-->

رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش - الفصل 3 - 2 الجمعة 6/12/2024

  

قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية طُياب الحبايب

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة رضوى جاويش


الفصل الثالث

2


تم النشر الجمعة

6/12/2024


دخل سعد باحثا بناظريه عن موضع نظيم باشا، وما أن وقعت عيناه على مقعده المتطرف بالبهو، الذي كان يحتله في أحد الأركان، منخرطا في مناقشة حامية حول الوضع السياسي في ظل الحماية البريطانية، التي أعلنتها انجلترا على مصر منذ أسبوع واحد، لتُقحم مصر في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وتكون حليفا لبريطانيا من ضمن الحلفاء منذ بداية الحرب العالمية الأولى.. تحرك سعد نحوه متحمسا، لكن ما هي إلا خطوات حتى تم الاصطدام الحتمي بينه وبين تلك السيدة التي كانت توليه ظهرها واستدارت فجأة وهي تحمل ذاك الكأس من الشراب، الذي ارتجت بقاياه متأرجحة بعمق الكأس لبرهة، قبل أن تندفع بعضها على عباءته الأنيقة .. 

شهقة رقيقة صدرت منها، مصاحبة لصمت من قبله، قبل أن تهتف السيدة في اضطراب، وبلهجة فرنسية رقيقة: أنا آسفة، اعذرني.. 

رفع ناظريه عن عباءته التي كان يتفحص مقدار الضرر الذي لحقها، لتصطدم بنظرات عينيها التي كانت تحمل من الذعر والتوتر ما يدفعه لمسامحتها ولو كانت فعلت به ما لا يغفره بشر، وقد أيقن أن تلك النظرات التي كانت هاجسه لفترة طويلة، هي ذاتها التي تتطلع إليه بكل هذا الأسف، عارضة في نبرة مهتزة حرجا: ممكن سعادتك تتفضل معايا.. 

أشارت لخادم قدم على عجل، وأشار لسعد في اتجاه ما، تبعه في صمت وهي بإعقابه، وصلوا لغرفة ملحقة بالمطبخ الضخم، وبدأ الخادم في القيام باللازم حين خلع سعد عنه العباءة تاركا له تنظيف أثر المشروب الذي تناثر رزازه على نسيجها الثمين، متطلعا لها وقد بدأ يستعيد ثباته، وبدأت هي تدرك أنها رأته من قبل، هاتفة في رزانة: أنا شفت سعادتك قبل كده، حضرتك ال... 

هز سعد رأسه موافقا، هامسا في تأكيد: اسكندرية، يوم النطرة الشَديدة، وعربيتك اللي انكسر عچلها، وتوصيل سعادتك لحد اللوكاندة.. 

هزت رأسها تأكيدا في حماسة، وطلت من عينيها نظرات براقة خطفت منه بعض من نبض تسارع بخافقه، وألجمت لسانه عن النطق بحرف.. استطردت هي في رزانة، وابتسامة حازت شطر الحسن، مرسومة على شفتين بلون الرمان: أنا ممنونة لوجودك جنابك في اللحظات الحرجة دي، وسعيدة إن الحظ سمح لي بمقابلتك تاني، عشان أشكرك بالشكل اللائق.. 

هم بأن يرد، إلا أن ظهور رستم على أعتاب الحجرة، متزامنا مع انتهاء الخادم من تنظيف العباءة، اسكته وهو يتناول العباءة من يد الخادم ورستم يسأل في تعجب: أنتِ فين يا أُنس الوجود! الكل بيسأل عنك فوق، إيه ده، إيه اللي حصل! 

أكدت هي في هدوء: للأسف حادثة بسيطة وبساعد البيه على تنضيف الأثر، وللصدفة العجيبة هو نفسه البيه اللي انقذني يوم ما انكسرت عجلة عربيتي في اسكندرية.. فاكر! 

رفع رستم حاجبيه مندهشا، مؤكدا في مودة: إحنا كدا مديونين لك يا سعد بيه، مرة في اسكندرية ومرة هنا..

أكد سعد في رزانة: العفو يا باشا، ده واچب علينا.. استطرد رستم مؤكدا: نظيم باشا فوق وقرب يمشي، لأنه مش بيحب السهر، إطلع أوام قابله.. وأنا مهدت لك الطريق معاه.. وأنت وقدرتك على إقناعه.. 

