك؟ الحب في بيتنا طول عمره كان حاجة مهمة، ده غلطي كله إني كان نفسي أحب إنسان مناسب زي ما طول عمري شوفت واتربيت على الحب اللي بين أهلي؟

 

عليها أن تتوقف قبل أن يحدث له شيء من شدة هذا الألم الذي يجري بعروقه بدلًا من الدماء التي غادرته دون رجعة، ملامحها تقتله، لم يعد يستطيع أن يصمد أمام انهيارها المدمر الذي يوشك على اهلاكه.

 

-       ليه عملت فيا كل ده؟ ايه الصعب في كل اللي بطلبه؟ اتطلق بس وكل واحد يعيش حياته بعيد عن التاني من غير مشاكل اكبر من اللي حصلت، ليه صعب اوي أوصل لحاجة نفسي فيها معاك، موصلتش لنجاح فقولت خلاص ماشي، لقيتني هدفع تمن كبير اوي وافقت ورضيت، بعدت وقولت بكرة ابقى احسن وارتاح اتغصبت ارجعلك تاني واشوفك قدامي، فضلت تلف وتدور وتقول اه ماشي هطلقك بس مبقتش شايفة غير وجودك اللي كل ما يظهر اتعب أنا وارجع لنقطة الصفر معاك!

 

لو تحدثت منذ سنوات لمدة مائة عام آتية دون توقف لن يُكفيها كل هذا، شعرت أنها تريد الصراخ بالمزيد، لسانها لا يتوقف، عقلها مستسلم للغاية كاد أن تتوقف عنه الدماء، أو ربما هو يغلي، لم تعد تحديد شيئًا، تريد الصراخ أكثر وأكثر لعل قلبها يملك ولو القليل من الراحة، أو يتألم رأسها فتفقد الوعي، تريد قول أي شيء ليُلهي ادراكها عما آلت إليه كل الأحداث لأنها فقط حاولت مع رجل مثل ومع عائلة مثل عائلته:

-       مش في أول مرة خرجنا نتعشى فيها بنفس اللبس ده كنت بتقولي اللي بيغلط بيتعاقب، أنا خلاص غلطت وحبيت واتعلمت الدرس وحرمت، ارحمني بقى وابعد عني.. أنا مش عايزة يبقى ليا أي علاقة بيك!

 

حاول استجماع شجاعته بعد أن تركها تتحدث بكل ما لديها حتى تُنفس كل هذا الاختناق الذي سلب منها الهواء لفترة من الزمن ليست بهينة وحاول التكلم بهدوء محترسًا مما قد يُسببه لها:

-       اديني فرصة اتـ

-       فرصة! فرصة بجد!

 

قاطعته بسخرية وتوقفت عن البُكاء بفعل دهشتها بما يطالب به وهي تنظر له ليتحول كل غضبها لحالة من الغضب شديدة لم يرها على وجهها قط وواصلت كلماتها القاسية كرماح مشتعلة استقرت بقلبه لتحرقه أكثر حتى أصبح رماد ويعود من جديد لأرض الواقع لتقوم بإعادة الكرة:

-       أنا اديت فرص كتير اوي، فرص متتعدش، أنا لو حكيت لأي حد كمية الفُرص اللي اديتهالك هيقول عليا غبية أو هبلة أو معنديش كرامة، أنا بسببك بقيت إنسانة معدومة الكرامة عشان حبيتك، والكارثة جاي تعمل كل حاجة حلوة في الآخر عشان متسبنيش وانا بدفع تمن إني جيت على كرامتي وبس، ده أنت كمان عايز تموتني وأنا بشوف كل حاجة اتمنيتها قدام عينيا، بعد ايه؟ جاي تتغير دلوقتي وتعمل فيها الرجال المثالي اللي بيحبني وبيحب أخته وعايز يكون إنسان أحسن؟ طب أنا أعمل إيه ولا أتصرف ازاي؟! ولا أنت خلاص ناوي ومصمم تشوف كل الناس بتتوجع قدامك وتتبسط؟ جاي توجع فيا ليه تاني وتالت ومليون، أنت مبتبطلش؟ جايبلي جوابات وهدايا؟ جوابات وهدايا هترجعلي كرامتي وهدوئي وأملي اللي كنت راسماه وبتمناه في حياة بشكل مُعين وأنت خيبته؟

 

أخذت تلهث وهي تشعر أن قلبها كاد أن يتوقف من كثرة كل تلك الكلمات التي دفعت الادرينالين بداخلها لتظن أنها تغلي وتكاد تقسم أنها تستمع لصوت الدماء التي تجري بعروقها!

 

تفقد ما تبدو عليه بجدية شديدة وهو لم يعد به أي ذرة لتحمل المزيد من قسوة ما تفعله عليه، لا يدري كيف سيتحمل المزيد لو تحدثت، لا يُريد وعكة من جديد عقلية أو جـ ـسدية قد تؤخره وتؤخرها شهر أو اثنان أو ثلاثة!

 

-       لو سمحتي انزلي عشان نتكلم!

-       مش نازلة ولا زفت، أنا عايزة ارجع وأنت امشي واعتبرني ميتة

-       انزلي يا روان!

