رواية جديدة اليمامة والطاووس (روقة) لمنى الفولي - الفصل 12 - 1 - الأحد 19/5/2024
قراءة رواية اليمامة والطاووس (روقة) كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية اليمامة والطاووس (روقة)
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة منى الفولي
الفصل الحادي عشر
1
تم النشر يوم الأحد
19/5/2024
لم يتخيل أن تخيب توقعاته لهذا الحد، تحرك دون إرادة يبحث عن الباقيات ليعرف لأي مدى صابت باقي توقعاته أو خابت، تحرك بهمة حتى وقع نظره على تلك السيدة متوسطة الجمال ذات التعبير المريح وهي تشتري بعض الخضروات من سيدة مسنة تبادلها الابتسامة بود وكأنهما صديقتين حممتين، اقترب محاولا أن يلتقط أيا من كلامهما ليصله صوتها واضحا: حلو من وشك يا أم ابراهيم، ربنا يحسن سوقهم وييسر لك أمرك.
كتم صرخة كادت تفلت من فمه، فالسيدة متوسطة الجمال هي روقة حلم كل الرجال كما تدعوها شوقية.
روقة التي يحمد زوجها الله على رزقه بها ويعتبرها جل رزقه، هي مجرد أمرأة عادية المظهر تلقى الألاف من على شاكلتها يوميا، وقف مبهوتا لا يعي معنى كل هذا، لتأتيه الضربة القاضية على شكل نداء حمل صوت فاطمة وهي تنادي رانيا: يا أم معتز.
لم تكن دهشته بسبب صوتها الهادئ الخافت المتزن على عكس عادتها، لكن الأغرب أنه صدر عن تلك السيدة المحتشمة الخجول، لتتصاعد دهشته وهو يسمعها تستطرد وهي تشير لمرافقتها تلك السيدة الجميلة بلا زينة ذات الابتسامة الراضية: أم مهاب كانت عايزكي تنقي لها بطيخة حمرا عشان منتخمش.
فتر حماسه للجولة فجأة فاكتفى بما اشترى من فاكهة، انطلق بطريق العودة شاردا، يفكر بطريقته بالتفكير وتقييم البشر الذي خداعاه قديما عندما ظن بنجوى وسلوى الرفعة لحسن مظهرهما وحنانهما الظاهري، والنقص والغيرة بحبيبته وأهلها لرقة الحال وبساطة المظهر، وهاهو يخدعه تفكيره ثانية، وفشل تخمينه القائم على المظاهر فشلا ذريعا، كم كان غبيا ضيق الآفق، يحكم بالمظاهر الكاذبة ويتجاهل الجوهر، فالجميلة ذات الزينة المتقنة هي شوقية تلك الكريهة التي يبغضها زوجها ويتمنى الاقتران بغيرها، ماهي سوى طاووس مغرور، جميل المظهر بلا فائدة حقيقية، بينما متوسطة الجمال هي رانيا ذات الجمال الداخلي الخلاب الذي ملك عقل زوجها وقلبه، الأشبه بيمامة رقيقة عششت بمنزل زوجها فأسعدت قلبه وملكته، أما تلك المحتشمة فهي فاطمة تلك اللعوب داخل بيتها الملتزمة خارجه، أما تلك العابسة فهي هناء مجرد طفلة زادها الضيق والحرمان عمرا فوق عمرها، وأخيرا فصاحبة الوجه المبتسم هي وفاء شقيقة يوسف زوج فاطمة ورغم معاناتها وظروفها الصعبة إلا أن الرضا ووجود السند الحقيقي المراعي أضافا على روحها هدوءا وعلى وجهها نضارة.
❈-❈-❈
ارتفعت الطرقات على باب غرفة ياسين بالمستشفى ليأذن للطارق بالدخول، لتتسع عينيه بصدمة مغمغما: دعاء!
ارتفع صوت والدها المصاحب لها: ألف سلامة يا دكتور، بعد الشر عن حضرتك.
رحب بهما يدعوهما للجلوس، جلس والدها قريبا بينما انكمشت هي على أبعد كرسي من فراشه، متجنبة النظر نحوه فبرغم إصرارها على المجيئ للإطمئنان على ما حدث لياسر، وتأكيدها على التماسك والهدوء، ولكن مجرد رؤيته بعد ماكان منه، عاودت اشتعال نيران غضبها ولكن حالته الصحية والظروف والغرض الذي أتوا من أجله شكلت كلها أسباب اجبرتها أن تغمغم: سلامة حضرتك يا دكتور.
أجابها خجلا لا يقوى على مواجهتها: الله يسلمك يا دعاء، أزيك وأزاي عبد الرحمن.
