-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 64 - 2

 

 رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الجزء الثاني

الفصل الرابع والستون


العودة للصفحة السابقة


عودة للوقت الحالي..

وقفت أمام الإصطبل الخاص وهي لا تريد لـ "ريان" أن يستمع لما يدور بينهما لو كان ما زال منتظرًا بالداخل لذلك ذهبت وتركته أولًا بصحبة "بسام" وقررت أن تواجهه بمفردها وكما توقعت وجدته ينتظر بالداخل عندما جذبت "برق" من لجامه لتعيده مرة ثانية..

 

وجدته يبتسم لها تلك الابتسامة المُستفزة، لن تُصدق أنه يشتاق لها بفعل هذه النظرات ولا تلك الابتسامة التي في الماضي كانت ستظن أنها ستتبع باعتذار، فما فعله معها وخصوصًا بـ "ريان" لن يُكفيه آلاف من الاعتذارات.. لقد فقد عقله منذ سنوات، وهي ليست بمستعدة أن تدخل في زوبعة فرغت منها بالفعل بعد معاناة!

 

أخذ يتفقدها وهي تحرر حصانه من السرج واللجام ولا يشتاق لأكثر من عناق طويل يتشاركه معها إلى أن تنتهي الحياة، ليتها تعلم كم عانى لتصل لكل هذا، لقد آلمته كثيرًا ولقد انتقم هو من نفسه ومنها وقرر أن يُعطيها ما كانت تُريده بشدة لثلاث سنوات معه، الطلاق والحرية والابتعاد، أليس هذا ما كانت تريده؟ وأليس هذا هو ما جعله يتعامل مع عقدته الأبدية بالتعلق بماضيه؟ من أجل نفسه ومن أجلها كان عليه أن يفعل وإلا كان الضرر سيلحق بهما مع أول عثرة يتعرضان لها!

 

-       هتتفرج عليا كتر، مش لاقي كلام تقوله؟

 

سألته بعدما شعرت بعينيه تتابع كل تفاصيلها في صمته الذي طال أكثر من اللازم وسألها مُعقبًا:

-       عايزاني اقولك إيه؟

 

ضيقت ما بين حاجباها والتفتت نحوه وهي تواجهه واجابته ولكن بصوت معتدل لا ينتسب للغضب ولا للحزن:

-       تقولي امتى هنقول لريان إنك باباه، ترجع بقا وتاخد برق وكلابك بدل ما انا بقيت حاسة إني بتاجر في الكلاب اللي بيخلفوهم كل شوية، تشوف حياة ابنك وتتحمل المسئولية معايا وتربيه، التلت سنين ونص من حياة ابنك أنت كنت بين سجن ومستشفى، ماشي، عذرتك مع إني حاولت اخرجك وأنت اللي موافقتش.. إنما دلوقتي حجتك إيه؟!

 

الصمت بصحبته بفعل تلك النظرات التي تشعر خلالها أنه يتغلغل بها ويُعـ ــري عقلها ورأسها ومشاعرها أمامه، لديه تلك القدرة للمــ ــس كل ما بها ولو ابتعد كلاهما آلاف السنوات عن بعضهما البعض سيظل هناك بينهما هذا الحبل الخفي الذي لا تراه أعين الجميع وكأنه يتصل بقلبها دون أن تستطيع أن تمنعه!

 

حاولت التراجع سريعًا عما أدركته بينما هو يحاول أن يُسيطر عن ذلك الاشتياق الذي يجرفه نحوها وكأنه ينحدر من فوق جبل شاهق يتكون من الأربع سنوات الماضية ليُدرك أنه سيسقط لا محالة ويعرف أنه من الظلم أن ينتظر منها أن تتقبله وتبادله نفس المشاعر وخصوصًا الآن!

 

كان عليه أن يتوقف عن التفكير بمشاعره وقلبه المتلهف لعناق ويواجه الواقع حوله فأخبرها:

-       أنا مش عايز ريان يعرف حاجة ويفضل زي ما هو لغاية ما امشي من هنا..

 

لم تفهم إلى أي مكان يود الذهاب فازداد على ملامحها الاستغراب فسألته:

-       أنت ناوي تروح فين معلش؟

 

اجابها باقتضاب وهو يوليها ظهره لأنه لو نظر لها أكثر من ذلك سيضرب بالواقع عُرْضَ الجحيم وسيسرق منها قبلة سيتبعها الكثير من التصرفات غير اللائقة ويثق بأنه يمتلك عليها ذاك التأثير الذي سيجعلها خائنة لزوجها في النهاية:

-       هسيب البلد وهسافر برا!

