-->

رواية جديدة كما يحلو لها لبتول طه - الفصل 65 - 1

   رواية كما يحلو لها

الجزء الثالث من رواية كما يحلو لي بقلم بتول طه

رواية جديدة كما يحلو لها

تنشر حصريًا على المدونة قبل أي منصة أخرى

من قصص وروايات

الكاتبة بتول طه

النسخة العامية

الفصل الخامس والستون

الجزء الأول

منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعين..

استيقظ بعد سماعه لسيارة تتحرك بالخارج وانزعاجه من هذا الضوء الشديد الذي يملئ الغرفة واستغرب بما يلامـ ـس جسده، تبًا، أهذا جـ ـسد آخر الذي يشعر به؟! ما الذي حدث ليلة أمس؟ أكلاهما عا ريان؟! فلتتعفن بالجحيم هذه العُشبة الملعونة، لماذا أتت من أجله؟ ألن تتوقف عن عشقه أبدًا والتعاطف معه؟ لماذا عليه الوقوع في عشق امرأة مُهلكة الفِتنة بقلب فتاة لم تتعد العاشرة من عمرها؟!

 

بمجرد ابتعاده يقسم أن وجه رأسه الذي يُشعر به لم يشعر بمثله من قبل، لقد غاب عن الوعي لشهرين، وأخرى لشهر ونصف الشهر وبمرة عانى من أزمة قلبية وبالسابق تم تشريح حي لظهره ولكن هذا الألم الآن كان الأبشع بينهم!

 

سرعان ما نهض ليبحث عن أي دواء مسكن فتناول قرصان من أكثرهم تركيزًا وبين الحين والآخر ينظر لها وهي ما زالت نائمة ليشعر بأنه سيفقد عقله، كيف فعل ذلك؟ وكيف وافقت هي؟ هو لا يتذكر أي شيء! يا للسخرية، هل حقًا المرة الوحيدة التي يفعلاها يكون هو غائب عن الوعي ويستيقظ لينسى كل ما حدث بينهما؟ هل هناك حظ أسوأ من هذا؟!

 

سرعان ما أمسك بهاتفه ليجد بطاريته فارغة فقام بتوصيل الهاتف بالكهرباء وهو على يقين أنه لا يخصه، لقد كان "عدي" يمكث هنا، ولقد قام بطرده! نعم هو يتذكر الآن، ثم تناول الخمر وآتى سائقه ليُعطيه تلك اللعنة التي تسببت في نسيانه لكل شيء، وبالطبع لقد توقف عن تناول الدواء.. كم يوم مر، خمسة؟! عشرة؟! عام أم اثنان؟ يتمنى فقط أنه لم يمر الكثير من الوقت فهو يتذكر أنه كان يستيقظ ويُعيد كرته في تناول الكحول ويدخن تلك العُشبة المسمومة وبعدها يفقد التركيز! تبًا لعقله، الجحيم لابد من أن تكون مثواه بعد كل هذا!

 

توجه إلى المطبخ بهدوء وأخذ يتناول الكثير من المياه لكي يتغلب على ألم رأسه وقام بإغلاق النافذة، هل ض اجعها ليلة أمس والنافذة بهذا الشكل؟ هل رآهما أحد؟! اللعنة على حياته بكل ما فيها!

 

عاد للهاتف وسرعان ما قام بالاتصال بواحدة من الصيدليات وأهم ما آتى به حقن مسكنة ليحقن بها نفسه وريديًا لكي يستطيع النجاة خلال اليوم بهذا الوجه المميت وعقار لتتناوله لكي يمنع الحمل، هو لن ينجب لهذه الحياة طفل مضطرب، أو طفل يُعاني من اضطراب والده ويشعر تجاهه بالعار.

 

توجه سريعًا للحمام بعد أن نظر لها ببلاهة ثم وقف أسفل المياه الباردة لا يعلم لكم من الوقت كل ما يفعله هو طرح أسئلة لا يجد لها إجابة على الإطلاق بداخل عقله!

