رواية جديدة قلب نازف بالحب لهاجر التركي - الفصل 31 - 1 - السبت 23/11/2024
قراءة رواية قلب نازف بالحب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية قلب نازف بالحب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة هاجر التركي
الفصل الواحد والثلاثون
1
تم النشر السبت
23/11/2024
وقفت"سهام" كأنها تمثال أصابه زلزال مفاجئ، ثابتة في مكانها، لكنها تتصدع من الداخل بصمت. عيناها الواسعتان تحملان خليطًا من الصدمة والخذلان، وكأنها لم تصدق أن ما سمعته قد خرج من فم ابنتها. كان أنفاسها تتسارع ببطء، وكأنها تحاول الإمساك بشيء ما قبل أن يهرب منها، بينما يدها ترتفع نصف الطريق إلى صدرها، كأنها تحاول أن تهدئ دقات قلبٍ جريح.
رغم السكون الظاهر، كانت التفاصيل الصغيرة تخونها؛ ارتعاشة خفيفة في شفتيها، تقلصات دقيقة حول عينيها، حتى أصابعها التي تشابكت بتوتر بين طيات ثوبها بدت وكأنها تحاول الإمساك ببقايا رباطة جأشها. نظراتها، التي طالما حملت الحب والحماية، أصبحت الآن أقرب إلى نظرة أم فقدت الثقة، وكأنها ترى في رضوى غريبة لأول مرة، غريبة خبأت عنها شيئًا هز عالمها.
مرّت لحظة طويلة كانت فيها الغرفة ثقيلة بالألم، كأن الهواء نفسه أصبح معجونًا بالحزن. فتحت فمها لتتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقها، تناثرت مثل رماد فكرة لم تستطع التشكل. أخذت خطوة إلى الأمام، ثم تراجعت كأنها تخشى أن تنهار أكثر إذا اقتربت.
"ليه؟ليه خبيتي عليا كل ده؟ليه أنا آخر من يعلم ؟"
خرجت الكلمات منها أخيرًا، مختنقة وكأنها جاءت من أعماق جرح قديم نُكئ فجأة. لم يكن السؤال عن تفاصيل ما حدث، بل عن السبب، عن المعنى، عن الكيفية التي سمحت فيها" رضوى" أن يختبئ شيء بهذا الحجم عنها.
لكنها لم تنتظر إجابة، وكأنها تعرف أنها لن تجد ما يُرضي قلبها المكسور. استدارت بخطوات بطيئة، ثقيلة، بالكاد ترفع قدميها عن الأرض. يدها لامست الحائط للحظة، كما لو كانت تستمد منه دعمًا وهميًا قبل أن تتركه وتسير.
وحين وصلت إلى الباب، توقفت للحظة، ولم تلتفت، فقط أغمضت عينيها للحظة واحدة، أخذت فيها نفسًا عميقًا، لكنها لم تستطع إخراجه كاملاً. ثم خرجت من الغرفة بصمت، تاركة وراءها فراغًا أشد إيلامًا من أي صراخ.
كانت خطواتها على الدرج بالكاد مسموعة، لكنها كانت تضرب قلب" رضوى" كطبول ثقيلة، تتردد أصداؤها في أركان المنزل. الباب الذي أغلقته خلفها لم يكن مجرد باب غرفة، بل كان حاجزًا جديدًا، جدارًا صامتًا يرتفع بينهما، مبنيًا من الصدمة والخيانة، جدارًا لم تعرف "رضوى" إن كان يمكنها يومًا أن تهدمه.....
سحبت الوسادة ودفنت وجهها بها تصرخ بقوة وغيظ، من ثم قالت:
_"يارب بقا انا مبقتش مستحملة..... يارب أرحمني برحمتك بقا!".
