رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 64 - 1 الخميس 25/1/2024
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل الرابع والستون
1
تم النشر يوم الخميس
25/1/2024
الفصل الرابع والستون
من الصعب والعسير التحكم بمشاعر القهر، خاصة النابعة عن خسارة أعز عزيزًا على القلب. ظل "عاصم" جالسًا فوق قبر والدته، يبكي بانهيار ناتجٍ عن كل ما يعتريه من أحزان وأشجان اعتمرت قلبه، فرحيلها المباغت كان بمثابة مغادرة الروح من جسده، وفقدها أمات كل معاني الحياة في نظره، ورغم سعيه الدائم لإلهاء عقله عن الحقيقة المفروغ منها، وهو مغادرتها دون سابق إنذار، أو وداع أخير، إلا أن ثباته لا ينفك يتقهقر لنقطة البدء، وقت تلقيه لخبر وفاتها الصادم. بكى كما لم يفعل من قبل، مظهرًا ضعفًا لطالما عمل على مواراته، ودفنه بكل طاقته في أعماقه، ولكن الاجتماع بها، حتى وإن كانت جثة تآكلت، وتحللت أسفل الثرى، لا يُسمع منها لغوًا ولا تُرى، يجعل كل خلية بجسده تنتفض وتصرخ بالحنين، ابتلع ريقًا كان كالعلقم المر، بعدما عمل على تثبيط نحيبه، لمس بأصابعه التراب القابع أسفله قطعة من قلبه، وجزء من روحه، ثم بدأ في التكلم، مع أمل بأن يصلها ما يقوله بصوت ما يزال حاملًا لبحة البكاء، ومغلفًا بالاشتياق:
-مش عارف أقولك قد إيه وحشتيني، ولا قد إيه حياتي ضلمت من بَعدك.
تهاوت دموعه كسيل جارف وهو يتابع بنفس النبرة المقهورة:
-مش عارف حتى أوصفلك وجعي عليكي، ولا كسرتي من بُعدك.
في دوخله مع الحزن العارم، لا ينكر دور زوجته في إعادة النور لحياته، ارتسمت بسمة مهزوزة على وجهه، وألحق قوله البائس، بآخر يحمل الامتنان:
-يمكن ربنا عوضني بداليا، قدرت تنور حياتي من تاني، وجابتلي تلت ملايكة ملوا عليا دنيتي وحلوها، وخلوا ليها معنى وقيمة.
امتلأت عيناه بدموع متجددة، وقال لها بأسى:
-كان نفسي تشوفيهم وتشيليهم بإيدك، كنتي هتفرحي بيهم زي مانا فرحان ومش متخيل إني في خلال سنة بقى عندي تلات أطفال.
مسح ما انهمر من طرفيه بيده وهو يحدثها كطفلٍ صغير:
-بس انتي أكيد حاسة بينا، مش كده يا ماما؟
بقى لعدة لحظات يضبط أنفاسه، ويثبط بكائه، حتى يستطيع إخراج كل ما بجعبته لها، تناول نفسًا مطولًا، وبعدما لفظه على مهلٍ، قال لها بسعادة تمتزج بحزنٍ عميق:
-كل اللي عايز أقولهولك، إني يمكن حققت جزء من اللي كنت بتحلمي بيه، عملت حاجات كان نفسك اعملها، وبقيت شخص كنت بتتمني أكونه في يوم من الأيام.
عادت البسمة للارتسام فوق وجهه الشجي، والمحفور عليه كل معالم الأسى، وأخبرها برضا:
-بقيت زوج كويس وأب حنين، ولسه بحاول أكون أحسن، بقيت بحاول اعمل بنصايحك ليا.
لم تتوقف عبراته للحظة عن الانسياب، كأنما فقد قدرته على التحكم بنفسه بوجوده في ذلك المكان، الذي يستشعر به روح والدته تطوف من حوله، باعثة لداخله مع الدفء والسكينة، حنينًا مزلزلًا لكل حصونه المنيعة، مخلفًا انهيارًا عارمًا ليس من السهل السيطرة عليه، خاصة مع ندمه من جفائه الذي كانت تلقاه منه، وجموده مع كل محاولة منها للتقرب منه، نكس رأسه وصوت نهنهاته تتخلل كلماته وهو يعتذر منها:
-متزعليش مني، حقك عليا يا ماما.
ابتلع وهو يهدئ من تهدج أنفاسه، ثم أخبرها:
-أنا عايزك تطمني عليا، ارتاحي ومتخافيش..
بلل شفتيه، ثم قال لها بخزي يخالطه الندم:
-كل حاجة بدأت تتصلح بعد ما خربتها بدماغي وتفكيري الغلط.
رفت بسمة مهتزة فوق شفتيه، وأخبرها باشتياق بالغ:
-انا مش ناقصني غيرك بس، مش ناقصني غير حضنك الدافي وصوتك الحلو.
آلمه قلبه من قوة الندم العاصف، ممَ جعله ينجرف بدوامة بكاء أخرى، وناشد عفوها بانكسار شديد:
-سامحيني على أي حاجة عملتها فيكي، سامحيني على إني معرفتش أقولك قد إيه بحبك.
أغمض عينيه وهو يذرف دموعًا حارقة، وأخذ يكرر باختناق:
-سامحيني يا ماما، سامحيني عشان خاطري.