 

أطلقت زفرة اندهاش وقع على أذنيها مصيبًا إياها بالصمم للحظات وقالت بنبرة استفهامية:

-       نعم.. هتسيب إيه؟

 

تنهد بعمق وحاول أن يسيطر على نفسه وهو يمتنع عن النظر لها واقترب من "برق" وربط عليه وقال مُجيبًا:

-       أنا هاخد برق والكلاب وامشي واسيب كل حاجة، وأظن إني كنت واضح معاكي من البداية، أنا اتنازلت عن حضانة الولد وكل حاجة تخصه قانونًا عشان أنا مصمم ميبقاليش علاقة بيه.. وأظن أنتِ بقيتي ست متجوزة وهو عايش معاكي ومبسوط، ابقي ربيه أنتِ وجوزك!

 

حقًا لم تعد تحتمل جفاءه من ناحية "ريان" الذي لا تعلم لماذا يُصمم على عدم معرفته وازدادت صدمتها أكثر عندما تابع:

-       اه صحيح نسيت، مبروك.

 

التفت لها بعد ما قاله وهو يتفقدها ليقرأ تعابيرها وكأنها تُخبره أنه من أوصلها لذلك فردت عليه ببرود دون أن تفقد أي من أعصابها:

-       شُكرًا.. عقبالك!

 

ابتسم لها بعتاب استطاعت تبينه بمنتهى السهولة وأخبرها:

-       مظنش إننا بنفكر زي بعض من ناحية الموضوع ده!

 

ما أوشكت على قوله جعله يشعر بالغضب الشديد وكأنه لم يقل شيء للتو:

-       الولد بيسأل كتير عن باباه يا عُمر، أنا مفهماه إنك مسافر وكل ما يقولي وريهوني أنا بتهرب منه.. بس بكرة يكبر ويبقى في المدرسة ويبتدي يسأل أكتر، أنا مش هقدر اكدب عليه اكتر من كده ولا اخبي عليه، لا طريقتي ولا اسلوبي، وهو من حقه يشوفك ويعرفك ويتكلم معاك!

-       متقلقيش، على ما يبتدي يسأل اكتر هكون سافرت، ساعتها ابقي قوليله كل حاجة عني!

 

كُتمت الدموع بعينيها حُزنًا على ما يُريد فعله به وهو يُلقي بالمسئولية الكاملة عليها وحدها فسألته بقهر:

-       أنت ليه بتعمل كده بجد، بقا ريان ميستاهلش إنك تقرب منه وتعرفه، أنت ليه بتقسى عليه بالشكل ده؟

 

تمزق قلبه وهو يراها بهيئتها تلك ولم يُرد لحديثهما أن يطول أكثر من هذا فأجابها قبل أن يتجه للمغادرة:

-       أنا معرفوش أصلًا عشان أقرب منه ولا أقسى عليه، وعشان قولتلك أنا مبيتلويش دراعي يا روان.. أنتِ اللي صممتي على الحمل وأنا قولتلك ألف مرة إني مش عايز أخلف طفل مريض زيي ولا طفل يطلع يلاقي أبوه مجنون!

 

تفرقت شـ ـفتاها بفعل الدهشة وقالت بدفاع عن نفسها:

-       أنا مصممتش على حمل ولا حاجة، أنت عارف إن ده حصل غصب عني وعنك واحنا اتنين كل شوية كانوا بيناموا مع بعض، أظن الست بتحمل من الراجل لما ده بيحصل!

 

أغمض عيناه وهو يهشم أسنانه والتفت نحوها وهو يقول بنبرة حادة أدت لجدالهما:

-       أنتِ اللي نسيتي تاخدي أي موانع وقتها!

-       وهو أنت كنت بتسيبلي فرصة اتنفس أصلًا.. ولا نسيت إنك اللي ابتديت؟

-       أنا مبتدش بحاجة يا روان أنتِ اللي ابتديتي تقربي مني لما بابا كان في المستشفى!

