-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 1 - 2 - الجمعة 22/11/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الأول

2

تم النشر الجمعة

22/11/2024


توقفت السيارة على الكورنيش حيث يقبع ذاك الفندق الراقي، والتي ما أن ترجل منها سيدها حتى اندفع العاملين بالفندق نحو السيارة حاملي المظلات المفتوحة لتقي المترجلين من السيارة المطر المنهمر، اندفعت أُنس الوجود تحت المظلة التي حملها العامل الأسمر في تأدب غاضا البصر، وما أن تحركت نحو بوابة الفندق حتى تحرك الخادم برفقتها خطوة بخطوة، لكنها توقفت فجأة وعادت أدراجها يلحق بها العامل مهرولا بالمظلة، لتتسمر في اضطراب أمام منقذها الذي كان ما يزال واقفا في انتظار الاطمئنان على وصولها ورفيقتها لداخل الفندق في سلام، رفعت ناظريها نحوه هامسة في نبرة مرتجفة قليلا، حملت بعض من حياء ممزوج برقة: شكرا، كان لطف منك الوقوف في المطر ومساعدتنا.. 

كانت نظرتها صوبه كفيلة بارتجاف قلبه كمن اصابته صاعقة.. تلك النظرات الأشبه بخضرة سعف النخيل بعد ليلة ماطرة كهذه، والتي رفعتها صوبه في عفوية بعثرته، جعلته يقف متسمرا كأبله لا ينطق حرفا، أو يرد جوابا، لترحل من أمامه مندفعة لداخل الفندق، ليتنبه لما حدث، لاعنا ذاك التيه الذي اعتراه في حضرة عينيها الساحرة خلف نقابها الرقيق، عائدا في حنق لداخل سيارته متطلعا نحو ساعته السويسرية الفاخرة، مدركا أن الوقت قد تأخر على إدراك الحفل الذي كان في طريقه إليه، وما من وقت كافِ للعودة لمحل إقامته وتبديل ملابسه التي ابتلت كليا والرجوع من جديد لحضوره.. 

أمر سائقه بالعودة لمحل إقامته وقد أدرك أن الصفقة التي كان يتعشم في الفوز بها قد ضاعت، لكنه وللعجب غير آسف، فقد أنست وحدته نظراتها التي ما زالت ماثلة أمام ناظريه، فكانت هي الصفقة الرابحة بحق.. 

❈-❈-❈

                        

القاهرة.. ١٩٩٠

انتفضت موضعها بالفراش، مندفعة صوب المنبه الفضي الذي كان ينتفض بدوره على الكومود الملاصق لسريرها لتكتم أنفاسه التي زعق بها في تتابع محموم قبل أن يصمت فجأة حين ضغطت على زر ما بقمته متنهدة في راحة، عائدة لتتمدد على فراشها من جديد، لتمارس عادتها اليومية في الحملقة بسقف الغرفة لدقائق قبل أن تهم بمواجهة الحياة.. أخذت تنظم جدولها اليومي في ذهنها مع وضع خطط لمشاويرها طوال النهار ما بين الجامعة وعدد من الأماكن الآخرى، تستعرض في ذهنها ما عليها ارتدائه وفقا لمتطلبات المسار اليومي لذاك الجدول المزدحم .. 

تنهدت بضيق فقد كانت تتمنى لو أكملت نومها لساعات إضافية، فقد لازمها الأرق الليلة الماضية ولم يزور النوم أجفانها إلا في الساعات الأولى من الصباح.. دفعت عنها غطاءها لتخرج من الفراش مهملة البحث عن خفها المنزلي لتسير حافية.. جاذبة باب حجرتها ليتناهى لمسامعها صوت المذياع الذي يبدأ إذاعة برامجه على توقيت أمها الخاص.. السادسة صباحا بالدقيقة تبدأ يومها بإدارة مؤشر المذياع والذي لا ينهي إرساله إلا بدخولها لسريرها في تمام التاسعة مساءً.. زاد صوت المذياع وضوحا كلما اقتربت من موضع جلوس أمها المعتاد قرب الشرفة المغلق زجاج نافذتها في مثل هذا الجو البارد من العام.. والتي تنذر السماء الملبدة بالغيوم خارجها بطقس غير مستقر .. 

هزت رأسها في قلة حيلة وصوت أمها يعيد تلك القصة القديمة على الخادمة التي تجلس تحت قدميها متنبهة في شغف كأنها المرة الأولى التي تتردد على مسامعها تلك التفاصيل المعادة حد الملل.. لكنها وللعجب لم تمل.. بل ظلت شاخصة النظرات نحو مخدومتها وهي تروي في حماس القصة.. التي قطعتها ما أن رأتها تهل سائرة نحوها من الردهة المفضية للغرف.. مالت هي ما أن وصلت لأمها مقبلة هامتها في اعتيادية، هاتفة في سؤال مكرر: تاني يا ماما! هو أنتِ مش بتزهقي من تكرار القصة دي! 

أكدت أمها في إصرار: لا، مش بزهق ولا هزهق مهما حكتها يا أنوس.. 

هتفت الخادمة في مساندة لسيدتها الكبيرة: أيوه يا ستي، دي حدوتة حلوة أوي، أني بحب أسمعها على طول. 

