رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 66 - 1
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
النسخة العامية
الفصل السادس والستون
الجزء الأول
منذ أربع سنوات وخمسة أشهر..
نظرت حولها بأعين تتسع فزعًا وحدثته قائلة:
-
عمر مفيش حد هنا غيري أنا وأنت بس!
صرخ بها بنبرة جعلتها ترتجف خوفًا:
-
بتستعميني، ده أنا هموتهم واحد واحد قدام
عينك.. قدامي!
امتلأت قبضته بشعرها وندمت أنها آتت لهنا من
الأساس وهو يدفعها لمنزله الصغير فتوسلت وهي تخبره لعله يتراجع:
-
خلاص هاعمل كل اللي أنت عايزه، أهدى بس وأنا
هامشي من هنا.
وجدته يُتمتم بين أسنانه المتلاحمة:
-
تمشي، تمشي تروحي فين، أنا هاطلعك من هنا على
دفنتك.
شعرت بالخوف حقًا من نبرته ودفعه لها بصحبة
ملامحه الغاضبة بعد أن ألقاها أرضًا وأوصد الباب خلفه بمفتاحه وتفقد المكان حوله
ليهرول نحو المطبخ وهو يُمسك بواحدة من سلاسل كلبيه المعلقة وتناول سكينًا وتابعته
بعينيها وهي في حالة من الذعر الشديد ورأته يُقبل نحوها فحاولت أن تثنيه عما قد
يفعله وهو يمسك بتلك الأشياء بيـ ـديه:
-
مفيش حد معانا، أنت أصلًا طلقتني.. عمر فوق
أرجوك، بلاش تعمل حاجة هتندم عليها
تفقدها بغضب وهي تستقر أمام حذاءه تمامًا
وحدثها بهدوء مُرعب:
-
آه، ما أنتِ من ساعة ما رفعتي قضية الخلع
وكسبتيها فاكرة إن الموضوع كده خلاص خلص ورايحة تدوري على حل شعرك معاهم!
صُدمت مما تستمع له وأدركت أنه لا يعي أي مما
يحدث حوله بينما وجدته يقبل نحوها وهو يتابع:
-
إنما أنا هربيكي من أول وجديد لما اموتلك
التلاتة اللي رايحة تمشي معاهم قدام عيني..
اقترب نحوها عنوة وهو يُجبرها على ارتداء هذا
الإطار المتصل به السلسلة المعدنية ثم أتى بكلتا ذراعيها ليقوم بلف السلسلة على
كلتاهما وهي تحاول أن تنجو وتُفلت منه ولكن دون فائدة إلى أن كبلها تمامًا مُغلقًا
الطرف في الإطار نفسه إلى أن شعرت أنها لن تستطيع أبدًا أن تفك قيدها هذا فحاولت
مرة ثانية أن تقول أي شيء بدوره يُمكن أن يُغير من غضبه الشديد واستمعت لرنين
هاتفه:
-
عمر
يا حبيبي.. أرجوك أهدى وأنا خلاص مش عايزة خلع ولا طلاق ولا حاجة وهفضل هنا في
البيت ومش هامشي منه!
تفقدها بنظرات ساخرة وهو يتشفى بغير وعي لما
تبدو عليه وحدثها بخفوت متوعدًا:
-
دلوقتي بقيت حبيبك عشان تداري على وساختك،
أنا هموتهم هم التلاتة وفي الآخر هموتك أنتِ يا روان!
دون أن يُفكر مليًا بما يفعله وبعقله الذي لا
يستطيع التصرف بمنطقية اتجه للخارج ورنين هاتفه لا يتوقف لتبتلع وهي تشعر بالفزع
وكل ما تمنته الآن أن تصل فقط للسائق الخاص بها الذي حضرت معه إلى هنا..
