-->

قصة قصيرة جديدة زهرة الخريف لفاطمة الألفي - الإثنين 15/7/2024


قراءة قصة زهرة الخريف كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


قصة زهرة الخريف

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي

2

تم النشر يوم الإثنين

15/7/2024



داخل شقة "زهرة"

جلس زياد خلف مكتب المذاكرة خاصته وهو يتطلع لجهاز الكومبيوتر، منشغل بلعبة اما عن "زين" فقد كان جالسًا على فراشه يحمل هاتفًا محمولا ويتابع برنامج "التيك توك" ويسجل بعض المقاطع من خلال عدسة هاتفه على أحدى الاغنيات الشعبية التي حققت أعلى نسبة مشاهدة واصبحت _تيرند_

 

ولجت "زهرة" داخل المنزل، ثم جالت بانظارها بحثًا عن صغارها، وجدت الإضاءة منبعثه من داخل غرفتهم، علمت بأنهم لا زالوا مستيقظين، نزعت حجابها وهي تسير بخطوات متئدة ثم طرقت الباب برفق وفتحته وهي تطل من على اعتابه لتجدهم غير منتبهين لوجودها وكل منهما منشغلا بما يفعله، زفرت أنفاسها بضيق وهتفت بحنق قائلا :

- ماذا تفعلون في هذا الوقت المتأخر؟ منشغلون بالهواتف والكمبيوتر ولم تشعرون بوجودي، بدلا عن انشغالكم والتطلع الزائد عن حده في الألعاب الإلكترونية؛ كان من الأفضل أن تذاكرون دروسكم وتخلدون للنوم من أجل الاستيقاظ مبكرًا.

أغلق زياد الحاسوب ونهض عن مقعدة ثم اقترب بخطواته من والدته، قبل رأسها وقال هامسًا:

- تصبحين على خير يا أمي.

أما زين فوضع الهاتف أسفل الوسادة ليخفية عن والدته وتصنع انه سيذهب للنوم أيضًا:

- تصبحين على خير أمي.

دثر زياد نفسه داخل الفراش واغمض عينيه، ولجت والدتهم داخل الغرفة وأشارت للصغير بأن يترك الفراش ويتبعها إلى غرفتها فهي تريد التحدث معه، حاول الهرب من حصارها، يعلم بأنها سوف توبخه على ما فعله بالمدرسة ولكن أصرت على الحديث معه الان.

لحق بها في هدوء، جلست زهرة على طرف الفراش وطلبت منه الجلوس جانبها، ربتت على كتفه في رفق وحنو وخرج صوتها متساءلا :

- كيف حالك يا صغيري؟

نظر لها بدهشة، بادلته ببسمة حانية وقالت:

- لما تندهش هكذا؟ أنا والدتك وأريد الاطمئنان عليك؛ هيا أخبرني بكل ما في داخلك، لن تجد أحدًا على وجه الأرض يُحبك مثلي ولا يهتم لراحتك غيري، هيا احكي لي دون خوف أو خجل، ألسنا أصدقاء.؟

تبسم لها وهو يؤمي برأسه في إيجاب وقال بمراوغة:

- عديني بالا تنفعلي عليَّ.

-أعدك بذلك.

عبس وجهه وقال بصوت خافت مخنوق:

- أشتاق إلى وجود أبي بيننا.

كادت عينيها أن تزرف الدموع ولكن جاهدت في كبت دموعها وتركته يسترسل كل ما يجتاح نفسه ويشعر به.

-اذا عاد لن اضايقه، سألبي له كل ما يطلبه، سأكون طفل مطيع لن أشاكسه، فقط أُريده جانبي.

 

زرفت مقلتيه الصغيرتين الدموع، رفعت كفها تحتضن وجنته وتجفف له دموعه المنهمرة ثم جذبته لاحضانها وانهمرت دموعها هي الأخرى تبكي حالهم وشتاتهم الضائع.

 

يشعر الصغير بالحرمان، فقد والده ترك أثرًا على نفسه، يحمل نفسه ذنب غيابه، يظن بأنه المُتسبب بفراق والده عنه، يا ليته يعلم بأن لا ذنب له ولا ذنب لوالداته بما فعله والده، فهو من أختار البُعد والتخلي، أنجرف خلف التيار  وراء غرائزه، وترك زوجته تُعاني وحدها تحمل مسئولية صغاره، تكون لهما الاب والام معًا، لا يعلم الصغير بأن أنفصال والده عنهما نابع من داخله وأنما بذلك الانفصال تجرد منهما الآخرين، كانه تحرر من أبوته كما تحرر من زواجه وقطع الرباط المقدس الذي بينه وبين زوجته للأبد.

