رواية جديدة اليمامة والطاووس (روقة) لمنى الفولي - الفصل 13 - 1 - الأثنين 20/5/2024
قراءة رواية اليمامة والطاووس (روقة) كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية اليمامة والطاووس (روقة)
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة منى الفولي
الفصل الثاني عشر
1
تم النشر يوم الأثنين
20/5/2024
تفلت مكانه لاعنة إياه بمجرد خروجه وهي تهرول لأختها، تهون عليها وتطمئنها بأنهما لم يفقدا كل شيئ بعد، فمازالت تملك قلب ياسين.
خرجتا إليه بعد دقائق معدودة، ليبتسم سعيدا: حصل يا مدام وهو ومحاميه هيقبلونا في الشهر العقاري.
لعنت غروره الذي يهيئ له بأن نجاح مسعاه يرجع إليه، بينما هي واثقة أن لهفة ياسين للاقياها أكبر من رغبتها للقاءه ولو أختلفت الدوافع، لينهار غرورها بدوره، بمجرد وصولها ومواجهة أعين ياسين الجامدة، ولكنها لم تيأس وهي تحاول التظاهر بالتماسك والامبالاة أثناء توقيع الاتفاق، وبمجرد إنهاء الأمر وتوقيعها على الاتفاق المبرم، ظلت نجوى بكرسيها وكأنما انتهت طاقتها، وقد اسنفذت أخرها في الهروب من أعين ياسين، بينما هم ياسين بالرحيل بمرافقة محاميه، فارتفع صوت سلوى يناديه مستوقفا: ياسين.
توقف للحظة مترددا، ولكنه حزم أمره فهو كان يعلم بنيتها منذ عرف برغبتها بحضوره، ورغم ثقل الأمر على نفسه، إلا أنه قرر مواجهته، فهروبه منها كان سيقوي أملها بضعفه، ويجعلها تحاصره وهو لا يضمن صموده وقتها، أما المواجهة وأن حملت له الألم فهي نهاية الأمل بالنسبة لها لينهي الأمر وينتهي الأن، لذا استدار لها غير مبالي بانصراف محاميها وتلك الابتسامة الخبيثة المرتسمة على شفتيه، ولا تنحنح محاميه وانصرافه حرجا، وهو يجيبها بثبات: نعم.
تهدج صوتها على نحو مدروس يكتشف زيفه للمرة الأولى: بعتني بالسهولة دي يا ياسين.
عقد حاجبيه وهو يتمتم متعجبا: وأنت شايفة اللي حصل سهل.
كاد ينصرف لتصرخ خلفه خائفة من ضياع فرصتها الأخيرة: لو مكنتش سهلة مكنش كل اللي فكرت فيه الفلوس يا ياسين، بعد كل اللي ضحيت بيه عشانك.
أيلعنها على إصرارها على جرحه، أم يشكرها لمده بالقوة الكافية للمواجهة وقد أشعلت كلماتها نيران غضبه، ليلتفت إليها هادئ، رغم النار المستعرة بداخله: عارفة ليه اشترطت يكون الطلاق على الإبراء، مع أنك عارفة أن الفلوس مبتهمنيش، لأني معنديش أي استعداد أديكي أي حاجة تانية، وشايف أن كفاية عليا قوي اللي أخدتيه من عمري وفلوسي وراحتي وحتى حسناتي.
بهتت فهي لما تتوقع هجومه هذا، بل كانت تنتظر رؤية عينيه تحترق بذنب حرمانها من أمومتها كعادته معوضا خسارتها بما ترنو لها نفسها، ليعاجلها بهجومه الثاني: على فكرة، أنا مصطدتيش في المياه العكرة أنا خطبتك لما عرفت أن والدتك عرضت على وائل جارنا أنه يتجوزك على مراته، لمجرد أنها تعند مع والدك، وأكيد جوازك مني كان أفضل من جوازة زي دي مع أن الراجل نفسه رفض، ولو مش مصدقاني هو مراته لسه جيرانا وممكن تسأليهم.
لم يعطيها الفرصة للرد وهو ينسحب مسرعا قبل أن يضعف أمام أول دموع حقيقية تتلألأ بعينيها، بعدما ضعف لسنين أمام دموعها الزائفة.
