رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 64 - 1
رواية كما يحلو لها
الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه
رواية جديدة كما يحلو لها
تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى
من قصص وروايات
الكاتبة بتول طه
النسخة العامية
الفصل الرابع والستون
الجزء الأول
منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعان..
أزعجها صوت اهتزاز الهاتف المستمر لتستيقظ
وهي تتفقد المتصل لتجد أنها "عنود" وتفقدت الوقت لتجد الساعة عبرت
الواحدة بعد منتصف الليل فنهضت جالسة على فراشها وهي ترتاب بأمر هذه المكالمة،
يستحل أن تحدثها في هذا الوقت المتأخر قبل اختبارات نهاية العام إلا لو كان هناك
أمر هام!
-
أيوة يا عنود، عاملة ايه؟
استمعت لصوتها الناعس ولكنها كان عليها أن
تخبرها بما يحدث فليس هناك من سيتصرف سواها:
-
روان بصي، بابا في العناية المركزة بقاله أسبوع،
وعمر في البيت وقافل على نفسه بعد ما طرد عدي منه ومخرجش وقافل موبايله، ولما
بنخبط عليه مش عايز يفتحلنا.. ممكن تحاولي تكلميه!
طار النوم من عينيها في ثواني حيث نهضت من
فراشها وهي تتجه لغرفة ملابسها وسألتها:
-
هو ايه اللي حصل؟
أتتها الإجابة من على الطرف الآخر من الهاتف
وهي تقول:
-
عمر كان عند بابا في البيت الأسبوع اللي فات،
مش عارفة ازاي بس بابا أخد طلقة في ضهره، محدش يعرف تفاصيل غير عمر، وهو مرضاش
يقولنا، فضل معاه تلت أيام في المستشفى وبعدين جه وقفل على نفسه ومبيكلمش حد ولا
بيخرج وبابا في غيبوبة ولما سألت الدكاترة قاله إنه هيجيله شلل في رجليه، فحتى مش
عارفين نفهم حاجة ولا عارفين ده حصل ازاي!
كل ما توقعته أن هذه هي نتيجة أمر
"يمنى" ولا تتخيل سوى ذلك فتنهدت وهي تخبرها:
-
اقفلي طيب أنا هروح اشوف فيه إيه.
اتجهت سريعًا خارج المنزل ومنها إلى واحدة من
سياراتها لتقود بنفسها وهي تشعر بالقلق الشديد، نعم هي من أرادت أن تفتعل هذه
الوقيعة بينهما ولكن أليس من المفترض أن يعلم على الأقل بعد أن أصبح رجل على مشارف
السادسة والثلاثين من عمره.. كيف حدث هذا؟ هل هو من أطلق الرصاص عليه؟ في نوبة من
نوباته قد يفعلها حقًا..
ما اعترف لها به منذ أسبوعان يوم مولدها قد
وضح لها كيف يرى والده الآن، هل يُريد أن يُسجن بفعل جريمة قتل ولا يُكفيه تلك
الفكرة السخيفة بخصوص الاختطاف؟!
ما أخبرتها به "عنود" لا يبشر على
الاطلاق، هو ليس في حاجة لنوبة جديدة، نعم تتشاجر معه وتُغضبه ويُغضبها ولكنه في
النهاية يعلم كم تعشقه، يعرف أنها لا تفعل كل ذلك إلا من أجل بعض الراحة لتشعر
أنها أفضل، هي تعشق الثرثرة معه، بل هي لا تستطيع التحدث مع أحد في هذه الحياة
سواه هو ووالدها، ليس هناك من خُلق وستستطيع أن تشعر معه بنفس هذا القدر من
الراحة.. هو يفهم أنها لا تُريد أن تؤذيه!
لماذا هذا الوغد اللعين المتغطرس كالسلطان
الأبله يبتاع منزلًا في نهاية الكرة الأرضية، الطريق لا ينتهي كما كان قلقها مما قد
يفعله أو فعله بالفعل!