ابتسم سعد ممتنا، وهم بالاستئذان وهو يضبط طربوشه على هامته الشماء، وقد تناهى لمسامعه تأكيد رستم لأخته لتلحق به، وقد علق بقلبه اسمها كاملا.. هل ناداها أُنس الوجود!.. يا له من اسم على مسمى! فأي أنس يمكن أن يحوزه انسان في ظل هذه النظرات الحانية، التي يدفع المرء العمر ثمنا لتكون هي أنيسة أيامه، ورفيقة لياليه!..  

❈-❈-❈

  ‏

الرسلانية ١٩٩٠..

رأته يتجه صوب بوابة السراي مهرولا، ما دفعها لتهتف في صوت عالِ لعله يصل لمسامعه، فيتوقف عن الاندفاع بهذا الشكل الذي يشعرها أن مصيبة ما قد وقعت، وهو يهم باللحاق بها.. 

توقف بالفعل رافعا رأسه صوب نافذة حجرتها التي جاءه منها الصوت.. متعجبا لبرهة، قبل أن يدني الطرف غاضا بصره عنها في تأدب، بعد أن أشارت إليه ألا يبرح مكانه، اندفعت هي تعدل من شعرها أمام المرآة سريعا تتأكد أنه محكم الربط، قبل أن تغادر الغرفة هرولة لتلحق به.. 

وقفت أمام ناظريه متنهدة، وسألت في عجالة دون حتى إلقاء التحية: إحنا هنقعد امتا! عايزة أعرف راسي من رجلي قبل ما أخد بعضي وأرجع على القاهرة، أنا مش فاضية ورايا حاجات كتير هناك.. 

هز رأسه متفهما، وسار خطوات للخارج مجبرا إياها على متابعة خطاه، سائرة بمحازاته: معلوم يا أستاذة، كان الله في العون، بس كيف ما أنتي مشغولة، اديكي واعية.. أنا كمان مشغول والدنيا مكركبة فوج راسي.. 

هتفت تسأل في فضول: ليه! فيه مشكلة أو حاجة! 

ارتسمت ابتسامة ساخرة على جانب شفته، هاتفا في تأكيد: الدنيا مبتخلاشي، وكله هيعدي على خير.. 

تنبهت أنها تسير معه نحو موضع هي لا تعرفه، ولا سألت إلى أين هو ذاهب بالضبط، لكن العجيب أنها أكملت سيرها دون حتى سؤاله عن وجهته، تملي عينيها بأفق أخضر يانع، وسماء فضية تحمل بعض الغيوم، وجبل بعيد كهرماني اللون كأنه خيط سميك يربط بين الأرض والسماء في انسجام تام.. حتى خطواتها الواثقة جواره تدق على الأرض الترابية بوقع مختلف، يحمل ايقاع خاص.. يصب الراحة والسكينة بوعاء روحها القلقة .. 

سألت في ريبة: هو حريق الشونة ده، واحد من المشاكل اللي بتتكلم عنها!؟ .. 

لم يجبها بكلمة، لكن نظرته الخاطفة نحوها أجابت عن الكثير، وهمس في هدوء: متشغليش بالك يا أستاذة، أنا بس مشغول عشان فرح منيرة.. بعدها نجعد ونشوف الدنيا ايه فيها! 

هتفت تسأل: منيرة مين! 

ابتسم مؤكدا: منيرة أختي الصغيرة، بس أنتي مجابلتهاش عشان هي عند واحدة جريبتنا  بتخلص آخر حاچات لچهازها وچاية آخر النهار.. هي في سنك كده تجريبا.. عجبالك.. 

أكدت هي في هدوء: لا مش وارد خالص الجواز دلوقت، أنا عندي حاجات أهم كتير لازم تتعمل.. 

هز رأسه متفهما دون أن ينبس بحرف، فتطلعت هي حولها في استمتاع محترمة صمته الرزين، وتناهى لمسامعها غناء عذب جذبها لتبحث عن موضعه، وما علمت أين يكمن مصدره، إلا حين هتف حبيب مجيبا على تحية أحدهم، والذي كان يستتر جالسا خلف شجرة الصفصاف الضخمة بذاك الغيط القريب، وما أن ابتعدا قليلا، حتى عاود شدوه من جديد: 

               الدنيا سلف ودين عليك..