حاولت النهوض في هدوء لكي لا يستمع لها
واقتربت من الباب لتستمع لصراخه الغاضب وكأنه يتحدث لشخص ما فحاولت تفقد أين هو
ولكن بحذر من أن يراها ولم تمر سوى دقائق بدت كسنوات من الخوف حتى استمعت للسيارة
تتحرك فجرت سريعًا للخارج لتتبين ما الذي يحدث فلم تجده بأي مكان فذهبت بنفسها تعدو
حيث تركت سائقها منذ قليل وبمجرد التقاء أعينها بعينيه المذهولتين مما تبدو عليه
حدثته بنبرة مُسرعة:
-
فُكني بسرعة!
ارتبك الرجل مما يراه وتحدث بصعوبة مشدوهًا
وهو يقترب منها:
-
حاضر يا مدام.. هو بس فيه ايه اللي حصل؟
-
بعدين بعدين..
حاولت السيطرة على لهاثها وفي نفس الوقت
حاولت أن تُفكر إلى أين ذهب فسألته:
-
هو محمود سواق عمر لسه ماشي دلوقتي وعمر كان
معاه؟
-
ايوة حضرتك لسه متحركين مفيش خمس دقايق!
ابتلعت بقليل من الراحة وحاولت أن تُفكر إلى
أين عساه يذهب فسألت سائقها:
-
طب مسمعتوش بيقوله هيروح فين؟
حاول الرجل أن يتذكر وقال ما استمع إليه
بمصداقية:
-
تقريبًا قاله اطلع على البيت عند بابا، ده
اللي أنا سمعته..
بمجرد أن تحررت من هذه السلسلة جرت سريعًا
حيث كانت تجلس منذ قليل وأخبرته في طريقها:
-
استنى ثانية هجيب شنطتي وهنمشي..
جمعت تلك الأوراق الموضوعة فوق الطاولة
وامسكت بحقيبتها وهي تخرج هاتفها ثم عادت من جديد للسيارة وأخبرت سائقها:
-
اطلع على بيت باباه..
بالطبع لن تتركه لكي يفتعل مصيبة ما وخصوصًا
بتلك السكين التي كان يُمسك بها وسرعان ما هاتفت الطوارئ الخاصة بمشفى نفسي حتى
يتمكنوا بالإمساك به ويخضع للعلاج في اسرع وقت ونبهتهم ألا يكون هناك أي صافرة أو
إنذار بالسيارة لكي لا يثور أكثر وبمجرد أن أنهت المكالمة معهم تحدثت إلى
"عدي" فهو الوحيد الذي سيتمكن من السيطرة على "عمر" فلا هي
ولا أخته ولا والده الذي لا يقدر على الحركة ولا حتى والدته سيستطيع أي منهم أن
يُمسك به وينهاه عن أي شيء قد يحدث:
-
عدي أنت فين بسرعة؟
تعجب من نبرتها وقال بمزاح:
-
طب قولي سلام عليكم ولا هاي ولا أي مـ
-
عمر كان ماسك سكينة وطلع على البيت عندكم..
أنت فين بسرعة؟!
قاطعته فهي لن تتمكن من مواصلة مزاحه الآن وليست
مستعدة لمزاجه الرائق بينما أخيه على وشك ارتكاب جريمة فعلية ليأتيها في النهاية
الرد الذي تمنت أن يكون حقيقي:
-
أنا أصلًا داخل على البيت، متقلقيش مش هاسيبه
يطلع..
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
-
عدي اهو جه في وقت هايل، ممكن اخليه يفكرك
أنا ممكن أعمل إيه في أي وقت من غير ما أبقى فاهم!
تفقده بإحراج مختلط بالغضب لنطقه بهذا مجددًا
أمام كلاهما:
-
ما توريها ايدك اللي جه فيها السكينة يومها،
نسيتي إني كنت هموته بجد، ولا تحبي تشوفي ريان مكانه!
شعرت بالحُزن لتذكرها ما يُرمي إليه ليتدخل
"عدي" قائلًا:
-
خلاص يا عمر أنت بتجيب سيرة الموضوع ده ليه،
فترة وعدت وأنت بقيت كويس دلوقتي..
تفقد كلاهما بخزي لن يتوقف عن الشعور به طوال
حياته وحدثهما بجفاء:
-
أنا انسان غير مؤهل إني يبقالي أطفال..
