-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 1 - 3 - الجمعة 22/11/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الأول

3

تم النشر الجمعة

22/11/2024


شرد بناظريه صوب النيل الذي لا يفصله عن مدخل السراي إلا ذاك الشريط الترابي الضيق المسمى مجازا طريق.. ثم من بعده يقبع ذاك الجبل الشامخ هناك شاهدا على هذه الأرض منذ دهور سحيقة بطول الزمان وقد غطت قمته بعض السحب في مطلع ذاك النهار الشتوي منذرة بيوم بارد بعض الشيء ومعتاد في مثل هذا الوقت من العام.. 

عب من الهواء العليل البارد نسبيا ملء رئتيه، ثم زفره دفعة واحدة قبل أن يعود أدراجه لداخل حجرته، مبدلا ملابسه هابطا الدرج نحو صحن السراي ونظرته تتأكد من وجودها حيث تجلس جوار ذاك الجرامفون القديم، فمنذ وعت عيناه الدنيا وما وجدها إلا قابعة هناك، تتلفح شالها الصوفي الرمادي المزهر بتلك الورود البيضاء والزهرية، والذي يعد إرثا عائليا تنوي توريثه لإحدى فتيات العائلة كما أكدت في عدة مناسبات. 

ابتسم في حنو حين وصل موضع كرسيها القرمزي الفخم الموشى بالقصب، فوجدها وقد غفت قليلا كعادتها وإحدى الاسطوانات تدور بالجرامفون تصدر صوتا متحشرجا لا يعرف إن كان غناء أم عويل، ما دفعه ليرفع إبرة الجرامفون عن سطح الأسطوانة المسكينة التي أهلكها كثرة الدوران بلا طائل حتى هدأت أخيرا، لكن السيدة العجوز تنبهت ما أن عم الصمت مع سكون الأسطوانة عن اللف والدوران، رافعة رأسها مستفهة، فوقع ناظرها على حفيدها الغالي فابتسمت في بشاشة هامسة: صباح الخير يا حبيب ستك.. 

انحنى في تأدب مقبلا ظاهر كف صفية المتغضن، هامسا في محبة: صباح الخير يا ست الكل! إحنا مش جلنا بلاها نومتك دي، ونامي في فرشتك عشان تفردي ضهرك اللي تاعبك ده! 

أكدت معللة: أني مرتاحة هنا، وبعدين لما بحب أفرد ضهري بدخل اوضتي فنص النهار أرتاح.. متخدش أنت فبالك، ستك شَديدة يا واد.. 

اتسعت ابتسامته مؤكدا: طول عمرها، وهي يعني هتچيبه من فين! بت الوز.. 

همست متحسرة وهي تشير لكرسيها المدولب الكائن بأحد الأركان: جول للزمان ارچع يا زمان، ستك كبرت، والعضمة شاخت، والهيبة راحت يا حبيب.. 

مال ملثما هامتها، مؤكدا في فخر: لا عاش ولا كان يا ستي اللي يجول كده، هيبتك محفوظة ومجامك عالي.. 

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهم بالمغادرة صوب الخارج، لكنها استوقفته متسائلة: حبيب! چبت كل اللي طلبته منيرة! 

هز رأسه مؤكدا، ما دفعها لتستطرد هامسة في شجن: عارفة إن الحمل زاد على كتافك يا غالي، لكن أنت كدها.. 

همس حبيب متعجبا: وه!.. خبر إيه يا ستي! دي أيام فرح، بلاها حِزن.. شبعانين منِه، خلونا نفرح باللي چاي الله يخليكي.. 

أكدت باسمة: صدجت.. خلونا نفرحولنا يومين، بلا وچع جلب.. 

اتسعت ابتسامته من جديد، وهتف مناديا: يا بت يا نبيهة.. أنتِ يا بت! 

جاءت نبيهة تهرول وهي تدعك عينيها متثائبة شبه ناعسة: نعم يا حبيب بيه! 

سألها في تعجب: فين الفَطور! 

تثاءبت من جديد هاتفة: حاضر، دجيجتين ويكون ع السفرة، أصلك بعيد عنك يا بيه، جالي فكر الليلة اللي فاتت، ومجانيش نوم إلا وش الصبح.. 

هتف حبيب ساخرا: چالك فكر! ده اللي هو كيف يا نبيهة! بعد الشر عنِكِ.. 

قهقهت جدته صفية هانم رسلان، ونبيهة تستطرد في نبرة العالمة ببواطن الأمور: أصلك يا بيه، جعدت أفكر في البطل بتاع الفيلم اللي شفته مع الست الكبيرة عشية، هيتچوز البت الحلوة اللي كانت بتخدمه، ولا لاه! 