❈-❈-❈
أعاد الصمت هيمنته على الغرفة، وقد كانت الغرفة أشبه بمسرح مغلق، الأضواء مطفأة، والجمهور قد غادر. لم يبقَ إلا "مراد" وحده، يجلس على الأرض بجوار السرير، كأنما يبحث عن استنادٍ معنوي إلى خشبته الباردة. عينيه شاردتان، تحدقان في اللاشيء، بينما عقله عالق في تفاصيل ما جرى. ثقل الصمت كان يكاد يُسمع، يخترق قلبه كأنه عقاب على كل كلمة لم تُقال، وكل خطوة تأخرت عن وقتها.
"نانسي"، التي وقفت عند الباب تراقبه بصمتٍ متربص، ولم تُغادر معهم بل ظلت بمكانهاصامتة ، لم تكن غريبة عن تلك اللحظة، لم تكن غريبة عن قراءة الفرص بين الشقوق. كانت عينها تراقبه منذ أن وطأت قدماها المكان، ورأت في شروده منفذًا للتقرب. بخطوات ناعمة تقدمت نحوه، وعيناها ترسمان ملامح الحنان المزيف.. بالنسبة لها، كان الحزن فرصة. خطوة إلى الداخل كفيلة بتحريك اللعبة إلى اتجاه جديد. بخطوات هادئة، متقنة وكأنها مدروسة، أقتربت من موقعهِ كانت تعرف كيف تخفي نواياها خلف قناعٍ من التعاطف، وكيف تستغل ضعف الآخرين ليمنحها مدخلاً إلى حياتهم.
"مراد..."
نطقت اسمه بصوت خافت، ناعم كهمسة بالكاد يُسمع، كأنها تخشى كسر الصمت الذي يعانقه. جلست بجانبه، مع الحرص على إبقاء مسافة صغيرة بينهما، مسافة تُظهر حذرًا زائفًا كأنها تمنحه مساحة أمان وهمية. لكنها قابلة للردم في اللحظة المناسبة.
لم يلتفت، عيناه ما زالتا ثابتتين على الأرض، كأنما يقرأ شيئًا من الغبار. زفرت "نانسي" ببطء، محاولة جذب انتباهه بنبرة مفعمة بالاهتمام المصطنع:
"أنا حاسة بكل اللي جواك، عارفة قد إيه اللي حصل كان صعب عليك... وأنا مش قادرة أشوفك بالشكل ده."
مدت يدها ببطء ولمست كتفه لمسة خفيفة حذرة، كأنها تقول له: "أنا بجوارك." لكن تلك اللمسة كانت أداة، مثل خيط صيد يلقيه الصياد في المياه.
"مش لازم تكون قوي طول الوقت، مراد. أوقات... بنحتاج حد يشاركنا الألم، حد يشيل معانا شوية من اللي إحنا مش قادرين نشيله لوحدنا...... "
صمتت للحظة، كأنها تعطيه فرصة للهروب من شروده، لكن الحقيقة أنها كانت تمنحه مساحة لتلتقط أنفاسها هي، لتُخطط للخطوة التالية. اقتربت بضع سنتيمترات أخرى، وملامح وجهها تصرخ بحنانٍ مفتعل:
"أنا مش بس هنا علشان أواسيك، أنا هنا علشانك أنت. أي حد مكانك كان ممكن ينهار، لكن أنتَ أقوى من كده، وأنا... عايزة أكون جزء من القوة دي..... وأكون جمبك لحد متطلع من اللي أنتَ فيه، أنتَ محتاج حد جمبك، حد يقويك"
كلماتها كانت تخرج ناعمة، لكن وزنها ثقيل، مليء بالمكر المدفون بين السطور. كانت تعرف أن الكلمات الصحيحة يمكن أن تكون أسلحة، وأن الحزن يجعل الضحية أكثر استعدادًا لقبول أي عزاء، حتى لو كان ملوثًا.