واعتقد كلامي خلص معاكي، وأنت اتفضل معاها برا وسيبوني وامشوا!
تبادلت النظرات المرتبكة هي و
"عدي" ولم تتمكن من قول أي شيء وغرقت في تذكر كل ما ترتب على تلك الليلة
وهي تأخذ تلك الخطوات لكي تعود إلى منزل "عنود" حتى تصاحب
"ريان" وتذهب عائدة إلى منزلها!
❈-❈-❈
منذ أربع سنوات وأربعة أشهر وثلاثة أسابيع..
اختارت أن تنتظره على المقعد الخلفي بداخل
السيارة التي سيكون بداخلها في غضون لحظات وأخذت تنظر باتجاه بوابة المشفى إلى أن رأته
أخيرًا يتقدم سائقه وهي تتمنى أنه لم يخبره بتواجدها هنا مُسبقًا ولم تستطع أن
تُزيح عيناها من عليه إلى أن اقترب وقام بفتح باب السيارة فالتقت أعينهما لتبتسم
له بمصداقية وبداخلها لا تدر هل هي السبب بكل ما حدث له فقط بسبب لقاء عابر بعد
طلاقهما بأسبوعين وأول ما تفوهت به كان يبدو رتيبًا للغاية بالرغم من أنها ودت أن
تقول الكثير من الكلمات الآن ولكنها شعرت بالخوف إن فهم ما ستقوله بطريقة خاطئة:
-
ازيك يا عمر؟!
أومأ لها وهو يدخل إلى السيارة على المقعد
الخلفي بجانبها وبمجرد دخول السائق أخبرته قائله:
-
محمود ممكن تسبنا شوية؟
-
حاضر يا مدام.
سرعان ما استمعت لكلمته وأصبحا بمفرديهما
فالتفتت قدر استطاعتها بكامل جـ ـسدها لكي تواجهه وسألته:
-
حاسس إنك أحسن؟
هز رأسه بالموافقة لتتردد قبل فعلتها لوهلة
وهي تشعر بالحيرة الشديدة مما أقدمت عليه ولكنها لم تكترث لأي مما سيفهمه ولا ردة
فعله تجاه ما ستفعله وأمسكت بكفه ثم أخبرته بتوسل:
-
أنا آسفة، أنا مكونتش اعرف إني لو جيت هيحصل
كل ده.. احنا اصلًا ملحقناش نتكلم دقيقة واحدة. فجأة لقيتك بتتصرف بـ
-
فجأة لقتيني اتجننت!
قاطعها وهو ينظر نحوها بقهر وهو يشعر بالعار
تجاه نفسه ليتنهد وواصل بخزي:
-
فكرتي لو كنت قتلتك كان ايه اللي ممكن يحصل؟
لولا إن عنود كلمتني صدفة وقالتلي إن بابا وماما بيتخانقوا حاولتي تتخيلي إيه اللي
كان هيحصلك؟!
تفقدته بأسف وهي ما زالت تتذكر ذاك المشهد
حيث كان "عدي" يحاول أن يتناول السكين من يـ ـده ليقوم "عمر"
بجرحه بمعصمه جرح ليس بهين فابتلعت في صمت وهي تحاول انتقاء كلماتها:
-
أنا عارفة إن الفترة الأخيرة الضغوط زادت
عليك، وأكيد نسيت تاخد أدويتك وتواظب عليها، أنا جاية اتأسفلك على أي حاجة عملتها
وكنت سبب في إنك تتعب، سواء آخر مرة ولا حتى قبلها، أنا عليا جزء من المسئولية،
أنا من يوم ما اتجوزنا من ساعة ما رجعت من أمريكا أنا مكونتش كويسة، مكونتش عارفة
ولا فاهمة أنا بتعامل ازاي ولا حتى بقول إيه..
تبادلا النظرات لترى ملامحه تفيض بالسخرية
بينما هي كانت على وشك البُكاء لتخبره بحزن:
-
أنا عارفة إن غصب عني ساعات بقول كلام مش حلو
وبفضل أتكلم عن القديم، بس أنا آسفة.. متزعلش مني!