قهقهت صفية مؤكدة: متچوزهاش يا فجرية، ما أنتِ نمتي فنص الفيلم. 

هتفت نبيهة متحسرة: يا خسارة يا ولاد.. 

ثم استطردت وهي تعبث بجدائلها السوداء مؤكدة في فخر: والنعمة كانت بت زي الجمر، شبهي كده، هو اللي خسران. 

ارتفعت قهقهات صفية على أقوال نبيهة، بينما نهرها حبيب لتسرع في تحضير فطوره، حتى يلحق بمصالحه، غادرت نبيهة مهرولة وابتسامة صفية ما زالت مرسومة على شفتيها ممازحة حفيدها: شكل البت نبيهة عينها منك، والله لو ما اتچوزت، لهچوزك نبيهة ويبجى چنيت على روحك. 

ارتفعت ضحكاته مؤكدا: ياللاه عشان تبجى كملت، ما أصلك هي ناجصة چنان! 

قطع ضحكاته هاتفا في سعادة ما أن طلت على مجلسهما في خطوات وئيدة: أها، ست العرايس وصلت.. 

اتسعت ابتسامة منيرة في خجل، وتخضب وجهها بحمرة زادتها حسنا، وهي تلقي التحية في اضطراب: صباح الخير.. 

هتفت جدتهما في سعادة: يا صباح الفرح على عروستنا. 

هتف حبيب موجها كلامه لأخته منيرة: بجولك! عريسك خلاص حدد ميعاد الكتاب بعد سبوع، والليلة الكبيرة بعده بسبوع كمان.. 

كان يعلم أنها على علم بترتيبات الرجال وقد وافقت على الموعد قبل عرض الأمر عليه، فقد كانت مجيدة صديقتها المقربة وأخت عريسها عزت ابن عمدة نجع الرسلانية، مرسالها وعريسها الذي كان يعلم أنه يملك قلبها منذ شبوا عن الطوق، وأدركوا معنى الهوى.. لكنه أبدا ما باح بتلك المعرفة، ورحب بحرارة حين جاءه خاطبا إياها.. ليتوج فرحة قلبها في حلال ربه.. 

هتف حبيب مستطردا: ناجصك حاچة ولا كده تمام! شاوري بس وأنتِ ياجيكِ نچم السما، وهو إحنا عندينا كام منيرة! 

نكست رأسها حياء، وهمست في اضطراب: لاه، كله تمام، ربنا ما يحرمني منك يا رب.. 

تطلع نحوها في محبة أخوية صافية، هذه الصغيرة التي رُبيت على يديه، ها هو يتطلع نحوها اللحظة وقد أضحت امرأة وافرة الأنوثة على أعتاب الرحيل من داره إلى دار زوجها، بضعة أيام فقط تفصله عن وداعها .. أصبحت ضيفة عليهم في هذه السراي حتى تغادر لبيتها لتبدأ حياة جديدة مع أسرة آخرى.. 

دفع نفسه دفعا خارج خواطره المرهفة تلك، متسائلا في تعجب: هو الشيخ محمود لسه نايم ولا ايه! 

تعالت عدة طرقات لعصا تضرب الأرض في غضب، وهتف صوت رخيم مؤكدا في وقار لا يتناسب وصغر سنه: لاه، الشيخ محمود جاعد في اوضته غضبان عليكم، كده يا حبيب متصحنيش لصلاة الفچر! 

اندفع حبيب ملتقطا كف أخيه الضرير، مجلسا إياه قرب منيرة، مؤكدا في نبرة تفيض أسفا: غلطة ومش هتتكرر يا شيخ محمود، بس أصلك أني يا دوبك لحجت الإقامة رمح، والدنيا كانت تلچ.. والصراحة خفت عليك من لسعة البرد ف الفچر، وأنت توك طالع من دور شديد، إن الله غفور رحيم يا شيخنا، سماح النوبة دي! 

هز الشيخ محمود رأسه في رزانة مؤكدا: خلاص سماح، بس بعد كده تصحيني.. بلا برد بلا عفريت ازرج، وربنا يغفر لنا كلنا. 

ابتسم حبيب رابتا على كف أخيه الذي انهضه من جديد وتوجه به صوب المائدة التي كانت قد امتلأت بكل ما هو طازج وشهي.. ليهتف حبيب بهم جميعا ما أن استقروا حول الطعام: بسم الله.. واستطرد أمرا نبيهة: بجولك يا نبيهة.. خرچي لزفراني اللي فيه النصيب. 