 

حاولت زهرة لم شتات طفلها، ضمته وأخبرته بصوت حاني بأن والدهم هو الذي رحل عنهما بإرادته ولا دخل لهما بذلك القرار، وعليهم أن يتجاوزا تلك الفترة وهي ما زالت جانبه لن تتركه أبدا، ستظل هي الترياق من كل داء، أكسير الحياة الأبدية لهم، وهم سعادتها المُطلقة

 

ترك الغرفة بثورة هائجة غاضبة، كان يتمنى بأن يعود والده وتعود الضحكة ثانيًا لعائلتهم المتلاحمة، المترابطة ، فقد تبعرث كل شيء ولم يعد كسابقه ،حدث الفراق وكبرت الفجوة وتحول منزلهم الدافىء لبرد قارص شديد البرودة كبرودة القطبين الشمالي والجنوبي.

 وهي لا حول لها ولا قوة من أمرها، وضعت كفيها تمسح على وجهها في غضب جامح داخلها، ولكي تخرج شحنة الغضب التي اجتاحت جسدها القت بهاتفها المحمول بالمرآة التي  تهشم زجاجها واحدث ضجة ثائرة وتبعثر بارضية الغرفة ولكن ليس بيدها فعل شيء، تعلم بأن الأحمال أصبحت ثقيلة على عاتقها ولكنها ستظل قوية، واقفة مثل اللبؤة الشامخة التي تصارع من أجل أطفالها داخل الغابة، تتمتع بالسرعة والذكاء والقوة المتمثلة في قدرتها على الاعتماد على نفسها في صيد فرائس تفوق حجمها في بعض الأحيان لتأمين غذائها وغذاء أشبالها ؛ وهذه الدنيا مثل الغابة إذا تغافلت عن صغارها التهمتهم الضبعة و الذئاب وستصبح هي لقمة سائغة في افواههم سهلة المضغ و البلع؛ لكنها أقسمت بأنها لقمة سامة لن تُمضغ وتُهضم بكل لين ويُسر؛ أنما سوف تكوي الافواه وتقطع الألسنة بسكين حاد، أذا تجرأ أحدًا على إهانتها وإهانة صغارها..

❈-❈-❈

وميض من ذكريات الماضٍ تُلاحق عقلها الشارد بعد حديثها مع طفلها الذي باح بنصف ما يشعر به، رغم صغر عمره يشعر بفقدان والده وحرمانه منه بين ليلة وضحاها فقد وجود والده والاحساس بالأمان، صغيرها يشعر بالضياع الان وهي تقف عاجزة مكبلة الايدي لا تعلم بماذا عليها أن تفعل.

 

لمحات مرت كشريط سينمائي تتجرع مرارته وأطفالها هم اللذين يدفعون الثمن بسب رجُلا مُتبلد المشاعر تركهم ورحل عنهما بلا وداع ..

 

انقشع ظلام الليل، وتساقطت الأقنعة لنرى الحقيقة التي طُمست هويتها تحت مُسمى الحُب.

الحُب الذي تحملت من أجله الكثير ومرت بصعاب لكي تدفن خيانته .

الحُب ليس أعمى كما يظنون البعض ولكن قلب المُحب يُبصر ويرى الحبيب مُجردًا من العيوب، يتغافل عن ثغراته، يزداد هوسًا وتعلقًا به؛ إلى أن تأتي لحظة كشف القناع لِتُبصر بعين الحقيقة ما نجح في أخفائه، لانه ظن خداعهُ سيدوم، ولا زال يفعل ما يحلو له، يُحلق مثل الطير من غصن لآخر تحت وطاء الحُب؛ ولكن أتَ نور الصباح مُعلنًا عن بداية جديدة لهذه السيدة التي أنخدعت بوجه أخر وطمس هويتها، الآن رأت الوجه الحقيقي دون قناع..