تصنمت غير مصدقة تخليه عنها، فهذا ما لم تضعه بحسبانها يوما، كانت دوما واثقة من خطواتها تعلم بأنه سندها أن زلت قدمها، لم تحتاجه يوما وخذلها، حتى عندما أفاقت بالمستشفى لم تجد غيره تستنجد به لإنقاذ شقيقتها، رغم جريمتها بحق أخيه، واليوم بعد غيابه علمت أنها بدونه لا شيئ، وأن لم يكن حب حياتها، فهو حياتها نفسها، استمدت من وجوده العزة والحماية بعدما تخلى عنها والداها وأذلاها، فمن غير محب مثله كان سيقبل بها زوجة بعد فضيحة والدها، وتهور والدتها التي لا تصدق لأي مدى وصل، من غيره كان ليقبلها معدمة مثقلة بعبء شقيقتها، لأول مرة بحياتها لم يكن لديها خطة بديلة، فقد كان خط دفاعها الأول والأخير، وهاقد سقط تاركا ظهرها مكشوفا، رحل دون أن يمهلها أن تسأله، ماذا ستفعل الأن.
❈-❈-❈
ابتسم ياسر بإشفاق وهو ينظر لزينهم المستغرق بالنوم بعمق، بينما علا غطيطه كالمعتاد، لا يصدق أنه لم يستقيظ حتى الأن وكما يبدو أنه سيواصل النوم حتى الفجر كعادته على الرغم من أنه نام مبكرا كثيرا هذا اليوم، فبعد تلك المواجهة بينهما وعلى الرغم من تلك القصة التي استنزفت كثيرا من طاقته، ألا أنه أصر على إعداد وجبة ساخنة، بما جلبه من السوق، وقد كان الطعام شهيا فعلا، ليستغرق بعدها بالنوم بدقائق معدوة كعادته.
تحرك خارج الغرفة عابسا وقد أصابه ما مر به اليوم بتشتت كبير، مابين نظرته لحياته السابقة التي اختلفت كثيرا عن ما سبق، ونظرته للأخرين وتقيمه لهم وأسس ذلك التقييم، قادته قدماه نحو الدرج ليقف للحظات مترددا، تمسكت به يد حرصه على زينهم تمنعه من التحرك فهو لا يريد أن يسبب له أي ضرر، يكفيه ما مر به في حياته من مصاعب، ولكن كانت هناك عدة حبال تسحبه للأسفل، حبل فضوله وتلك الصدمة التي تلاقها بعد رؤيتهن بالسوق، وحبل تهوره المعتاد، وحبل الشغف للإطلال على ذلك العالم الغريب بالنسبة له التي تفتح أحاديثهن شرفته على مصرعيها أمامه، مبددا ذلك الملل الجاثم فوق صدره ، وأخيرا انتصرت حبال هوى نفسه، متغلبة على يد الحرص، ليهبط الدرج بخفة، ملاصقا للجدار بجوار شقة شوقية، ليصله صوتها الغاضب كعادتها: مش هنخلص من موال كل يوم ده.
صدح صوت زوجها الغاضب: كويس أنك عارفة أنك كل يوم على كده، لا نضافة للبيت ولا تربية للعيال ولا حتى مهتمية بيا كراجل، ده حتى يوم السوق مفيش لقمة عدلة ناكلها، أمال روحتي تعملي أيه.
تأففت بضيق: رجعت تعبانة، هاعمل أيه، أقطع نفسي عشان ترتاح.
صاح حانقا: لا متقطعيش نفسك، بس لما اجي اتجوز متجيش وقتها تولولي وتقولي قصرت معك في أيه.
غمغمت متهكمة باستفزاز: مش هاقول.
صمت لثواني ربما مصدوما من وقحتها قبل أن يغمغم بندم: عامة هي مش غلطتك أنا اللي غلطت لما هودتك وسيبت بيتي وشغلي وجيت معكي هنا، على الأقل هناك كنت بانزل أريح وأكل عند أمي لقمة نضيفة.
سمع خطوات ثقيلة تبتعد ليسود بعدها الصمت التام، مما يعني أن أحدهم قد يأس من الحديث منسحبا لمكان أخر بالشقة.
