-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 2 - 2 - الجمعة 29/11/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش



الفصل الثاني

2

تم النشر الجمعة

29/11/2024


الرسلانية ١٩١٤..

رآه يترجل من عربته عائدا بعد رحلته الطويلة نسبيا خارج النجع، جز على أسنانه غيطا، متسائلا في كمد عن مقدار مكاسبه التي جناها من رحلاته المتواترة التي لا تهدأ إلى المحروسة أو الإسكندرية بحثا عن صفقات جديدة يزيد بها من حصيلة خزانته الضخمة من الأساس.. وتعجب في نفسه.. لمن يترك كل هذا!؟.. وهو لا يملك لا ولد ولا وريث له إلا أخته العانس! .. اتقدت نار الحقد في قلبه مجددا، واندفع في اتجاه تلك الدار المتوسطة الأبهة التي تقطع في أطراف الرسلانية بعيدا عن مجريات الأمور.. دخل مستأذنا على سيد الدار الذي كان يجلس أرضا يتناول إفطاره، هاتفا في مداهنة: صباح الخيرات يا سيد الناس! 

تطلع وهدان الحراني صوب ذاك النحيل متوسط الطول الذي يدعي المسكنة والغلب، أمرا إياه في تباسط: كيفك يا خواچه، تعال اجعد مد يدك، الخير كتير، والطبلية عمرانة.. 

ابتسم الخواجه نعيم ابتسامة صفراء، جالسا في عجالة على طلبية الطعام بلا انتظار لالحاح صاحب الدعوة من قبيل التعفف، مادا كفه في لهفة صوب الفطير المتشرب بالسمن، غامسا لقمة كبيرة في صحن العسل الأسود، دافعا بها صوب فمه المفتوح على مصرعيه، مستمتعا بالطعام كأنما ما تذوق مثيله قط، لم يعر وهدان الخواجه اهتماما يذكر إلا عندما أنهى لقيمته الرابعة على أقصى تقدير، دافعا خلفها بعض من الماء الذي عبه من القلة الفخارية التي كانت تجاورهما، وقد هتف في نبرة تحمل الكثير من اللهفة: أخبار أرض البركة ايه يا وهدان بيه! فكرت في اللي قلت لك عليه! 

تطلع نحوه وهدان مجيبا: وهو فين صاحبها! مش لما نعرف له مطرح! ده كل يومين ناطط بره النچع.. 

أكد نعيم في حماس: رجع، ايوه شوفته داخل داره من يجي ساعتين كده، خلصت شوية مشاغل وقلت ألحق أقولك، قبل ما يسافر تاني ويغيب.. 

تساءل وهدان في تعجب: هو أنت ليه حاطط أرض البركة في راسك كده يا خواچه! واشمعنى أني اللي فكرت في إني ممكن اشتريها من سعد رسلان.. وبتكبر الموضوع ف دماغي كل شوية! ايه في! 

اضطرب نعيم لبرهة، قبل أن يستجمع شتاته مؤكدا في هدوء نسبي: هيكون في ايه غير كل خير لك! دي أرض كلها بركة، وصاحبها ميعرفش قيمتها، ولا هي فباله من الأساس، وتبقى في باله ليه من الأصل وهو مالك الزمام كله! وما دام الحكاية كده، طب ما ياخدها اللي يعرف قيمتها ويستحقها، ومفيش في النجع حد يعرف يقدر الغالي ولا يحمل تمنه في جيبه إلا وهدان بيه الحراني.. 

انتشى وهدان لذاك اللقب الذي لا يحلم بحمله، البهوية، ما دفع نعيم بعد أن صمت لبرهة لأن يستطرد في نبرة مستكينة ناعمة: وأهو ينوبنا من الحب جانب يا وهدان بيه.. 

نفض وهدان كفيه من بقايا طعامه، عابا من ماء القلة الفخارية، متنهدا في راحة، قبل أن يهتف متسائلا: وايه هو الحب اللي هتنول لك منه چانب يا خواچه! دي أرض كلها سبخة مفيش فيها إلا أرض عالية حبتين عن أرض النچع، ده حتى مبتطلهاش مية الفيضان لما بيهل، يعني كمان مبتزرعش، ييجى إيه اللي فيها عشان تبجى مكسب، رسيني ع الدور! 

لم ينطق نعيم بحرف واحد كإجابة شافية لسؤال وهدان، بل ماطل مؤكدا في نبرة ثعبانية: وافقني بس وفاتح سعد رسلان واشتريها، وأول ما تكون في يدك هرسيك ع الدور كله.. 

تطلع وهدان للخواجه نعيم في تعجب، متسائلا في ريبة: طب ولو أنت عارف حاچة عن الأرض دي زينة كيف ما بتجول، ليه مجلتش لصاحبها وخدت حلوانها يا نعيم، ده سعد رسلان معاه اللي يخليه يديك لحد ما تجول استكفيت!؟

قهقه نعيم مؤكدا: هو حد بيستكفى من الفلوس يا حبيبي! لكن أنا هقولك أنا مقلتش ليه لسعد عن الأرض! عشان هو ميستاهلهاش.. 