 

سقط القناع عن وجهه لترى الوجه الآخر الذي إنهال عليها بقسوة كلماته، شرد روحها وكيانها كأنثى رقيقة ناعمة تُحلق في سماء الحرية، ينهرها بلاذع كلماته، يخرق جسدها ويصيبها بسهام غادرة في أنوثتها الحائرة، التائهة، يصيب قلبها في مقتل لأنه سأم منها وضجر العيش معها بعدما نظر لغيرها، وسال لعابه على فتاة صغيرة ودعسها لتتساقط أوراقها وتتطاير مع رياح الخريف العاصفة

 

تذكرت ما عانته وهي تتحمل فقط من أجل الحُب، فقد كانت تعشق سكناته قبل حركاته، تُحب صمته وتكتفي بالتطلع له بعين مُحب لا يرى ولا يسمع ولا يشعر إلا بحبيبه، عشقه الذي يقودها، بتر كل لحظاتهم الجميلة من أجل نزوة جديدة، ألقاها كخرقة بالية ليبحث عن أخرى متوهجة مُتفتحة، أمتص عبيرها ونثر أوراقها الذابلة لم يهتم بها ليبحث عن زهرة غيرها ينهل رحيقها ويفعل بها كما يفعل، تجاوزت كثيرًا عن أخطاءه ونزواته ودائما ما كانت تغفر له من أجل ابناءها فقد أطفىء روحها كأنثى عاشقة انتهى منها وجعلها تسير في متاهة الحياة وحدها دون أن يتطلع لها.

كالعصفور الذي سلب منها أريج عطرها وشوه أوراقها لتسقط وريقاتها ويكون مصيرها الدعس تحت الأقدام، لكنها جاهدت لاسترداد روحها النقية وعطرها الفواح، الجذاب ،التي لا زالت تتمتع به رغم كل ما قاسته.

 

اتذكر جيدًا صدمتي عندما علمت بخيانته شعرت كأنني سقطت من فوق جبل شاهق، وتفتت جسدي إلى أشلاء، لم أعد أشعر بحواسي، هل ما زالت على قيد الحياة ام فارقت روحي الحياة ولم يبقى لي إلا جسدًا بلا روح، حِطام، تجمد قلبي في محجره بعد تلك الطعنة التي التقفتها بقلب مكلوم وعقل مُغيب.

كيف غفرت له نزوته؟ كُنت هشة، ضعيفة، مُشتته الذهن، مُغيبة العقل، احني رأسي من أجل مرور العاصفة العاتية لكي لا تطول ابنائي، خشيت عليهم  ممن كسر روحي، وجرح كرامتي، تنازلت عن أخر ما بقيا لي من وجع من أجلهم وحدهم، تلحفت بالصمود والثبات لاظل كما اعتادوا علي قوية وصلبة تقف تُحارب الخذلان، لملمت شتاتي المبعثر لاكمل طريقي الذي سأسيره وحدي، لن ينفعني البكاء على الاطلال ولا الندب على حظي العاثر مع أشباه الرجال هذا، الذي هرب مثل الفأر المذعور وتخلى عن مسئولية أبنائه وتركهم في لحظة هوجاء لا يُفكر إلا بنفسه فقط؛ دون حماية من البراكين والعواصف التي تكاد تفتك بارواحهم المُفتته المُبعثرة،المُشردة، المُعذبة دونه، تركهم وهم في أمس الاحتياج لاب حاني، يشدوا بهما عضدهم.

❈-❈-❈

في اليوم التالي..

يوم الجمعة عطلة نهاية الأسبوع من المدرسة ومن عملها أيضًا، قررت أن تشارك الصغار وتطالبهم بمهام خاصة لكي تجعلهم قربين منها، وهذا سوف يُتيح لها فرصة التحدث معهما بكل شيء، تعلم بأن شخصية "زين" المشاغب يحب أن يكون هو القائد وتشعره بأنه رجل قوي لكي يفعل لك ما تريده بحيلة ذكية منك تستطيع أن تجذب الصبي، وسوف تتعامل مع كل منهما حسب شخصيته، أما زياد فهو منطوي على نفسه مُرهف الحس والمشاعر يخشى التعلق بالأشخاص ثم يهجرونه كما هجرهم والده، لا زال عقبة بُعد والده لم يتجاوزها بعد ويخاف التقرب والانجذاب لأشخاص أخرى، رحل وتركنا نعاني أثر هذا الهجران اللعين، لقد ترك خلفه جراح وعُقد داخل الأطفال سوف تحاول معالجتها فلن تيأس من ذلك..

 

ايقظتهم لكي تخبر كل واحد منهما بمهامه التي يجب عليه فعلها لمساعدتها في أعباء المنزل.

تأفف الصغير "زين" وهتف غاضبا:

- اليوم أجازة يا أمي، لما نستيقظ مبكرًا؟

اجابته بقبلة الصباح على خصلات شعره الأسود الداكن :

-من أجل مساعدتي في ترتيب المنزل وتحضير الطعام و

قاطعها بدهشة وفتح فاه قائلا:

- ولكن هذا من أختصاص الفتيات والسيدات ليس من أختصاص الرجال.