أطلق سبة خافتة لاعنا ضعف الرجال، فالرجل خلق قواما قائدا للعلاقة، وأي بادرة ضعف منه لأي جانبا كان، سواء لأما أو زوجة يهدم قوامته، وينتج علاقة مشوهة، وحياة غير مستقرة، فأن كان ضعفه لغير زوجته، شعرت معه بعدم الأمان، وأن كان ضعفه أمامها انتقص ذلك من قدره بعينيها وأن استفادت من ضعفه هذا أقصى استفادة واستغلته أسوء استغلال.
تحرك هابطا نحو باب رانيا يتمنى أن ينال جرعة إيجابية بعد تلك الجرعة السلبية المكثفة، ولم يخب ظنه وهو يستمع لصوتها الحاني: ولا يهمك ربك اللي بيرزق.
غمغم غسان مهموما بخفوت: ونعم بالله، بس لو مشيلتش هم الشغل والمرتب، طبيعي أشيل هم السكن، كده هنرجع تاني للإيجار وقرفه.
صاحت تهون عليه بود: ماتقدرش البلا قبل وقوعه، مين قالك بس أن المزرعة هتتباع، ماهو كل فترة يقوم القومة دي وبعدين لا بيبع ولا بيشتري.
أجابها مؤكدا: بس المرة دي غير كل مرة، المرة دي فعلا بيفكر يبيع وطلب من كذا حد يشوف له مشتري.
أردفت محاولة طمئنته: حتى لو المزرعة اتباعت، مين قال بس أن اللي هيشتريها هيمشينا، هو يلاقي فين في شطارتك وأمانتك.
زفر بضيق وهو يهتف بإستياء: بس لو يهودني ولو على سبيل التجربة، كنت خليت المزرعة دي تجيب دهب بدل الملاليم اللي بتجيبها.
وصله صوتها المواسي بحكمة دون مجاراة بالخطأ: يا حبيبي من حكم في ماله ما ظلم، وبعدين هو سبق ورفض الفكرة بتاعة خلايا النحل مع أن مكانها فاضي زي مبتقول، متخيل أنه ممكن يوافق على كل اللي بتحلم بيه، مطعم ومنافذ بيع وتصنيع، ما أنت عارف، راس المال جبان.
أجابها مقتنعا ونادما: استغفر الله العظيم يارب، عندك حق، أنا بس شيلت الهم، خصوصا أنها مش شيلتي لوحدي، متنسيش أن معاش أبويا بيكفي دواه هو وأمي بالعافية، والقرشين اللي بنبعتهم بيساعدوا، مش عارف هقولهم أيه بس.
تمتمت بثقة: أهم القرشين دول بالذات هما اللي مطمنيني، أن ربنا مش هيسيبنا، ده كفاية دعاهم ليك.
لان صوت غسان وهو يردف بحب: وأنا أكتر حاجة مطمناني، بعد ربنا، أنك معايا وفي ضهري.
ضحكت بسعادة: طبعا لازم ابقى في ضهرك، مش وراء كل رجل عظيم إمرأة.
ضحك رائق: وعملتيني عظيم كمان.
ضحكت مؤكدة: عظمة على عظمة ياراجل، وهاعملك حالا أعظم كباية شاي دوقتها في حياتك عشان تفوق كده، وتظبط دماغك.
تمتم بود: لا خليكي أنا اللي هاعمل أنت روحتي السوق، وعملتي غدا جامد، كفاية عليكي كده.
صاحت بحماس: ماشي أعمل الشاي وأنا هاغسل الفاكهة وهنادي العيال ونقعد سوا نتساهر.
استمع لخطوات نشطة تتحرك بينما ابتعد صوتها ينادي باسم الأبناء، هفا قلبه مع نشاط خطواتهما متذكرا خفة حركة حبيبته وأنطلاقها كلما كان وحدهما، وثقلها وحزنها وهو يربط بعنقها صحبة غير مرغوب بها بالنسبة لها.
تطايرت كل أفكاره واحتبست أنفاسه وهو يستمع لتلك الخطوات الهابطة إليه، سيكشف أمره ويورط زينهم بالمشاكل، لطالما كان مندفعا، وكثيرا ما أخبره شقيقه بأن اندفاعه سيؤذيه يوما، وتحققت نبؤته كثيرا ولكن تلك المرة سيؤذي شخصا برئ كل ذنبه أنه ساعد شخصا مثله.
شحب وجهه وتخشب جسده ملتصقا بالحائط وهو يلمح ذلك الظل الهابط وقد سبق صاحبه، ليرتخي جسده دفعة واحدة ويتنفس الصعداء وهو يرى وجه زينهم من خلف ظله.