لم يستطع كتم ابتسامته وشعوره بالعار يزداد
بداخله وأطنب بكلماتٍ كثيرة توصل لها طوال الفترة الماضية وهو يتلقى علاجه كما
تسائل بالعديد من الأسئلة دون انتظار إجابة محددة:
-
ازعل؟! هو أنا يمكن أكون بتجيلي أوقات آه
ببقى مش عارف أنا بعمل فيها كده ازاي، بس أنا مش غبي، ما كل المتجوزين بيتخانقوا،
بس مش كل راجل بيمسك سكينة وبيفكر يقتل مراته وأخوه، أو خليني أقول طليقته وأخوه!
فاكرة إنك أنتِ بس السبب؟ أو بابا، أو أي حاجة بتحصل حواليا؟! لو فعلًا فاكرة كده
تبقي أغبى واحدة أنا شوفتها! أنتِ الكلام الوحش ولا اللي أنتِ بتعمليه ده بسبب
إيه؟ مش أنا اللي ابتديت؟ مش أنا اللي كنت بخبي عليكي حاجات كتيرة وصلتنا لنوبة
هوس لتفكير مش سليم وهلاوس وتفكيري بإنك بتخونيني على شك فيكي لما اشوف أي حد
مالوش علاقة بيكي معاكي في مكان واحد.. روان أنا إنسان مريض عقلي ونفسي في وقت
واحد، عارفة ده يعني إيه؟
انهمرت دموعها دون تحكم منها وهي ما زالت
تُمسك بيـ ـده وتشبثت بها بينما واصل من تلقاء نفسه:
-
أنا لا ينفع أكون زوج ولا أب ولا حتى إنسان
طبيعي.. أنا لو بس نسيت اخد دوا او اتشغلت ومقدرتش اواظب على مجهود جبار هلاقي
نفسي يا مكتئب يا إما مجنون بفكر اؤذي نفسي أو اللي حواليا.. وفي الآخر لو كنت
محظوظ ولحقت نفسي أو حتى حد لحقني بفتكر حاجات من اللي عملتها ده يعني لو منستش،
وأرجع اسأل نفسي أنا عملت كده ازاي!
لم تستطع منع دموعها وأخبرته بترجي وصوت
مكتوم بفعل البكاء:
-
كفاية.. بلاش التفكير ده!
التفت نحوها وأمسك بيـ ـدها التي تُمسك كفه
وأخبرها مستنكرًا:
-
ليه؟ مش ده الصح؟ تخيلي أنا أب دلوقتي، مين
هيقدر يمنعني اؤذي ولادي؟ مين كان هيمنعني اموتك؟! مش بتلاحظي إن اغلب نوبات الهوس
بتاعتي بشك فيكي على طول وبشوفك خاينة وبتخيل إنك على علاقة بحد؟ بقى ده راجل ينفع
يكون زوج أو أب؟!
ارتجفت بشدة بفعل بكائها وهتفت به:
-
أنت كنت كويس، كل حاجة كانت ماشية حلو.. أنت
بس عشان الضغوط وتعب باباك وطلاقنا ومامتك و
-
وبكرة المشاكل دي تروح وغيرها يجي، مفيش حد
حياته مثالية، ساعتها برضو هيبقى فيه أسباب طب وبعدين؟!