صبرت إلى أن وصلت أمام منزله ولمحت
"عدي" على مسافة ولكنها لم تُفكر بالتحدث إليه وكل ما ذهب عقلها له هو
محاولة انتحاره مرة جديدة أو نوبة قاسية قد تلتهمه هو وكل من حوله.
طرقت الباب وتريثت للحظة فلم يفتح لها فنادته
من خلف الباب:
-
عمر، افتح، أنا عايزة أتكلم معاك!
تريثت للحظات من جديد بينما لم تجد أي رد من
قِبله فاقتربت من النافذة لتجدها مغلقة والستائر تحجب ما خلفها بالكامل فطرقت
عليها ونادته من جديد:
-
عمر، ممكن تفتحلي وهمشي بعدها على طول..
انتظرت من جديد فلم يُجبها لتزفر بضيق واتجهت
للبوابة مرة ثانية وحاولت الاعتماد على مدى معرفتها به.. رجل يعشقها حد الجنون،
مريض باضطراب قد يُنسيه الكثير من التفاصيل، لا يهتم سوى بوالده وحصانه وولعه
بالقراءة وكلبيه، ماذا ستكون كلمة المرور لنظام الأمان لمنزله؟!
جربت تاريخ ميلاده ففشلت، وتاريخ ميلادها هي
ففشلت مرة ثانية، تبقت محاولة وحيدة، لماذا لا يسمح هذا النظام الغبي بخمس
محاولات؟! يوم ميلاد والده؟ يوم زواجهما؟ تبًا ستهدم هذا البيت فوق رأسه إن لم
ينهض ويدعها تمر..
كبست بأصابعها أربعة أصفار وفجأة صفير هذا
النظام المُزعج كان بشع لدرجة لا يُمكن لأذنيها أن تتحملها وصاحت بنبرة تمنت أن
تصل لمسامعه:
-
افتح بقا بقولك، هشوفك بس وهامشي على طول،
عمر أنت سامعني؟
أخذت تطرق فوق الباب والجرس في آن واحد بينما
قلبها بات أسفل قدماها، يستحيل أن يكون قام بالانتحار مجددًا بعد كل هذا، هل هو
بالداخل؟ هل هو بخير؟ تبًا هل فعلها من جديد وقرر أن يُنهي حياته؟!
-
الصوت، الصوت.. قوليلهم يسكتوا، راسي بتوجعني
يا روان!
لسانه المتثاقل بصحبة عيناه التي تبدو
كالدماء من شدة احمرارها ونبرته الثملة آتت بعد أن تحرك الباب وقد كانت دموعها
انهمرت بالفعل ظنًا منها أنه قتل نفسه وبمجرد رؤيته زفرت براحة شديدة وجففت دموعها
بعد أن أدركت أنه ما زال حي يُرزق وكل ما سألته عنه كان:
-
الـ pin code
كام عشان الصوت يوقف طيب؟
-
حداشر عشرين!
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
أمام منزل عنود المجاور لمنزلها القديم..
أخذت تتلفت يمينًا ويسارًا في حالة من التأهب
لرؤيته، لا تعرف كيف ستنظر له، لا تدري كيف ستتواجه معه بالرغم من أنها لم تخطأ في
شيء، لقد انتظرت كثيرًا، توسلت، بكت، ذهبت وطرقت كل الأبواب في سبيل ألا يُسجن
وحتى بعد أن نزلت على رغبته وكانت مستعدة أن تنتظره لست سنوات كاملة قام بتركها هو
وصمم أن يتم الطلاق فيما بينهما لتسمعها منه للمرة الثالثة وهي تتوسل ألا يتركها..
ما الذي لديه ليقوله ليُدافع به عن نفسه الآن أمامها؟!
-
مامي يا مامي يا روني يا مامي..
قاطعها "ريان" وهو يقوم بالغناء
لها فنظرت له بشفقة وعشق لم تشعر بمثله قط حتى لوالده فهذا عشق من نوع آخر وهي ترى
كيانها متمثل في طفل صغير كأفضل نسخة منها ومن "عمر" بالمناصفة تمامًا
دون زيادة أو تقطير، هو الوحيد من يستطيع أن يقطع حبل أفكارها وينتشلها من الكون
أكمله لو شاء فقط بابتسامة صغيرة منه.