لم يطل ارتياحه كثيرا وهو يلمح وجه زينهم المقضب الحاجبين ونظرات الغضب واللوم بعينيه، ازدرد ريقه وهو يقتاد لإشارته لاتباعه بالصعود بصمت، وبمجرد دلوفهما لحجرة زينهم أندفعا مبررا ومدافعا عن نفسه: أنا عارف أني غلطان، بس متفهمش غلط، والله الموضوع ملوش دعوة بالحريم والكلام اللي في دماغك خالص.
لم يجيبه زنيهم سوى بنظرات الخيبة وكلمة وحيدة مقتضبة: فهمني.
وجد نفسه يندفع يقص عليه كل ما مر به قبل لقاءهم وبعده وحتى هذه اللحظة، ليختم كلامه موضحا: يعني أنا مكنتش بتجسس للتجسس، مكنتش بتجسس أصلا، أنا كنت بفك عن نفسي وباتعلم عشان لما أرجع لحياتي أعر-ف أصلح اللي عملته.
لم يجيبه زينهم مباشرة وكان تخبطه واضحا ما بين تعاطفه معه على ما مر به، وغضبه منه لما بدر عنه، ليكبح جماح غضبه أخيرا وهو يزفر منفسا عن غضبه محاولا جعل حديثه هادئ رغم قوته: عارف سيدنا عمر.
غمغم ببلاهة لا يدري عما يتحدث: سيدنا عمر مين؟!
أجابه ببساطة: سيدنا عمر ابن الخطاب.
أمأ ايجابا بحيرة وهو لا يعلم ما علاقة ذلك بما هما فيه: أيوه طبعا أعرفه.
أتكأ على فراشه مكملا وقد هدأ صوته تماما: سيدنا عمر كان بيتسحب بالمدينة بالليل؛ عشان يطمن على رعيته، فسمع صوت غنى وعربدة رجل في بيته فنط السور، ولاقاه فعلا بيسكر وبيسمع جارية بتغني، فزعق وقاله يا عدو الله، أنت فاكر أن ربنا يسترك وأنت بتعصيه، فالراجل قاله بهدوء لو أنا عصيت ربنا مرة فأنت يا أمير المؤمنين عصيته تلات مرات.
اعتدل توقيرا لآيات الله: لأن ربنا قال {وَلا تَجَسَّسُوا}، وأنت اتجسست، وربنا قال {وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، وأنت نطيت السور، ودخلت علي من غير إذني، وربنا قال {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.
عاد لأستلقاء على سريره: فسيدنا عمر قاله، تسامحني إذا أنا سامحتك، والراجل وافق فسيدنا عمر عفا عنه، وخرج وسابه بحاله منه لربه.
أنهى كلماته وهو يغلق عينيه مغمغا: شوف أنت بقى أن كان سببك أنك تتجسس على الناس أقوى من سبب سيدنا عمر في تفقد رعيته وإقامة حدود ربنا، وهاتعرف أذا كنت اتجسست ولا لا، واللي عملته حلال ولا حرام.
ثوان معدودة وأرتفع غطيطه، لكن لأول مرة لم ينتبه ياسر لذلك فالأفكار برأسه كانت أكثر صخبا وإزعاجا من صوت الغطيط، لقد وضعه زينهم أمام نفسه لأول مرة ليس بشأن تجسسه فقط، بل بشأن حياته كلها، فهو لم يضع أفعاله بميزان الحلال والحرام من قبل، بل كان يزنها بميزان العيب ونظرة المجتمع.
تلاحقت مواقفه وآراءه أمام عينيه سريعا، ليعلم بأن ليلته لن تكون سهلة أبدا، خاصة وقد طفت على سطح ذكرياته كلمات حبيبته التي يظن بأن ذنبه بها كان بداية، لانهيار حياته {رغم أن وجودك معها أو حتى مع سلوى بنفس الشقة حرام، بس أنتوا كنتم صغيرين ومش فاهمين، لكن دلوقتي أنت كبير وفاهم ومسئول قدام ربنا عن كل تصرفاتك وكل التجاوزات اللي بينكم، بحجة العشرة والتربية، ومتقوليش زي أختي، الدين مفيهوش زي يا ياسر}