قاطعها وهو يتفقدها بقلة حيلة وهي على هذه
الحالة من البكاء الذي لا تستطيع أن توقفه جعله يود أن يتخلص من الحياة بأكملها ومرة
أخرى وجدها تُحدثه باستفهام وأنفاس غير منتظمة بفعل بكائها:
-
ما أنت كنت كويس السنين اللي فاتت قبل ما
تعرفني! ليه كل ده مكانش بيحصل؟
تلك المحاولات منها وهي تحاول أن تجد أي شيء
أو شخص تحمله المسئولية سواه هو فرد بانزعاج:
-
مين قال إنه مكنش بيحصل، روان أنا كان بيعدي
عليا أوقات كتيرة مكتئب وأوقات قليلة كان بيجيلي هوس خفيف، أنا بقالي سنين
مبتعالجش فطبيعي مع السن أعراض النوبات تبقى أشد، ويمكن الحاجة الوحيدة اللي ماليش
ايد فيها هي الظروف، وفيه حاجات اثرت عليا غير اللي كانت في حياتي زمان.. بس ده
كله مش سبب، وأنتِ أصلًا ليه بتحاولي تلاقي مبرر لكل اللي أنا عملته وممكن أعمله؟
وجدت نفسها مرة ثانية تذهب نحو الماضي بكل ما
فيه فحاولت أن تبتعد سريعًا عما قالته وما استمعت له منه وسألته:
-
عمر أنا بس عايزة اسألك سؤال، أنت سامحت
مامتك على كل حاجة حصلت ما بينكم؟
ترك يـ ـدها وهو يستنكر من سؤالها الذي لم
يفهم لماذا تتفوه به الآن وأومأ لها بالموافقة فتابعت:
-
طيب إذا كنت أنت سامحتها على اكتر من تلاتين
سنة فأنا مسامحة على كل اللي حصل، أنا لسه بحبك.. أنا مبقتش عايزة طلاق.. مبقتش
حتى عايزة ابعد عنك! أرجوك بلاش موضوع القضية.. ممكن ناخد وقت نفكر فيه براحتنا
ونشوف هنرجع لبعض ولا لأ بس بلاش قواضي ومحاكم وكلام من ده.. إذا كان ده حقي أنا
فأنا مسامحة فيه!
تفقدها بصدمة مما يستمع له وكان كل ما عقب به
هو:
-
وأنا مش مسامح!
انتشل كفه بعيدًا عنها ليشتد بكائها وسألته
بألم:
-
هو أنت مبقتش بتحبني يا عمر؟
التفت لها باندهاش ليعقب على سؤالها بغضب:
-
روان أنا عمري ما حبيت ولا هاحب غيرك..
توسلت بنحيب وهي لا تتمنى أكثر من أن يتراجع
عما في رأسه:
-
طيب إن كنت بتحبني بلاش لا قضية ولا مشاكل..
بلاش تعمل كده.. أرجوك أنا مش هطلب منك أي حاجة تانية غير الموضوع ده.
أطلق تأتأة وهو يشعر بالانزعاج بفعل بكائها
وقربها إليه ليزداد نحيبها وهي تدفن رأسها بصـ ـدره وحاول أن يُهدئها وهو يعانقها:
-
بطلي عياط طيب علشان نعرف نتكلم، ممكن؟!
لم تستطع التوقف ولم ينجح هو في أن يهدئها
فأخفض زجاج السيارة وناداه مخبرًا إياه:
-
محمود هاتلي ازازة مياه.
رفع الزجاج مرة أخرى وربت عليها واحتوى كل ما
بها تلك الدقائق المنصرمة ولم يُفكر للحظة بأن يُقاطع بكائها وقربها له أكثر ومرت
بعض الدقائق إلى أن آتى سائقه بالماء عندما طرق على الزجاج بخفة وناوله العبوة
البلاستيكية فرفع الزجاج بعد أن أمسك بها ورفع رأسها إليه وهو يخبرها باهتمام:
-
اشربي وحاولي تاخدي نفسك..
قام بإزالة الغطاء وهو يناولها المياه بينما
تمنى لو كان مات قبل أن يرى ملامحها المتألمة من أجله بهذه الطريقة وهو يفهم كل ما
بها، لقد بات على يقين أنه لو وافقها على ما تقوله فستكون زوجته من جديد بعد شهرين
كحد أقصى!
فرغت من تناولها جرعة صغيرة فقام بوضع الماء
في المساحة الجانبية لتخزين السيارة وجفف وجهها بأنامله وهو يُكلمها بنبرة هادئة:
-
حبيبتي القضية دي عشانك وعشان كرامتك قبل أي
حاجة، وبعدين متقارنيش اللي بيني وبينك باللي بيني وبين ماما، الواحد مبيختارش
أهله بس بيختار البنت اللي هيتجوزها ومش من حقه يعمل فيها اللي عملته فيكي..