ردت عليه لتُردد له أغنية هي الأخرى وهي
تحمله ليجلس على قدميها:
-
يا روح مامي يا روني، عايز ايه يا روني!
نظر لها بتلك النظرة التي لا تستطيع مقاومتها
وهمس لها ببراءة:
-
عايز اروح عند الحصان!
مطت شفتيها بحزن مصطنع بعد أن اجابته:
-
مش قولنا الحصان بينام بليل، لو روحنا صحيناه
دلوقتي هيزعل، الصبح هنبقى نجيله ونلعب معاه احنا الاتنين.
أومأ لها بالإنكار وعقد ذراعيه وقال باعتراض:
-
أنتِ قولتي لما نيجي هنا تاني هتخليني ألعب
معاه، هو مش هيزعل عشان عارف إني بحبه.
نظرة التصميم التي تخبرها مُسبقًا أنه لن
يتنازل وسيظل يُناقشها حتى أيام مقبلة فنهضت من تلقاء نفسها وهي تحمله وتتجه نحو الإسطبل
الذي يمكث به وأخذت تُحدثه:
-
هنروح نلعب معاه شوية صغيرين ونقوله تصبح على
خير ونرجع نقعد معاهم، اتفقنا؟
أقترب لها ليُقبل وجنتها واكتفى بالرد باقتضاب:
-
أوك!
بادلته القُبلة هي الأخرى وأكمل كلاهما
الطريق واستغربت قليلًا لوجود ضوء مُنار هنا فهي أكدت على العامل أن يُغلقه ولا
يترك سوى ضوء خافت كما تعود دائمًا، عليها أن تقوم بالاتصال به صباح غد!
اخفضته أرضًا وقامت بفتح الباب الذي لم يكن
موصد بالكامل واغلقته خلفها لتبدأ في الانزعاج حقًا من هذا الرجل الذي صمم بعد
سنوات أن يفعل كل شيء على النقيض مما تعود عليه، هل عليها أن تكون "عمر
الجندي" لكي يمتثل أوامرها أم ماذا؟
قام بالعدو في اتجاهه الذي يحفظه تمامًا ويعرفه
بضحكة ملئ شدقيه والحماس ينهمر من عينيه فنادته لتنبهه:
-
بالراحة يا روني لا تقع!
لم يكترث بما تقوله بينما هي ما زالت تشعر أن
هذا مبكرًا للغاية لكي يُلاعبه بمفرده في سنه الصغيرة واتجهت نحوهما بينما هو دفع
ذلك الصندوق الخشبي الذي يعتاد أن يقف فوقه لكي يُلاطفه دائمًا.
اقتربت منه ووقفت بجواره وربتت عليه فلقد
كانت هي من تعتني به طوال تلك السنوات المنصرمة بعد أن عاهدته على الاعتناء به
وبكلابه ليُصبح هناك زيارة أسبوعية لكل هذا الجمع الغفير من الحيوانات.. عليها
التفكير بإنشاء حديقة حيوان بهذا المنزل ذو الأرض الشاسعة التي لا تنتهي!
تابعته بعينيها ورق قلبها قليلًا عندما تذكرت
رفضه المنيع بأن يراه أو يتحدث له، حتى صورة وحيدة لم يشأ أن يرى وجهه الرائع بها،
يا له من رجل قاسي، لم يفعلها حتى "يزيد الجندي" بحياته، لماذا يرفض هذا
الطفل المثالي في كل شيء؟!
-
أنت بتحب برق أكتر ولا أوفيد؟
لم تتوقف كفيه الصغيرتين عن الربت عليه وهو
يجيبها:
-
برق!
همهمت له ثم سألته:
-
طيب برق ولا تايني؟
رفع رأسه نحوها واجابها بثقة:
-
برق يا مامي طبعًا، تانيي بيحبك أنتِ بس.
تبًا، عليه التوقف عن تذكيرها به، هذا لن
يعود عليها سوى بالكثير مما جاهدت لسنوات حتى تجتازه، ربما عليهما الذهاب ويكفي
هذا!