تمتمت باقتضاب: الحمد لله أنا وهو كويسين.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه، وهو يهتف فرحا: يعني فعلا عرفتي أنه عبد الرحمن.
ساءتها فرحته التي لا حق له بها بعدما ساند من حاولوا قتل جنينها، فتجاهلت إجابة سؤاله، وهي تشيح بوجهها جانبا، ليتنحنح والدها وهو يمسك زمام الحديث مردفا بجدية: احنا حاولنا نتصل على حضرتك وياسر أكتر من مرة بس تليفوناتكم مقفولة، والحمد لله دعاء كانت عارفة نمرة عمر وكلمناه وهو اللي بلغنا بتعب حضرتك، وأن ياسر حاليا مش موجود.
بدا القلق على ملامحه من اهتمامه بالبحث عنهما بهذا الشكل: خير يا حاج.
قص عليه ما قد كان من زيارة ذلك المحامي وما يدبر لياسر
استمع له لايصدق مدى ما وصلت له سلوى من حقارة وكيف غفل عن مكنونها هذا طوال السنوات الماضية، أم أن مرآة الحب عمياء كما يقولون.
ارتفع صوت دعاء الملهوف: فين ياسر، ومين دول وعايزين أيه من ياسر.
زفر بحزن محاولا إجابتها دون أن يكشف عن ما يحدث: دول جماعة ياسر له مشاكل معهم اليومين دول والمفروض أننا كنا نتقابل ونتفاوض من يومين، لكن كانوا بيماطلوا، وواضح أن مماطلتهم كانت عشان يحاولوا معكي، كمحاولة أخيرة ورفضك، يبرر ليه اتصلوا امبارح وحددوا ميعاد النهاردة بليل عشان ننهي الموضوع ودي، عامة اطمني النهاردة كل حاجة تنتهي على خير بإذن الله.
ردت بمكابرة: أنا مش قلقانة أنا جيت بس عشان أبلغ حضرتك.
ابتسم بهدوء، مقارنة حرصها على شقيه بموقف زوجته هو: ماشي يا دعاء، وعامة شكرا على موقفك.
اندفعت مهاجمة فاقدة قدرتها على التماسك: لا شكر على واجب، أنا مش ممكن أشهد زور.
امتقع وجهه وعاوده الألم وهو يستمع لهجومها المتواري، بينما نظر لها والدها لائما، وهو يستأذن بالانصراف منهيا هذا الموقف السخيف، ليستوقفهما ياسين قبل خروجهما واهنا: استني يا دعاء من فضلك.
التفتت له متسائلة بصمت، فاستطرد يكمل بخزي: أنت عندك حق، مش هاكدب وأقول أني مشهدتش زور، ومش عذر أبدا ثقتي في سلوى ونجوى، مكنش ينفع أشهد غير بالحقيقة مهما كانت الأعذار.
فتحت فاهها توشك على مواجهته، ولكن منعتها قبضة والدها المتشتدة على رسغها، لتطبق فاهها بغضب، بينما استطرد ياسين مترجيا: أنا كنت مستني أخرج من هنا وأجيلك، أنا اتصلت بشيخ وحكيت له اللي عاملته، وهو قالي أن التكفير الوحيد لشهادة الزور، أني استرضي اللي شهدت عليه.
استقام واقفا ناظرا لها بتوسل: من فضلك سامحيني، وأنا مستعد لأي ترضية، [همس بخزي] ربنا جابلك حقك وبزيادة، ولو شهادتي الزور ضيعت حقك فهي ضيعت حياتي كلها.
رمقه والدها بإشفاق، ناظرا لها مشجعا على مسامحته، ولكن مشاعر غضبها كانت أكبر من تعاطفها مع حالته، الأمر كله أكبر من قدرتها على التسامح، فأن سامحته بما مضى فكيف تسامحه على مستقبل طفلها الذي حكم عليه أن يولد بين والدين منفصلين، زفرت بحرقة قبل أن تلتفت متجهة خارجا يتبعها والدها باستسلام، تاركين ياسين يحترق وحده بجحيم ذنبه.
❈-❈-❈
اعتدل جالسا على الفراش مبتسما متفاجأ بعودة زينهم المبكرة، لتختفي ابتسامته بعدما لاحظ تجهم وجه زينهم والغضب الساكن بعينيه، وهو يغلق الباب عليهما وهو يسأله بريبة: مشيت من السوق بدري ليه ورجعت عملت أيه.
أجابه على سؤاله بتساؤل حائر: مالك يا زينهم، في حاجة مضايقك.
فجأته صراحة زينهم وهو يواجهه دون مواربة: مضايق منك ومن نفسي.