تطلع وهدان نحو نعيم في اندهاش، ليحرك نعيم رأسه مؤكدا في تصميم: ايوه، ميستاهلش تكون ملكه، ولا يكون حاطط أيده عليها يا وهدان بيه، أنت بس اللي لك الحق ده واللي يستاهلها بجد.. وبعدين ما أنت لسه قايل معاه اللي يكفيه وزيادة حبتين وهو لا عيل ولا تيل، يبقى أنت وعزوتك أحق بها، ولا ايه!؟

دعك وهدان اصبعي السبابة والابهام بذقنه التي بدأت شعيراتها الخشنة في الظهور قليلا، محدثا صوت احتكاك بسيط، مؤكدا أنه يعيد تقييم حديث الخواجه، وتقليبه في ذهنه، قبل أن يهز رأسه موافقا على وجهة نظر نعيم، هاتفا في بشر: على بركة الله، ماشي كلامك يا خواجه، وليه لأ!! 

انتشى الخواجه نعيم بفرحة الانتصار، فقد استطاع أخيرا أن يخطو الخطوة الأولى التي كان يتوق إليها منذ سنوات طوال، ولكن ما زال المشوار طويلا حتى يصل إلى ما يصب إليه، لكن لا بأس، فمشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وها قد خطاها أخيرا..  

❈-❈-❈

الرسلانية ١٩٩٠..

توقفت فرسته على مدخل الجسر الموصل لسراي (وناسة) هكذا اسماها جده منذ زمن بعيد، عندما وجد تلك السيارة الصغيرة ما تزل عالقة بمنتصفه تسد الطريق على كل ذاهب وأيب، ما دفعه ليهتف عاليا مناديا خفيره في قوة، والذي جاء مهرولا، وقد عاد من صراعهم مع الحريق بالشونة قبله كما أمره، ليطمئن جدته التي كانت تجلس في ترقب قلقة، متسائلا في حنق: عربية مين دي اللي ع الچسر! 

أكد شبل: والله ما أعرف يا بيه! كنها هنا من ساعة الحريجة ما جامت، ومشفتلهاش صاحب.. 

تساءل حبيب في شك: أنت متوكد مشفتش مين اللي كان فيها، ولا لمحت صاحبها!؟ 

هتف صوت أنثوي حاد من خلف ظهر حبيب، مؤكدا في ثقة: أو صاحبتها! 

انتفض حبيب موليا وجهه صوب المتحدث، متطلعا نحوها من عليائه، مدركا أن الأقدار لا مفر منها، فحين لمح طيفها في قلب الحريق كان يُكذب ناظريه مدعيا أن أدخنة النيران قد غشت بصره، لكن ما أن سقطت عيناه على محياها وهي تستريح من عناء الصراع في ملاحقة ألسنة النيران والسيطرة عليها قبل استفحالها، تأكد له ظنه، ما دفعه ليركب فرسه موليا، لكنه كان موقنا أنه يهرب إلى حيث ستتبعه، وها قد صدق توقعه.. 

تاه حبيب في تأملاته وخواطره حتى أنها هتفت في حنق: هو حضرتك هتفضل فوق فرسك كده كتير! مش تنزل تكلمنا! 

تنبه حبيب نافضا تلك الخواطر عن مخيلته، مستشعرا ذاك الحنق في نبرة صوتها، ما دفعه بشكل لا شعوري وعلى عكس طبيعته ليهتف بنبرة متعالية: مش لما أعرف بتحددت مع مين الأول، ولاه أنتي مفكرة إن النزول ده بالساهل ياك! 

زاد من حنقها تلك العجرفة التي يتعامل بها، ما دفعها لتهتف بشبل أمرة إياه، متجاهلة حبيب تماما: تعالى يا اسمك ايه أنت زق العربية بعيد عن الجسر، وشوف لي ميكانيكي بسرعة.. 

لم يحرك شبل ساكنا، كان أشبه بالصنم، ما دفعها لتهتف وقد زادت حدة غضبها: أنت يا بني آدم، مش أنا بكلمك! 

هتف شبل مؤكدا في صرامة: أني مبتعتعش خطوة إلا بأوامر من حبيب بيه بس.. 

ثم تطلع شبل صوب موضع حبيب متسائلا: أزج يا حبيب بيه! 

قهقه حبيب الذي كان ما يزل على صهوة فرسه، مشاهدا في استمتاع لما يحدث، وقد ترجل أخيرا، رابطا لجام أليف فرسه في أحد أعمدة الجسر في عشوائية، أمرا شبل في هدوء: زج يا شبل، وماله.. وهات رچب من الاسطبل يزج معاك، وياخد أليف بالمرة، وإرمح هات عوض الميكانيكي يشوف ايه ف العربية، لحد ما نشوفوا مين الأساتذة! 

اندفع شبل منفذا أوامر حبيب في لمح البصر، ما جعل حنقها وصل لذروته، لكنها سيطرت على أعصابها في محاولة للهدوء، فما هو قادم يحتاج منها لكل ذرة من ضبط النفس.. 

تساءل حبيب: مين بجى الأساتذة! 

تطلعت نحوه أُنس وعلى وجهها علامات تعجب مصطنعة: اللي أعرفه إنكم أهل كرم، في حد يتعرف ع الواقف كده! 

أكد حبيب بابتسامة دبلوماسية: عندكِ حج، معلش علينا المرة دي، اديكي شايفة كنا فإيه، اتفضلوا..

الصفحة التالية