قهقهت هي وهتفت ساخرة: أهو، مقلتش حاجة أنا! أهي حمدية بتقولك إنها حدوتة، مجرد حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة.. نسمعها ونقول الله.. لكن محدش يصدقها.. 

هتفت أمها في ضيق: أنتِ حرة، أنا مش هقنعك بها أو حتى أحاول، الظاهر دراستك للفلسفة والمنطق بتوعك دول أثروا على عقلك.. 

انفجرت ضاحكة: أيوه صح، المنطق أثر على عقلي يا ماما.. المنطق هو اللي مخليني مش مصدقة بالعقل إن التفاصيل اللي بتحكيها دي ممكن تكون حقيقة.. بس ع العموم متزعليش.. هحاول أكون حيادية وأقول جايز.. المنطق بيقول برضو إن في نسبة ولو بسيطة للتفكير خارج حدود العقل.. 

امتعضت أمها ولم تعقب بحرف، فما كان لها الرغبة في إعادة النقاش في هذه المسألة مجددا، فاستطردت أُنس أمرة الخادمة، وهي تنهض عائدة لحجرتها من جديد لتستعد للمغادرة: قومي يا حمدية اعملي لي فطار سريع قبل ما أنزل عشان أنا اتأخرت وعليا مشاوير كتير النهاردة.. 

هتفت أمها تسألها بصوت مرتفع قليلا حتى يصل إليها: يعني مش هتتغدى معانا النهاردة كمان! 

ردت في نبرة تحمل بعض الأسف: معلش يا ماما، مش هقدر، النهاردة زحمة أوي، كلي أنتِ عشان متأخريش دواكي، ونتعشى سوا.. 

لم ترد أمها، ما جعلها تطلق تنهيدة حارة محملة بالذنب وهي تغلق باب غرفتها، كانت تعلم أنها منذ قررت الانخراط في استكمال دراستها العليا، وهي لا تقضي الوقت الكافي بصحبتها، لكن ما باليد حيلة، ربما حين تستقر على اختيار موضوع مناقشة الماجستير، سيكون وقت مكوثها بالبيت أطول، وقد تعوض أمها الوقت الذي مر بلا صحبتها.. ربما.. 

                         ❈-❈-❈

نچع الرسلانية.. ١٩٩٠

كان قد منى نفسه بساعات قلائل من النوم بعد صلاة الفجر، فقد كانت الفترة الماضية مليئة بالضغوط والتحديات التي ينوء بحملها الجبال، لكنه تحملها صابرا حتى تكتمل فرحته، ويوصل تلك الأمانة المعلقة بعنقه منذ سنوات إلى حيث مستقرها الآمن، لكن تلك الدقات المتتابعة على الصفيحة النحاسية المألوف صوتها لأذانه، جعله يتململ في فراشه ممتعضا، يلقي نظرة سريعة بنصف عين صوب ساعة يده الثمينة التي كان قد خلعها واضعا إياها جانبا، مؤشر الساعات قد تخطى السادسة بقليل مقتربا للسابعة، ما دفعه ليترك الساعة جانبا محاولا أن يغمض جفونه لعله يعاود النوم، لكن الطرقات على الصفيح النحاسي عاود مجددا، بل إنه زاد حدة عندما اقترب صاحبه من سور السراي، هاتفا بصوته الجهوري: 

         صبح العليل بلا باع ولا دراع..

       ولا معاه اللي يطيب به الأوچاع..

همس في نبرة قلقة: وااه يا زفراني، ليه كده ع الصبح!.. 

دفع عنه الغطاء، ناهضا في حنق صوب شرفة حجرته جاذبا خصاص النافذة، ليخرج مطلا منها باحثا عن موضع ذاك النذير، وما أن وقعت عيناه صوب مكانه مارا بالسور الشرقي للسراي، حتى هتف به يستدعيه للداخل: يا زفراني، خد تعال. 

هرول زفراني مهللا حتى أن صفيحته النحاسية أصدرت أصوات عدة حين تراقصت مصطدمة بكل تلك القلائد والتمائم العجيبة الأشكال والألوان والمختلفة الأطوال، والتي تتدلى من عنقه الغليظ، وتساءل في لهفة وبصوت جهوري: حداكم زفر يا الحبيب! 

قهقه حبيب متعجبا: زفر على غيار الريج! طب جول فَطير وعسل، ولا حتى حتتين رواني يا فجري! 

هلل زفراني من جديد راقصا ما أن جاء الحديث على ذكر معشوقته الرواني، تلك الحلوى الغارقة في العسل.. 

أشار له من جديد ليعود لباب السراي مارا للداخل حتى يناله نصيب من الفطور الذي تعبق رائحته السراي، والقادمة من حجرة الخبيز في الجهة الخلفية منها عند سورها الجنوبي.. 

تابع هو زفراني بناظريه حتى دخل للسراي، وسمعه يتبادل الحديث المازح مع خفيره القابع كسبع على بوابتها الحديدية القديمة قدم هذه السراي، والتي مر عليها الكثير من الخطوب وشهدت العديد من العصور وما تأثرت صلابتها..

الصفحة التالية