-       أنا روحت اشوفك عشان لقيتك بتدمر نفسك وكنت ممكن تحاول تنتحر تاني، بقى ده غلطي، ولا نسيت إنك يومها قربت مني بالزفت اللي كنت بتشربه وأنت اللي ابتديت.. ما أنا ياما اتعاملت معاك وكنت معاك في اوضة واحدة بعيد عن الناس وعمري ما سمحتلك تقرب مني.. أنت استغلتني يومها!

 

اقترب منها ببرود تعرف تمامًا أنه كاد أن يُقارب عاصفة مُدمرة وهو يُحدثها بنبرة خافتة:

-       ولما فوقت على اللي عملته تقدري تفكريني كده أنا عملت إيه؟

 

تفقدته بحيرة وهي لا تفهم لماذا يحاول الاقتراب منها الآن واجابته:

-       طلقتني وروحت جبت مأذون واتطلقنا عشان صممت إنك هتمشي في القضية بعد فرح عنود!

 

رفع واحدًا من حاجبيه وهو يتكلم بنفس نبرته:

-       كويس أوي إنك فاكرة!

-       وهو أنت مش فاكر بعدها حصل إيه؟

 

ابتسم لها بلومٍ وقرر ألا ينغمس كلاهما بهذا الماضي الآن وقال بهدوء:

-       مالوش لازمة نتكلم في حاجة فاتت.. وأظن قراري من ناحيته أنا حر فيه!

-       لا أنت مش حر، ريان من حقه يعرفك وياخد فرصته معاك ولا عايزه يطلع معقد زيك.. أنا مش هاكدب عليه أكتر من كده واللي عندك اعمله يا عمر!

 

صممت على موقفها بينما نظر لها بغضب لتعقد هي ذراعيها بتحفز وثارت أعصابها بشدة لتحمحم "مايا" وهي تدخل حاملة "ريان" معها وقالت:

-       يا روان روني بيسأل عليكي..

 

اتجهت لتقترب منهما وتفقدت "عمر" وهي تُكلمه:

-       مش هتيجي عشان تقعد معانا شوية!

 

تفقدته بنظرة ذات مغزى وهي تشير له أن يذهب للخارج ليُتابع ما يحدث و"روان" تقوم بحمله ليجده يسألها:

-       مامي أنتِ زعلانة ليه؟

-       مفيش حاجة يا حبيبي.. تعالى نروح نقعد مع خالو وطنط عنود.

 

توجهت لكي تغادر وهي تحمله بتشبث شديد ووضعت رأسه فوق كتفها لكي تحاول السيطرة على أعصابها وتصل لبعض الهدوء من مواجهتها له منذ قليل فهي لا تريده أن يراها بهذا الغضب فوقتها لن يتوقف عن التساؤل وبعد هذه القسوة التي يتعامل بها تجاهه جعلها تغلي بالفعل فسمعته يتحدث متسائلًا وهو أنظاره متعلقة به:

-       هو أنت اسمك إيه؟

 

توقفت عن أخذ الخطوات ليتفقده وهو يحاول السيطرة على نفسه لكي يمتنع عن التعلق به والاحتفاظ بأي ذكرى قد تجمعهما ولكنها أرغمته على فعلها؛ بالطبع كما يحلو لها فعل أي لعنة معه، عندما التفتت وهي تُخفضه أرضًا آبية كل الإباء أن يتحمل "ريان" هذا الجفاء وتلك القسوة بعدم معرفته والاقتراب منه ومشاركته عناق واحد ثم نظرت إليه واجابته:

-       اسمه عمر.. ده بابا عمر يا ريان.. روح سلم عليه واقعد معاه!

 

فليُريها إذن كيف سيتعامل مع ما يحدث وهو يقف أمامها ينظر لها بتحدي على ما قالته ولكن ليتحداها إذن، وليُفكر ألف مرة قبل أن يفعل شيء غبي، تقسم أنها ستقوم بسجنه حقًا بما ما زالت تملكه من أوراق تدينه، أو ليُعدم حتى، لا يهم، ما يهم هو أن يُعطي فُرصه لـ "ريان" بأن يعرف من هو والده الحقيقي!

--

منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعان..

نجحت بأعجوبة أن تساعده في ارتداء ملابسه لكي تُقنعه بأنه لا يُمكنه الذهاب هكذا أمام أخته ووالدته بالبيت الآخر الذي يُقابل منزله وتركته يجلس على الأريكة ثم أخبرته بدلال وهي تُمسك بيـ ـده:

-       أنت وحشتني أوي بجد.. عايزة النهاردة نسهر كتير مع بعض.. خد اشرب عشان نقدر نكمل باقي الليلة!