تنهدت وهي تُخبره:
-
مش كفاية كده ويالا بينا نرجع.
أومأ لها بالإنكار وأخبرها معترضًا ولكن بنفس
هدوئه الشديد:
-
لأ.. أنا عايز اركبه شوية صغيرين!
انزعجت من تغييره لما اتفقا عليه ونبهته
قائلة:
-
روني احنا اتفقنا اننا هنلعب شوية معاه..
وبعدين مامي لابسة dress
ومش هينفع نركبه النهاردة.
تركه وحول كامل انتباهه لها وحاول أن يحاوطها
بذراعيه القصيرتين وقال متوسلًا:
-
مامي please
احنا بقالنا كتير مش بنيجي هنا وهو وحشني.. لو سمحتي.. أنا مش هطلب منك حاجة
تانية.. لما شوفته حسيته وحشني أوي!
نفخت بضيق وهي تعلم أنه نقطة ضعفها في كل شيء
ولا تستطيع أن ترفض له أي طلب ونظرت لثوبها الذي امتنت لكونه فضفاضًا من الأسفل
وأخبرته بوضوح وهي تفرق عناقهما برفق:
-
بس دي آخر حاجة، ووقت ما اقولك هننزل يبقا
هننزل.. اتفقنا؟
أومأ لها وقبلها على وجنتها وحدثها بابتسامة ليقول:
-
اتفقنا.
اتجهت لتجهز الحصان وأحضرت اللجام أولًا
وبالطبع لن يتقبل "برق" أن تضعه بسهولة فتركته يصهل قليلًا وهو يشيح
بوجهها للأعلى وحدثت "ريان" متمنية أن يعدل عن الأمر:
-
شوفت، هو متضايق وزعل إننا صحيناه.
-
معلش يا مامي عشان خاطري
تنهدت وحاولت الهدوء والتزمت بالصبر معه كما
علمها بالسابق إلى أن استطاعت وضعه بفمه وربطته جيدًا حوله وأحضرت السرج وأعدته
فوق ظهره فوق اللبادة الخاصة به وتأكدت من قوة الركاب وأنهت اغلاقه ببراعة فلقد
جعلها يومًا ما تفعلها لما قارب الألف مرة كما تظن! متغطرس لعين لم ينجح سوى
بتلقينها الأوامر فحسب!
التفتت نحوه ثم قالت بتحذير ولكن دون مبالغة:
-
هطلع أنا الأول وبعدين هتطلع زي ما علمتك، ولما
اقولك نرجع زي ما اتفقنا هنرجع..
أومأ لها بحماس وكل ما يهمه هو أن يمتطيه كما
يحب أن يفعل دائمًا وسيرى ما شأن ما تقوله لاحقًا، سيتوسل لو شاءت وسيُقبلها وستوافق!
امتطته وامسكت باللجام جيدًا ثم رفعته من فوق
الصندوق الذي يقف عليه ولوهلة شعرت بثقله يشتد عليها فهو ينمو كلمح البصر هذه الأيام
وتيقنت أنه يجلس أمامها بأمان ويجلس براحة واتزان وفي النهاية أخبرته بجدية قائلة:
-
تمسك هنا زي ما علمتك، لو لقيتك سبته هنرجع
على طول.
-
حاضر.
بدأت في توجهيه لكي يغادرا الإصطبل للخارج
لتلعن غبائها على غلقها الباب خلفها وتنهدت وهي ليس لديها استعداد لنزولها وتخشى
لو تركت "ريان" على ظهر الحصان بمفرده وصُدمت بشدة عندما رآته يمشى
أمامهما وهو يقول:
-
كام مرة اقولك متنسيش الباب.
قام بفتح الباب لهما لكي يمرا والتفت لتلتقي
اعينهما لتمتنع أنفاسها تمامًا، هذا اللقاء الذي كان مُقدر لهما يومًا ما، لم تكن
لتظن أنها ستراه للمرة الأولى بصحبة "ريان" الذي رفض مرارًا أن يرى
وجهه.
-
يالا يا مامي بقى الباب اتفتح اهو.
❈-❈-❈
منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعان..
دلفت للداخل بعد أن نجحت في تعطيل صوت
الإنذار الخاص بنظام الحماية وبمجرد تمعنها في منزله الذي يُشابه غرفة كبيرة الحجم
ليس إلا وجدت أجواءها ملبدة بغيم دخان متراكم فوق بعضه وهناك رائحة غريبة بالغرفة،
فضلًا عن الفوضوية وزجاجات الخمر وبقايا لفافات تبغ منتهية مُلقاة بأكثر من منفضة
وضوء خافت ينبعث طيفه من المطبخ.. ها هو يعود لنقطة الصفر من جديد على ما يبدو..
اتجهت لتجلس بالقرب منه على مقعد بجوار
الأريكة التي يجلس عليها وتفقدته مليًا وهي لم تره قط بهذه الهيئة وتلك الأعين
التي تظنها ترجع لملامح رجل آخر تمامًا ثم سألته:
-
ايه اللي حصل يا عمر؟
لم يُجبها فحاولت مرة أخرى بهدوء أن تفهم ما
الذي دفعه لكل هذا بعد آخر مرة رأته فيها عندما أخبرها عن القضية وجعلها توقع على ملكية
المنزل ومن ثم فهي لم تره ولم تحدثه ولو لمرة واحدة فاقتربت لتلمـ ــس ذراعه وسألته:
-
احكيلي إيه اللي حصل بعد ما شوفتك في
الشاليه؟
شرد بالفراغ بينما اعطته هي الوقت دون أن تلح
عليه في شيء فهي تعلم كيف يكون في حالات الثمالة، تتذكر كيف يكون حـ ــساس تجاه أي
شيء، هو لا يثمل من الأساس إلا عندما يكون هناك مصيبة أو حالة عزلة له بينه وبين
عقله في عمق ماضي ويظل يتجرع الكحوليات رغبةً في الفرار منه!
-
مش عارف..
هل وصل حقًا لدرجة من الثمالة لا يستطيع معها
تمييز ما الذي حدث أم هو يرد باقتضاب لأنه لا يريد التذكر ليس إلا؟ ولكنها لن تتركه
لحالته هذه بعد كل ما واظب عليه لأكثر من عام ونصف العام!
-
أنت قولتله إنك عرفت إنه خلى يُمنى تبعد عنك؟
أومأ لها بشرود وحافظ على التناول المنتظم
بين كل لحظة وأخرى من زجاجة الكحول فجذبتها بلطف من بين يـ ـديه ووضعتها على الطاولة
الصغيرة أمامهما وسألته من جديد:
-
وهو قالك إيه؟
همس بما ظنته همهمة مستفهمة وهو ينظر لها بعينيه
الدمويتين فأمسكت بيـ ـده القريبة منها وحاوطتها بكفيها وحاولت الغوص أكثر في
تفاصيل ما أوصله لهذه الحالة ولم تستسلم أمام ملامحه المشتتة بفعل الثمالة فلا هو
ولا هي ولا أي شخص يعرفه مستعدان لنوبة جديدة من نوباته لتسأله بنبرة مُنبهة إياه بنطق
اسمه خلالها:
-
عمر
رد عليا، لما باباك أتكلم معاك وعرفته إنه وقع بينك وبين يمنى عشان تسيبوا بعض عمل
ايه؟
تفقدها بمقلتين شاردتين وابتسم إليها وأخبرها
بما لا يجيب تساؤلها بل قال شيئًا لا يتعلق بالأمر الذي تحاول الوصول له:
-
وحشتيني اوي، أنتِ كنتي فين؟
حسنًا هو غير واعي لأي مما يحدث حوله، لا
يستطيع إجابة أي سؤال ويبدو وكأنه غائب عن الواقع بكل ما فيه ثم أخبرها متسائلًا:
-
أنا قولتلك هتغير علشانك ومش هنعمل أي حاجة
أنتِ مش بتحبيها، سبتيني ومشيتي ليه؟
يجلس أمامها شخص لا يفهم أي مما يُحيط به، يتشبث
بكفيها بقوة، ينظر لها وكأن عقله غائب تمامًا، ما الذي أوصله لهذا؟!
-
عمر أنت عملت إيه مع باباك في المستشفى؟
حاولت مجددًا أن تصل لعقله الواعي ولكن ما
أجاب به صدمها:
-
ما بابا سابني في المستشفى، آخر مرة جالي كان
من أسبوع، قالي لما ابقى كويس هنسافر عشان ارجع المدرسة!
رفعت حاجباها باندهاش ونهضت وهي تتركه لتحاول
أن تفهم ما الذي يحدث له وشعرت بجو منزله الصغير معبأ برائحة تشتد غرابة.. ربما اشتمت
لروائح مشابهة، هذا ليست مجرد أدخنة لتبغ طبيعي، هناك أمر ما خاطئ..
اتجهت لتقوم بفتح النافذة على مصرعيها واتجهت
لتقوم بفتح باب المنزل وكذلك مبرد الهواء على نظام التنقية ووقفت أمامه ثم دنت
لتُمسك يـ ـده وأخبرته:
-
تعالى طيب عشان ناخد shower مع بعض.. موحشتكش..
رفع رأسه لها بنظرات غير متزنة وأعين غاب
بريق مقلتيها الباهتتين وسط ذلك الاحمرار بحدقتين واسعتين وأومأ لها بهدوء وظل
ينظر لها بينما لم يتحرك من مكانه فشجعته قائلة:
-
قوم يا عمر يالا.
آتاها رده الذي أدركت خلاله أنه لا يفهم أي
شيء مما يحدث وما زال أمامها وقت عصيب معه بنبرة ثملة لا توضح سوى الغياب عن
الوعي:
-
ما أنا واقف اهو قدامك.
❈-❈-❈
عودة للوقت الحالي..
منذ أن ذهبت له آخر زيارة قبل أن يراها
خلالها، منذ أن حول زواجهما الأخير لزواج رسمي أمام "أنس" وهذا الرجل
الذي عقد الزواج فقط من أجل توثيق "ريان" باسمه لم تره بعدها، لم يقبل
ولو لمرة واحدة أن يراها منذ ثلاث سنوات وعشرة شهور، لماذا فعل بها وبنفسه وبـ
"ريان" كل ذلك؟ تتذكر آخر كلمة نطقها وقتها، كان اسم "ريان"
بعد أن وضح لها تمامًا أنها لن تستطيع تهديده بأي شيء، ولن تستطيع أن تجبره على
فعل شيء، حتى ولو كانت تملك جنين لم يُرده كابن له من دمائه هو نفسه!
تحرك "برق" وهي ما زالت تنظر له
وهو يبادلها، لا تدري لماذا يبدو وكأنه في مزاج رائق تمامًا، أهو سعيد بكل ما وصلا
له؟
-
مامي هو مين اللي فتحلنا الباب؟
أفاقها "ريان" بتساؤله البريء وترددت
كثيرًا قبل أن تخبره أن هذا هو والده الذي عشقته لسنوات وقرر فجأة أن يتركها
ويتركه متخليًا عنهما معًا.. لقد حاولت لأكثر من مرة أن تخفي صورة والده عنه وهي
تتهرب منه بكل ما امتلكت من دهاء اكتسبته منه، فلقد تظاهرت تارة بالإرهاق وأنها ستخبره
غدًا، وتارة أخبرته أن جميع صور والده محفوظة بهاتف قديم تركته بمنزل والدتها وعند
ذهابهما هناك ستُريه إياه، وتارة تجعله ينشغل بأمر آخر، وكل هذا من أجل ما طالب به
هو، تبًا له، لقد تحول لرجل قاسي القلب حتى أكثر من والده!
كان عليها أن تجد أي إجابة لتهرب بطريقها عن
سؤاله واجابته بعد أن تركه كلاهما خلفهما وهي تُسرع قليلًا:
-
ده صاحب أنكل يونس..
❈-❈-❈
منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعان..