شعر بالذعر عندما تحرك باب الحمام ورآها أمام عيناه تلتف بهذا الغطاء الذي كان يعتلي كلاهما منذ قليل وبمجرد رؤية وجهها نظر لها بخوفٍ شديد ولم يجد الكلمات لإنقاذه من هذا الموقف وأغلق المياه وتوجه بسرعة للخارج وهو يحيط نفسه بمنشفة!

 

جفف نفسه سريعًا وهو يتناول ملابس يظن أنها تعود لـ "عدي".. هذا لا يهم، لو كانت حتى الملابس تخص "عنود" سيرتديها وكل ما يُريده هو التخلص مما أوقع نفسه وهي معه فيه! لتوه كان يظن القضية ستكون النهاية ليبدأ كل واحد منهما من جديد ولكن هو لا يدري من أين له بكل هذا المقدار من سوء الحظ ليضا جعها وهو ثمل غائب عن الوعي!

 

توجه ليصنع القهوة ولكن استمع لخبطات على الباب ليجد سائقه يحمل ما قام بطلبه منذ قليل فتناوله وهز رأسه له باقتضاب واغلق الباب وأخذ ثم سرعان ما تناول المسكن الوريدي وكل ما تمناه أن يُصبح أفضل حتى يستطيع مواجهة ما حدث!

--

عودة للوقت الحالي..

بمنزل عمر..

جلس "ريان" على سطح المائدة التي تتوسط مطبخه بينما هو شعر أنه وقع في ورطة ويقسم أن ما سيخبرها به سيجعلها تتوقف للأبد عن مناداتها بمطالبتها بعلاقة بينه وبين هذا الطفل الصغير الذي أجبرته عليه فجأة، هل تصنعه بسكب العصير طوال هذه المُدة سيُفلح في إلهاء عقل طفل صغير، لا يظن هذا!

 

وهذا تمامًا ما سأله عنه:

-       أنت كل ده بتعمل عصير ومش هتقعد معايا؟

 

ها هو يحفظ صوته، سيتذكر كلماته للأبد أو حتى تأتي نوبة من نوباته أو جلسة من جلسات الكهرباء لتُخلصه من ذكريات هذا الصغير الذي يبدو مثلها، جائزة أتعس حظ في العالم تذهب له، دائمًا ما كان يستحقها وبجدارة!

 

التفت له وهو يرسم ابتسامة رغمًا عن أنفه ورد قائلًا:

-       مش عارف حاسه مش حلو، تحب تشرب حاجة تانية؟

 

أومأ له بالنفي ثم اسند كلتا وجنتاه على يـ ـديه الصغيرتين وهو يجمع ساقاه أسفله ليلعن "عمر" بداخله، لن ينسى هذه الملامح ولو بعد آلاف السنوات! لماذا لا يتركه هنا وحده ويذهب لقتلها ثم يقوم باختطافه للأبد، والسبب هو مريض عقلي.. جريمة رائعة متكاملة الأركان!

 

قام بالنفخ متأففًا فكل ما يشعر به "ريان" هو الصمت الشديد ولم يبدأ هذا الرجل أمامه بالحديث، هو ليس كوالده "يحيى" الذي بمجرد رؤيته لا يتوقف عن المرح معه!

-       هو أنت كنت مسافر بتعمل إيه؟

 

سأله لكي يفهم منه لماذا لا يراه وغير متواجد دائمًا ليتردد "عمر" في الإجابة واحتبست أنفاسه وقال أكثر ما يراه منطقي وحقيقي، فهذا ما سيفعله قريبًا:

-       كنت بدور على مكان كبير أعمل فيه الشغل بتاعي..