صدقيني الموضوع هيبقى صعب في الأول لكن بمجرد ما نبعد شهر واتنين وعشرة وسنة
واتنين هتحسي إن عادي.. روان انتي بنفسك دورتي على محامي عشان يرفع عليا قواضي
بالورق اللي لاقتيه..
عقبت بقهر وبكت مرة ثانية دون سيطرة منها على
نفسها:
-
لا المرادي مش زي المرة اللي فاتت، المرة
اللي فاتت اخر حاجة شوفتها منك مسدس هتموتني بيه، إنما المرادي أنت مطلقني وبتبعد
عني وانت خارج من المستشفى لواحدك وغصب عنك نسيت تاخد دواك.. عمر أنت في الأول كنت
مديني الوحش والحلو والوحش كان اكتر من الحلو، إنما في جوازنا تاني مرة أنت ادتني
كل حاجة كان نفسي فيها!
هز رأسه مستنكرًا وهو يتفقدها بأعين متوسلة
وتحدث بثقة عما يراه منطقي:
-
حبيبتي أنا كنت طالع اموت ماما اللي بتقوليلي
سامحتها عشان عرفت انها بتتخانق مع بابا ولولا عُدي منعني كان زماني موتها! أنتِ
مش مضطرة تستحملي حياة مع واحد زيي، أنا وعدتك إني هخلصك من الحياة دي..
-
بس يا عمر ده كان من وقـ
-
من غير بس!
قاطعته ليقاطعها هو الآخر وهو ما زال مصمم
على قراره:
-
أنا مش هرجع في كلامي عن القضية، وأنتي بقا
من حقك تعيشي حياة كويسة بعيد عن كل ده.
تفقدته بحزن ثم عارضته وهي تناشده لعله
يستجيب:
-
طب ما عدي يومها السكينة جت في ايده و
-
عدي أخويا، احنا الاتنين اتفرضنا على بعض من
اكتر من تلاتين سنة، إنما أنتِ مالكيش ذنب..
قاطعها مجددًا ولم يعد يتحمل بُكائها الذي
كاد أن يدفعه للبكاء هو نفسه وقال بثقة:
-
روان اسمعيني كويس عشان منقولش كلام كتير
مالوش لازمة، أنا هقدم جواز عنود بمجرد ما تخلص امتحاناتها، واشوف موضوع بابا
هيخلص على ايه، وهنبقى نقعد عشان افهمك هتقولي ايه في المحكمة بالظبط، مظنش اننا
بقا فيه حاجة ما بيني وبينك أكتر من كده!
اندهشت من كلماته وسألته بنظرات لوم بين دموعها
التي لا تتوقف:
-
يعني هو ده بس اللي بقى بيني وبينك؟
لم يستطع تحمل عيناها وهي تبدو هكذا واكتفى
بالنظر أمامه وأومأ بالتصديق على ما قالته ولم تمر سوى لحظة واحدة حتى أصبحت خارج
السيارة وتركته بمفرده في وحشة من الوحدة كان على يقين أنها لن تتغير أبدًا وهي
ليست بجانبه!
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
مشت بملامح متجهمة وهي تستعيد الكثير مما مر
عليها معه، تكره بشدة أن تتفق معه في الرأي، هي رأته بأم عينيها بنوبات هوسه، رأته
وهو يقتل نفسه بعد أن أوشك على قتلها بنوبة اكتئاب، تعرف أن "ريان" معه
لن يكون بأمان كامل، ولكنه يُهددها بحرمانها الدائم منه، هذا فاق كل تخيلاتها!