زادت حيرته بتلك الإجابة الغامضة ليهتف: ليه؟
احتقن وجه زينهم غضبا وهو يصيح بقهر: لتاني مرة أضيع الأمانة ومكونش قدها، وأنت واقف تبحلق بالحريم من غير حيا ولا خشى ولا عامل حساب لوجودي معهم، ورجعت جري أول ملاقيتهم ناقصين واحدة، ماهو أنا اللي غبي، أدلقت زي الجردل وعرفتك أنا معايا كام واحدة، بس وربنا في سماه لو كنت اتعرضت للست فاتن، لأكون جايب أجلك وماهيهمني حد ولو علي باشا بنفسه.
صعق ياسر لسوء ظنه به، يتمتم مندهشا: أنت بتقول أيه؟.
صاح بثورته التي لم تهدأ بعد: باقول أن تصرفاتك غريبة، الأول هتموت وتنزل، وبعدين تقعد تبحلق فيهم، وشوفتك وأنت ماشي ورا الست أم معتز، وفجأة ترجع البيت من غير سبب.
فغر فاهه مصدوما بعدما اكتشف سر عودته المبكرة: أنت سيبت الحريم في السوق ورجعت متخيل أني ممكن اتهجم على واحدة ست، أنت أزاي تفكر كده.
صاح زينهم بغضب: كله من عمايلك.
حاول التماس العذر له فهو لا يعرفه بأية حال: أنا طبعا غلطان أني بصيت عليهم لدرجة أني ضايقتك بس أنا ساعات باسمع صوتهم، وفكرة أني أشوفهم لأول مرة وأنا عارفهم كانت غريبة، وأنا ممشيتش ورا مدام رانيا أنا بس...
زجره محتدا: أسمها الست أم معتز، وأنا اللي غلطان أني اتباسطت وقلت أسمهم، بس كنت عارف أنك هتسمعهم بينادوا بعض.
استسلم ياسر محاولا امتصاص غضبه: أنا ممشيتش ورا الست أم معتز، أنا بس سمعت صوتها فعرفتها منه وبصيت ناحية الصوت طبيعي، ورجعت عشان زهقت وكنت مخنوق من حاجة افتكرتها.رمقه مستكشفا بحيرة وخصوصا وقد عاد ليجده مسترخيا على هذا النحو الذي يؤكد صدقه.
ليقطع عليه حيرته آمرا بحزم: أرجع للحريم يا زينهم ومتخافش، اللي يقرب من واحدة منهم أنا اللي هاجيب أجله بنفسي.
رمقه زينهم للحظات قبل أن يحسم أمره ويفتح الباب خارجا بطريقه للسوق.
❈-❈-❈
زفر ياسين بإجهاد: اتصرف أنت يا متر، وأي خطوة تشوفها أنا موافق عليها.
حياه ذلك الرجل الوقور منصرفا، تاركا له وحيدا بأيدي الذكريات تلهو به كما يحلو لها، ترفعه تارة لعنان السماء وهو يتذكر عشقه لها وحياته الهانئة معها، لترديه بعدها أرضا وهو يتذكر كل لحظة استغلته واستغلت حبه لها، ولعجبه وجد نفسه مهيئ لابتعاد لم يجرؤ على التفكير به يوما، لكنها دون أن تدري كانت تعده ليوما كهذا، هيأته له بتلك المشاعر السلبية المتراكمة داخله، من شعور بالذنب وخوف غذته بتهديداتها المتوالية.
حيث استغلت حزنه لحرمانها من أمومتها، وحرصه على الاحتفاظ بها من اجل السيطرة عليه، فصار معتاد على الإشارة لعلته كلما خالفها برأي أو منعها شيئا تريده ، كما أن تهديدها تصريحا أو تلويحا بتركه أضاعت مشاعر الاستقرار والأمان بداخله، ليحل مكانها مشاعر مؤلمة قائمة على الخوف من فقدانها.
ولعجبه لا يجد الأن أن هذا الفراق مرعبا لهذا الحد، صحيح أنه مؤلم ثقيل على القلب، ولكنه كذلك سيريحه من علاقة مؤلمة كان الطرف الخاضع فيها، تحت سيف اللوم وتأنيب الضمير.
وكأن فعلتها الأخيرة وضعته أمام حقيقة علاقتهما، وألقت الضوء على ذلك الظل المتضخم للفراق فإذا هو قزم لا قيمة له أمام أن تحيا بعلاقة غير سوية لا تشبع احتياجك للحب والأمان والسكينة،
لأن مشاعر الذنب تغتال أي مشاعر جميلة لديك.