- ووالدة الرجال تحتاج لمساعدتهم لأنها كما قولت سيدة وضعيفة بحاجة ليد قوية مثل رجالي الصغار لكي ننتهي من أعباء المنزل معًا؛ أشعر بتعب ولن أستطيع فعل كل هذا وحدي، بطلي الحبيب "زين" القوي إلا مقدر له مساعدة والدته.

أجتاحته حالة من الغرور بأنها ضعيفة تحتاج لقوته ولذلك لمعت عيناه بفرحة وقال بصوت رخيم رغم ضعف نبرة صوته كطفل ولكن أخرجه بثقة قائلا:

- حسنًا أمي، دعكِ من كل شيء أنتِ اليوم أجازة، تجلسين وتشاهدي رجالك الأقوياء كيف يفعلون وكل هذا تحت أشرافك.

نظرت لزياد الذي اقترب منها يقبل وجنتها ويُأكد على حديث شقيقه فهو الهادئ الحنون،المُطيع الذي يتملكه الحزن إذا شعر بأن والدته تتألم مرضًا أو حزنًا، فهو شاهدًا على بكاءها المرير الذي تبكيه خلسة داخل غرفتها وتظن بأنها لم يرأها أحد ولكنه يرأها ويشعر بها كل يوم وينتابه العجز فهو ليس لديه شيء يفعله لكي يبدل حزنها هذا لفرح، يبغض على والده وتتزايد الضغينة داخل قلبه الصغير فهو سبب كل هذا العناء، تركهم دون التطلع لهم ووداعهم مرة أخيرة، تركها ورحل في جُبن وخفاء، هكذا الرجال أذا تتهرب من مسئوليتها، هو يرى أن والدته هي الرجل القوي الذي يتحمل مسؤولية أطفالها وتعمل مثل الرجال وتكافح من أجلهم أذا الرجولة لا تقتصر على الرجال فقط.

طالعت "زهرة" عينيه البنيتان الحائرتين وكأنها علمت ما يدور بهما، ضمته لصدرها في حنان وقالت:

- زياد حبيبي لماذا تنطوي على نفسك ولا تقترب من رفقاءك بالمدرسة؟

قالها دون تردد كعادته:

-اخاف التعلق بهم ويهجرونني كما فعل والدي يا أمي، هجرنا وحطمنا جميعًا.

قبل أن تزرف عيناه الدموع قال بلطف:

-هيا اخبريني ماذا عليَّ أن أفعل؟

تنهدت بحزن فهي تعلم بمشاعره الدفينة ولكنها تريد أن يبوح بكل ما يحمله داخله لكي يتحرر من قيود الحزن ولكنه يكتفي بكلمات قليلة مقتضبة:

- أنت سوف تذهب وتبتاع لي هذه الأغراض.

التقط الورقة التي دونتها واعطته مبلغًا من المال، وذهب هو مُسرعًا لجلب الأغراض، أما "زين" كان يرتب غرفته وبعد الانتهاء منها، وقف بمنتصف الصالة قائلا:

- ماذا أفعل أيضًا يا أمي؟

تبسمت له وقالت:

- تحمل السجاد وتضعه على سور الشرفة وتمسك المنفضة وتنهال عليه بالضرب لكي تتطاير الاتربة العالقة به أثر حذاءك اللعين فأنت تدلف به داخل المنزل دون أكتراث لمعاناة والدتك في التنظيف والمسح، هيا جاء دورك، أرني كيف تفعلها

-بالطبع سافعلها .

قالها  الصغير بكل ثقة، وهي تبسمت في سعادة وخطت بقدميها اتجاه المطبخ .

 

دقت الساعة الحادية عشر، وعاد زياد يحمل الأغراض ودلف بها لداخل المطبخ، بينما انتهى "زين" من ترتيب الشقة، وقفت زهرة تعد طعام الغداء واخبرتهم بالاستحمام والذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، ريثما هي تعد الطعام وتنتظرهم..

 

بعد تناول الغداء في جو من الألفة والسعادة التي حصلت عليها زهرة بقرب ابناءها، قررت أن تجلس معهم تشاركهم اللعب.

نظرت إلى" زين" وجذبت منه الهاتف قائلة:

- يكفي هذا العبث الذي تفعله على هذا التطبيق، دعنا نتشارك سويا اللعب، ما رأيك في تعليم الشطرنج، انها لعبة العظماء و الأذكياء.