 

ناولته كوب القهوة فنظر لها ثم أخبرها:

-       مش عايز

-       عشان خاطري.. احنا لو أي حاجة حصلت هتنام على طول وأنا مش عايزة اضيع الليلة في النوم!

طبعت قُبلة على وجنته رغمًا عنها فهي تعرف تمامًا أنه يتأثر باقترابهما سويًا ولطالما كان حـ ـساسًا للتواصل المـلموس بينهما، فابتسم لها وحاول أن يتناول رشفة من الكوب وتظاهرت هي الأخرى أنها تشرب من كوبها في حين أنها نوت أن يتناول ويُنهي هو الاثنان وسألته لتحاول أن تثني تفكيره عن تلك الرغبة التي يشعر بها:

-       أنا زعلت اوي لما عرفت إن باباك مش هيعرف يمشي تاني، هو ايه اللي حصل؟

 

نظر إليها بطيف من الانزعاج بالرغم من أنه ما زال غير واعيًا بالكامل وفجأة ضحك بشدة لدرجة أدت إلى إدماع عيناه وحدثها بين ضحكاته:

-       ضرب نفسه بالنار زيي..

 

لم تظن أن الموضوع مُضحك أبدًا وتيقنت أنه غير واعيًا لما يفعله وتحدث بالمزيد بين ضحكاته:

-       حاولت اخد المسدس منه فخباه ورا ضهره والطلقة جت فيه.. احنا عيلة مجانين.. أنا شبهه اوي!

 

شعرت بالشفقة عليه وهو يبدو في هذه الحالة لدرجة أن ملابسه اتسخت عندما ضحك ووقعت قطرات من القهوة عليها فتناولت منه القهوة وتريثت حتى توقف عن الضحك لتُحدثه بتفهم:

-       عمر أنا عارفة إنك متضايق على اللي حصل لباباك وأنت كنت زعلان منه عشان موضوع يُمنى.. بس مينفعـ

-       مش الموضوع ده..

 

قاطعها ضاحكًا وأكمل بكلام بالكاد استطاعت أن تفهمه بين حالة عدم وعيه وبين صوت ضحكاته:

-       كان مخبي عليا إن كان عنده سرطان، هو كده كده هيموت وهيسبني!

--

عودة للوقت الحالي..

ظل كلاهما يحدقان ببعضهما البعض بتحدي فهي مُصممة على أن يعرف "ريان" الحقيقة وتريد أن تُجبره على التعامل معه، أمّا هو فيقسم لها أنها ستندم أشد الندم على ما فعلته وسيجعلها تُفكر ألف مرة قبل أن يخطر على عقلها مجرد مشهد خيالي له هو و"ريان" يتحدثان لبعضهما البعض!

 

اقتربت له "مايا" وهي تقصد ألا يراها "ريان" وتدخلت بسرعة قبل أن يتصرف تصرف خاطئ وهمست له:

-       معلش يا عمر مش هيجرا حاجة، بلاش عصبية قدام الولد ملوش ذنب واقعد معاه بس ربع ساعة وأنا بنفسي هاجي اخده منك!

 

التفتت وهي تبتسم إلى "ريان" ثم أخبرته:

-       تعالى يالا وسلم على بابي..

 

قامت بحمله بينما أخذ ينظر كلاهما إلى بعضهما البعض نظرات مبهمة وحدث ما كان يرتعد منه الآخر ولم يملك له أدنى استعداد فبدأ "ريان" بالتحدث متسائلًا:

-       هو أنت كنت مسافر؟

 

نظر نظرة أخيرة لكلًا من "مايا" و "روان" ثم قام بحمله فهو لن يتوقف عن غضبه أمامهما ويقسم أن حساب كل واحدة سيكون عسير على ما فعلتاه وأخبره بابتسامة مقتضبة:

-       اه، وجيت عشان اسم عليك ونقعد مع بعض!

 

كادت أن تمنعه "روان" عن الذهاب والبقاء معه بمفرده فأوقفتها "مايا" ومنعتها قائلة بعصبية:

-       ده أنا مشوفتش اغبى منك، ازاي تعملي اللي عملتيه ده بجد؟! استني طيب تمهدي الموضوع للاتنين! افرضي كان عمر اتعصب والولد خاف ولا اتصدم في أول مرة يشوف باباه فيها؟!