❈-❈-❈
صوت نغمة مألوف اخترق غفوتها، وجعلها ما بين النوم واليقظة للحظات، حتى استجمعت مداركها، واستفاق كامل وعيها، منتبهة قبل انتهاء المكالمة إلى رنين هاتفها، مدت يدها بتكاسل نحوه، والنعاس ما يزال مسيطرًا على عينيها، التقطت نظراتها المغبشة قليلًا اسمه، ارتسمت فوق شفتيها بسمة خاملة، وعلى الفور استقبلت المكالمة، وقالت بصوت يحمل بحة مميزة، وقد عاودت إغلاق عينيها:
-أيوه يا صلاح.
جاءها صوته الرجولي قائلًا مباشرة دون تمهيد:
-انا جايلك بكرا.
فتحت عينيها بجحوظ يعبر عن صدمة تملكت منها، وما هي إلا لحظتين وانتفضت في نومتها، متسائلة بغير استيعاب:
-بتقول ايه؟
ظلت عيناه متسعة وهي تستمع إلى رده الهادئ كأنما لم يلحظ صدمتها الملموسة من تساؤلها:
-كنت عايز اعملهالك مفاجأة والله وتفتحي باب شقتك تلاقيني في وشك..
صمت لثانية، قبل أن يضيف بعقلانية لا تليق مع صوته الهزلي:
-بس عقلتها لقيت اني مش عارف حاجة في البلد اللي انتي فيها، ولو خرجت من المطار مش هعرف اروح في حتة.
حمل صوته بعد ذلك نوعًا من المرح وهو يضيف:
-وهتلاقيني بقى بكلمك وبقولك تعاليلي انا تايه ومنظري هيبقى مش ولابد، فقلت احفظ ماء وجهي من البداية واقولك تيجي تاخديني من المطار.
رمشت بأهدابها وما تزال الصدمة متمكمة منها، وبنبرة يشوبها عدم التصديق تساءلت:
-انت جاي بجد؟
أتاها رده على سؤالها، معلقًا بمشاكسة:
-مش عايزاني ولا إيه؟ ألغي الحجز؟
سارعت في نهيه بلهفة بائنة:
-لا لا تلغي إيه؟ ده انت وحشتني اوي.
وضعت يدها فوق فمها بعد أن تداركت اعترافها المتلهف، في حين قال هو لها بصوت يظهر به الضحك:
-يا بت اتقلي شوية، متبقيش مدلوقة كده.
لاحت تعبيرات مغتاظة فوق وجهها، وعقبت بشيء من الاستغراب:
-أول مرة اشوف واحد عايز حبيبته تتقل عليه.
هلل عبر الهاتف على فور نسب ذلك الوصف لها، مرددًا:
-الله أكبر، حبيبته..
أغمضت عينيها بخجل وضحكتها باتت ملء شدقيها، مستمعة إلى تساؤله المناغش:
-ها وإيه كمان يا ميوي؟
ردت عليه بصوت أصبح حاملًا لخجلها نادر الظهور:
-المفروض انت اللي تقول حاجة بقى، انا كدة هبقى مدلوقة اوي فعلا.
بصوت يملأه مكر مستساغ قال لها:
-لما آجي بكرا هقولك.
على وجهها بسمة متدللة، وسألته بغنج:
-هتقولي إيه؟
رد عليها بطريقته الهزلية ذي النبرة الذكورية الثقيلة، مرددًا:
-متستعجليش على رزقك بقى، مفيش صبر خالص.
عبس وجهها من رده المراوغ، وعقبت بقليل من التجهم:
-يا صلاح انت بطيء أوي.
على فور إنهائها لعبارتها المزعوجة، تكلم باستفسار متعجب يمتزج ببعض المرح:
-بطيء! ده وصف على إيه بالظبط؟
انشقت شفتاها ببسمة صغيرة وهي توضح قصدها بنفس النبرة الضائقة:
-مشاعرك بطيئة، بتاخد وقت لحد ماتكتشف احساسك وانا بصراحة في كلام كتير عايزه أقوله ومأجلاه لحد انت متتكلم.
حمل صوته نوعًا من العبث وهو يعلق متسائلًا:
-عايزه تقولي إيه؟
ملات تكشيرة متدللة وجهها وهي ترد عليه:
-لما تقول انت الاول هبقى اقولك اللي حاسة بيه.
بغد عدة لحظات كانت تترقب رده، قال لها بعد همهمة خشنة، مستفسرًا باستشفاف:
-يعنى افهم من كده إنك اتأكدتي من مشاعرك ناحيتي؟
تأففت بضيق مصطنع، وهتفت بتمنع:
-يا صلاح متستدرجنيش، مش هتكلم.
صوتها الناعم ضاعف وجيبه تضاعفًا لذيذًا، محركًا كامل مشاعره، راسمًا بسمة واسعة على وجهه قبل أن يقول لها بتؤثر:
-لا الصوت ده ليه تأثير عليا وانا مش بتحمل.
صدحت ضحكة مجلجلة منها إثرًا لقوله، تاركة تأثيرًا أكبر على كينونته الذكورية، ممَ جعله يقول:
-لا الموضوع كده بيكبر وكلام التليفونات ده مش بينفع، لما اشوفك بكرا نشوف الحوار ده.
التصقت بشفتيها بسمة واسعة تعبر عن سعادةٍ من نوعٍ آخر، ومع كل كلمة راح يفوه بها في تلك المكالمة الاستثنائية كانت تزاداد لمعة عينيها بوهج الحب الساطع، الذي توغل كامل وجدانها، متسببًا في خلق شعور جديد وفريد، نفذ عبر شغافها، متلاعبًا بوجيب تلك العضلة النابضة في منتصف صدرها، تاركًا تأثيره البالغ على سائر حواسها.