"مراد" أخيرًا حرك رأسه قليلاً، نظرة واحدة ألقتها عيناه عليها، لكنها كانت نظرة متعبة، خاوية. لم يجد في كلامها ما يداوي جراحه، لكنه لم يكن مستعدًا لردها بقسوة. تنهد ببطء وقال بصوت خفيض:
"نانسي أنا مقدر إنك عايزة تقفي جمبي... اللي أنا فيه مش حاجة ممكن حد يشيلها عني. أنا... محتاج وقت لوحدي."
كانت كلماته مثل جدار خفي ارتفع بينها وبينه. لكنه بالنسبة لها، لم يكن هذا الجدار نهاية الطريق، بل مجرد تحدٍ جديد. ابتسمت ابتسامة وديعة، خالية من أي أثر للخذلان، وقالت:
"طبعًا، أنا فاهمة... بس لو احتجتني، أنا هنا. دايمًا هنا.... "
وقفت ببطء، وكأنها تمنحه مساحته التي طلبها، لكنها في الحقيقة كانت تزرع في رأسه فكرة وجودها الدائم. وقفت للحظة إضافية، تطلعت إليه نظرة أخيرة، ثم غادرت الغرفة بهدوء....لكنها توقفت عند الباب للحظة، منتظرة أن يلتقط "مُراد" كلماتها الأخيرة، أن يشعر بها تتسلل إلى قلبه المثقل. لكنها لم تكن بحاجة لانتظار طويل. فجأة، قطع الصمت صوت حركة خافتة. التفتت لتجده يرفع رأسه ببطء، نظراته المتعبة تحولت إلى شيء أكثر ضعفًا، وأكثر انكسارًا... أو هكذا بدا.
"نانسي..."
همس باسمها بصوت مبحوح، مليء بتردد كأنه يختبر الأرض التي يقف عليها. ثم، بخطوة غير محسوبة، ترك مكانه على الأرض واقترب منها.
وقفت متجمدة للحظة، لم تتوقع هذه الاستجابة السريعة. لكن هذا هو ما أرادته، أليس كذلك؟ أن يكون هو من يقترب، أن يكسر الجدار الذي وضعه بنفسه.
"مراد؟".
نطقت اسمه بدهشة مصطنعة، وعندما مدّ ذراعيه لتطويقها، كانت مستعدة تمامًا.، عانقها بقوة، دفن وجهه في كتفها، وكأن كل ثقله انصب عليها دفعة واحدة. شعرت بحرارته، بيديه التي قبضت عليها كأنما يبحث عن طوق نجاة. كان كطفل ضائع، وهي، بالطبع، لعبت دور الأم الحانية.
"مش عارف أعمل إي يا نانسي...أنا تايه، مهزوز "
همس بصوت متكسر، كأن الحزن يمزقه. كلمات قليلة، لكنها تحمل كل ما تحتاجه لتشعر بانتصارها الأول.ابتسمت لنفسها، يدها تمسح على ظهره ببطء، وكأنها تزرع نفسها كموطن جديد له.
_"مش لازم تعمل حاجة دلوقتي، أنا هنا معاك، وهنعدي كل ده سوا."
رفع رأسه ببطء بعد لحظات، وابتعد قليلاً عنها، ليترك مسافة كافية بينهما كي تلتقط عينيه. تلك العيون التي لم تكن فارغة كما بدت قبل قليل. تغيرت ملامحها؛ لمعة غريبة، باردة، مشحونة بشيء لا يمكن قراءته بسهولة. نظرة "مراد" لم تكن نظرة رجل يحتاج إلى إنقاذ. كانت نظرة رجل يلعب لعبة أخرى تمامًا... كان هناك شيء غير مريح في تلك النظرة. ليس حزنًا فقط، بل طبقة مخفية من شيء آخر: خبث هادئ، قوة صامتة، وربما سخرية من موقفها بأكمله. كأنما كان ينظر إليها لا كإنسان يقف بجواره، بل كقطعة على رقعة شطرنج هو وحده من يتحكم في تحركاتها.....