 

تفقده بنظرات طفولية بعينيه التي رُسمت كعينيها وعتمت مُقلتيها كعينيه هو نفسه وسأله مرة ثانية:

-       وهو إيه الشغل ده؟

 

تفحصه وهو يُضيق عيناه نحوه فأجابه سائلًا:

-       أنت بتحب برق مش كده؟

 

أومأ له بالموافقة وقال بثقة:

-       ايوة بحبه!

 

اقترب منه بحذر فهو لا يُريد المزيد من المشاعر التي ستجعله يتألم لاحقًا وأجابه:

-       أنا بقى عايز أعمل مزرعة كبيرة وأجيب احصنة كتير بنات وولاد.. فالأول جبت المكان الكبير اللي هينفع لأني ملقتهوش بسهولة وبعدين بنيت جواه كل حاجة فكل ده كان محتاج وقت كبير اوي!

 

همهم له ثم سأله:

-       أنت هتوريني المكان ده؟

 

أومأ له باقتضاب وأخبره مجيبًا:

-       لما تكبر هاخدك اوريهولك عشان تعرف تركب الحصان لواحدك..

 

اعتدل بجلسته وهو يستند على ذراعيه خلف ظهره وسأله مرة ثانية:

-       مينفعش يعني وأنا صغير اشوفه، أنا كده كده بعرف أركب الحصان عادي ومامي علمتني!

 

ابتسم له بمصداقية انجرفت بها مشاعره أمام تلك الكتلة الصغيرة من أفضل شيء في الحياة التي تحمل شعر رأسه هو نفسه الغزير بنفس عقدة الشعر التي كان يصففها وما زال يفعل أحيانًا ولم يمنعه عنها سوى السجن أو والده والمحكمة بالطبع وقال:

-       لما رجليك تطول شوية بس.

-       تمام تمام!

 

من علمه هذه الكلمة، هو وحده من يقول ذلك، هل هذا معناه أنه اقتنع بكلماته أم لا؟ تبًا هو لا يستطيع قراءة أي شيء على ملامحه، هل فقد القدرة على معرفة ما بهذا الصغير أم ماذا؟!

 

-       هو أنت سبت مامي ليه؟

 

ها هو السؤال الذي كان يُصيبه بالرعب، عليه التماسك، وعليه عدم الكذب، وعليه أن يتصرف، حسنًا سيكون هذا مناسب على ما يظن لطفل في مثل عُمره:

-       لأن أنا وروان متفقناش في حاجات كتيرة وأنا عايز أسافر وهي عايزة تقعد هنا فسيبنا بعض، اتفقنا على ده لكن أنا مسبتهاش!

 

تبًا لقد كذب في هذه الجُملة الأخيرة، ولماذا يهمهم له بالتفهم وهو يقلب شـ ـفتاه بطفولية تجعله يود الهرولة نحوه لكي يُقبله دون توقف!

ها هو قال ما جعله يُدرك أنه ابنه حقًا ويشابهه في أكثر من الملامح وهو ما زال يُقلب شـ ـفتاه:

-       مامي perfect فأصلًا أنت عملت حاجة مش صح..

هذا الطفل ورطة مؤكدة له ليجعله يؤكد على كلماته في لمح البصر وهو يهز رأسه بالموافقة:

-       صح، هي مثالية فعلًا، أنت معاك حق.. بس عشان هي كده لازم نعملها اللي هي عايزاه..

 

سرعان ما وجد نفسه يُريد تجاذب أطراف الكلام معه:

-       وبتسمع كلامها بقى؟

 

أومأ له بالموافقة وأجابه:

-       ايوة.. بس هي برضو بتعملي كل حاجة حلوة وبتسمع كلامي، احنا الاتنين بنسمع كلام بعض!

 

مد ساقاه أمامه وتوجه نحو المقعد المتواجد على الناحية الأخرى خلف "ريان" ليراقبه الآخر وهو ينزل من تلقاء نفسه دون مساعدته ليلتفت ثم مشى حتى توقف أمامه وسأله:

-       هو أنت ليه جبتني في بيت أنكل عُدي؟

-       نعم؟! بيت مين؟!

 

اندهش مما يقوله ليخبره الآخر بصراحة وبمزيد من التوضيح:

-       هنا البيت ده بتاع أنكل عدي! ليه قعدنا هنا ومقعدناش مع طنط عنود أو تيتا؟!

 

رفع حاجباه بذهول وهو يضع بقائمة أعماله المتراكمة أن يلكم "عدي" لأنه ما زال يمكث بهذا المنزل وأجابه:

-       هو قبل أي حاجة ده كان بيتي وأنا اديته لعدي!

 

زم شـ ـفتاه وهو ينظر للأعلى لكي يستطيع أن يرى وجهه ثم حدثه مستفهمًا ببراءة:

-       أنت مش عايز تسألني على أي حاجة؟

 

شعر بالإحراج من سؤاله، هناك آلاف من الأسئلة التي تدور بعقله ولكن كلما عرف كلما تألم وبما أنه في هذا الموقف العصيب كان عليه أن يتصرف لبعض الدقائق كأب غائب عن ابنه فسأله:

-       أنت بتحب إيه أكتر حاجة؟

 

همهم كثيرًا ثم أخذ في العد فوق أصابعه وهو يجاوب على سؤاله:

-       بحب مامي، والحدوتة، وبرق، وأنكل بسام، وطنط عنود وأنكل يونس وبابي يحيى.. وبحب الـ laptop بتاع مامي عشان هاعمل بيه حاجات كتيرة لما أكبر، أنا بحب دول بس!

 

اللعين الذي تزوج بمن يعشقه قلبه في المرتبة السابعة، واسمه هو نفسه غير مُدرج بالقائمة، كيف له أن يتغلب على ذلك، حسنًا هو من فعل ذلك بنفسه!

-       وهتعمل ايه بـ laptop مامي لما تكبر؟

 

توسعت عيناه مثل والدته تمامًا ليلعن تلك الليلة التي كانت السبب في كل ما تبعها لتُنجب له هذا الصغير الرائع وأجابه:

-       أنا عايز أعمل الحواديت اللي مامي بتحكيهالي بيه، عايز ارسمها بـ laptop مامي عشان تبقي كبيرة وناس بتتحرك..

 

همهم له وقرر ألا يُضيع هذه الفرصة المتبقية معه وسأله:

-       تحب احكيلك حدوتة؟

 

أومأ له بالموافقة ليقف "عمر" بجانبه وهو يناوله يـ ـده:

-       طب تعالى نقعد هناك بدل ما احنا واقفين!

--

 منذ أربع سنوات وخمسة أشهر وأسبوعين..

اقتربت وهي ترتدي رداء استحمام نظيف ومطوي وجدته هي بخزانة بالحمام وتفقدها مليًا بعد أن فكر كثيرًا خلال الدقائق الماضية فيما حدث وتوصل لحل مناسب من وجهة نظره ليجدها تحدثه:

-       صباح الخير.

 

أومأ لها باقتضاب وسكب لها بعضًا من القهوة الساخنة وناولها الكوب في صمت بينما اتضح على ملامحه الشتات وزفر بعمق وهو يُخبرها:

-       اللي حصل امبارح ده أنا أكيد مكونتش اقصده.

 

ضيقت ما بين حاجبيها وسألته:

-       تقصد إيه باللي حصل امبارح؟

 

عجت ملامحه بالسخرية وأجابها قائلًا:

-       أنتِ أكيد مبتهزريش، أنا صاحي لقينا احنا الاتنين مش لابسين حاجة.

 

ابتسمت له بغير تصديق لاكتراثه للأمر ولكن كالعادة من الصعب بل من المستحيل أن تستمع لكلمة اعتذار صريحة منه وقالت:

-       عمر احنا بعد ما قلـ ـعنا امبارح لقيتك بتعيط قمت وخداك في حضني ونمنا، متقلقش، مفيش حاجة حصلت!

 

لوهلة شعر بالراحة الشديدة وبعد ثواني ارتاب بالأمر وسألها:

-       أنتِ فاكرة ازاي، أنتِ أصلًا مشربتيش حاجة؟

 

تذكرت ما حدث ليلة أمس واجابته بمصداقية:

-       أنا اخدت نفسين من السيجارة الغريبة دي بس مشربتش حاجة لأ!

 

كونها تُجيبه بهذا له أكثر من معنى، أولًا قبلت بحدوث شيء لدرجة أنها تتذكر، إذن لم تكن في حالة نشوة كاملة بفعل تلك العُشبة الملعونة، ثانيًا قد تكون كاذبة، ثالثًا ربما هي صادقة بالفعل ولم يحدث شيء، رابعًا هو لم يعد يثق بنفسه جانبها لذا قراره الذي قرره بفعل تفكيره منذ قليل لابد من أن يحدث!

 

أيًا كان ما حدث فهو لن يقبل إلا أن يفعل ما سيفعله الآن أمام عيناه لكي يطمئن:

-       بصي أنا هصدقك إن مفيش حاجة حصلت، بس عايزك تاخدي ده قدامي!

 

استغربت مما يُمسك به ويناوله لها فأخبرته متعجبة:

-       ايه ده يا عمر؟

 

ابتلع وهو لا يُريد أن يُكذبها واجابها بصوتٍ متردد:

-       أنا مش بكدبك، بس ممكن نكون ناسين وأنا كده هطمن أكتر، ده مانع حمل.. معلش ارضيني المرادي بس وخديه..

 

رفعت حاجباها وسألته:

-       لو مش بتكدبني يبقى إيه لازمة اللي أنت بتعمله؟

 

تفقدها بنزرات مطولة ثم حاول أن يقنعها بما يشعر به:

-       روان أنا مش هاقدر إني أكون أب، وحتى لو أنتِ أم ابني فبرضو في يوم هيكبر وهيستعر مني.. أنا نوباتي ماليش فيها تحكم.. أرجوكي ريحيني وخدي الدوا!

 

ازداد سخريتها من الأمر ومن تفكره وتناولته ببعض المياه ثم سألته:

-       أنا مش فاهمة يعني هتعيش كده طول عمرك مثلًا.. بس اديني اخدته.. أتمنى تكون مبسوط!

 

زفر براحة هائلة وهو يمسح وجهه بكفيه وهي لم تُصدق أن الأمر يخيفه لهذه الدرجة وتجعله مهتم أكثر حتى من أن يُشاركها الفراش فلقد ظنت أن باستيقاظه قد يُطالبها بالمزيد.. لقد كانت ترتاب بشأن رحلة التغيير والعلاج وما إلى ذلك، ولكن ما يفعله الآن اثبات جديد آخر على أن هذا الرجل قد تغير..

 

تفحصت ما يرتديه وانتابها الضحك لتسأله:

-       ايه ده يا عمر، أنت لابس بنطلون طويل كده ليه؟!

 

نظر للأسفل وتنهد وهو يجيبها بضيق:

-       ده لبس عُدي مش لبسي.. أنا كل هدومي هناك مش هنا..

 

همهمت له بالتفهم واقتربت له وهي تسأله:

-       طيب وموضوع باباك، الدكاترة قالولك إيه؟

 

تفقدها مطولًا وتكلم بعد مُدة من الصمت بمنتهى الاقتضاب:

-       مش هاتكلم في الموضوع ده..

 

حمحم وهو يتناول آخر ما تبقى بكوب قهوته ثم أخبرها بجدية:

-       ادخلي البسي هدومك عشان هنروح للمأذون!