-       قولت مش هانزل

 

تنهد وقرر أن يترك السيارة وغادر نحو الباب بجانبها وأجبرها رغمًا عنها على النزول لتصيح أثناء جذبه إياها للخارج:

-       برضو نفس الأسلوب اللي مش عايز تبطله، أنت مش ناوي أبدًا تعمل أي حاجة غير اللي دماغك.

-       ممكن تسكتي شوية وتسمعيني!

 

صاح بها فهي لا تفهم لماذا فعل كل ذلك لتصرخ هي به:

-       عايزني ادوس برجلي تاني في المكان اللي كنت ماشية فيه حافية زي المتشردين بتحايل على ناس خمسمية واحد زيهم بيشتغلوا عندي عشان اهرب من ظلمك وكدبك وحواراتك وجنونك اللي ياما قولتلك اتعالج منه وهفضل جانبك وهساعدك، عايزني بدل ما أعيش أصعب لحظات حياتي كلها مرة اعيشها تاني، أنت ايه؟ رايح تقول لأخويا على كل حاجة وأكيد كدبت عليه وضحكت عليه بحركاتك لغاية ما صدق كدبك، أنت ازاي إنسان بشع كده فاكر كل حاجة هتتحل بكلام مكتوب وهدايا وجاي فاكر إنك بتصلح اللي حصل..

 

التقطت عدة أنفاس بين لهاثها وكاد أن يبكي من شدة تلك الوطأة القاسية التي حلت عليه ولكنه حاول التحمل وهو يضغط فكيه معًا بقوة لتضيف هي:

-       اللي حصل عمره ما هيتصلح! أنت كسرتني وعذبتني مرة واتنين وعشرين.. مفيش حد بيعمل اللي أنت عملته معايا أبدًا..

 

للمرة الأخيرة حاول أن يوضح لها كل ما خطط له ولكنه يريد فرصة لموافقتها بعد إبائها المنيع:

-       روان اسمعيني، أنا كان لازم أقول لبسام الحقيقية عشان تـ

 

اوقفته تلك الصفعة التي حطت على وجهه بأقسى ما بها من قوة أمام هؤلاء الحراس والسائق لتلهث بقسوة من شدة ما جددته تلك الكلمات بداخلها أمام نفس المنزل الذي أسرها به وكأن كل ما حدث كان أمس وليس منذ أكثر من عامٍ ونصف العام، ربما الآن سيكون لديه فكرة عن خسارته كبرياءه أمام مجرد عاملين لديه!

 

التقت عيناه بعينيها ليندفع المزيد من غضبها ليغلف الأجواء حولهما وهي ترمقه باحتقار ثم وجدها تمزق ثوبها من الأسفل وهي تقول:

-       خليني اقولك حاجة مهمة اوي وانا لابسة نفس الفستان ده..

 

تعجب مما تفعله ثم وجدها تُلقي بقرطها أرضًا:

-       والحلق ده

 

تبعته بالعقد الذي حاوط عنقها وهي تواصل:

-       والكوليه ده.. وشعري كان كده صح؟ ادي شعري!

 

قامت بإرساله بعد أن كان مُنعقدًا للخلف وانهمرت دموعها من جديد وهي تخلع حذائها لتواصل كلماتها لعله يتفهم جزء ولو ضئيل مما مرت به:

-       ده كان شكلي وأنا ماشية من هنا، مكونتش بالمنظر الحلو ده اللي أنت عايز تشوفني بيه زي زمان، مكونتش البنت الحلوة، كنت ماشية زي المجنونة في الشارع بتحايل على الناس يساعدوني منك!

 

نظرت له بلوم بمقلتيها المُحتمتين من الذعر خلف دموعها لتتساقط دموعه دون سيطرة منه اثرًا لما يراه مما فعله بيديه لتتابع المزيد من كلماتها:

-       لبسي ده فاكره؟ فاكر يومها قولتلي إنك سادي؟ طيب فاكر قبلها بيوم قولتلك إنك مش راجل! هو ده اللي المفروض كنت اصمم عليه! المفروض كنت امشي واسيبك قبل ما تستغلني بكلامك وحركاتك! اكتر كلمة قولتها صح وحكمت عليك بيها من البداية إنك مش راجل ومن غبائي سمحتلك تهين وتعذب وتضرب فيا وفي الآخر بعد كل ده فاكرني خاينة!

 

اخذت خطوة لتغادر عائدة لداخل السيارة فتحدث بنبرة مرتفعة باكية لكي يوقفها قبل أن تذهب:

-       حقك مني هتاخديه وسط محكمة وشهود وتفاصيل وحكم، بسام لازم يشهد وغيره لازم يشهد. مش لاقي حل تاني باثباتات غير إني خطفتك وحبستك هنا! اعرفي هنعمل ايه وبعدين امشي، أنا بحاول كل ده اردلك اعتبارك قدام كل اللي يعرفوني ويعرفوكي، حاولي تفهميني.  

 

التفتت نحوه وهي تتفقده وضيقت عيناها وهي تحدثه قائلة:

-       يعني مفيش موبايلات مثلًا؟ لازم تشوفني قدامك متبهدلة وتتشفى فيا وتتبسط وأنت شايفني موجوعة وبعيط ومنهارة، مش كده؟!

 

جفف عيناه ثم اقترب لها وهو يقول:

-       انتي مصممة بقا، مقداميش حل غير كده!


  يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة