رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 57 - 1 الأربعاء 15/11/2023
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل السابع والخمسون
1
تم النشر يوم الأربعاء
15/11/2023
العِشرة -مهما بلغت سنوات الهجر والخصام- لا تهون على الأصلاء، والشماتة لم تكن يومًا من شيم الكرام والرجال النُزهاء. بوجه مشبع بتعبيرات الحزن، كان "مجد" ممدًا بظهره على سريره، ينظر لسقف الغرفة، بنظرة شاردة يشيع فيها البؤس والأسى، ممَ أشعر زوجته بوجود خطبٍ ما به. وضعت صغيرها الغافي في سريره الصغير المقابل لخاصتهما، وعادت إلى زوجها منضمة له في الفراش، دنت منه متلمسة وجنته بلمسة رقيقة من يدها، وسألته بخفوت:
-مالك يا حبيبي؟ وشك مكشر ليه من ساعة مارجعت من المستشفى؟
وجه عينيه الشجية إليها، وبعد تنهيدة مزعوجة، صارحها:
-حاسس إني زعلان عشان عاصم، وقلبي وجعني لما عرفت إنه مفاقش.
لاحظت الضيق يقطر من نبرته الواجمة، وينبجس بقوة من وجهه العابس، ممَ دفعها لسؤاله بغرابة:
-ومالك بتقولها وانت متضايق ليه؟
زفر مجددًا بضيق بات ظاهرًا عليه للغاية، مجيبًا بتجهم:
-يمكن عشان هو أذانا كتير، ومكنتش متوقع إن ده اللي يبقى جوايا لما يتردله اللي عمله فينا.
زمت شفتيها بتعاطف معه، متفهمة أسباب تخبطه الداخلي، وموقفه المزعوج من شعوره الإنساني، ولهذا أرادت أن تخفف من وطأة أفكاره المتضاربة، وعلقت بوجه بشوش، مبتسم، مرددة بلطافة:
-يمكن عشان انت قلبك طيب.
رمقها بنظرة محبة، وبالكاد انفرجت شفتاه ببسمة، أتبع ذلك اقترابه منها، مجبرًا جسدها على الاستواء بظهرها، مريحًا رأسه فوق صدرها، وقتئذ مسدت هي بأصابعها بلمسات حانية فوق شعره، مستمعة إلى تحدثه بلهجة مشبعة بالأسى:
-صعبان عليا ولاده، لسه أطفال ملحقوش حتى يعرفوه، وكله كوم والطفلة اللي لسه مولودة كوم تاني، ومراته اللي ولدت ولادة مبكرة واتحجزت في المستشفى هي كمان، ومنظر عز أخوه وهو تايه في النص ومراته كمان ولدت، لما ماعادش متحمل يقف على رجليه مع كل اللي بيحصل ده، حالهم بجد يحزن أوي يا طيف.
تأثر قلبها ممَ قاله، وبصوت مؤازر قالت له:
-ادعيلهم يا حبيبي.
سكن لبعض الوقت وهو على نفس حالته، موسدًا رأسه في أحضانها، ولكن ثمة أمر تذكره، وبغتة رفع رأسه، ممَ استرعى انتاهها، وارتكزت بعينيها عليه وهو يتساءل بتذكر:
-صحيح انتي كنتي بتشتكي مني النهارده الصبح لأسيف؟
توترت ملامحها، ورمشت بأهدابها وتهربت من الإجابة بتساؤلها:
-مين اللي قالك؟ انت مكنتش هنا النهارده الصبح.
قبل أن يرد عليها، استنبطت أن يكون علم من "أسيف"، وحينما جال ذلك الشك الأقرب لليقين لرأسها، عاجلته بمتابعتها المندفعة:
-الفتانة قالتلك، هي معادتش بتخبي عنك حاجة خالص.
منع بسمةً من الظهور على وجهه، واصطنع الجدية وهو يسألها:
-متستعبطيش وقولي كنتي بتشتكي مني بسبب إيه؟
عبس وجهها، وسألته بضيق ولكن تلك المرة منه هو:
-يعني هي مقالتلكش؟
مط شفتيه بغير علم، وقال لها نافيًا بصدق:
-لأ مقالتش، انا فاجأة لقيتها بتعاتبني وبتقولي مينفعش كده يا مجد وطيف زعلانة منك وانت مش مراعي مشاعرها، واما استدرجتها في الكلام عرفت إنك شكيالها مني بسبب إيه بقى معرفتش ولا هي رضت تقولي، قالتلي شوف انت عملت إيه مضايقها.
رفعت أحد حاجبيها بطريقة محققة، وعقبت بإيحاء مقصود:
-وانت يعني مش عارف انت عامل ايه مضايقني؟
ضيق عينيه عليها وسألها باستشفاف:
-قصدك عشان الشريكة الأجنبية؟
على ذكر سيرتها، اتقدت جذوة الغيرة بداخلها، ودمدمت بانزعاج:
-انت مش ملاحظ إنها مزوداها وانت مش ممانع.
تراءى له غضبها الجلي، لذا عمل على خفض نبرته وهو يعلق بغير اتفاق:
-فين اللي مزوداها يا حبيبتي بس؟ دي بتتعامل بمنتهى العملية وكلامها على قد الشغل.
ازدادت نيران الغيرة استعارًا بداخلها، وسريعًا ما علقت باستهجان:
-وهو عشا امبارح كان شغل؟ وصورها وهي لازقة فيك انت بالذات شغل برضه؟
قابل نبرتها المنفعلة بعض الشيء، بصوت هادئ ليمتص غضبتها قبل أن تندلع:
-أولا عشا امبارح كان احتفال بالدمج، والصور مش صورها لواحدها، دي صور أفراد الإدارة كلها، وطبيعي تبقى واقفة جنبي بالذات لإننا الـGeneral managers والـowners (المديرا العام والمالكان).
طريقته اللينة جعلت انفعالها يخبو، وتبريراته دون هجوم أو اعتراض على غيرتها الزائدة أرخت أعصابها، وعقبت على ما قاله ببعض التدلل، وهي تعبث في صدره بأصابعها:
-برضه ده مش مبرر يخليك تتصور جنبها بالشكل ده.
تشكلت بسمة جذابة على ثغره، ثم قال بخنوع:
-حاضر مش هتصور جنبها تاني.
منعت بسمة راضية من التشكل على ثغرها المكتنز، وحافظت على تكشيرتها، لتثبت له ضخامة الأمر بالنسبة لها، في حين هو مد يده مداعبة شفتيها، قائلًا بمناكشة:
-فكي بوزك ده بقى.
إثرًا لمداعبته المرحة انفرجت شفتاها ببسمة، لم تكد تظهر حتى أخفاها في فمه، الذي لثمها بشغف لا يجدب أبدًا، انغمسا للحظات في تيارات العشق الجارف، وعند لحظة فارقة فاقا من تأثير المشاعر الحميمية على صوت صغير، يهتف بغتة بطفولية:
-با..با..
فصل قبلة كان قد بدأها للتو، والتفت الاثنان بوجهيهما نحو موضع سرير الرضيع، الذي أتم العشرة أشهر منذ بضعة أيام، ليرياه مستيقظًا، ويلوح لهما بيديه، دلالة على رغبته في حملهما له، حول "مجد" نظراته المنزعجة نحو زوجته، وقال بتهكم:
-أوقاته دايمًا مظبوطة.
انفلتت منها ضحكة متأثرة بملامحه المغتاظة، وتابعت نهوضه بعينين تلمعان بوهج العشق، لذلك الرجل الذي أوقعها في هوة غرامه من النظرة الأولى لعينيه الثاقبة، والواثقة، ازدادت بسمتها وهي تراه يحمل صغيرهما، ولاطفة بنبرة اختفى منها الضيق فور ضمه لصدره:
-حبيب قلب بابا من جوا اللي مبينامش خمس دقايق على بعض.
قبل وجنته، ثم عاد به إليها وهو يردد بتعجب:
-ده نوم ده؟ هو لحق ينام عشان يصحى.
اعتدلت في نومتها لتحمله منه، وعلقت باستنكار:
-لو مخلفة vampire (مصاص دماء) هينام عن كده.
بعدما أعطاه إليها، دنا من وجهها، مرددًا ببسمة جذابة:
-هروح اكلم جاسم اتطمن منه عن الأحوال في المستشفى، وراجعلك تاني تكوني نيمتيه.