 

ما يقوله فاجئها حقًا، هل كان يقصد ما قاله منذ أسبوعان؟ هو مُصمم لهذه الدرجة أن يُنهي زواجهما ويُكمل في هذه القضية التي خطط لها؟!

 

حاولت أن تفهم إن كان يعني هذا حقًا وسألته:

-       أنت فعلًا لسه مصمم على القضية؟!

 

رمقها بلومٍ ثم أخبرها مطنبًا بتصميم:

-       أنا معنديش حاجة أقدر اعوضك واسيطر بيها نفسي غير السجن ومش هاقبل بغيرها، كفاية أصلًا فيه أسبوعين ضاعوا فعلى ما نتطلق والعدة تخلص يا دوب نبدأ في كل حاجة بعد جواز عنود بأسبوعين، ومتناقشيش كتير بدل ما تيجي معايا ممكن بمنتهى السهولة ابعتلك ورقتك.. هي العصمة في ايدك صحيح بس برضو شرعًا وقانونًا ممكن أطلقك.. فهتيجي معايا بنفسك ولا تحبي إيه بالظبط؟!

 

ازداد غضبها وحزنها في آن واحد ولكن بينها وبين نفسها دون أن تُظهر هذا له، لم تعد تدري ما الذي عليه أن تفعله معه، نعم لقد تغير في كل شيء وأصبح هذا الرجل الذي لطالما تمنته، ولكن لو كان هذا هو اختياره فليكن إذن، لقد أُرهقت من هذه العلاقة بكل ما فيها، لقد كان في ابتعادهما بالسابق القليل من الراحة والكثير من الحزن، هي تقبل بهذا ولكن لم تعرف لماذا انطلق لسانها بغطرسة شديدة:

-       أنت اللي تجيبلي المأذون لغاية هنا، أنا مش هروح في أي مكان، زي ما جبته من كام شهر وأنت بتتجوزني بالغصب!

 

لا تعرف إن كانت تضع أي حجة فقط من أجل اكساب نفسها ولو دقيقة واحدة معه إضافية بالقرب منه وهي تنتسب له كزوجة أم هي لا تريد هذا الانفصال برُمته؟

 

رآها تُغادره برداء الاستحمام وحذاء منزلي لا يعرف هل يخص "عُدي" أم من تحديدًا وهي تُمسك بكوب القهوة وتمشي صوب منزلها فأوقفها مناديًا باستفهام:

-       أنتِ رايحة فين بمنظرك ده؟

 

لم تُجبه وتركته خلفها ثم مشت تجاه المنزل الذي لا تدري كيف ومتى أصبح يخصها هي وكل ما بها يتمنى أن تحصل على بعض الراحة لعقلها الممزق بفعل كل ما يحدث حولها ولو لدقائق قليلة فهي تعلم أنه سيتبعها وهناك المزيد في جعبته مما لا يتركها سوى متألمة الرأس!

--

عودة للوقت الحالي..

-       عجبتك الحدوتة؟

 

أومأ بالإيجاب ثم أجابه:

-       حلوة جدًا، بس هو هيفستوس كان شرير عشان بيلعب في النار، بس زعلت عشان رجليه مش قوية زي أيـ ـده، وهو افروديت كانت ممكن تحبه على فكرة بس أنا زعلت منها!

 

تلك الطريقة التي ينطق بها اسمهما كان كفيل بدفعه على مراجعة كل الميثولوجيا من أجله فقط لكي يخبره بمزيد من الأساطير ولا يُصدق أنه استطاع حفظ هذه الأسماء التي لم يفعلها هو نفسه سوى وهو أكبر منه بكثير من السنوات!

-       هي افروديت حلوة زي مامي وشبهها كده ولا أحلى منها؟

 

عليه أن يتوقف قبل أن يصيبه بالجنون، لا يُصدق هذا الطفل، هل يُمكن أنها اتفقت معه عليه هو نفسه لكي يجعلاه يقع في عشقه منذ أول لقاء؟!