تحمس زياد لفكرة والدته أما عن زين رفض وطلب منها أن تشاركه وتلعب معه "البلايستيشن"

وبالفعل جلست بمنتصفهم على الأريكة تتابعهم وهم يلعبون كي تتعلم ماذا يفعلون ثم تلعب بدورها معهم، وكلما فاز زين بمباراة على شقيقه يقبل والدته ويهتف في فرح وسعادة، فعل زياد هذا أيضا وكانت سعيدة للغاية إلا أن طرق باب الشقة ليعلن عن قدوم زائر، تركتهم لتفتح الباب وهي تضع الحجاب على رأسها وتتقدم بخطواتها إتجاه الباب، فتحته ليطل من خلفه مالك العقار السيد "شاكر"

"رجُل في العقد الخامس من عمره، قصير القامة ، بجسد بدين ،يتدلى بطنه المنتفخة على بنطاله الضيق القماشي، ذى وجه كبير مستدير، بشرة بيضاء،وعيون ثاقبة كالصقر الذي يصطاد فريسته بحدقتيه البنيتين الداكنتين، افطس الانف ، بشفتين غليظيتين وذقن حليقة، ورأس أصلع"

طالعته زهرة بدهشة ودعته للولوج داخل الشقة، قابلها ببسمته السمجة ونظراته الجائعة على مُنحنيات جسدها، فقد كانت ترتدي عباءة منزلية بسيطة لكنها اظهرت مفاتنها،وتواري خصلاتها السوداء خلف الوشاح الزهري.

- تفضل سيد "شاكر".

القى شاكر أنظاره على الشقة ووجد الصبيان منشغلين باللعب، دنا منها قائلا بصوت هامس:

- أريد التحدث معكِ بأمر هام.

- حسنًا تفضل أنا أسمعك جيدًا.

جلس على مقربة منها بالمقعد خلف طاولة السفرة الصغيرة ذى أربعة مقاعد وقال :

- سوف اتحدث في الموضوع مباشرة؛ كل ما في الأمر لا يُعجبني ركضك وراء العمل، أنتِ سيدة خُلقت للراحة لا للشقاء.

قاطعته بعدم فهم:

- ماذا تريد  سيد "شاكر"؟

بتر كلماته وهو يطالعها بنظراته الجريئة:

- أريد الزواج منكِ، وسوف أجعلكِ ملكة متوجة في منزلك وسأكتب لكِ هذه الشقة باسمك واولادك من اليوم هم أولادي.

قاطعته غاضبة :

- أعتذر منك أرفض عرض الزواج، لقد كرست حياتي لابنائي، وأنت رجُل متزوج من أخرى ولديك ابناء ، لن أسعى بهدم منزل أخر وتحطيم قلب زوجتك، لقد ذقت القهر ولن اقبله لغيري.

قاطعها بهدوء قائلا:

- من سيخبرها بزواجي منكِ.. زواجنا سيكون سرًا لا يعلمه إلا أبناءك.

تبسمت له بزدراء وقالت:

 

-إذا كان عليَّ أن اتزوج فلن أقبل بالزواج سرًا، ستعلم الدنيا بأكملها أنِ تزوجت وهذا حقي ولكنِ لا أفكر إلا بأمر تربية أطفالي وحسب.

نهض عن مقعده بنظرات مُستاءة وقال وهو يسير مغادرًا الشقة:

-فكري في عرضي ثانيًا، وإذا رفضتي الزواج لا تلومي إلا نفسك بما سأفعله.

 

لم تكترث لتهديدة الصريح ،اغلقت الباب وراءه بضيق ثم زفرت أنفاسها ودلفت إلى أولادها، كانوا قد أستمعوا للحديث الذي دار بين والدتهم وبين مالك العقار، اقترب منها زياد بقلق قائلا:

- هل ستتزوجين وتهجريننا أنتِ أيضًا يا أمي؟

أنهمرت دموعها وهي تحتضنه وتحضن زين قائلة بدفئ:

- لن أبتعد عنكما ولن أسمح لأحد التفرقة بيننا، لا يوجد بحياتي غيركم، أنتُ أرثي من هذه الدنيا الغرورة، سأفعل المُستحيل من أجلكم، نحن لا حاجة لنا برجُل، أنتم رجالي الأقوياء وسنظل داعمين بعضنا البعض ولن نسمح بدخول الغرباء بيننا، ولكن عِدوني بأننا سنتخطى الصعاب والعقبات وحدنا، نتأقلم على غياب والدكم، لا للعنف يا "زين"  الضرب لا يجعلنا أقوياء بل يجعلنا دون قلب رحيم وانت ذو قلب جميل وعطوف، من اليوم عليك إتخاذ قرار هام بحياتك، ألا تفرض قوتك وسطوتك على الضعفاء، وأنت يا "زياد" ستتغلب على عُزلتك ولن تظل داخل قوقعتك، ستخرج منها للحياة وتكون صداقات، الصداقات هامة بنسبة لشاب مثلك يا بني ولكن أختر الصديق المُناسب لك، الذي يسحبك معه لطريق الصواب دون خوف من قيود الماضٍ، لن ندع الماضٍ يهدم حاضرنا ويقضي على مُستقبلنا، سنمضي في طريقنا رغم صعوبة الطريق ومشقته، لكننا حتما سنصل لبر الأمان معًا..

 

❈-❈-❈

قررت زهرة أن تصطحب أبناءها إلي مكتبة لانتقاء كُتب تُساعدهم على تجاوز المِحن، فقد قرأت في جريدة ما أن تنمية عقول الصغار تاتي من القراءة والتطلع على كل ما يدور حول العالم، لكي لا يصبحون منعزلين عن الإناس، وهي تُريد تثقيف صغارها ،فالكتاب خير جليس وخير ونيس، سوف تجني من الكُتب ثمار المعرفة، وهي أيضا سوف تجلب لها كُتب تربوية و نفسية لتساعدها في دعم نفسية صغارها وتحسين سلوكياتهم كما نصحها الطبيب "غيث" بذلك.

سوف تنمي داخلهم حُب القراءة وستترك لهم حرية أنتقاء الكُتب اللاتي يفضلونها لن تفرض عليهم رأي.

"القراءة جسر ينقلنا من البؤس إلى الأمل"

"والعقل لا ينمو إلى من خلال المطالعة والتفكير"

 

 

❈-❈-❈

مرت شهور وشاكر لم يكف عن ملاحقتها ،كالعنكبوت يغزل خيوطة حولها لكي يوقعها في شباكه التي رسمها بإحكام، يحاول لوي ذراعيها لكي تقبل بعرض الزواج وإلا طردها من شقتها ويعلم بأنه يلعب علي وترها الحساس وستاتي اليه خاضعة مُتقبلة الزواج منه ولكن ههيهات زهرة لم تعد كما كانت ، فقد تبدلت تماما عن ذي قبل، اصبحت لها أنياب مفترسة تفتك بكل من يحاول الاقتراب منها.

 

عاد يراودني ثانيا عن نفسي، نظراته تستحيل قداسة جسدي، يطالعني بنظرات خلسة تكاد تخترق جسدي كلما عبرت من أمامه وهو جالسًا يحتسي كوب القهوة على المقهى امام العقار، تتخبط خطواتي وأكاد اتعرقل امام أنظار جميع المارة اللذين يتهامسون ويتلامزون عليَّ بالقيل والقال، وهو يدس الشيشة بفمه يعبئ رئته ويكركر بها ثم يُنفث دخانها لتتحول لكومة من الدخان تتمركز عند وجهه ويلفحها بأنفاسه الكريهة، يتلصص بعيونه الحادة و نظراته الوقحة الجائعة تتفرسني بشهوة حيوان مُفترس يريد الانقضاض عليَّ، يشعرني بأني عارية مجردة من الملابس ولا شيء يستر جسدي، بعد أن رفضت عرض الزواج منه وهو يخطط للخلاص مني ويريد أن يخرجني من شقتي ولكن لن ينجح مخططه لأنِ لا زال العقد الذي بيننا به عام أخر ولن يستطيع طردنا إلا بعد إنتهاء مدة العقد ، وإلى أن يحين الوقت سأكون بحثت عن مسكن أخر ولن أظل تحت رحمته، لم أعد خائفة منه أو من غيره، تبدلت السيدة الساذجة الضعيفة  التي خانها زوجها وطلقها هربًا، لم أعد كما كنت عليه قبل عام، رحل عني شبح زوجي السابق ورحلت معه كل ذكرياتي الأليمة والمريرة، وزجت بها عرض البحر لكي تغرق كل لحظاتي المؤلمة أو يلتهمها أسماك القرش،لكي لا تطفو ثانيا على روحي ، سأمضي في الطريق دون التطلع لنظرة عابرة للخلف،بل سامضي قدما لحياة جديدة خالية من شوائب الماضٍ ، لم أفكر إلا في مُستقبل ابنائي فهم حصاد عمري..