بعد انتهاء الأخير من قوله، الممزوج بالعبثية المغرية، اختطف منها قبلة سريعة، ولكنها كانت عميقة التأثير، تركت آثارها على وجنتيها التي توردا بدموية السرور، وشفتيها الباسمتين بسعادة لم تزول، حتى بعد خروجه تحت نظراتها العاشقة، وبقت هي ترضع الصغير ببالٍ رائق، ونفس صافية، حتى تساعده للخلود للنوم من جديد، لتبتدئ مع زوحها ليلة حالمة، تضاف إلى سلسلة لياليهما، المليئة بكل ما هو مفعم بالحب، والمودة والحبور.
❈-❈-❈
تحاملت على نفسها شعور الوجع الذي يوخز في بطنها ومنطقة نهاية ظهرها، فالوجع الأشد والأعظم كان يعصف في قلبها، وجع لا يضاهيه أي وجع مر أو قد يمر عليها يومًا. وقفت خلف النافذة الزجاجية، لنفس الغرفة التي لم ينتقل منها زوجها، دموعها تنهمر، وكل ما بها ينزف بالقهر والألم، عقلها لا يستوعب عدم استفاقته، لا تتخيل أنه قد دخل في غيبوبة، تحول دون سماع صوته، والنظر لجمال عينيه. ارتجفت شفتاها وهي تبكي بحرقة، وخوف من خسارة لن يغنيها عنها ألف تعويض. وضعت يدها فوق الزجاج الحاجز، والفاصل عن ارتمائها في أحضانه، وغمغمت بنحيب:
-ليه يا عاصم؟
احتمالية رحيله بعد فقدان وعيه، أصبحت تهاجم فكرها بقوة، ومع ذلك تحارب بكل وسعها الاستسلام لسوداوية أفكارها، حتى خارت طاقتها، وفقدت القدرة على تثبيط مخاوفها، ازداد بكائها، وعلت نهنهاتها، وشهقاتها التي تتقطع بين كلماتها المتخوفة:
-انت أكيد مش هتسيبني، مش ههون عليك انا متأكدة.
كيف تستجدي بقائه الحين، وهي من نبذته، وطردته من حياتها بقسوة وجحود، رفضت إعطائه فرصة للتبرير وصدته بكل برود، لقد عميت بصيرتها عن رؤية صدقه، وأصرت على حصره في إطار الخائن الحقير. ظلمته، وقست عليه، حتى فقد الأمل في حياته، لتكن هي السبب الأول والأخير في تعرضه لذلك الحادث الأليم. صوت عقلها المهلك أقنعها أن بقاءه مغمض العينين ليس إلا هروبًا من حياته التي أظلمتها بأفعالها، وسوء ظنها، واجدًا ملاذه وراحته بعيدًا عن ذلها وجمود قلبها. شاع الندم داخلها، كسا وجهها الشاحب، واعتلى عينيها الحمراوتين، وهسهست بتحسر:
-معقول مش عايز ترجعلي تاني؟ معقول أنا اللي وصلتك لكده؟ لقيت خلاص راحتك في نومتك دي بعيد عني وعن قسوتي وظلمي.
ضغط بيدها الباردة فوق الزجاج، وهتفت تتوسله:
-فوق يا عاصم وانا هصلح كل اللي بوظته، مش هبعد عنك لحظة وهبقى تحت رجليك بس متسيبنيش.
أخفضت رأسها، واتكأت بجبهتها فوق الزجاج، وهي تشعر بسائر أعصابها تنهار، وأطنبت بتوسل متزايد:
-فوق عشان خاطري، انا مش هقدر اتحمل الوجع ده.
استمرت دموعها في الانهمار بقوة، وهي تكمل بضعف:
-مش هقدر اعيش في الدنيا دي لو انت مش فيها.
رفعت عينيها له، تناظره بقهر وقلة حيلة، ورجته بهوان:
-عشان خاطر ولادنا فوق، احنا محتاجينك، حياتنا هتنتهي من غيرك.
بكت حتى عجز البكاء عن التعبير عمَ يجيش به صدرها، وانتحبت، نشجت، وصرخت حتى تقطع حلقها وتمزقت أحبال صوتها، الوجع ينخر بها، ومع ذلك ظلت واقفة محلها، فكان من السهل عليها الاعتياد على أوجاع جسدها، ولكنها لم تستطع التغلب على آلام قلبها، استبد التيه بها، وغاب عقلها عمَ حولها، وسؤال واحد ظل يتردد ويتكرر في ذهنها، أنّى بمعجزة لها؟ تعيد سابق حياتها.