وقفت أمامه وهو أسفل تلك المياه الباردة وما
زال يبدو غير واعيًا لأي مما يحدث حوله وبعد دقائق من مراقبتها له وهي تظن أنه لن
يفعل أي تصرف غير واعيًا واطمأنت قليلًا لو تركته لخمس دقائق لكي تصنع بعض القهوة
لكي يتناولها ويبدأ في الاستيقاظ من هذه الثمالة الشديدة أخبرته:
-
بقالنا كتير مشربناش قهوة سوا، هروح اعملها
واجيلك تاني.
لم تجد ردًا منه فذهبت سريعًا ووضعت القهوة
لتنضج وهي لا تفهم كيف وصل لهذه الدرجة من الغياب عن الوعي، لقد تناولت من قبل
الكحول كثيرًا ولكنها كانت تستيقظ بفعل المياه الباردة وبفعل الكافيين وربما تناول
طعام جيد والكثير من السوائل، لماذا لم يقم بالاستيقاظ قليلًا حتى أسفل المياه؟
اتجهت لتقوم بإزالة بقايا السجائر والزجاجات
الفارغة وعندما ركزت قليلًا في البقايا وجدت أنها لا تبدو كسجائره المُعتادة
وارتابت أن ما كان يتناوله قد يكون بعض الحشائش الضارة التي تجعل المرء في عالم
آخر لا يعي ما يحدث حوله.
قامت بإلقائها جميعًا في صندوق النفايات
الكبير بالمطبخ وسرعان ما اتجهت للقهوة لكي لا تُفسد الموقد وأطفأت النار ثم امسكت
بها لتقوم بصبها في اكواب كبيرة نوعًا ما حتى تتركها لتبرد قليلًا ويستطيع تناولها
فهي كانت تغلي لتوها وعليها أن تذهب وتتفقده لعله استيقظ بعد هذه الدقائق أسفل
المياه.
شعرت بالارتباك عندما استقر كـ ـفيه
المبللتين بالماء على ذراعيها فالتفتت له لتتفقده وتفهمت أنه مازال غائب عن الوعي
تمامًا بهذا المقدار الذي تناوله من الكحول وتدخين الحشائش ووجدته لا يرتدي شيئًا
فسألته بارتباك حاولت أن تُخفيه لكي لا تستفز غضبه:
-
فيه ايه؟
تفقد ملامحها للحظة وهو مازال يُمسك بها وأخبرها:
-
وحشتيني اوي، كنت عارف إنك مش هتكملي قضية
الخُلع عشان عارفة إني بحبك.
حمحمت ثم نظرت له وهي تعرف أن القادم معه هو
فعل ما متعلق برغبته وانتشائه يتضح عليه فحاولت أن تتهرب منه:
-
أنت كمان وحشتني جدًا.. ممكن بس تلبس هدومك
وناكل حاجة عشان أنا مكلتش من امبارح..
-
بعدين!
اقترب ليُقبلها برغبة ودمائه وعقله مزدان بجرعة هائلة من الدوبامين
بعد أيام من تدخين تلك العُشبة اللعينة وحاولت هي ألا تُبدي الامتناع لكي لا تجد
نفسها مُقيدة أسفله رغمًا عن أنفها وستتحول هذه الليلة لذكرى ليست جيدة على
الاطلاق لكلاهما وسيضرب به الندم والاكتئاب دون رأفة خصوصًا بعد آخر مواجهاته
القاسية لوالدته ووالده على حد سواء..
تشبثت به وهي تبادله وحاولت السيطرة على
نفسها بعد لحظات من القُبل كانت كفيلة أن تُذكرها بما كانت تنغمس به معه لأيام
طويلة وممارسات متتالية لا يفيق أي منهما منها إلا بصعوبة..
-
عمر.. استنى أنا مش قادرة أخد نفسي..
دفنت وجهها بصـ ـدره المبتل فوجدته يُعانقها بحركات
غير متزنة فرفعت رأسها نحوه بعد أن فكرت في أي طريقة لكي تجعله يرتدي ملابسه وأخبرته
بهدوء:
- بلاش هنا.. تعالى نروح البيت التاني أنا بحبه أكتر..