 

 

تلك الضغوط التي تولد من رحم المعاناة تجتاح كل ثناياها، فهي تصارع مع هؤلاء المتطفلين على حياتها، يتدخلون في كل ثغرة، جعلوا من شخصيتها هشة ضعيفة ممتلئة بالضغوط التي تجعلها تقف في منتصف الطريق تحاول أن تسعى للخلاص من معركتها، تعلم بأن البقاء سيظل للأقوى وهي بحاجة ماسة لتلك القوة التي تُواجه بها محنتها من أجل صغارها المهشمين من الداخل، داخل كل واحد منهما شرخًا بروحه الذبيحة مثل الطائر الذي ذُبح للتو ويتراقص على جنيباته حلاوة روح، نفس شريدة تتألم فراق، فقد، حسرة، وضياع، يجنون وحدهم من ثمار الخذلان والصدمة التي تركها لهم والدهم أثر غيابه وتخليه عنهما، يعانون مرارة الحرمان واليتم وهو ما زال على قيد الحياة، وهي تحاول أن تصمد وتقوى على محاربة المجتمع من أجلهم، فالمجتمع لا يرحمها كونها سيدة مُطلقة وتعول أبناءها وتسير داخل دائرة الحياة تلملم ما تبعثر من روحها وكرامتها كأنثى تكافح من أجل جني المال لصغارها، بدلًا عن العيون المُسلطة على جسدها بشهوة وأفتراس، فقط يردون نهشها و الإيقاع بها، إلا يخجلون من حالهم بأنها سيدة واقفة صامدة وحدها مثل الجندي المُحارب في ساحة الحرب ليرفع علم بلاده ويشهد النصر حليفه إلا تستحق نظرة عز وأمتنان على ما تفعله وهي محاوطه على صغارها بجناحيها تُحاجي عليهما وتظلهم بدفء مشاعرها وتغمرهم بأحتواءها خوفًا عليهما من برد الليالي ووحشته، تحصد منهما أطفالا أصحاء دون ندوب جراح الماضٍ، لن تتركهم يعانون هشاشة نفسية، سوف تُذيب صخور الحرمان، وتجعلهم يغصون في لذة السعادة والأمان وتنزع أثر الحزن عن صفيحة وجههم البشوش الصبوح وتصنع فقط الابتسامة التي تنير درب سعادتهم القادمة ويسعدون بمُستقبل أفضل حافل بالنجاحات وتتلاشى الفوضة العارمة من داخلهم ليحل محلها الرقود في بحر من الأمل والتفاؤل..

 

مرت شهور ونجحت زهرة في أعادة تأهيل صغارها، وضعتهم على بداية الطريق الصحيح، رغم ما مرت به من مُعاناة إلا أنها ظلت كما هي شامخة في مهب الريح، لن تتزعزع وتنهار حصونها، ظلت كجزع الشجرة الصامدة بأرضها، لن تهزمها العواصف ولا الرياح، تغلبت على كل شيء برفقة ابناءها أساس حياتها، أزهار عمرها وشبابها..

 

سارت في دروب الحياة تمشي بكل ثقة وشموخ لم تعد تحمل لدنيا همًا بعدما تبدل كل شيء بين ليلة وضحاها ، تقربت من صغارها ونجحت في تبديل ثقتهم المهزوزة وزرع داخلهما القوة، الصبر، التحمل ، المحبة ، وعدم الخوف لم يعد لذلك المجهول يورق مضاجعهم فقد تبخر كل ما هو  شاق ويُعكر صفو حياتهم من قلبهم الصغير النقي الذي لا يوجد داخله إلا الحُب للحياة والمحبة لكل ما هو جميل، تفوق زين على نفسه واصبح فتى أخر غير الشقي العنيد العنيف، نجحت زهرة في أولى خطواتها مع صغيرها وأثمر مجهودها عن نبة تترعرع تحت ظل الحب والوفاء والطيبه، روته من طيبة قلبها وتخلى عن القسوة والعنف فهو ما زال مثل الهرة المغمضة العينين ووالدته تخطو معه أولى خطواته في الحياة، تحاول تعويض أنشغالها عنهما الفترة الماضية وتعمل الان على أصلاح مزاجهم النفسي قبل الجسدي لكي تنتهي تلك الغصة من قلوبهم جميعًا .

كما ساعدت "زياد" على تكوين صدقات مُتعددة ولم يعد منطوي مثل سابق وكل عطلة تتشارك معهم اللعب داخل المنزل أو يتوجهون إلى المكتبات لانتقاء الكُتب التي تزود حصيلتهم الثقافية فهي تحاول اظهار ذلك الجانب في تكوين شخصيتهم وعند العودة يجلسون ثلاثتهم يتناقشون عن مواضيع مختلفة في جوانب الحياة ووالدتهم لم تبخل عنهما بمعلومة قط..