دخلت من الباب الخلفي الذي يطل على حمام
السباحة بمنزل "عنود" ووجدت هدوء شديد فمشت لتصل لتلك الغرفة التي تركت
بها "ريان" منذ قليل فأوقفتها "مايا" في طريقها وسألتها
متلهفة:
-
عملتي ايه معاه؟
سيطر الوجوم على وجهها واكتفت بهز رأسها بالرفض
واتجهت لتكمل طريقها لتوقفها مرة ثانية وهي تحدثها بانزعاج:
-
هو إيه اللي لأ! ما تتكلمي يا بنتي.. انتِ
وهو كده تيجو في التفاصيل المهمة ولسانكم يعطل، ما تقولي قالك إيه!
زفرت بضيق والتفتت لها وهي ترمقها بمقلتين
غائبتين أسفل دموعها وأخبرتها بنبرة على وشك البُكاء:
-
مصمم ميبقاش ليه علاقة بيه وقال إني لو حاولت
تاني اقربهم من بعض هياخد مني الحضانة!
تساقطت دموعها فاقتربت "مايا"
نحوها وعانقتها وربتت عليها وحاولت أن تهدئها وهي تتحدث لها ببعض الكلمات الداعمة:
-
هو إيه اللي ياخد منك حضانة الولد، سكران ده
ولا إيه، وأنتِ كمان هبلة كده وبتصدقي وبتعيطي.. اهدي يا روان وكل حاجة هتتحل.
أقبلت "عنود" وهي تتفقد ما الذي
يحدث لتتأثر بما تراه وسألت كلتاهما:
-
هو فيه إيه؟ روان بتعيط ليه؟
اجابتها "مايا" باختصار:
-
عمر رافض يتعامل مع ريان وقالها هياخد الحضانة!
تحدثت "عنود" بثقة شديدة وهي تعقب
على ما استمعت له وهي تقترب نحو "روان" لتوجه إليها كلماتها:
-
حضانة إيه اللي ياخدها، ده لو عرفوا إنه bipolar مش هيرضوا ولو الحضانة راحت ليا ولا لماما
لا أنا عندي مكان اربيه وهروحه معاكي يوم ما الحكم يطلع، ولا ماما تعرف تربي حد
تاني غير عُدي حبيب قلبها.. أخويا باين إنه بيهلوس ولا حاجة.. سيبك منه.. وانتِ
متبقيش هبلة يقولك كلمتين يخوفك بيهم!
ابتعدت وهي تنظر بأعين كل واحدة وسألت بحزن
والحيرة تتضح على وجهها:
-
بجد مش هيعمل كده؟
قلبت "مايا" شــ ـفتيها وهي
تجيبها:
-
ممكن يعملها لو صدعتيه.
لم تقتنع "عنود" بما قالته وعقبت
بالرفض التام:
-
على قد ما دماغه ناشفة بس فيه حتة قد كده
حنينة
اشارت بإصبعيها وواصلت:
-
لو ريان عيطله وقاله عايز مامي وقلبله بوقه
كده هو اللي هيروح يوصله لغاية بيتها، ده أخويا بقى وأنا عرفت هو بيتصرف ازاي بعد العِشرة
دي كلها..
وقفت كلتاهما بأعين متسائلة في تحفز ورفض
شديد لكلماتها لتتابع بثقة قاطعة على ما تعرفه ورأته منه:
-
أنتو محدش فيكم شاف عمر في أول فترة لما كنت
بروحله زيارات في السجن، عامل بس جامد إنما أول ما عرف إن روان جالها نزيف وهي
حامل بسبب آخر مرة جاتله جاله اكتئاب وصمم إني مقولكوش.. ده أهبل أصلًا هو كمان..
أنتو بتصدقوا الكلام ده!
تعجبت "روان" مما تستمع له وسألتها
باستغراب:
-
ثانية ثانية، هو عمر عرف إن جالي نزيف بعد
آخر مرة شوفته فيها؟
أومأت لها بالموافقة واجابتها:
-
ده بيعرف عنك كل حاجة، مش بعيد تلاقيه بيتصنت
علينا دلوقتي..
زفرت بسخرية وسألتها متعجبة من مدى قسوته
الشديدة في التعامل:
-
يعني حتى وقتها مفرقش معاه؟