 

كان عليه أن يُجيبه بالحقيقة المُجردة على سؤاله وما يثق به هو نفسه وقال:

-       لا مامي أحلى يا ريان!

 

تفقده بأعين متوسعة وأخبره مستفهمًا:

-       شكرًا على الحدوتة، هتحكيلي واحدة تانية غيرها؟

 

لم يستطع تمالك نفسه أمامه وأومأ له بالموافقة وقال:

-       هاحكيلك كتير عشان حافظ كل القصص دي.

-       أوك، هو أنت عندك موبايل بتاعك؟!

 

لوهلة أحس "عمر" أنه لا يفهم لماذا يسأله عن هذا وكان في غاية البلاهة لدرجة جعلته يسخر من نفسه فمجرد تواجده أمامه جعله لا يستطيع التفكير ولا حتى التخطيط للقادم ونهض ليحضر هاتفه وناوله إياه ليُحدثه "ريان" باستنكار على ما يفعله:

-       أنا لسه مكبرتش عشان أعرف افتح الموبايل، بس حافظ الرقم بتاعي وهبقى أتكلم معاك..

 

تفقده وهو يضيق عيناه نحوه واقتنع بكلماته وأرغمه على الاستجابة لمطلبه ليعقب باقتضاب:

-       قول رقمك طيب.

 

فرغ من إملاءه لرقمه وتعجب "عمر" من مقدرته لفعل هذا في عمره وعاد ليجلس بجانبه وهو ينظر له بذهول اخفاه بداخله ليفاجئه "ريان" بما قاله بعدها:

-       هبقى أقول لمامي وهتخليني اكلمك عشان تحكيلي الحواديت دي، اتفقنا؟!

-       اتفقنا..

 

اقترب دون مقدمات ليطبع قبلة على وجنته ليتجمد "عمر" مكانه لفعله الطفولي الذي لا يتذكر أنه فعله من قبل مع والده ولا يدري لماذا يستطيع وصف ما يحـ ــسه بأنه الخوف المحض ثم وجده ينزل من فوق الأريكة دون مساعدة منه ووقف أمامه وهو يخبره:

-       أنا عايز اروح لمامي عشان زمانها مستنياني.. تعالى افتحلي الباب عشان مش بعرف افتحه!

 

هل سيغادر بالفعل؟ لقد مر الوقت دون أن يشعر بشيء، كيف فعل به هذا الصغير كل هذا دون أن يدرك ما يحدث حوله؟

أومأ له وهو يحاول أن يبتسم ولكن لم يستطع فابتلع غصة غريبة بحلقه واتته لا يدري من أين له بها وعندما توقف أمام الباب وقبل أن يفتحه تسائل "ريان" وهو يرفع رأسه للأعلى لكي يراه:

-       أنت عايزني أقولك بابي عمر ولا إيه؟

 

ابتسم له ومسد شعره ووجد لسانه ينطلق بالرد دون تحكم منه:

-       أنت تقولي اللي أنت عايزه براحتك!

-       أوك.. باي بقى وهبقى اجيلك تاني عشان مسيبش مامي لوحدها!

 

قام بفتح الباب ليجد عسليتاها غاضبتان بتحفز لجدال لو بدأ به كلاهما لن ينتهي على الإطلاق وهي في حالة لم تبدو عليها قط واكتفت برسم ابتسامة مقتضبة رغمًا عنها نحو "ريان" الذي توجه لها مباشرةً غير عابئًا بأي ممن حوله سواها هي.. يا له من محظوظ، سيملك هذا العناق معها للأبد على عكسه هو.