-       استنى ايه ده بيقولي هيسافر ومصمم ميشوفهوش ولسه زي ما هو من ساعة ما شوفته آخر مرة، هو بقا كده وإذا كان عاجبه، هو مش ابني لوحدي وابنه مش هيتربى وهو بعيد عنه زي ما مامته بعدت عنه!

 

ردت مُعقبة على كلماتها بغضب بينما تركتها وغادرت لتتابع "عمر" و "ريان" ولكنها رأته يحمله ويتجه به نحو منزله لتوقفها "عنود" التي انضمت لها "مايا" بعد أن لحقت بها وقطعت عليها الأولى الطريق وهي تُخبرها بتساؤل بعد أن تعجب الجميع من مصاحبته لـ "ريان" والكل يعلم أنه كان رافض بشدة لرؤيته:

-       روان أنتِ رايحة فين؟

 

نظرت لها وتوقفت لوهلة وهي ترد عليها بغضب:

-       رايحة اقعد معاهم، ما أنا مش هاسبهم لوحدهم!

 

استنكرت "عنود" تصرفها وأخبرتها منبهة إياها:

-       روان عمر بقا طليقك، ميصحش تدخلي معاه مكان قدام الناس الموجودة دي كلها ويتقفل عليكم باب واحد وحتى جوزك ميعرفش؟!

--

 

منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعان..

لم يكن هذا ليُخطر على بالها على الإطلاق، لم تكن حتى تتصور أن هذا ما يجعله في حالة ترفض التعامل مع الجميع، الآن تفهم كل شيء، والده مريض بالسرطان ولذلك لم يكن له ردود لأفعال "عمر" بالفترة الأخيرة ولا مغادرة الأسرة بأكملها وإقامتهم بمنزلها!

 

ما انتشلها من الصدمة هو ذهابه مبتعدًا حتى تلك الطاولة الجانبية الصغيرة بجانب فراشه ورأته يقوم بفتح الدرج ثم استخرج ما يُشابه لفافة التبغ ويقوم بإشعالها فاشتمت بقوة لتلك الرائحة الغريبة تزداد ففهمت أنه لابد أن يكون مختلطًا بمخدر ما أو هي لا تعرف كيف تفسر ما تراه لأنها لم تتناوله فقط حتى بتلك الليالي بفرنسا لم تتواجد في أي مكان يُتناول فيه هذه الأشياء كانت بأكملها كحوليات ليس إلا!

 

اتجهت نحوه لتمنعه فهي تحاول أن توقظه من كل هذا وتفهم أن أي مخدر أو كحوليات أو حتى صدمات قد تفتك به في لمح البصر حتى ولو كان مواظبًا على دوائه الذي ترتاب بأنه لا يتناوله بالطبع هذه الأيام..

 

-       هات يا عمر..

 

ابعد اللفافة عنها وهو غارق بشدة في هذا الانتشاء الذي تُسببه الماريجوانا التي ابتاعها من واحد من الرجال الذي يعرفه بصورة غير مباشرة فهو بالطبع وقتها لم يُفصح عن هويته وسائقه لن يرفض أمره ولو عصاه وقتها كان سيجعله يخسر عمله!

 

-       عايزة تاخديها ليه، عايزة تجربي مش كده!

 

انزعجت بشدة مما يفعله وحاولت أن تُنهيه عما يفعله ثم أخبرته غير قاصدة سوى أن تُلهي عقله حتى توقفه عن التدخين:

-       هات بس السيجارة وهنشربها سوا!

 

ابتسم لها بخبث ثم أخبرها قائلًا:

-       تعالي أوريكي!