هتفت نبيهة ساخرة: وهو عاتج! ده طلع يچري وراي، وخد نصيبه جبلكم، سحب له فطيرة بنار الفرن وحتة چبنة وصحن عسل وطلع يرمح، صبرني يا رب. 

قهقه المتحلقين حول المائدة، فقد كان زفراني هو الوحيد القادر على الأخذ بثأر الجميع من نبيهة..  

❈-❈-❈


                 

طرقت على الباب الفخم بذاك الطابق من مبنى كلية الآداب.. دافعة إياه ما أن جاءها الإذن بالدخول، لترتسم على شفتيها ابتسامة مشرقة ما أن طالعها وجه أستاذها الذي رفع رأسه الأشيب عن أوراقه التي كان يطالعها مبتسما بدوره.. ومهللا ما أن وقع ناظريه على محياها، هاتفا في ترحيب: أهلا بتلميذتنا النجيبة، اتفضلي.. 

جلست قبالته إلى المكتب ليستطرد متسائلا: ها، وصلتي لاختيار موضوع الرسالة ولا لسه مستقرتيش!! 

أكدت أُنس في خيبة: لسه يا أستاذي بدور، أنا عارفة إن حضرتك اقترحت موضوعين مميزين، وشكلي كده هستقر على واحد فيهم.. 

أكد أستاذها: طيب على بركة الله، ياللاه عشان نسجل بقى ونبدأ الشغل مش عايزين تأخير.. 

هزت رأسها موافقة، وشرعا في تجاذب أطراف الحديث عن موضوع الرسالة المقترح.. وقد أوصى بأسماء بعض المراجع التي عليها الرجوع لها.. 

تركته متوجهة نحو مكتبة الكلية، تحمل الورقة التي دونت عليها أسماء المراجع، وهي ما تزال مترددة لقبول موضوع البحث، فقد كانت رغبتها دوما في بحث موضوع جديد ومميز.. لكن ما هو الموضوع! وأين ذاك الخيط الذي تمسك به لتبدأ بحثها!؟...  

تنهدت وجلست لأقرب مقعد من ذاك الرف الذي جذبت منه المرجع المطلوب داخل المكتبة وبدأت في مطالعته، دقائق وغرقت في التفاصيل حتى أنها لم تعي لحالها إلا بعد ساعتين كاملتين وقد بدأت في الشعور بتيبس في فقرات عنقها، كما أنها استشعرت تململ أمينة المكتبة التي كانت ترغب في الانصراف.. ما دفعها لتجمع الأوراق التي دونتها مغلقة المرجع تعيده موضعه على الأرفف، لتخرج من المكتبة وقد جاوزت الساعة الرابعة عصرا، فكرت في إلغاء مشوارها المتبقي والعودة لتناول الغذاء مع أمها، لتكن لها مفاجأة سعيدة.. فهي تستشعر منذ فترة احساس أمها المتنامي بالوحدة، تلك الوحدة التي تدفعها لسرد حكايات وقصص قديمة عفا عليها الزمان، فقط لأنها تشعرها بالراحة النفسية، وأمور آخرى هي غير قادرة على إدراكها، أمور غامضة نوعا ما، ما فكرت يوما في السؤال عنها، وكثيرا ما تنبهت لأمها وهي تتجاذب أطراف الحديث همسا مع خالتها درية، ذاك الحديث الذي ينقطع فور دخولها.. متحولا لجدل مفتعل عن أمر ما لا يمت لسرهما بصلة..

ابتسمت وهي تدير مفتاح الشقة دافعة إياه هاتفة في فرحة: أنا جيت يا لولو.. فين الغدا! اوعوا تقولوا إنكم مش عاملين حسابي، ده أنا.. 

اندفعت حمدية نحوها، هاتفة في ذعر ووجها تغطيه الدموع: إلحقي يا ست أُنس، الست الكبيرة تعبت أوي ومكنتش عارفة تاخد نفسها، والأستاذ ممدوح جه وخدها للمستشفى.

انتفضت أُنس بلا كلمة واحدة مندفعة للخارج صوب المشفى، تتقاذفها الظنون عن حالة أمها التي كانت تعلم أنها ليست على ما يرام مؤخرا.. لكن ليس لهذه الدرجة التي تدفع ابن خالتها لنقلها للمشفى على هذا النحو المتعجل دون مراجعة طبيبها، إلا إذا كان الأمر خطرا.. 

                    

الصفحة التالية