 

بعد الانفصال تعيش الأطفال في دوامة من المشاعر المختلطة كمشاعر الفقد، الغضب، الارتباك، القلق، الحزن، الخوف، الحرمان، التشتت في آنِ واحد، كل هذه المشاعر المختلطة تستنزف من طاقتهم وتزيد من عاطفتهم الحساسة، يكتمون داخلهم كل هذه الفوضة التي تجتاح عقلهم الصغير ولن يبوحوا عما يكن داخلهم، لذلك يتراجع مستواهم الدراسي، ويصبح الطفل غاضبا عنيفًا لن يتقبل الآخرين، داخله ثوره وحمم بركانيه يريد أن يخرجها فتتغلب طاقته السلبيه على عقله المُشتت وبعضهم يشعر بأنه الطرف المُذنب في ذلك التفكك الذي حدث داخل أسرته الدافئة، يُحمل نفسه مسئولية الانفصال وغياب أحد الوالدين عن عالمه الصغير، لذلك يجب على الأم منح طفلها الحب الذي يفتقده، وعليها تحمل الدور كاملا في أعادة الثقة لطفلها ودائما تخبره بأنها تُحبه دائما وابدا وتشاركه إستعابه وتنمي داخله هواية يُفضلها أو رياضة بدنية يُمارسه لكي يخرج كل طاقته السلبيه في ممارسة نشاطه الرياضي وتعزز العلاقات الايجابيه حتى يتخطى مشاعر الحزن الناتجة عن الفقد، وتترك له مساحة لتعبير صريحًا عن مشاعره الذي يخفيها من حزن أو غضب، ندعه يعبر عن حزنه دون كبت لمشاعره أو تقيد حريته، كوني إنتِ الشخص الذي يبحث طفلك عنه باستمرار لكي ينفس عن مشاعره لكِ، يتحدث معكِ دون خوف أو قيود، وأنتِ عليكِ الإنصات والاستماع الجيد له، شاركيه بعض مهامه الذي يُفضلها وأغرسي فيه روح المشاركة يشاركك أيضًا أعباءك، قصِ له بانكِ دائما بحاجة لصديق تثقين فيه وهو ذاك الصديق المقرب لا تعامليه كمدير عمل ويجب عليه أتمام عمله بإنجاز ،بل عامليه كقطعة مأس غالية لا تُقدر بثمن، أغدقيه من فيض حبك ومشاعرك الجياشة اسكبيها بين ذراعيه الصغيرتين وضميه إلى أحضانك الدافئة فأنتِ شمسه التي تنير له كونه بالنهار وقمره الذي يضي عكمة ليله، وهو الزهرة التي ترويها كل يوم لتتفتح أوراقها وتعبق رائحتها العطرة حياتك.

هي مثابة الشجرة الجميلة المتربعة على حلة خضراء تمتد إلى اعالي السماء في شموخ وبهاء وكانها تتحدى تلك الرياح التي تراقصها؛ فتتمايل تارة شمالا واخرى يمينا محاكية صديقاتها من الاشجار المجاورة لها فتتفاخر بجمالها وينوعتها وصلابتها، انها شجرة ليست كاي شجرة مميزة عن نضيراتها يجذبك فيها لونها الاخضر الممزوج مع الفستقي واللذان يتناسقان ليضفي عليها رونقا وجمالا كبيرين

وهم فرع من فروع تلك الشجرة الشامخة التي تظلهم بالحب والاحتواء والأمان، والطمأنينة والسكون وتتخطى معهم تقلبات فصول السنة الأربعة.

أسدل الستار وأنقشعت سحابة الغيوم وتوارى القمر عن ليلاه لتشرق الشمس من جديد تحمل لنا أملا جديذًا مع كل صباح، وتنير الكون باشعتها الذهبية الدافئة كأحتضان الام لصغيرها تغمره لحظات من السعادة تُخلد بالذاكرة لا تُنسى مهما مر عليها الازمان، تنير الشمس بهاءً مع كل نهار جديد في دعوة منها لننسى كل ما عشناه بالأمس من آلام وأحزان، ولنفتح في دفتر الروح صفحة جديدة عنوانها التفاؤل والأمل ودروب من السعادة ..


تمت..

إلى حين نشر الرواية الجديدة للكاتبة فاطمة الألفي، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية


رواياتنا الحصرية كامل