 

تعجبت مما قاله فهي لا تفهم ما الذي سيفعله بينما تناول نفس عميق من اللفافة وعندما رفعت يـ ـدها لتقوم بإبعادها عنه دفـ ـعها للفراش واستلقى فو قها وبعدها اقترب منها للغاية وقام بنفث الأدخنة بوجهها في البداية ظنت أن رائحتها مُزعجة ولا تستطيع تحملها ولم تفهم ما يفعله وظلت تتنفس بشكل طبيعي فقالت بنبرة مهددة وتناست تمامًا كيف يعمل عقله بتلك النشوة التي تعبث باتزانه الآن:

-       عمر هات السيجارة وابعد بدل ما اروح لعُدي واخليه يجي يتصرف معاك

 

حدثها معقبًا بابتسامة ونبرة غير واعية:

-       ليه يا بنوتي عدي، أنا احسن منه، نسيتي كنا بنعمل ايه مع بعض.. أنتِ وحشتيني اوي

 

 أعاد كرته بينما حاولت أن تُفلت منه فلم تنجح وأمسك السيجارة بفمه يستنشق منها ويـ ـداه تمنعاها عن الإفلات ليجمع يـ ـداها فوق صـ ـدرها بيـ ـدٍ واحدة وبالأخرى أمسك اللفافة المشتعلة وتركها على الطاولة الصغيرة بجانبهما لتتفقده بخوف ظنًا منها أنه يُريد إكراهها على علا قة جـ ـسدية ولكن ليس هذا مقصده بل هو لا يُدرك ما الذي يفعله فهو مخمور وعقله غافل تمامًا عن التصرفات الواعية ومن جديد أعاد ما فعله منذ ثوانٍ ليزداد انزعاجها بشدة ولكنها لو كانت تفهم أن استنشاق هذه الأدخنة إلى رئتيها سيُصيبها عاجلًا أم آجلا بنفس التأثير غير الواعي الذي يملكه عليه.

 

-       دي أحلى من الشُرب، بتخليكي طايرة، مش حاسة بحاجة، كل الزعل بيروح فجأة وكل حاجة بتبقا حلوة، بس أنتِ أحلى من أي حاجة أنا شوفتها في حياتي..

-       عمر حاسب وخليني امشي لو سمحت!

 

سرعان ما حاولت أن تفلت منه من جديد ولكنه أخبرها:

-       جربيها هتنسي كل حاجة وحشة أنا عملتها معاكي.. هتنسينا كل حاجة!

 

امتدت يـ ـده للفافة مرة ثانية وهو يقدمها لها فنظرت له وحاولت أن تتحايل على الموقف وسألته:

-       لو جربتها هتسبني امشي؟

 

هز رأسه بالموافقة فتظاهرت بتدخينها مثلما تفعل بالسجائر وتناولت مقدار صغير عندما وضعها بين شـ ـفتيها وسرعان ما نفثت هذا المذاق الكريه وأخبرته:

-       خلاص بقا سيبني امشي..

 

أومأ بالإنكار وأخبرها:

-       مش كده يا قطتي..

 

تناول منها نفسًا عميقًا ونفثه بتريث شديد لتنزعج من جديد بالأدخنة وهي ما تزال أسـ ـفله ليتوسل أمام شـ ـفتاها:

-       متسبنيش دلوقتي، أنا عايزك معايا..

 

 اقترب لها للغاية ليقوم بتقبـ ـيلها إلى أن ظنت أنه لن يتوقف أبدًا وحين فعل وجدته يسألها بلهاث:

-       موحشتكيش؟ مش نفسك في مرة واحدة بس زي زمان؟ أنا بتعذب لما بشوفك قدامي يا روان!

 

حاولت أن تدفعه فلم يتركها لتذهب وحال بينها وبين الذهاب فحاولت الصراخ فكتم شـ ـفتاها بقبـلة أخرى طويلة وبعض الملاطفات من أصا بعه لعـ ـنقــها وأسـ ـفل أذنيها وهي تحاول أن تخفض يـ ـده ولكنه لم يتوقف وبعد أن ابتعد وكلاهما يبحثان عن الهواء نظرت له كالمغشي عليها وحاولت أن تبتعد من جديد فأخبرته بتمنع:

-       عمر بلاش لو سمحت..

-       بس أنتِ وحشتيني اوي، حاسس إنك بعيد عني بقالك كتير!

 

اقترب منها ليعيد الكرة من جديد ومهما حاولت أن تفعل وتصده وتمنعه تجد نفسها تستجيب، هذه المرة ليست مثل المرة السابقة بالفندق عند سفرهما، هذه المرة مختلفة، لا تشعر منه سوى بالاحتياج الشديد منه لها وتصميمه على عدم تركها!