    واللي جنيته اليوم.. غرسته فيوم كفيك..

 جبرك ما لوش چيوب.. أوعى تغفلك الذنوب..           

   ‏والدنيا بوشين.. حلو.. معاه وش معيوب.. 

  وما حد راح يشفع ليك.. إلا دعوة والديك..     ‏تاهت مع ذاك الصوت الدافيء، حتى أنها ما وعت لتوقفه، إلا حين وصلا لدار طينية بسيطة المظهر، تنحدر عتباتها للأسفل قليلا، منخفضة قليلا عن المدخل الطيني ومستوى الشارع الترابي الضيق الأقرب لحارة منه لشارع، أمسك بحبل مجدول جذبه لأسفل فرفع بذلك سقاطة الباب الداخلية ما جعل الباب الخشبي المتآكل ينفرج حين دفعه برفق، هاتفا في نبرة ودودة: السلام عليكم، چاهز يا عم الشيخ! 

توقفت على العتبة الخارجية على استحياء ولم تدخل خلفه، بل توقفت على عتبة الدار تحاول استطلاع دواخلها المعتمة قليلا، لا علم لها على من ينادِ.. 

جاءهما صوت متحشرج مع بعض السعال من الداخل، هاتفا في تأكيد: تعال يا حبيب، تعال ربي يرضى عنِك يا ولدي.. 

اندفع حبيب صوب شيخه الشيخ معتوق، ملتقطا كفه يجلسه على أقرب مقعد لموضعه، ليستطرد الشيخ في ضيق: غلبني النعاس، عيني غفلت وملحجتش اتوضا، ولولا ندهتك عليّ دلوجت، كان راح العصر.. ربنا يذكرك بالشهادة يا حبيبي.. 

ربت الشيخ معتوق على كتف حبيب في محبة مؤكدة لا تشويها شائبة، ليندفع حبيب صوب  طشت معدني واسع، واضعا إياه تحت قدمي شيخه، مهرولا نحو الزير الفخاري الذي كان يركن في أحد الجوانب، حاملا منه الماء في إبريق نحاسي عتيق ليبدأ الشيخ في رفع كميّ جلبابه والبسملة وهو يبدأ وضوءه.. 

كانت تشاهد كل هذا مشدوهة وهي تقف ساكنة على أعتاب الدار، لكنها وبلا وعي ضبطت نفسها وهي تمد قدميها للداخل عدة خطوات، وتسمرت موضعها وهي تشاهد ذاك المشهد ولم تنطق حرفا، وخاصة وحبيب يسكب الماء روايدا على كفي الرجل مرة بعد مرة، لكن أكثر ما أثار تعجبها وحيرتها هو انحناءة ذاك المتغطرس صوب قدمي الشيخ يصب الماء عليهما ماسحا ثلاث، حتى إذا ما انتهى، ترك الأبريق جانبا وجذب إحدى المناشف المعلقة بمسمار قرب باب خشبي صغير، أيقنت أنه باب الحمام.. وبدأ في تجفيف يدي الرجل ثم قدميه أخيرا.. حمل الوعاء الذي كان يحمل بقايا ماء الوضوء لخارج الدار في سهولة، دافعا بمحتوياته أمام الدار على الأرض الترابية فثار الغبار لدقيقة قبل أن يسكنه الماء.. ترك الطشت المعدني جانبا موضعه المعتاد، وحمل مداس الشيخ قادما به من الغرفة بالداخل، واضعا إياه بقدميه، هامسا أخيرا: ياللاه بينا يا شيخنا.. 

نهض الشيخ معتوق مستندا على عصاه التي حملها إليه حبيب حتى كفه، خرجوا جميعا نحو المسجد تسير هي بمحازاتهما، وما نطقت حرف، كانت ترصد وتشاهد ما لا عيناها رأت ولا أذنها سمعت من قبل.. تستكشف دنيا جديدة وعالم رحب، ما توقعت وجدهما يوما على هذه الأرض.. دنيا من عجب، وعالم من سكينة وروحانية أعجب..

الصفحة التالية