 

قامت بحمله فاتجه هو للخارج بينما تمنى لو يستمع لكل ما يتحدثان به وقلبه وعقله يتشاركان حالة من عدم التوازن ليجد "مايا" تتجه نحوه وهي تخبره مستفهمة بقليل من المرح:

-       بقا بذمتك لما أول مرة تقعد كده مع كائن الـ cheese cake الصغنون ده محستش إن نفسك تاكله؟ لسه برضو بعد ما قعدت معاه مصمم على موضوع السفر ده؟

 

تفقدها بلمحة جانبية واكتفى بالرد مجيبًا باقتضاب:

-       صدقيني هيكون أحسن ليه وليها وليا!

 

لم تقتنع بما قاله ودافعت عما تراه صحيحًا من وجهة نظرها بقوة:

-       مفيش حد بيكون أحسن لما أهله يبعدوا عنه وهو صغير، وبعدين أنت مالك يا عمر بروان، أحسن ليها في إيه؟ أنت ازاي أصلًا مدخلها في حساباتك بعد كل اللي صممت عليه معاها؟ هي دلوقتي بقالها حياة تانية أنت فيها مش أكتر من أبو طفلها!

 

ابتسم لها ساخرًا وقلب شـ ـفتاه وهو يقول:

-       قولي الكلام ده لواحد تاني مش مجنون.. ما أنتي عارفة إن في لحظة واحدة ممكن أعمل حاجة تؤذي كل اللي حواليا بما فيهم هي.

 

تنهدت وهي لا تُصدق رؤيته السوداوية للحياة بنفس منظوره الذي لا يتغير دائمًا وحدثته بهدوء وهي تتمنى أن يُثني رأيه عن السفر والابتعاد وحاولت توضيح كل شيء له من وجهة نظرها بناء على ما اختبرته مع أخيها:

-       ما كفاية بقا يا عمر، أنت واحد قضيت أكتر من تلت سنين في المستشفى بين علاج سلوكي وجلسات ect وأدوية، أنت مكونتش أصلًا بتعمل حاجة غير ده، بطل تصميم على الغلط، ما دارا أخويا متجوز وعنده أولاده ومبعدش عنهم والأطفال بتكبر وبتفهم وهم اللي بيساعدوه كمان دلوقتي.. على الأقل بقا بيقدر يصارحهم لما بيلاحظ على نفسه تغيير، أنت ممكن تعمل ده هنا، عنود وأنا وأخوك ومامتك وكل الناس دي هتقدر تساعدك ولو حصل حاجة شديدة هيقدروا يكلموا طوارئ ويتدخلوا.. إنما الحل مش إنك تقعد لواحدك أبدًا ولا تعزل نفسك عن الناس في بلد متعرفهاش.. ده أنت تغيير المكان لواحده ممكن يقلب معاك بنوبة، ده أنا أصلًا قلقانة إن تغيرك من المستشفى للبيت ممكن يغير مزاجك ويأثر عليك، فعايز بقى تروح بلد تانية بجو تاني بحياة كاملة متعرفهاش.. ده أهم حاجة للـ bipolar هو الاستقرار.. أنت كده بتبهدل نفسك وبتظلم ابنك معاك!

 

لم يُعجبه على الإطلاق ما استمع له منها لأنه يعلم أنها الحقيقة المُجردة ولكنها كانت أهون عليه من التفكير في نفسه وهو مُحاط بكل ما يتعلق بها وهو يراها على مقربة منه فاكتفى بالرفض مرة ثانية:

-       مايا سيبيني اعمل اللي أنا عايزه.. ومعلش هطلب منك طلب.. أنا عايز أتكلم أنا وروان لوحدنا بخصوص ريان.. ومش في الموبايل، شوفيها كده عايزة تتكلم امتى وفين!

 

تنهدت وهي لا تستطيع التعرف على ما يدور برأسه وأخبرته:

-       ماشي، أنا بس هاعمل كده عشان مش هاينفع تفضلوا تتخانقوا قدام الولد.. ولازم تتفقوا على حاجة صح ليه، بس ابقى قول لأختك دي اللي عاملة زي حرس الحدود تهدا شوية!


تابع قراءة الفصل