 

جولة أخرى من محاولة البحث عن الهواء ونزال عنيف بين أعينهما، قبلته لطالما كانت تنتشلها من الواقع وطريقته نفسها كانت تُنسيها اسمها عندما تصل لهذه المرحلة تعلم أنه لا عودة وهي كانت تشتاق له بالفعل بعد أن أصبح رجل آخر في كل شيء لدرجة توصله أن يقوم بالذهاب للسجن بنفسه من أجلها هي..

 

تلك الأنفاس المتواصلة وهي تلهث ذكرها بالكثير معه ولكن ازداد التأثير عندما قام هذه المرة بدفع المزيد من الأدخنة بين شـ ـفتاها لتتناولها بأكملها لا تدري عن قصد أم بفعل هذه العُشبة اللعينة التي تملكت من كلاهما على ما يبدو.

 

في غضون لحظات أصبحت هي من تعانقه وأبدل الوهن قوة تحملها واستعادت مشهد ظنت أنها تناسته للأبد وهو ينظر لها من الأعلى نظرات لم ترها في رجل مثله قط حيث يجعلها تشعر أنها أفضل امرأة بالحياة، كل ما بها بات يناديها أن تضمه إليها للأبد وهذه المرة هي من اقتربت من أجل قُبلة سيتبعها الكثير ولن تنتهي هذه الليلة إلا عند رؤية كلاهما لضياء الصباح!

--

منذ سبع سنوات وشهر واحد..

اليوم الأول.. ليلًا.. أثينا.. اليونان..

أعلى سطح واحد من الفنادق المُطلة على معبد هيرا..

 

فرق قبلتهما لتستقر غامضة الأعين واراحت وجهها على كـ ـفه الدافئ وهي تشعر أنها تشتعل بداخلها بفعل هذا الهواء حولهما بعد أن استطاع أن يلتقم في لحظة غفلت خلالها وهما يتراقصان بعد أن وثقت بأنه يحاول حقًا أن يذهبا معًا نحو بداية جديدة، جعلها تشعر بأن به كل ما تمنت أن تجده في رجل قد تُكمل معه باقي حياتها..

 

-       بنوتي هتنام هنا ولا إيه؟

 

فتحت عيناها الغارقتان في نشوة من الخجل الشديد بصحبة مشاعر عنيـ ـفة لم تختبرها قط جعلت قلبها يتراقص داخل صـ ـدرها ولم تجد كلمات لتنطق بها فابتسمت له وبالكاد استطاعت النظر بعينيه ليسألها بخبث:

-       طيب نتعشى ولا تحبي ننزل الأوضة تحت؟

 

اتسعت عيناها وحدثته مجيبة برفض قاطع لما رمى إليه منذ قليل:

-       لأ نتعشى طبعًا!

 

أمسك بيـ ـدها ثم توجه كلاهما لتلك الطاولة التي رُص عليها الطعام وأجلسها أولًا وذهب ليجلس أمامها وسلط كامل تركيزه على كل تفاصيلها ثم حدثها بابتسامة:

-       بداية جديدة واتجوزنا من أول وجديد وأنتِ وافقتي.. احكيلي بقا..

 

اتسعت عيناها باستغراب واستفهمت متسائلة:

-       احيلك عن إيه بالظبط؟

 

تفحص عسليتيها بنظرات جعلتها تشعر أنها مثالية حقًا كما يخبرها دائمًا وقال مجيبًا:

-       كل حاجة عنك، بتحبي ايه، بتكرهي ايه، احكيلي عن باباكي ومامتك وشغلك وقرايبك.. كل حاجة نفسك فيها وكل حاجة عايزاها..

 

أن تجلس وسط هذه الأضواء الخافتة بعد عرض للزواج سبقه أشعار عريقة لم تفهمها وهي تبدو في غاية الأناقة وفي أفضل حالتها كما لم يقل عنها من يجلس أمامها وهذه الرقصة القصيرة معه بعد أن ارتدت هذا الخاتم الرائع ليُنهي تمايلهما بقبلة شغوفة سلبت أنفاسها، ليواصل هذه الليلة بحديث هي محوره ويتعلق بأكمله بها بهذه النظرات المُهتمة للغاية منه.. هذه أفضل بداية في الحياة، بل أفضل من كل ما تمنته منذ أن كانت طفلة.. هذا تمامًا ما شغل خيالها لسنوات عندما تستمع للفظ الزواج يُذكر أمامها..

 

 يتبع..


إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة بتول طه لا تنسى قراءة روايات و قصص أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كاملة